مقدمة
شهد العقد المنصرم تحولا باتجاه الاهتمام بالشباب في العالم العربي. نشأت وزارات للشباب ووضِعَت استراتيجيات وطنية خاصة بالشباب؛ ظهر العديد من المنظمات الأهلية المتخصصة بالشباب وعدلت المناهج التعليمية بحيث يصبح الشباب «مؤهلين للعمل»؛ وتشكلت مجالس نيابية للشباب بهدف زيادة «مشاركة» الشباب في الحياة السياسية. في مصر، على سبيل المثال، ظهر ٦٠٪ من المنظمات الأهلية الخاصة بالشباب خلال الفترة ٢٠٠٣ ــ ٢٠٠٦. صدر العديد من التقارير في العالم العربي عن اوضاع الشباب. وكرست الجامعة العربية تقريرَيْها للعامين ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ لموضوع الشباب. وكرست الصحف اليومية صفحات أسبوعية خاصة بهم. وخصصت الشبكة العربية للمنظمات الأهلية تقريرها السنوي لعام ٢٠٠٧ لتحليل وضع الشباب العرب والمجتمع المدني. وتخصص مراكز رسم السياسات أقساما كاملة للشباب ــ مثل عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، ومدرسة الحكم في دبي.
قبل ظهور هذه الموجة العارمة من الاهتمام بالشباب في العالم العربي نفسه، ظهرت في الولايات المتحدة، بعيد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ٢٠٠١، موجة مماثلة من الدراسات والوثائق الخاصة برسم السياسات المناسبة للشباب العربي. من تلك المبادرات «مبادرة الشباب المسلم» في «مؤسسة راند»، و«مبادرة شباب الشرق الأوسط» في «معهد بروكلين» (المشارك في برنامج عصام فارس في لبنان ومدرسة دبي للحكم)، و«برنامج التبادل والدراسة الخاص بالشباب» Youth Exchange and Study Program (YES) التابع لوزارة الخارجية الأميركية. وخلال الفترة ذاتها، تشكلت منظمات أهلية متخصصة في خدمة الشباب في الولايات المتحدة، مثل «مؤسسة التربية والتشغيل» Education for Employment Foundation. وسرعان ما حذت المنظمات الدولية حذو المبادرين، فظهرت «الأمم المتحدة لاهداف الالفية: عدسة الشباب العربي» UN Millennium Goals: Arab Youth Lens التابعة للامم المتحدة وأصدرت منظمة العمل الدولية تقريرا خاصا حول الشباب العربي. وبالإضافة إلى كل هذا، اخذت التقارير المعنية بالإصلاح العام في العالم العربي ــ مثل تقارير التنمية البشرية ــ تركزّ بشكل خاص على «قضية الشباب.»
لماذا كل هذا التحول نحو الشباب في هذا الوقت بالذات؟ كيف يتم تصوير الشباب لدى المنظمات وفي الوثائق والتقارير؟ هل يؤلّف الشباب فئة واحدة قائمة بذاتها؟ ما هي الدلالة البلاغية والاجتماعية والسياسية للشباب في هذا الخطاب؟ تقدم معظم الوثائق الأكاديمية والوثائق الخاصة برسم السياسات ثلاثة أسباب مركزية: ١) «الانفجار الديموغرافي» الذي ضرب ارقاما قياسية في عدد الشباب حيث باتوا يشكلون ٦٠ ــ٧٠٪ من مجموع السكان في معظم الدول العربية؛ ٢) ازدياد الطلب على مهارات أعلى مستوى، وهي مهارات يجري اكتسابها عادة خلال مرحلة الشباب، في الوقت الذي يراد فيه للدول العربية الانتقال من اقتصاديات الانتاج والمواد الاولية إلى اقتصاديات «المعرفة»؛ ٣) التهديد المتنامي للسلام والأمن العالميين الصادر عن كتل من الشباب العاجزين عن إيجاد عمل بسبب افتقارهم إلى مهارات رفيعة المستوى فيتحولون إلى فريسة سهلة للساعين إلى تجنيد الشباب في المجموعات الإسلامية الأصولية.
لكن هذه الأسباب لا تقدم، في أفضل الأحوال، سوى جزء من الحكاية. فالتحول الجديد نحو الشباب، رغم أنه يبدو ظاهريا مدفوعا بالتزام حماية حقوق الشباب ومصالحهم، تنبع دوافعه العميقة من التزام بخدمة ائتلاف من المصالح السياسية والاقتصادية المهيمنة في المنطقة والمؤلَّفة من الولايات المتحدة، والشركات متعددة الجنسيات، إضافة إلى النخب العربية المتحكمة بالسلطة والمال.
تشرح هذه الدراسة الكيفية التي يعمل بها هذا التحول نحو الشباب العربي المعاصر على ترويج نموذج نيوليبرالي من الإصلاح الاقتصادي والسياسي في المنطقة، يصرف الانتباه عن الفوارق والمظالم الاجتماعية البنيوية، ويضع مسؤولية حل مشكلة الاضطرابات في المنطقة على كاهل الشباب كأفراد، ما يصب في مصلحة رجال الاعمال العرب والنخب السياسية والاقتصادية الغربية والأميركية. أضف إلى ذلك أن التحول نحو الشباب يستند إلى نموذج للثقافة العربية يتصف بِالسِمة الاستشراقية وبالعجز الثقافي، بل وهو يعمل على تعزيز النموذج المذكور.
