الاحتجاجات الشبابية التي خرجت من نحو ٢٥ منطقة من مناطق البحرين، ترفع أعلام البحرين وحدها، وتهتف بهتافات تطالب بإصلاحات سياسية والإفراج عن السجناء، ومطالب معيشية أخرى، تحمل شعار «الشعب يريد إصلاح النظام». تعرضت منذ لحظة خروجها مساء ١٤ فبراير لقمع عنيف من قبل رجال الأمن. سقط الشهيد الأول سريعا، وصادما. إنه علي مشيمع (٢١ سنة). الاحتجاج تحّول من فوره إلى كتلة غضب. لم تتمكن صدمتنا أن تلتقط أنفاسها بعد، ففي صباح اليوم التالي ١٥ فبراير، وأثناء تشييع جثمان الشهيد الأول، أسقطت قوات الأمن الشهيد الثاني أثناء خروجه للمشاركة في تشييع الأول، إنه فاضل المتروك (٣٢ سنة). عشرات الجرحى، إصابات بطلقات مطاطية وشوزن، حالات متفاوتة. الغضب اشتد، الجماهير احتشدت أمام مستشفى السلمانية الطبي حيث سقط الشهيد الثاني قريبا منه، الهتاف احتد: «الشعب يريد إسقاط النظام».
هكذا تطور الحدث سريعا كما تطور الشعار.
عصرا، كان «دوار اللؤلؤة» يعج بالمتجمهرين الغاضبين، حملوا غضبهم وجاؤوا يهتفون به في الميدان العام. عشرات الآلاف توافدوا إلى دوار اللؤلؤة، لم يوقفهم الأمن هذه المرة. بدا المشهد خاليا من رجال الأمن الذين انسحبوا بعد خطاب الملك. في المساء بدأ نصب الخيم والتمهيد لاعتصام أعلن أنه يمتد حتى تحقيق المطالب.
للأمانة، لم أخرج ظهرا من بيتي قاصدا دوار اللؤلؤة، كنت قاصدا الصديق الإعلامي عبد الوهاب العريض الذي كان ينتظرني عند مقبرة جدحفص التي دفن فيها الشهيد على مشيمع. حين وصلت، وجدت الجموع تتجه نحو الميدان. سلمت نفسي إلى حيث تشق أقدامهم طريق حرية جديد. كان المشي في شتاء الثانية والنصف ظهرا لذيذا جدا. التقطنا صورا تذكارية لنرويها غدا لن توصلهم إلى دوار اللؤلؤة. توقفنا عند مجموعة من النسوة ينثرن المشموم على أقدام المتوجهين للميدان. كانت لحظة حميمة وضاجة بالمعنى.
ساورتنا دهشة كبيرة لحظة الوصول الى دوار اللؤلؤة في تمام الساعة الثالثة وأقل من عشر دقائق، يوم الاثنين ١٥. لم يتوقع أحد أن يصل. أرسلت مباشرة صورة بالآيفون عبر برنامج الـ«واتس آپ» ( whatsApp ) وكتبت معها: «نحن في قلب ميدان اللؤلؤة الآن بانتظار ردة فعل قوات النظام» . كانت الرسالة الأولى التي بعثت بها لأصدقائي في قائمة التويتر والواتس آب . تحدثت اليهم عن لحظة الوصول إلى دوار اللؤلؤة وما تمثله هذه اللحظة الرمزية من محاولة لفتح ميدان عام مشترك يشارك فيه الجميع في صنع الدولة التي يريدونها لهم. كنت أكتب ورؤوس البصل تتدحرج بين أقدام المحتجين استعدادا، ليس لمواجهة رؤوس الأمن، بل رؤوس طلقاتهم المسيلة للدموع. بعد لحظات سمعت الهتافات تدوي من محيط دوار اللؤلؤة: إنه إبراهيم شريف، الأمين العام لجمعية «وعد»، محمولا على الأعناق يلوّح بعلم البحرين بيدٍ، وباليد الأخرى يلوّح للمحتجين معبرا عن وقوفه إلى جانبهم.
كانت الشمس ساطعة ونصب اللؤلؤة ناصعا في بياضه. بدأ بعض المحتجين يأخذ قيلولته فوق حشيش الميدان بعد تعب صبح مجهد وطويل، ولفرط دهشة الوصول يكتفي المرء بإغماضة واحدة ليغفو. بدأ معنى الميدان يتشكل في ذهني تدريجيا. كان دوار اللؤلؤة، قبل هذا اليوم، ليس أكثر من دوار مروري مختنق دائما بحركة السيارات العابرة. لكنه صار الآن محطة تحدٍّ، نصل إليه متحدين اختناقات النظام التي سببها الفساد والتمييز والعنف والاستبداد وغياب المواطنة وتفريخ جماعات ولاء مصطنعة. عشرات الألوف من الجماهير المنددة آخذة في التوافد والهتافات تعلن غضبها.