انتاج مفهوم «الشباب»
النماذجُ التقليدية الوضعية السائدة للتفكير بشأن الهويات الاجتماعية، كالشباب مثلا، تعتبر تلك الهويات كينونات طبيعية وموضوعية ومحسوسة موجودة في العالم الواقعي، خارجة عن نطاق الخطاب والبلاغيات والإدراك الحسّي. ان هذا النمط من التفكير، ينسب تزايد الاهتمام بالشباب العربي بكل بساطة الى عامل «طبيعي» هو ارتفاع نسبة الشباب بين الشعوب العربية. لكن الدراسات السوسيولوجية والتاريخية العصرية أظهرت أن هذا الأسلوب في التفكير بشأن الشباب غير وافٍ. فالشباب، شأنهم شأن الهويات الاجتماعية الاخرى، يجري تكوينهم اجتماعيا وثقافيا على نحو دائم ومحتوم.من
برزت مقولة «الشباب» كفئة اجتماعية في الغرب مع نشوء الرأسمالية الصناعية والشركات الكبرى ومع إنشاء الدولة القومية البيروقراطية الحديثة. وقد ادت هذه العومل مجتمعة إلى تنامي الطلب على العمالة الكتابية والإدارية والهندسية، وإلى انتشار منظومات رسمية للتدريس وإلى تطويل فترات التعليم الذي يرتبط حاليا بالهوية الشبابية على نحو وثيق. كما ان التغييرات التي طرأت على بنية الأسرة والحياة المنزلية بسبب العمالة الصناعية المأجورة ــ كانفصال موقع العمل عن المسكن؛ وغياب الأبوين نهارا؛ والتحول الحاصل في مسؤولية تأهيل الشباب اجتماعيا؛ وانخفاض عدد أفراد العائلة ــ أدت إلى تولد إحساس جديد بوجود فجوات محددة بين الأجيال، وانفصال واضح بين مرحلة الطفولة ومرحلة البلوغ، بحيث باتت مرحلة الشباب فترة تحوّل طويلة ممتدة بين هاتين المرحلتين، المنفصلتين حاليا، من حيث الحياة والعمر والفاعلية. وأدى تطوير الدولة والمدرسة والأجهزة المرتبطة بهما، بهدف تحقيق السيطرة الاجتماعية المركزية وإعادة الإنتاج المعممة للقوى العاملة، إلى انتشار تمايزات قياسية معقلنة على أساس تقسيمات عُمرية دقيقة في القانون وفي التصنيفات والتنظيم المؤسساتي، جعلت من العُمر أمرا ذا شأن اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بصورة لم يسبق لها مثيل من قبل1
.
ولكن لا يمكن اعتبار الشباب إطلاقا مجرد أثر جانبي من آثار التطور السياسي والاقتصادي. فللشباب دور أساسي أكبر بكثير في صميم هذا التطور. يجري استحضارهم وتكوينهم على نحو منتظم ومتعمَّد وصريح من قِبَل النخب لخدمة أجنداتها ومصالحها السياسية والاقتصادية. في المجال الاقتصادي، يتم استحضار الشباب تاريخيا لتأمين مصادر عمالة رخيصة ومطواعة لإنتاج السلع ولتكوين أسواق مستهلكي تلك السلع. كانت «تربية الشباب» استراتيجية محورية لتجنيد العمال بدءا من نشوء صناعة النسيج في أميركا، مطلع القرن التاسع عشر، إلى انتشار الوجبات السريعة والمنافذ الفرعية لشبكات تجارة التجزئة في خمسينيات القرن العشرين، وصولا إلى حقبة تصدير الصناعات النسيجية والإلكترونية الى دول الجنوب اعتبارا من سبعينيات القرن العشرين. وعلى نحو مماثل، تم ابتكار مفهوم «المراهق» بصورة أساسية كعامل ديموغرافي تسويقي في أميركا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتخصيص موقع لائق جديد في السوق تنتج فيه البضائع والخدمات المخصصة لتلك الفئة العمرية.
في المجال السياسي، يجري استحضار الشباب، منذ فترة طويلة، على صورةِ تهديدٍ تنبغي مواجهته او مشكلةٍ تحتاج الى حلّ، مثلما يجري استحضارهم في الآن ذاته بصورةِ وعْد ورؤية لمستقبلٍ أفضل ينبغي تحقيقه. في الغرب، تسبّب التطور الرأسمالي في ظهور حالات تخلخل اجتماعية وجغرافية هائلة، ما أدى إلى تنامي عدد الشباب العاطلين من العمل الموجودين خارج نطاق المراقبة، في الأجواء الحضرية غالبا، الذين كانوا مرتبطين بهويات وبأساليب حياة كانت تُعتبر معارِضة لرأسمالية الشركات، أو بديلا عنها أو خارج نطاقها. وكانت نتيجة استثارة خطابات ذات طبيعة علمية تتناول «جنوح الأحداث»، وتستند إلى مفاهيم قياسية معولمة حول المراحل المناسبة لتطوير الشباب وإلى علماء نفس وتربويين وعمّال اجتماعيين، في مطلع القرن العشرين، أن إعيدت صياغة الصراعات التي كانت قائمة فعليا على خطوط الطبقة والعِرق والتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية المتنافسة، وتصويرها بما هي مشاكل ذات طبيعة فردية في التطور المعياري للمراهق، يمكن معالجتها من خلال تطبيق معارف وتدخلات الخبراء والاختصاصيين..2
إذ نلاحظ تصاعد وتيرة الحديث عن الشباب، في العالم العربي أو في أي مكان آخر، لا يكفي أن نعلِّل ذلك ببساطة بتنامي نسبة الشباب في المجتمع. بل علينا أن نتساءل دائما عن الجهة التي تتكلم باسم الشباب، وفي أية سياقات، وما هي الأهداف الاقتصادية والسياسية الأشمل لذلك. عندها فقط يمكننا أن نفهم مغزى هذا التحول الطارئ نحو الشباب في العالم العربي حاليا.
الشباب العرب بين النقمة والنعمة
يمثِّل العددُ الكبير للشباب في العالم العربي نعمة ديموغرافية أو نقمة ديموغرافية، حسب قدرة الدول المعنية على الافادة من الطاقات البشرية المتوافرة لارضاء تطلعات الناس إلى حياة غنية بالانجازات. فالشعب كثير العدد الذي يتنامى بسرعة بإمكانه أن يكون العامل المحرك للتنمية المادية والرفاه الإنساني في حال توافر العوامل المساعدة ــ كارتفاع مستويات الاستثمار، والأنواع المناسبة من الخبرات التقنية وسواها. وفي حال غياب تلك العوامل المذكورة، يتحول الوزن الديموغرافي إلى عامل لتكريس الإفقار نظرا لتنافس أعداد متنامية من الناس على موارد وأعمال محدودة.
عندما نتفحص سياقات التحول الحالي نحو الشباب في العالم العربي، وأجنداتها، نلاحظ أن خطاب الشباب مؤلَّف من مجموعة من الادِّعاءات المحبوكة بإحكام: ١) هناك انتفاخ ديموغرافي من الشباب العاطل من العمل أو الذي لا يعمل بكامل طاقته في العالم العربي؛ ٢) يمثل هؤلاء الشباب المهمشون المُبْعَدون عن المشاركة تهديدا للأمن الإقليمي والعالمي، وهم تربة خصبة للأصولية وللإرهاب؛ 3) من أجل مساعدة الشباب العربي ومكافحة الإرهاب، ثمة حاجة ملحة لتنمية الاقتصاديات العربية ودمجها بالاقتصاديات الغربية، وتحديدا من خلال الترويج لنموذج نيوليبرالي قائم على تحرير الأسواق.
يرد هذا الخطاب في معظم التقارير الأميركية والدولية التي صدرت مؤخرا والتي تتحدث عن الشباب العربي. هذا هو غراهام فولر، النائب السابق لرئيس مجلس الاستخبارات الوطنية في السي. آي. إي، ومؤلف كتاب «عامل الشباب» الصادر عن معهد بروكينغز، يبرز وجه النقمة الديموغرافية خصوصا لجهة الميل نحو العنف والعداء للولايات المتحدة:
«يؤدي وجود هذا العدد الكبير نسبيا من الشباب في المجتمعات الشرق أوسطية إلى تفاقم كل أبعاد المشاكل السياسية والاقتصادية لتلك المجتمعات. فالشباب غالبا هم من يحوّل المشاكل الاجتماعية المتفشية إلى مزيج يؤدي للانفجار والراديكالية... السؤال المهم المطروح أمام معظم المجتمعات الشرق أوسطية، هو من سينجح أكثر من غيره بتحريك هذه المجموعة من الشباب سياسيا: الدولة أم قوى سياسية أخرى، إسلامية في معظمها؟ فالمواقف التي ستتخذها هذه المجموعة من الشباب إزاء الغرب، تعتبر أحد الشواغل المهمة، وذلك مع تدهور صورة الولايات المتحدة تدهورا خطيرا. إن الحيلولة دون إجراء تغيير دراماتيكي في مقاربة الولايات المتحدة للشرق الأوسط، واستمرار النزعات السائدة حاليا، من شأنهما أن يؤديا بصورة شبه مؤكدة إلى نشوء أجيال جديدة مهيأة اجتماعيا لاتخاذ موقف العداء للولايات المتحدة وسياساتها. وقد يكون من المحتوم بالنسبة لهؤلاء الشباب الذين يتزايد عددهم، ترجمة المشاعر من هذا النوع إلى تعبيرات سياسية، وحتى إلى أعمال عنف. وتدل المؤشرات على أن الولايات المتحدة لن تنجح، على الأرجح، في المستقبل المنظور في كسب اهتمام معظم الشباب بما يكفي للتغلب على مشاعر العداء نحوها على المستوى السياسي، أو لتقديم الغرب باعتباره النموذج البديل المقبول والمتاح للمسار المفضي إلى التنمية، وستتنامى مواقف الاستياء تجاه معظم الأنظمة في المنطقة. ومن شأن ذلك أن يخلق مزيجا يطيح بالاستقرار على نحو لا يصدق، ويمكن لهذا المزيج أن يعبر عن نفسه من خلال مستويات أعلى من الإرهاب والعنف المرتكزَيْن على الوضع المضطرب الذي قد يدوم لأجيال.3
في المقابل، نلاحظ تكرار المنحى ذاته في الحديث عن الشباب في العالم العربي المعاصر من قِبَل النخب العربية. وهنا يمكن اعتبار خطاب الملكة رانية معبّرا عن تعريف الشباب ليس فقط بما هم اوسع قطاع مجتمعي بل هم القطاع الذي يجير «الصراع الإيديولوجي» عليه:
«ألقاكم اليوم في الوقت الذي أتعافى فيه، ومعي شعب الأردن، من الأعمال الإجرامية التي ضربت بلدنا الحبيب في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٥. لقد أكدت تلك الأعمال الشريرة أن باستطاعتنا مواجهة هذه الأيديولوجية الشريرة، كما أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأننا نشهد معركة واضحة بين أيديولوجيتين متعارضتين. واحدة تقوم على مبدأ الحياة والأمل، وأخرى متجذرة في الجريمة والفوضى. نحن نعتقد أن المستقبل هو ما يهم، في حين يعيش هؤلاء في الماضي ويسعون لتدمير المستقبل. وهذا المستقبل، الذي يتمثل في قطاع رابع في المجتمع، هو هدف الصراع الأيديولوجي الحالي. لقد اعتدنا على التعامل مع ثلاثة قطاعات تقليدية: القطاع العام والقطاع الخاص وقطاع المجتمع المدني. لكننا أغفلنا حقيقة وجود قطاع رابع هو الممثل الحقيقي لمستقبلنا، قطاع يضم أكثر من ٢٠٠ مليون مواطن عربي، مواطنون لم يُسمَع صوتُهم عبر معادلة القطاعات الثلاثة.4
وما تقوله الملكة الشابة هو ما يؤكده سعيد المنتفق، رئيس «القادة العرب الشباب» Young Arab Leaders في مقابلة خاصة:
«كنا في المنتدى الاقتصادي العالمي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر؛ مجموعة من الأشخاص اجتمعنا في نيويورك لمناقشة الأسباب الرئيسة للمأساة. خلال النقاش، كان أحد الموضوعات الرئيسة التي ركَّزنا عليها جميعا هي كيفية الحيلولة دون تكرار أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ثانية. اتفقنا على أن الأسلوب الوحيد لتحقيق ذلك هو إدارة الشباب الذين يمسكون المستقبل بأيديهم والذين يستطيعون تحقيق التغيير الإيجابي. الشباب هم المستقبل، هم المخلِّصون، وإذا لم نستطع التقاطهم في مطلع حياتهم، فلا أعتقد أن لدينا أي أمل في المستقبل. علينا أن ننشر بينهم ثقافة الأمل.»5
مكافحة الارهاب عن طريق النيوليبرالية
تتكرر تلك الادعاءات بشأن الوضع الحالي للشباب في العالم العربي بحيث تبدو وكأنها طبيعية بل وبدهية لا تحتاج لبرهان. ولكن لا يوجد ما هو طبيعي أو شائع أو محتوم او بدهي في أي من تلك الادعاءات والافتراضات التي يحفل بها خطاب الشباب هذا. بل إنها تقوم بسلسلة من الالاعيب الأيديولوجية والسياسية التي تعمل على وضع حد للنقاش والنقد وطرح التساؤلات.