مختبر التعايش
مع بداية ظلال المساء، صار الدوار ميدانا. لم يعد مكانا تدور حوله السيارات لتأخذ الاتجاه الذي تقصده. أمسى مكانا يدخله الناس ليُدينوا أجهزة النظام التي أتعبتهم من الدوران حول منطقة فارغة من المعنى الذي يعدهم بالأيام التي لم يعيشوها بعد. مع المساء صار الميدان منصة. افتتحها المحامي حسن رضي بالقول إن الدستور العقدي هو مطلب هذا الشعب، والدولة الديمقراطية التي نريدها هي دولة يحكمها الشعب وفق دستور يحمي تنوعات الشعب بجماعاته المختلفة.
صديقي، الأكاديمي والمثقف البريطاني أدريان بروكت، كان مصرّا ليلتها أن يصل ميدان اللؤلؤة، ترجّل من سيارته عند فندق الرجنسي (يبعد ٨٠٠ متر تقريبا)، ليصل الميدان بعد مشقة في تمام الساعة الحادية عشر ليلا، ترافقه زميلته. كنت بانتظاره مع مجموعة أصدقاء وصديقات، قال في لحظة دهشة : معقول كل هذا ! كل هذه الحشود المحتجة في ميدان عام والناس بشعاراتها ولافتاتها وهتافاتها من كل الأطياف؟ قلت له: هو معقول في البحرين فقط من بين دول الخليج. وهذا الاستثناء هو ما يجعل تجربة هذا الميدان محفوفة بالخطر والمغامرة. فما يحدث هنا يخترق المنظومة الخليجية المؤسَّسة على الولاء لصاحب السلطان والطاعة، مقابل ضمان العطاء.
الأربعاء ١٦ فبراير. الميدان يموج بالناس والاختلاف. ظهرا، يصلي المعتصمون، سّنة وشيعة، صلاة ظهر واحدة. صفا واحدا لا صفين. عصرا، الشباب يعيدون طلاء نصب اللؤلؤة، بعد أن كتبوا عليه في اليوم السابق انفعالاتهم الهائجة. يعيدون النصب الى بياضه، ويزيدونه من وهج حماسهم بياضا.
صار الميدان الآن مختبرا للتعايش بين الجماعات المختلفة التي بدأت تتوافد عليه، وهذا هو التحدي الأكبر أو الجهاد الأكبر، كيف نجعل من الميدان ساحة مشتركة، ميدانا عاما، تظهر فيه مشتركاتنا الوطنية، وتغيب خصوصيات كل جماعة.
هكذا إذا، وجدت نفسي سريعا جزءا من هذا الميدان، ومثلما وجدت فيه تجربة للعيش المشترك معا بالنسبة للمختلفين، كان بالنسبة لي تجربة أخرى، لنَقُل: مختبرا لمفاهيمي النظرية كمثقف معني بالحرية والإنسان والفضاء العام والميدان المشترك والدولة والتعددية والديمقراطية. كان علي أن أقترب عمليا، من المفاهيم النظرية، التي استهلكتها كتب المفكرين والمثقفين الكبار، أختبرها في ميدان الناس وعلى أرض الواقع. وجدتني بالقدر نفسه أريد أن أوظف أدوات الاتصال الحديثة جميعها لأنقل هذه اللحظات بكل ما فيها. أن أكون شاهدا ينقل أحداثها بعينه الناقدة والمعايِشة. عبر تويتر كنت أنقل مقتطفات من الخطابات التي تقال في الدوار وموقفي النقدي على بعضها، أسجل ملحوظاتي عما يقال، وما أراه لا يحقق مفهوم الدولة المدنية.
ليل ١٦ فبراير. أفترشتُ حشيش الدوار، واضعا حاسوبي المحمول في حضني، أكتب تأملاتي، وتجربتي الجديدة. وبعد عودتي للمنزل قرابة الساعة الواحدة فجرا، أرسلتها لعدد من الأصدقاء، ولمجموعة «دروب» الإلكترونية التي تضم نخبة من السياسيين والإعلاميين والمثقفين البحرينيين. لم أكن أعلم حينها أنه يفصلني عن خبر الفاجعة ساعات قليلة. غفوت وصحوت قريباِ من الساعة الرابعة فجرا على وقع الخبر: قوات مكافحة الشغب مدعومة بالجيش تهاجم «الدوار» عند الثانية والنصف من فجر اليوم، وتخلف إصابات وقتلى. كيف يمكن أن أستوعب الصدمة؟ كنا للتو هناك ننشد الحرية ونحتفي بالتعدد والاختلاف. كان الجميع ينامون في سلام الحلم. كيف يجرؤون على هذا الاغتيال؟
قتيلان ومئات الجرحى. حتى الخيمة الطبية لم تسلم من الاغتيال، كذلك الطاقم الطبي، الطبيب صادق العكري يتعرض للهجوم والضرب ولم يشفع له رداؤه الأبيض وإعلانه لهم أنه طبيب. يسقط العكري، ينقل إلى غرفة العمليات. الأخبار نتواردها عن طريق تويتر والفايسبوك. المصابون لجأوا إلى مجمّع مستشفى السلمانية الطبي، اعتبروا الحرم الطبي مكانا آمنا، الطاقم الطبي في حالة ذهول. لا أحد يعرف حجم المصابين وعددهم وإصاباتهم. بدأت الحالات والإصابات تتوافد إلى المستشفى في سيارات خاصة. الإسعافات التي خرجت لتقل الجرحى اختفت. تجمهر وهيجان حاشد. المحتجون يحاولون العودة للدوار. قوات الأمن تواجههم بمسيلات الدموع والرصاص المطاط والانشطاري عن قرب. رأس ضحية ثالثة تم تفجيره بتصويب مباشر. الحادث تشهد عليه الصحفية نزيهة سعيد وتنقله للإعلام. قوات الأمن تتقدم من جهة الدوار باتجاه مجمع السلمانية الطبي تمنع المسعِفين من الوصول إلى الدوار، تهاجم المسعفين وتقوم بضربهم.
تويتر يأخذني الى الحدث
لم أحتمل البقاء في مكاني أكثر. خرجت متجها إلى مجمع مستشفى السلمانية الطبي. أصل قبل خروج مسيرة الكادر الطبي احتجاجا على الوزير فيصل الحمر وطاقمه الإداري، بسبب منعه الإسعافات من الوصول إلى الدوار لإنقاذ الجرحى والمصابين.
كان المكان ضاجا بالفوضى والغضب والانفجار والصدمة التي لم تستوعب هذا الهجوم بعد اعتذار الملك منذ يومين فقط. هناك كنت أشاهد بكاميرتي وبحواسي كلها الأجساد المصابة ، أرى البكاء ومفعول هذه المجزرة في الناس وفي هتافاتهم التي كانوا يصرخون بها في مستشفى السلمانية. وانقل الحدث عبر تويتر، كأني أحوّل وظيفتي الثقافية من الجلوس في البرج العاجي إلى لمس الناس.
كان تويتر يحرضني لأن أذهب إلى أماكن الحدث نفسها، أن أتابعها بنفسي، أسجلها بنفسي، أنقلها بنفسي، أقترب من حقيقة ما يحدث. المثقفون الذين لم يكونوا قريبين من هذا الحدث، كانوا بعيدين جدا لأنهم كانوا يستقون معلوماتهم عبر وسائل الإعلام الرسمية في أبراجهم العاجية، وعبر مواقع مصالحهم في الدولة، ولو كانت هذه المصالح في شكل تسهيلات تافهة. وما يأتي إليك ليس هو الحقيقة، ما يأتي اليك هو ما يراد إيصاله إليك، ربما يُعذر البسطاء إن انطلت عليهم مثل هذه الألاعيب والأحابيل وطرق التزييف والدجل، لكن لا عذر للمثقف الذي يقرأ التاريخ ويقرأ بطش الأنظمة أن يجلس متلقيا مثل الآخرين، في حين المسافة بينه وبين رؤية الحقيقة بأم العين، خطفة قدم. وراح بعض المثقفين يضفي على رواية السلطة المزيد من المصداقية إذ اخذ يروّج لفكرة طائفية المعارضة.
تويتر كان بالنسبة لي إذا، محرضا آخر على الذهاب للحدث، لا انتظار أن تصلك أخبار الحدث. كتبت من هناك رسائل تختنق باللحظة والصدمة: «هنا في مستشفى السلمانية الطواقم الطبية في حيرة والمحتجون في حيرة والمصابون معلقون. والشهداء وحدهم حسموا حيرتهم. انهم مطمئنون تماما». كتبت أيضا:
«هنا في ساحة الطوارئ الوضع مبكى جدا، مضحك جدا، جاد جدا، هزلي جدا، يائس جدا، متفائل جدا. هنا مجمع التناقضات، وكلنا ننتظر سيارة إسعاف يسمح لها أن تأتي من الميدان بجثة أو شبه جثة أو لا جثة، حتى بس لو تجي». كتبت أيضا: «دخلت المشرحة وصورت جثث الشهداء كان أحدهم مهشم الرأس وحالة الناس هستيرية». خرجت من ساحة المستشفى، وتوجهت لجمعية حقوق الإنسان، من هناك جاءني اتصال من قناة البي.بي.سي، يسألني بوصفي كاتبا وصحافيا عن تطورات الأحداث على أرض الواقع. شهدت بما رأت عيناي وما شهدته حواسي.