أولا، يؤكد خطاب الشباب أن مساعدة الشباب في العالم العربي هي المرادف لمكافحة الإرهاب، والمرادف لتعزيز الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية: فكل هذه الأمور تعني الشيء ذاته؛ وهي تنسجم بصورة طبيعية مع بعضها البعض.
ثانيا، يطرح خطاب الشباب السائد فكرة وجود ارتباط طبيعي بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح النخب السياسية المحلية في الحفاظ على قواعدها وانظمتها السلطوية، ومصالح نخب رجال الأعمال متعددة الجنسيات والمحلية في تنمية أسواقها والأرباح، من جهة، وبين مصالح الشباب العربي في عملية تنمية سليمة ومجزية من جهة اخرى.
ثالثا، يوحي خطاب الشباب السائد هذا بأن مكافحة الإرهاب وتعزيز النيوليبرالية لا يجريان لخدمة النخب الغربية أو الأميركية أو المحلية، بل يجريان أولا وأخيرا لمصلحة أكثر المجموعات السكانية تهميشا في المنطقة، أي، الشباب العرب الفقراء المنتمين للطبقة العاملة والعاطلين من العمل أو الذين لا يعملون بكامل طاقتهم.
لكن إطار الشباب يحقّق ما هو أكثر. فهو يحول دون طرح مجموعة كاملة من الأسئلة والانتقادات: هل يمثّل الشباب العربي، فعلا، تهديدا للأمن المحلي والدولي؟ ما معنى «الإرهاب» و«الأصولية» بالتحديد؟ هل يؤدي تعزيز الاقتصاد النيوليبرالي وحرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، فعلا، إلى مساعدة جماهير الشباب العربي ــ أو هل تؤدي إلى الإضرار بهم؟ هل هناك فعلا ارتباط وثيق بين مصالح الشباب العرب ومصالح كلٍّ من النخب المحلية والأميركية ــ أم أن هناك تضاربا فعليا في المصالح ينبغي معالجته؟ واستنادا لخطاب الشباب، لا داعي للقلق بشأن مسائل من نوع الأيديولوجيات أو الاقتصاد السياسي أو علاقات القوة بين الدول وضمن الدول.
شباب «متعولم» وشباب «محلي»
والواقع أن الصفات المميزة للتاريخ المحلي والثقافة المحلية والعلاقات الاجتماعية والنزاعات السياسية المحلية، غائبة عن تلك الوثائق، ترد، في أفضل الأحوال، في الهوامش والخلفية. بدلا من ذلك، يجري ربط جميع المسائل المذكورة، في العالم العربي، بنموذج معياري شامل ووحيد للتنمية السليمة للشباب في المجتمع. يتناول هذا الإطارُ الشبابي، الذي نُزِعَت عنه الصبغة السياسية، النزاعاتِ الأيديولوجية والطبقية والوطنية والقومية الفعلية ويعيد موضعتها باعتبارها مسألة تنمية سليمة للشباب تضع حدا للجنوح وتتسم بالبراعة والإثارة. وهنا يجري تقديم الأجندات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحددة التي يتم ترويجها في المنطقة العربية، ليس باعتبارها خيارا بين بدائل أخرى ممكنة، بل باعتبارها ضرورية ومحتومة. فهي، اولا، الخيار «الحديث» في مواجهة الخيار «المتخلف»، بلغة الأجيال الاجتماعية. وهي، ثانيا، ضرورية لمتطلبات تنمية الشباب المحلي، بلغة العمر الفردي.
يرتبط التحول نحو الشباب في العديد من الأقطار العربية ارتباطا وثيقا باعتلاء قيادات عربية شابة رأس الهرم السياسي في الجمهوريات ــ سوريا ــ والممالك ــ الأردن ــ أو المشيخات ــ قطر. بالرغم من اعتلاء هذه القيادات الشابة مواقعها من خلال التوريث فقد دأبت على ترويج نفسها على أنها جديدة تسعى للتغيير. هؤلاء هم «المصلحون الشباب» الذي يعملون بالشراكة مع «ملكة الاردن الشابة»، رانية، أو «سيدة سورية الأولى» أسماء الاسد، أو «شيخة قطر الشابة»، الشيخة موزة، لإحداث التغيير عن طريق تجسير الهوة بين الغرب وبين العالم العربي وتشريع ابواب المنطقة على الاقتصاد العالمي. وقد أحاطت هذه القيادات الشابة نفسها «بالنخب الاقتصادية الشابة» ــ على اعتبارها ممثلة للتغيير والتجديد، رغم أنها مشابهة من حيث الدور والخلفية للنخب القديمة. وهكذا ترافق بروز دور الملوك والرؤساء والامراء والشيوخ الشباب مع تزايد الاهتمام بالشباب في البلاد المعنية، إضافة لتنامي البرامج ومشاريع الإصلاح التي تناولت التعليم الرسمي والتعليم الخاص وتغيير المناهج التربوية بما يتناسب مع «روح العصر» بناء على هبات من البنك الدولي والمؤسسات الدولية. ورغم أن الإصلاح مشروع موجّه للمجتمع بكامله، يجري الترويج له باعتباره مشروعا للشباب ينفِّذه الشباب. على اعتبار ان الشعب العربي شعب فتيّ ديموغرافيا. وقد تم تسويق كل البرامج المذكورة باعتبارها جزءا من عملية التحرير والتحديث والدمقرطة في العالم العربي ــ لنقله إلى اقتصاد عالمي جديد.
لكن نظرة متأنية نلقيها على تلك الخطابات وعلى عملية وضع البرامج الفعلية، من شأنها إيضاح المهمة التي يقوم بها هذا «التحول نحو الشباب»، سياسيا واجتماعيا وخطابيا. رغم البلاغيات التي تستخدمها الحكومات والمنظمات الدولية تتحدث عن استهداف «الشباب» عموما، فبرامج الشباب تختلف اختلافا جذريا عندما تكون موجهة الى فئة «الشباب العربي المعولم» او الى مجرد «الشباب العربي».