قائمة العار
لم يعد ثمة مكان للحياد ولا لادعاءات الرزانة. ولم يعد ثمة مكان للجلوس خلف منضدة كتابة لا تنزل الشارع لترى بأم عينها. ادعاء الرزانه هنا هو قد يكون بلادة مشاعر، وقد يكون سذاجة، وقد يكون سطحية، لكنه أبدا لن يكون رزانة بالمعنى الإيجابي، ولن تحتمل هذه الكلمة إلا أن تكون سلبية ومرعبة، أو كما تقول حنّة إرندت في كتابها «في العنف»: «النزاهة والرزانة قد تبدوان أمرين مرعبين في مواجهة فاجعة لا يمكن احتمالها، أي حين لا تكونان ناتجتين عن السيطرة على الذات، بل تجليا واضحا لعدم الفهم. إن المرء، لكي يتمكن من أن يبدي رد فعل عقلانيا، عليه أول الأمر ان يُستثار. »
ألا يُستثار مثقف أو كاتب أو صحافي أو صاحب رأي أمام مشهد قتل أرواح خرجت تطالب بحقوق مدنية سلمية؟ فهذه خيانة للإنسان. ألا يستثار هؤلاء من أجل الدفاع عن حق الناس في المطالبة بإصلاحات سياسية وحكومة منتخبة من قبل الشعب؟ فهذه خيانة لمبادئ الحرية والديمقراطية. لكن الأنكى، أن يستثار هؤلاء ضد مذهب المحتجين وطائفتهم، أن يسبغوا على المحتجين صفة سطحية (شيعة، متدينين) تجردهم من حقهم في الاحتجاج والرفض. إنهم بهذا يخونون وظيفتهم التي تنظر لحقوق الإنسان بصرف النظر عن معتقده ودينه، وهذه هي خيانة المثقف.
صباح السبت ١٩ فبراير، وأنا ما أزال تحت وطأة سيناريو اليومين السابقين، وانا أزال تحت رعب فاجعتهما التي عايشتها عن قرب، رحت أبحث في صحافة بلدي عن صوت ينتفض من أجل الإنسان، من أجل أرواح من سقطوا، أذهب إلى كتاب الرأي (المخضرمين) في صحافتنا المحلية واحدا واحدا، أبحث عن صوت الإنسان في ما يكتبون، أذهب إلى المثقفين الكبار، أبحث عن كلمة تشجب القتل والقمع، لا أجد.
صحيفة «الوسط» حملت وحدها همّ نقل الحدث، نذرت نفسها له، رفعت سقفها الى أقصاه في النقل، فدفعت ثمنه لاحقا. كانت تعمل وحدها، فيما راح الإعلام في بلدي يبرر مجازر القتل، ويلتمس للحكومة الاعذار ويزيد عليها من تدليسه، ويسكب على الحكومة شرعية الفعل، وعلى الضحايا والقتلى لا شرعية الاحتجاج، ويتهمهم بالطائفية والفئوية، كون غالبية المحتجين من طائفة واحدة، وكأنهم لا يعلمون. كنت أرى الأقلام (المخضرمة) في الصحافة، تنسف ما تبقى من إنسانيتها، وتخيط ما ترقّع به «هرمَها» الذي استقر في ثوب الطاعة والولاء. استقرار يدرّ عليها رفاهية مريحة. هذه الأقلام التي لفرط ما هرمت، لم تعد تستوعب، ولا تقبل، معنى أن يثور الشباب، وأن ينتفضوا لصناعة غد مختلف، حتى وإن كانت بعض هذه الأقلام منخرطة في تنظيمات ثورية في السبعينات.
على بريدي الالكتروني وصلتني قائمة مصورة باسم «قائمة العار»، تتضمن اسماء مجموعة من كتاب الصحف الذين أمعنوا في تخوين المحتجين وتطييفهم ووسمهم بعملاء إيران، بالقدر الذي راحوا يمعنون في تبجيل قمع السلطة. أنزلت صورة قائمة العار على صفحتي في الفايسبوك، وكتبت تحتها «رجاء كل من يقرأ اسمه في قائمة العار، من الإعلاميين الذين كانوا أصدقائي، فليعتبروا أسماءهم وشخصايتهم ساقطة من قائمتي التي لا أريد أن أحتفظ فيها بمن يقتلون بكلماتهم شعبي الذي لا يريد غير مواطنته الدستورية.»
صممتُ القائمة على طريقة قائمة العار المصرية التي نفذها شباب ثورة ٢٥ يناير، ليدينوا بها صحافة العار التي كانت تمجد نظام مبارك حتى آخر يوم له، قبل أن تدينه في اليوم التالي لسقوطه. كانت القائمة اقتباسا ضمن عدة اقتباسات أخذها شباب الثورة هنا من شباب الثورة هناك.
الورود تفتح السياج
ظهر السبت ١٨ فبراير، كان ينتظرنا حدث آخر، بطعم مختلف. خرجت مع صديقي ورفيق الميدان عبد الوهاب العريض، مررنا على المراسلين البريطانيين الذين أخذناهم من فندق «الدبلومات» حيث يقيمون وتوجهنا جميعا نحو المستشفى. كان الوقت قبل الثانية ظهرا. علمنا في الطريق أن مجموعات من الشباب خرجت متوجهة لفك الحصار على الميدان. بدّلنا وجهتنا إلى هناك. قال لنا صديقنا المراسل بحسه الصحافي: الحدث سيكون هناك.
قريبا من الميدان، سنرى المتجمهرين يزحفون نحو السياج الشائك الذي نصبته قوات مكافحة الشغب على مسافة نحو نصف كيلومتر من الدوار من جهة منطقة «السنابس». مواجهات يستخدم فيها الأمن الغازات المسيلة للدموع، لكنه يتحاشي الإصابات والطلقات المطاطية كما في الأيام السابقة . ابراهيم شريف، أمين عام جمعية «وعد»، الذي يقضي اليوم عقوبة السجن لمدة خمس سنوات، لاتهامه ضمن ٢١ آخرين بمحاولة «قلب نظام الحكم»، أول من وصل من القيادات السياسية لدعم الشباب، يقف مع الشباب ملاصقا حاجز الخطر، قبل أن يتجه لرجال الأمن ويطلب من قائدهم السماح للشباب العزل بالاعتصام السلمي، ويخبرهم أن لا أحد هنا ينوي إثارة أي نوع من أنواع الشغب. يبدي الأمن تجاوبا فيما يبدو أنه مقدمة لانسحاب ينتظر أمر التنفيذ.
والشباب من ناحيتهم، يبدأون مناورات طريفة، تبدو كمغازلة لرجال الأمن. أعلام البحرين تلف أجسادهم الغضة، بعضهم يجلس على الأرض رافعا علمه، والبعض يتقدم نحو السياج الشائك رافعا الورود، يلاصقون السياج الشائك، ويمررون الورود لرجال الأمن من خلال الفتحات الصغيرة. صبِّية تجتاز السياج الشائك بجسدها النحيل، تتجه نحو رجال الأمن، تقدم لهم ورودها. أغصان الورود مرتفعة، شاهقة. كل وردة رسالة سلام اضافية، ترخي شوك السياج اكثر وتهتك رهبة الآليات الغليظة اكثر وتكسر عيون العساكر أكثر. كنا نشهد اللحظات بدهشة بليغة، وبنشوة من يشهد فتحا جديدا، إنه فتح الورد، فتحٌ يُخجل فتح الغزو ويهزمه. كان الطقس رائعا، يزيد المشهد روعة أخرى.
أبثّ هذه اللحظات عبر تويتر. وعبره أيضا علمنا أن تلفزيون البحرين يعرض خطابا لولي العهد، يأمر بسحب جميع القوات العسكرية من شوارع البحرين بأثر فوري تمهيدا لإعلان الحداد على أرواح الضحايا، ثم البدء في الحوار. سريعا ما بدأت الآليات العسكرية وقوات الأمن بالانسحاب. يُعلَن بيان الجيش رقم ٢: «انسحاب القوات العسكرية من العاصمة».
كنا في ما يُشبه الحلم. تنسحب آليات الجيش وسط تصفيق الجميع وصرخات فرحهم وقفزاتهم وصلواتهم. أرسلت عبر تويتر لأصدقائي مفتخرا: "فتحنا الدوار". كنت أجدني مشاركا في الحدث، في فتح الدوار، في كسر حصاره. تسابقنا جريا نحو الدوار، من يصل أولا، غير مصدقين. كان الدوار قد تحول فعلا إلى أيقونة الثورة، سمِّه «ميدان التحرير»، أو سمِّه «ميدان الشهداء»، أو «لؤلؤة الثورة»، لا فرق، كل الأسماء صارت أسماءه.
الشباب يضعون خطواتهم الأولى داخل الدوار بين صارخ فرحا، وساجد على الأرض، ومتقافز من شدة الفرح، ومحتضن لرفيقه. الأهازيج، الهتافات، الصلوات، التكبيرات، كانت لحظات لا تشبهها غير لحظات النصر. من فورهم قام الشباب بحملة تنظيف للميدان، لملمة آثار الهجوم الذي باغتت النيام قبل يومين: المئات من الطلقات المطاط، المئات من أسطوانات الغازات المسيلة للدموع، أحذية أطفال هنا وهناك، لعب، دمى. جُمعت كلها في معارض صغيرة انتشرت في اركان الدوار. البعض راح يرسم على الأرض لوحة بالحجارة تقول: «نحب البحرين ونطالب بمصلحة كل شعبها».
لم تمض دقائق حتى كان الميدان مسرح فرحة عارمة لآلاف المتجمهرين الذين اتخذوا من خطاب ولي العهد ضمانا يكفل لهم حرية التجمع السلمي. هو التجمع نفسه الذي سيحاسبون عليه، بعد دخول قوات درع الجزيرة في ١٦ مارس. كل من وطأت قدماه الدوار سيكون متهما بالخيانة والعمالة والصفوية والمجوسية وما لا يقال من الأوصاف، وسيواجه أشكالا مختلفة من التحقيق أو التوقيف عن العمل أو الفصل أو الاعتقال والتعذيب، أو جميعها.