تتألف فئة «الشباب العرب المتعولم» من الأفراد الأصغر سنا في النخب المحلية والعالمية، يشاركون الحكومات والمجموعات الدولية والولايات المتحدة في المفاهيم والأجندات ذاتها. ومعظم هؤلاء الأفراد تلقوا علومهم في الغرب (٩٣،٢ ٪) في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة او في الجامعات الأميركية في الشرق الأوسط ريفضلون الحديث باللغة الإنكليزية. وهم رجال اعمال في القطاع الخاص، ممن قطفوا ثمار الخصخصة واقتصاد السوق الحر، إضافة إلى ترؤس البعض منهم للمنظمات الأهلية.
يقدِّم أفراد هذه الطبقة أنفسهم بوصفهم إصلاحيين يتطلعون إلى المستقبل، يعملون بالشراكة مع المجموعات الدولية والغربية لإدارة وتربية الفئة الأوسع من «الشباب المحلي» على اعتبار هؤلاء النقيض الصارخ لها تضم المتخلفين والكسالى والمفتقرين للمهارة والتهذيب والانضباط، بل انهم محدودو الأفق وعرضة للوقوع في براثن الأصولية والإرهاب. والواقع أن «الشباب العرب العالميين» تحولوا إلى «مستشرقين محليين»، يروِّجون لرؤية نمطية للثقافة العربية، كما تتجسد في الشباب المحليين. هكذا يجري تصوير مشاكل الشباب على انها مشاكل الثقافة العربية. فالشباب يفتقرون لمهارات الريادة لأن الثقافة العربية تفتقر إليها. والشباب لا يقدرون قيمة العمل لأن لدينا في العالم العربي ثقافة العار. والشباب إرهابيون لأننا نفتقر لثقافة الأمل، ولأن العقل العربي عقل متطرف. والشباب يقومون بالتفجيرات الانتحارية لأن الثقافة العربية هي ثقافة الموت. والشباب متعصبون ولا يتسامحون مع الآخرين لأن الثقافة العربية ثقافة أصولية. وبالنسبة للأردنيين الشباب العالميين، من الواجب إدارة الشباب المحلي أو الثقافة المحلية وإلا فإن الإرهاب سيعم المنطقة. ولذلك، يضم هؤلاء جهودهم إلى جهود «مستشرقي» الغرب ــ في الإدارة الأميركية والمنظمات الدولية الأخرى ــ كالمنتدى الاقتصادي العالمي والبنك الدولي والأمم المتحدة ــ من أجل «إدارة» الشباب المحليين أو الثقافة المحلية التي تفرِّخ الإرهاب.
ومن هنا، نجد أن بلاغيات الشباب لا يمكن استثناؤها من التراتبيات الهرمية التي تشكل جزءا لا يتجزأ من المجتمع العربي. فمفهوم «الشباب» يختلف عندما يُستخدم للإشارة إلى الملك الشاب والملكة الشابة والرئيس الشاب والسيدة الاولى الشابة والنخب الشابة، عنه لدى استخدامه للإشارة إلى الشباب العرب «العاديين» ضمن بقية السكان. كذلك يختلف المفهوم بين الشباب الذين هم وكلاء، وبين الشباب التابعين لهم. فإذا كان الشباب يعني «التغيير»، فثمة القيادات والنخب الذين يضعون برامج التغيير وينفذونها بالتنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة ــ بريطانيا في حالة سورية ــ والمنظمات الدولية، ومن ثم هناك الشباب الذين ستطبَّق عليهم تلك البرامج، والذين ينبغي أن يطالهم التغيير.
لا يكتفي المصلحون بالتحالف مع النخب العالمية، يرتبطون بكافة أنواع المنظمات الشبابية العالمية، مثل «القادة الشباب العالميون»، «رابطة الرؤساء الشباب»، «القادة الشباب العرب»، «رابطة رجال الأعمال العرب»، «المنتدى الاقتصادي العالمي» والمجلس المنبثق عنه، «مجلس الأعمال العربي»، وبالنظر لأنهم أسسوا منظمات جديدة خاصة بهم في الأردن، مثل «رابطة الرياديين الشباب» و«جمعية الاقتصاديين الشباب»، فإن أولئك المصلحين يعرّفون أنفسهم بأنهم عالميون ويشيرون إلى الشباب الذين ينبغي إصلاحهم بتعبير المحليين.
تبنّى أفراد تلك النخب الشابة وجهة نظر النخب الرأسمالية العالمية بشأن الشباب وضموا جهودهم إلى جهود النخب العالمي الأخرى لمحاربة الإرهاب. ويمكن تقسيم مفاهيم النخب الشابة حول الشباب إلى فئتين: الفئة الأولى تتصل بمشاكل الشباب، وتتصل الثانية بالحلول الخاصة لتلك المشاكل. وبما أن مكافحة الإرهاب تجري عن طريق تجسير الفجوة عبر إطلاق اقتصاد السوق، يجري إبراز المفاهيم المتعلقة بمشاكل الشباب وحلولها بتعبيرات اقتصادية. فالشباب يفتقرون للمهارات اللازمة للعمل في الاقتصاد العالمي، وهم كسالى ينتظرون أن تساعدهم الحكومة، متعصبون ضد الآخرين، وهم غير مسؤولين ولا يحبون ركوب المخاطر وإطلاق مشاريع خاصة، لا يعرفون ولا يجيدون العمل الجماعي، وهم مسيَّسون ومعرضون للتجنيد من قبل الأصولية. بالتالي، فإن الشباب بحاجة لأن تجري إدارتهم وحمايتهم من الأصوليين؛ هم بحاجة لأن يتعلموا كيف يصبحون رجال أعمال، لأن يضطلعوا بمسؤولية حياتهم، لتقبّل فضائل العمل، وبحاجة ليتعلموا التسامح.
حالة الاردن: هل الجيل الجديد مختلف عن القديم؟
ما الذي يجعل تلك النخب ترى في ثقافتها ما يراه المستشرقون؟ من هي تلك النخب؟ كيف تلتقي مصالحها بمصالح الإمبريالية الأميركية؟ وما هي تدخلاتهم؟
تميل النخب الأردنية الشابة والفاعلون الدوليون لتصوير الصدع الموجود بين الشباب الأردني عموما وبين النخب الأردنية الشابة باعتباره انقساما بين المجتمع الجديد والمجتمع القديم في البلد. وتجري الإشارة دائما إلى النخب الجديدة بتعبير «الحرس الجديد»، المؤيد للتغيير وللمرونة وللانفتاح والعولمة، والذي يخوض الحرب مع «الحرس القديم»، المقاوم للتغيير والمعارض لمشاريع الإصلاح لا لسبب سوى مقاومة التغيير. قال لي أحد القادة الشباب العالميين، في معرض الشرح: «الشباب الأردني، الذين هم نتاج للحرس القديم والذين لم تتح لهم الفرصة التي أتيحت للشباب الأردنيين بالدراسة في الخارج وتوسيع آفاقهم، يجسدون القيم التي ورثوها عن الحرس القديم، ومن هنا الحاجة للعمل على تغيير هؤلاء.» لقد تم اختزال كامل الصراع السياسي والاقتصادي ضد «مشروع الإصلاح الهاشمي» إلى مجرد مشكلة ثقافية يمكن حلّها عن طريق تدخل ثقافي، تسيّره الوكالة الأميركية للتنمية العالمية، دونما الحاجة لإعادة النظر بما ألحقته برامج الإصلاح ذاك من ويلات بالمجتمع الأردني.
أفراد الحرس الشاب الجديد هم في أغلبيتهم من الفاعلين في القطاع الخاص، الذين تتنامى أهميتهم في الاقتصاد العربي منذ انسحاب الدولة عبر الخصخصة وبرامج التعديلات البنيوية. يتكلمون الإنكليزية بطلاقة حيث يعتبرونها لغتهم الأم. ويتمتعون بمستوى تعليمي عال ويرتبطون ارتباطا وثيقا بالشركات والمؤسسات الدولية. ولم تنشأ تلك النخب بناء على معايير تنافسية تتصل بالاقتصاد وبالمشاريع الخاصة، كامتلاك مهارات قيادية أو الإتيان بأفكار خلاقة بل تكونت من خلال اكتساب المزايا عن طريق دعم البلاط الملكي، والتلاعب بسياسات الإصلاح، واستغلال منظومة من شبكات الانتفاع الشخصية، للاستفادة من التدابير الاقتصادية الجديدة التي نشأت خلال صيرورة الإصلاح.
افاد أفراد الجيل الجديد أيضا من الشبكات الاقتصادية التقليدية العاملة على مبدأ الدكاكين التي تعود إلى جيل آبائهم، والتي أنشأوا على أساسها شبكات دولية حديثة. ورغم أن النخب الجديدة المعولمة تطرح نفسها باعتبارها الحرس الجديد الذي يحارب الحرس القديم وكل ما يمثله (أي المحسوبية والفساد والواسطة)، فإنها تستمر على منوال ممارسات الحرس القديم (أهاليهم)، ولكن باعتبار تلك الممارسات جزءا من الدولة النيوليبرالية في مقابل دولة الرعاية الاجتماعية. ولم يكن تعيينهم لأنفسهم وكلاء لإصلاح الشباب والمجتمع العربي ليصير ممكنا لولا مواقعهم المتميزة الموروثة في النظام الاجتماعي العربي السائد. ذلك أن نظام المحسوبية والزبونية الكامن في صلب دولة الرعاية الاجتماعية، الذي تدينه النخب المذكورة حاليا، استعيض عنه بنظام محسوبية جديد تأسَّس في القطاع الخاص. والواقع أن القطاع الخاص في معظم الأقطار العربية تهيمن عليه حاليا علاقات الاتكال على الحكومة أو على العائلة، تجمع بينهما شبكات المحسوبية. فقد نُفِّذت الإصلاحات الاقتصادية ضمن منظومة سعي وراء الريع حافظت على شبكة من العلاقات الحكومية. ولم يقتصر المستفيدون من تلك الاصلاحات على السياسيين وزعماء العشائر والنخب الاقتصادية التقليدية، بل افاد منها أيضا جيل جديد من رجال الأعمال الرياديين، لا يعدو كون العديد من أفراده أبناء وبنات النخب الاقتصادية والسياسية القديمة.
وهكذا، وعلى الرغم من أن أفراد النخب الشابة يطرحون أنفسهم كمصلحين وكأشخاص يكافحون الفساد والمحسوبية والوساطة بهدف بناء المجتمع النموذجي الذي تدعو إليه الولايات المتحدة، فإن قصص الإصلاح المذكور توحي بعكس ذلك تماما. فالفساد والمحسوبية تجري مكافحتهما عندما يتعلق الأمر باستخدام الموارد العامة للحصول على وظائف حكومية، ولكن ليس عندما يتعلق الأمر بحصول النخب على عقود المشاريع الحكومية. لقد شهد الأردن نشوء أوليغارشية من رجال الأعمال الشباب، يتمتع بعضهم بنفوذ يفوق نفوذ رئيس الوزراء أو حكومته في مجال تقرير السياسات الاقتصادية والسياسية. مثال على ذلك شريف الزعبي الذي سبق وشغل منصب وزير الصناعة ويشغل حاليا منصب وزير العدل. وقد تولت الشركة القانونية التي تملكها عائلته عدة صفقات ضخمة في الأردن قبل توليه المنصب، بما في ذلك خصخصة قطاعي الاتصالات والتعدين وصفقات إنشاء بنى تحتية كان لها تأثير على السياسة الاقتصادية. ولقد حل استغلالُ أوليغارشية الرياديين الجديدة لرافعتها السياسية لتتجنّب تنفيذ مشاريع الإصلاح التي تضر بمصالحها، محلَّ فساد الحرس القديم الناجم عن استغلال الأردنيين من خلال تقديم الوعود لهم بتأمين وظائف في القطاع العام.
خَلْق شخصيات نيوليبرالية مِطواعة
إن دراسة معمقة للبرامج الموجهة للشباب العربي في الفترة الأخيرة تظهر أن هدف هذه البرامج ليس اعداد الشباب للعمل في منظومة الاقتصاد العالمي؛ وليس بالطبع مساعدتهم على التوظف، بقدر ما هو خلق الشخصية النيوليبرالية التي تتحمل مسؤولية فقرها وبطالتها بينما تنظر بالاعجاب الى النخب التي جمعت أموالها بسبب العمل الدؤوب والتمتع بمهارات العمل في السوق العالمي.