في المساء، يأتي الامين العام لجمعية الوفاق، يخطب في عشرات الآلاف التي احتشدت في الميدان. أُرسل عبر تويتر المقطع الأهم في خطابه: «نحن لا نريد دولة إسلامية، ولا دولة دينية، نريد دولة مدنية متحضرة». ستكون الدولة المدنية أيقونة أخرى للثورة البحرينية وحلمها اللؤلؤي. تلك التي سيصمُّ النظام الحريني أذنه عن سماعها متعمدا، وسيصر على رسم أيقونة يُسمِّم بها الثورة، سينسبها إلى دولة ولاية الفقيه، تلك الدولة التي رفضها شباب الثورة أنفسهم، والتي عبروا عنها بقولهم: «لم نرفض حكما استبداديا للوقوع في حكم استبدادي آخر»، والتي قالت جمعية الوفاق (الإسلامية الشيعية)، باستحالة قيامها في البحرين.
داخل الدوار، خارج الطائفة
يوم ١٩ فبراير، بداية فترة هدوء تمتد أسابيع ثلاثة، قبل أن يواجهها النظام بقمع هستيري في منتصف شهر مارس. وستكون هذه الفترة وما بعدها مختبرا حقيقيا للجميع: مختبرا ميدانيا للقوى المعارضة (جماعات وجمعيات وأفرادا) تختبر فيه اختلافها وترسم ملامح تعايشها المشترك، ومختبرا لشكل الدولة التي تتطلع إليها الجماهير المطالبة بالتغيير، ومختبرا لرد فعل المجتمع الذي يشهد التغيير كواقع قادم وملح، ومختبرا للجمعيات والمؤسسات الأهلية في تعاطيها مع الثورة والحدث والسلطة والشعب والإنسان، ومختبرا للسلطة في جدية ما تُخبر عنه بسيادة شعبها، وأخيرا مختبرا للمثقف في حقيقة مواقفه إزاء حريات الشعوب والعلاقة مع السلطة.
ملامح الدولة المدنية صارت تطرح نفسها بعدة أشكال داخل هذا المكان. نخلات الدوار الواحدة والعشرون تحولت إلى علامات تنوع، بقدر ما هي علامات أصالة، وبقدر ما هي علامات شموخ. سريعا ما تم ترقيم النخلات لتصير كل نخلة مقرا لكيان مختلف، خيمة عند كل نخلة، بل خيما على امتداد المساحة المحيطة بالدوار. تكدست الخيم، تلاصق بعضها بحب بعض، الناس كذلك. صار الدوار أكبر، صار ميدانا حقيقيا.
كل من لديه مطلب احتجاجي سيجد له متسعا في هذا الميدان. لا أحد يسأل أحدا عن انتمائه وأصله أو فصله أو دينه أو مذهبه. الميدان هو المساحة الحرة لممارسة فعل الاحتجاج الحر. لهذا جاء بعضها في غاية التعقل وجاء بعضها في غاية التطرف وكان بينهما كثير. لا أحد يتحكم في الميدان ولا الناس، لا سيد غير عَلَم البحرين الذي كنا نراه للمرة الأولى بهذا التألق يرفرف رفيعا كبيرا مفتخرا. وكلما ابتعدت الخيمات عن مركز الدوار ومنصته الرئيسية، تنوعت أكثر وتعددت. في هذا المكان ستجد لك متسعا وترحيبا وحفاوة كيفما كنت، سنيا أو شيعيا، إسلاميا أو ليبراليا أو علمانيا أو يساريا أو شيوعيا أو زائرا من دولة أخرى. هكذا كنت أرى الميدان مصنع تعايش جديد، لم نختبره من قبل.
عند النخلة رقم ٦
عند النخلة رقم ٦، حيث خيمة جمعية «وعد»، كنت أجلس وأمكث وأتواعد وأتحاور وأتناقش، وأكتب أيضا. ومن هناك قررت مع عدد من الأصدقاء والمثقفين الليبراليين إصدار نشرة خاصة بالميدان، سميناها «صدى الميدان». كانت أول نشرة تعبر عن صوت المعتصمين، يطبع منها ٢٠٠٠ نسخة على نفقة جمعية «عد» التي سوف يقوم أتباع السلطة وأنصارها بحرق مقراتها في ١٤ مارس ٢٠١١ وإغلاقها بالشمع الأحمر. عبّرنا في هذه النشرة عن المطالب التي رفعها المتظاهرون، وذهبنا بها خطوات أبعد نحو: الملكية الدستورية، التداول السلمي للسلطة والبرلمان المنتخب كامل الصلاحية، من خلال رؤية ليبرالية علمانية. وعند النخلة رقم ٦ خضت نقاشات موسعة مع الأصدقاء حول شكل الدولة المدنية المتسعة بالاختلاف والتعدد، تمت دعوتي من خلال شباب «وعد» و«المنبر التقدمي» لإلقاء محاضرة، أردت أن أنطلق بها من خلال هذا العنوان، تأخرت الندوة، قبل أن تباغت النخلة قوات درع الجزيرة.
قبل أيام قليلة من استباحة جزيرتي الصغيرة على أيدي قوات درع الجزيرة، صدر كتابي الأخير «خارج الطائفة». كتبت في حسابي على تويتر يوم السبت ١٢ مارس: اليوم تسلمت ٣٧ نسخة من كتابي «خارج الطائفة» بطريقة درامية. أنا ممنوع من دخول السعودية عبر الجسر، وصديقي عبدالوهاب العريض ممنوع من دخول البحرين. فكيف أتسلم منه نسخ كتابي التي أحضرها من معرض الرياض عبر دار مدارك؟ وقفنا عند الحدود ناولني، الكتب وناولته الشكر، ورجعنا داخل الحدود التي هي أقل من أوطان.
أعلنت للأصداقاء: «مقابل النخلة رقم ٦ في دوار اللؤلؤة، عند خيمة «وعد» العلمانية، سأوقّع كتابي يوم الاثنين ١٤ مارس». تتطور الأحداث الأمنية تجاه التصعيد، تحتقن الأجواء، يصير كتابي خارج الدوار. في لحظة الدوار كنا نعيش زمن «خارج الطائفة»، كان الدوار بما يجتمع فيه من أطياف تختلف حد التناقض، تجربة ميدانية في الخروج من الطائفة، والدخول في المدينة المتعددة والمتنوعة. لهذا كنت أرى أن الدوار هو المكان الأنسب لتوقيع كتابي، ففي تجربته ما يعزز هذا الخروج، وما يعزز الدخول في الدولة المدنية.
بعد يومين، وفيما كانت آلات التكسير تفتك بأعمدة اللؤلؤة، أعلن الجيش في بيانه رقم ٦ أنه تم تطهير الدوار. أرسلت للأصدقاء الاعتذار التالي: «أعتذر لكم أيها الأصدقاء، حفل توقيع كتابي «خارج الطائفة» الذي وعدتكم أن يكون مقابل النخلة رقم ٦ في دوار اللؤلؤة، سنؤجله قليلا، فالنخلة لم تعد في الدوار، واللؤلؤة ليست في مركز الدوار، وخيمة «وعد» فقدت نقطتها في محيط دائرة الدوار. الدوار اختطفته القبيلة، رأت فيه خروجها. الآن الدوار خارج الجغرافيا لكنه داخل التاريخ.»
كنا داخل الدوار خارج الطائفة، اليوم نحن خارج الدوار وداخل الطائفة. داخل الطائفة التي استخدمتها السلطة، لتطالب بإزالة الدوار خوفا على مصالحها من الطائفة الأخرى، وخارج دوار اللؤلؤة الذي بقى يرفع شعارا مدنيا يطالب بحقوق متساوية مكفولة للجميع، دون النظر إلى الطائفة أو القبيلة أو الدين. في لحظة سديمية بدا كل شيء مشروع تدمير من أجل الاحتفاظ بالسلطة فقط.
كان الميدان حياة أخرى، يجعلك تشعر أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كما يقول محمود درويش. لم أستطع أن أرى هذه الحياة خارج تلك التي بدأ الإنسان العربي يصنعها في ربيعه. الحياة التي حولت عواصم عدد من الدول العربية إلى ميادين تحرير، إنه الزمن الذي سنفتخر دوما بأننا جزء منه، أننا صنعناه وشاركنا فيه، أنه حدث في زمننا، أننا رحّلناه للأجيال القادمة. كتبت ذات صباح في تويتر تصبيحة لكل الشعوب العربية في ربيعها العربي، قلت: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة. الحياة حيث ميدان اللؤلؤة (البحرين) وميدان التحرير (مصر) والساحة الخضراء (ليبيا) وساحة التغيير (اليمن)».
هكذا حرصت على أن أكون داخل هذا الحدث، وداخل هذا الحلم، شاركت في التوقيع على كثير من العرائض التي تدين عنف السلطة المفرط في مواجهة المحتجين وتطالب بمزيد من الإصلاحات في البحرين والخليج، بينها عريضة باسم المدافعين عن حقوق الإنسان في الخليج العربي التي وجهت يوم ٢٢ مارس ٢٠١١ إلى مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وكذلك العريضة التي دشنتها أسرة الأدباء والكتاب في البحرين للأسباب ذاتها. كما شاركت في أغلبية التظاهرات التي نظمت إبان ثورة ١٤ فبراير، بما في ذلك تلك التي توجهت إلى المناطق الحساسة في الدولة مثل قصر الصافرية، وسكرتارية رئاسة الوزراء للمطالبة بإسقاط الحكومة واستقالة رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، الذي لم يتزحرح عن كرسيه منذ لحظة ولادتي وولادة استقلال الدولة العام ١٩٧١.
نقد المثقف
ستتيح لي فترة الهدوء داخل الدوار أن أمارس وظيفتي في القراءة والنقد، وسأبدأ بنقد المثقف. المثقف العقلاني حد البرود. المثقف الذي يحرص على مظهر الحياد والرزانة أمام الفاجعة، المثقف الذي لا يغضب ولا ينفعل تجاه انتهاكات السلطة لكرامة الإنسان، فقط لأن غالبية شيعية تشعر بالاضطهاد والتمييز، صرختْ تطلب مساواة وعدالة سياسية.