رغم أن الخطابات الرسمية المتعلقة بالشباب تتفنَّن في الحديث عن إعداد الشباب العربي للعمل ضمن اقتصاد المعرفة العالمي الذي يتطلَّب مهارات عالية، نجد أن العديد من البرامج المخصصة للشباب مهيأة للترويج للانضباط ولأخلاقيات العمل وإدارة الوقت وثقافة تحمُّل المسؤولية ــ التي عادة ما تُعتبَر بمثابة قواعد أساسية، ما يسمى «المهارات الناعمة». تسعى البرامج الخاصة بالشباب لتكييفهم مع عملية الإصلاح الاقتصادي النيوليبرالي الشاملة التي تسعى الحكومات لترويجها منذ أواخر الثمانينات وبوتائر مختلفة على امتداد العالم العربي. وقد شهدت الفترة المذكورة خصخصة جميع المؤسسات الحكومية الرئيسية، وتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتأسيس المناطق الاقتصادية الحرة في معظم الأقطار العربية.
لكن، لتأمين نجاح اقتصاد السوق النيوليبرالي دون مواجهة معارضة سياسية قوية وعوائق اجتماعية، يجب تدريب الشباب في الأقطار المختلفة بحيث يتصرفون ويفكرون كشخصيات نيوليبرالية تؤمن بالسوق الحرة والروح الريادية ليس فقط عن طريق تزويدهم «بالمهارات» المطلوبة، بل بتزويدهم أيضا بالسلوكيات والمواقف والقيم والأيديولوجيات. ففي حين يضطلع القطاع العام والمجتمع المدني بمساعدة القطاع الخاص على الترويج لهويات وطنية انعزالية جديدة من خلال الحملات الدعائية ــ تحت شعارات الأردن أولا ولبنان أولا او فلسطين أولا ــ تضطلع المؤسسات الأميركية والدولية ومؤسسات القطاع الخاص بمسؤولية الترويج لاقتصاد السوق الحرة النيوليبرالية بين صفوف الشباب.
ماذا تعلّم تلك البرامج؟ ومن هم الشباب الذين تستهدفهم؟ انّ إلقاء نظرة فاحصة على ما يجري، كفيل بكشف الترويج لاقتصاد السوق الحرة النيوليبرالي تحت مسمّى الديمقراطية، والترويج للانطواء القطري بديلا من الديموقراطية في المجال السياسي.
المنظمات الرئيسة التي تروج لتلك الأيديولوجيات هي «إنجاز العرب» Injaz ــ الفرع العربي من المنظمة الأميركية التي روجت للاقتصاد الحر منذ تأسيسها في العام ١٩١٩ والتي رافقت عملية الترويج للاقتصاد الحر من أميركا اللاتينية الى أوروبا الشرقية ومن ثم في العالم العربي ــ و«نجاح» Najah وهو برنامج تابع لـ«إنقاذ الاطفال»
Save the children. وفي حين تعمل منظمة «إنجاز» مع الشباب في الجامعات والمدارس، تتوجه «نجاح» إلى المنقطعين عن الدراسة. الهدف من برنامج «نجاح» هو تعليم طرق النجاح للشباب المنقطعين عن الدراسة وهي مخصَّصة أساسا للشباب الذين يعيشون دون خط الفقر. يجري ترويج برنامج «من المدرسة الى المهنة» School to Career باعتباره برنامجا لتنمية الإمكانات وهو يهدف إلى تدريب المدرِّسين ومديري المدارس والمستشارين فيها على كيفية تدريس المهارات الناعمة للشباب في المدارس. وبما أن «إنجاز» تتمتع برعاية النخب السياسية والاقتصادية ــ الملكة رانية في الأردن والشيخة موزة في قطر والأميرة [ميّ] في البحرين ــ وتحظى بدعم الشركات الرئيسية في القطاع الخاص فإنها تتمتع أيضا بتغطية إعلامية جيدة في معظم الأقطار العربية. ومن خلال هذا الترويج الإعلامي تتمكَّن «إنجاز» من الوصول إلى الشباب إضافة إلى الطلاب الذين يتابعون المقررات التي تنظمها. وهكذا نجد أنه وبالإضافة إلى ١٠٠،٠٠٠ طالب مشترك بمسابقات وبرامج «إنجاز» على طول العالم العربي، هناك ملايين الشباب الذين تصلهم أيديولوجية «إنجاز» عبر التغطية الإعلامية لتلك المنظمة.
وقد وقعت «انجاز» مؤخرا عقدا مع «وكالة غوث وتوظيف اللاجئين الفلسطينيين» UNRWA للسماح للمتطوعين بتعليم طلاب الوكالة اقتصاد السوق. الهدف الرئيس المعلن لهذه البرامج هو تمكين الشباب وتزويدهم بالمهارات التي تجعلهم صالحين للتوظيف في اقتصاد السوق المعولم. يتحقق ذلك من خلال سلسلة من المساقات على مستويين، الثانوي وما بعد الثانوي. المقررات التعليمية تركز جميعها على مهارات وأخلاقيات العمل بالاضافة الى الريادة والقيادة التي تختصر بمهارات هي أيضا. اي كل ما من شأنه تعزيز الخرافة القائلة إن اقتصاد السوق مشرّع الأبواب أمام الجميع حيث النجاح لا يتطلب سوى بضع مهارات يتعلمها الشاب. كما أن من شأنه حجب المظالم البنيوية المتأصلة وانسحابِ الحكومة من دورها في توفير الخدمات الاجتماعية. وإذا كان ذلك يصح على المستوى الفردي فإنه يصح كذلك على مستوى الدولة. كذلك يتعلم الشباب أن الولايات المتحدة هي رائدة الاقتصاد العالمي، ليس لأنها تستغل موارد الأمم الأخرى بل لأن الشباب فيها يتمتعون بمجموعة من المهارات التي تجعلهم تنافسيين، ويعزا هذا الى النظام التربوي الناجح في الولايات المتحدة المصمم خصيصا لهذه الغاية.