كتبت مقالا نشرته في «صدى الميدان» قبل لحظة دخول قوات درع الجزيرة، قلت فيه إن مهمة المثقف في هذه اللحظة أن يقول واقع الحال بشجاعة، ليس هناك أجدر منه في القول، قوله ينير الحقيقة، وهذه هي مهمته التنويرية، أن يكشف الحجب التي تحول دون ظهور الحقيقة. المثقف الذي لا يقول الحقيقة هو أحد أجهزة السلطة، تستخدمه للإبقاء على واقع الحال، يستوي في ذلك المثقف الحداثي واليساري والقومي والديني والليبرالي والعلماني. سميت المثقف الصامت عن قول واقع الحال بـ«مثقف شحوال» وهي مشتقة من لفظة شعبية بحرينية تستخدم للتهكم وبيان استقرار الحال على ما هي عليه دون تغيير. هو مثقف لا يزعج السلطة ولا تزعجه. مثقف يجد في فزّاعة المتدينين تسويغا كافيا للاكتفاء بالحد الأدنى من الديمقراطية. مثقف يهادن كل الأوضاع ليضمن له موقعا في كل موضع.
صار اسم «مثقف شحوال» مصطلحا مفاهيميا لقراءة مشهد المثقف البحريني والخليجي، وصار موضع تندر طريف في صفحات الفيسبوك وبعض النقاشات العابرة. ولأنني كنت أحد أعضاء «أسرة الأدباء والكتاب» (تأسست عام ١٩٦٩) شاركت في ٢٢ فبراير في المسيرة التي نظمتها الأسرة إلى دوار اللؤلؤة ترفع شعار «معا نحو الحرية». كانت هذه المسيرة امتدادا لتاريخ الأسرة الوطني والنضالي منذ نهاية ستينات القرن الماضي. لكن بعد اجتياح درع الجزيرة، دفع مجلس إدارة الأسرة المناصر للحرية ثمن وقوفه إلى جانب الإنسان ضد النظام، سيشهد هجوما مكارثيا من قبل بعض مؤسسيها بالتعاون مع أجهزة الدولة، سيقوم هؤلاء بإدانة مجلس إدارتها الحالي، واتهامه باختطاف الجمعية وتسييسها، وبالعمل ضمن أجندات حزبية وطائفية، وسيدفع بهذا الفريق لتقديم بيان اعتذاري، تحت تهديدات أمنية، وستمارس ضغوطات لحل مجلس الإدارة المناصر للثورة. وسيُعمل ايضا على تغيير اسم الأسرة، إلى «اتحاد الأدباد والكتاب البحرينيين»، ليتم التماهي مع النظام في مسح معالم وجه «الأسرة» النضالي وتاريخها العريق، ولتشهد بعدها موجة من الاستقالات الجماعية احتجاجا على تنصل الأسرة من شعارها الذي اخلصت له طوال سنواتها في السابق: «الكلمة من أجل الإنسان». وبعد أن صار شعار الممسكين برقبتها الآن: «الكلمة من أجل السلطة».
قدمت استقالتي.
كتبت أناشد المثقفين في الخليج بعد اجتياح قوات درع الجزيرة لشعبي: «أخطر ما يهدد الضمير هو أن تروضه المعرفة على اعتياد الجريمة. يا مثقفي الخليج وأصحاب الكلمة في مؤسسات إعلامه، لا تسمحوا لضمائركم أن تعتاد جريمة اغتيال شعب البحرين». إن مثقف الخليج الذي خرج على منظومته الدينية أو القبلية، لم يستطع أن يضحي بنظام المصالح مع السلطة، فهو يعيش في محيط السلطة التي تملك كل شيء، تملك مصادر الثروة كلها بيدها، وتملكه هو أيضا. لهذا هو لا يستطيع أن يجهر بالحقيقة المجردة. سيبتكر هذا المثقف لخيانته شتى الأعذار، يبرر بها تخوفه من الديمقراطية الحقة وتخاذله عن دعمها، وضربه للحركات الاحتجاجية التي تطالب بها، وتشويهه لرسالتها.
الاجتياح
مر هدوء الأسابيع الثلاثة، ومر معها الحلم بالدولة المدنية، بدولة تزهو بالتعدد والاختلاف، الحلم بالخروج من الطوائف والدخول في الدولة، غادَرَنا هذا كله، ودَخَلنا الموت فقط.
كان ١٤ مارس موعدنا مع دخول قوات «درع الجزيرة» للبحرين. تقدمت عبر جسر الملك فهد رافعة شارات النصر. في ١٥ مارس صدر «قانون السلامة الوطني»، وبدأ هجوم إبادة وحشي على قرية سترة التي عرف أهلها بالمقاومة منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي ١٦ مارس شُنّ الهجوم على الدوار وجرى «تطهيره» من المحتجين وفق ما جاء على لسان المشير المحسوب على الجناح المتشدد في العائلة الحاكمة.
ومنذ ذلك اليوم والبلد يعيش تطهيرا من كل فعل احتجاجي، ومن كل من احتج، وكل من طالب بالإصلاح، وكل من حَلم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.