تعمل تلك البرامج بالطريقة التي ذكرنا لا على جذب الشباب إلى اقتصاد السوق العالمي فحسب، بل أيضا على معالجة مشاكل الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن صيرورة «الإصلاح الاقتصادي» النيوليبرالي الذي اجتاح العالم. فـ«الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» USAID بحكم كونها واعية للاضطرابات التي ستجلبها الإصلاحاتُ الاقتصادية الرامية لنشر اقتصاد السوق الحرة في المجتمع العربي، تعمم الفكرة القائلة ان أسباب الاضطرابات الاقتصادية داخل النظام يعود إلى الأفراد أنفسهم لا الى السياسات. فالشباب لا يُدفعون فقط لتمثّل تلك الاضطرابات، بل يُدفعون للاعتقاد أيضا بأن ذلك كان خيارهم، مما يبعدهم عن التفكير بمطالبة الدولة بالحماية من صدمات السوق. فإذا كانوا في النظام القديم عمالا بحكم الحاجة، فيصوّر لهم الامر الآن على انهم رجال أعمال رياديون بملء ارادتهم.
تروِّج هذه البرامج لنموذج من التعليم يُعتبر فيه ان كل ما هو ذو معنى وفائدة هو المرتبط مباشرة بمصالح السوق وبالقطاع الخاص. ويتضمن ذلك فتح الأبواب أمام القطاع الخاص للمشاركة مباشرة في التعليم الحكومي في الأردن. بل إنّ برنامج «إنجاز» نفسه يضم شركات مثل «ارامكس» و«سايفوي» و«ماكدومالدز» للاستشارة، ولتقديم متطوعين لتدريس مساقات «إنجاز» ولاستضافة الدورات التدريبية، ولعرض «قصص نجاح الشركات» أمام طلاب المدارس الحكومية، ولرعاية المدارس ــ ما يتيح لتلك الشركات في الوقت نفسه مجالا للقيام بالدعاية ــ والأهم من ذلك كله، لتمويل إنجاز بالكامل منذ انتهاء فترة الهبة الأولية المقدَّمة من الوكالة الأميركية للتنمية العالمية.
خاتمة
هل أُعِدَّت تلك المشاريع للشباب فقط؟ هل تقتصر الأيديولوجيات التي تُنشَر عبر البرامج المهيأة للشباب على الشباب فقط؟ أم أنها تُنشَر عبر برامج أخرى مهيأة لفئات اجتماعية أخرى في العالم العربي؟ وإذا كانت نفس المجموعة من الأفكار تروَّج لفئات مختلفة فكيف لها أن تفكر بالشباب؟ أليس من الأجدى من الوجهة النقدية، أنه إذا ما فهمنا السياسات التي يجري ترويجها على حقيقتها لا بد لنا من معرفة المصالح التي تخدمها تلك السياسات والبدائل التي يمكن اختيارها؟ وإذا كان يجري ترويج نفس السياسات بين فئات مختلفة في المنطقة العربية في هذه اللحظة التاريخية، يبرز سؤال لا سبيل لتفاديه: ماهي الدلالة التي يحملها الشباب حاليا؟
بعد دراسة الموضوع يمكن الاستنتاج بأن هناك خمس دلالات للشباب تخدم مصالحَ النخب ومصالح المجتمع الدولي حاليا على نحو واضح.
الدلالة الأولى هي أنّ الشباب يناسبون أفكار التغيير اللازمة للمنطقة. والفكرة السائدة ان الشباب يمثّلون دائما وكلاء التغيير، ما يشرعن مشروع التغيير والإصلاح الذي يمكن تنفيذ مصالح سياسات الولايات المتحدة من خلاله. ينسجم ذلك مع كل هذا الافتتان بالتغيير، وهو أسلوب لوضع مشروع التنمية ضمن إطار عملية تطوّرية وحيدة: الشباب هم راشدون لم يكتملوا بعد وينبغي الأخذ بيدهم في درب النضوج. ومثلما أن العالم العربي مايزال متخلِّفا وبحاجة لمن يساعده على الوصول إلى الاقتصاد العالمي لكي يتطور، كذلك يحتاج الشباب العربي إلى التمكين لكي يصبح قادرا على المنافسة ضمن الاقتصاد العالمي.
الدلالة الثانية هي في ما يروِّجه خطابُ الشباب من توجّه نحو المستقبل ومن تأجيلٍ للرغبات وتعليقٍ للأحلام، وهو يطلب من الناس الاستثمار في المشاريع الآن بأمل أن يعود عليهم ذلك بالفوائد مستقبلا. ولكن للوصول إلى هذا المستقبل يجري تأسيس المنتديات، على طريقة «المنتديات من أجل المستقبل»، كما يجري تخصيص الأموال من أجل المشاريع الشبابية المستقبلية.
الدلالة الثالثة هي أن الشباب يمثلون فئة محايدة، وهو تعبير ملطَّف يساعد في تفادي الحديث عن فئات أخرى كالطبقة، رغم أن أهداف المشروعات الشبابية تُصمَّم على أساس طبقي أي أنها تستهدف الطبقة الوسطى والشباب الفقير على نحو أساسي، وعلى العامل «الديني» الذي يمكن شحنه سياسيا، وهو ما من شأنه المساعدة في عملية اللاتسييس التي تهدف لإيجاد مواطنين/مستهلكين مطواعين سياسيا.
الدلالة الرابعة، تعزيز الفجوة بين الأجيال تشكِّل جزءا من عملية التفتيت، التي تعقب عملية الدمقرطة النيوليبرالية من خلال تفكيك المركزية وفصل الاقتصاد عن السياسة ما يساعد في عملية السيطرة والتحكم.
أما السمة الخامسة والأخيرة فهي أنّ خطاب الشباب يشرعن التدخّل الخارجي ونهج التدريب والأسلوب الأبوي التي تشكِّل كلها المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وإذا كانت هذه الدراسة قد ركَّزت على أجندات سياسية بعينها تعمل على الشباب في العالم العربي، فإن من المهم ألا يغيب عن البال أن الشباب يجتذبون مجموعات مختلفة لا تشترك كلها في نفس أنواع الأجندات السياسية التي تتناولها الدراسة الحالية. وهو ما يجعلنا ندرك أن هذا بالتحديد هو سبب ترويج الشباب باعتبارهم بنْية من قِبَل النخب السياسية والاقتصادية وفي هذا الجزء من العالم وبهذا التزامن التاريخي بالتحديد: ذلك ان الفكرة تتمتع بجاذبية كبيرة إضافة إلى أن بإمكانها أن تصبح أداة تسويقية ناجحة للمشاريع التي ترغب تلك النخب بتنفيذها في هذا الجزء من العالم. يبقى على الباحثين معرفة سبب ترويج هذه الفكرة حاليا، والجهات التي تقوم بالترويج ولأية أهداف.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.