العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

سلميّة سلميّة

ضد القتل

النسخة الورقية

«..اللاعنف طريقنا ونؤكد عليه، ونؤكد أيضا أننا سنبني سوريّة بالحب، ولا مكان للحقد ولا للحاقدين بيننا» (أحمد مولود الطيار. من محاضرة بعنوان «حول النضال اللاعنفي» ـ منتدى جمال الأتاسي، دمشق).

مجموعة شباب داريّا

في المسافة الفاصلة بين المتظاهرين ورجال الأمن والجيش. المسافة التي لا تُقاس بالأمتار فحسب. سار الشاب الذي لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره: حملَ عبوات مياه ثُبّتت إليها ورود ووضعها قريبا من رجال النظام. لم يكن الشاب الذي سيغدو أحد رموز الثوّرة في سوريا اليوم ابن مدرسة في الكفاح السلمي. كان ناشطا في تنظيم التظاهرات والمشاركة بها في مدينته داريّا (٨ كلم جنوب غرب دمشق). سيعتقل الشاب في السادس من أيلول مع صديقه يحيى الشربجي خلال كمين نصبته لهما القوى الأمنيّة. بعد ثلاثة أيام، يعود غيّاث مطر جثة هامدة إلى أهله. جثّة تنقصها حنجرة!

يحيى الشربحي (٣٣ عاما)، الذي مازال معتقلا حتى اليوم، كان أحد أعضاء ما عُرف بـ «مجموعة شباب داريا»، المجموعة التي تستلهم فكرا إسلاميّا لاعنفيّا، يعتبر الشيخ جودت سعيد واحدا من أهمّ المنظّرين له.

نشطت المجموعة بين عامي ١٩٨٩ و٢٠٠٣، ضمن محيطها الاجتماعي. وتمثّل نشاطها بحملات توعيّة ضد التدخين والرشوة، كما قامت بحملات لتنظيف الشوارع. تعرّض يحيى الشربجي، مع أحد عشر شابا آخرين، للاعتقال على خلفيّة هذه النشاطات، واستمرّ اعتقاله قرابة العامين ونصف العام قضاها في أقبية الأمن السوريّة (من صفحة «الحرية ليحيى الشربجي» على موقع الفايسبوك).

يوضّح أسامة نصّار، وهو من أصدقاء يحيى الشربجي الذين شاركوه تجربة الاعتقال في العام ٢٠٠٣، أحد الأسس التي يقوم عليها مفهوم المجموعة للنضال السلمي (نحن نضع القوانين ونلتزم بها. وليس من الصحيح أن نكون مرآة لقذارة الطرف الآخر. إن فقدوا الأخلاق والمبادئ والعقل فسنبقى ملتزمين بأخلاقنا ومبادئنا وعقلنا» (من لقاء للناشطة الحقوقيّة رزان زيتونة مع الناشط أسامة نصّارhttp://damascusbureau.org/arabic/?p=1654). قيّض لنصّار وأصدقائه أن يعاينوا عن قرب الوقع الذي تحُدثه نشاطاتهم في نفوس رجال الأمن والشبيحة، فقد نقل عن أحد هؤلاء قوله «أفضّل أن نقمع مئة مظاهرة على أن نعمل زبالين في «لمْ» المنشورات من داريا وأمثالها!».

تشكّلت منذ الخامس عشر من آذار، تاريخ اندلاع الحركة الاحتجاجيّة في سوريا، عدّة مجموعات شبابيّة اتخذت من الكفاح السلمي نهجا لعملها. وغالبا ما ارتبط نشاط هذه المجموعات، بمختلف مظاهره، بمستوى الاحتجاجات التي تشهدها أغلب المحافظات السوريّة. ففي الوقت الذي تقتصر فيه مظاهر الاحتجاج في بعض المدن، التي درج المنتفضون على وصفها بـ «المحرّرة»، على التظاهر والإضراب، تشهد مدنٌ أخرى، في مقدّمتها العاصمة دمشق، العديد من نشاطات الكفاح السلمي.

 

من خلال التعريف الذي تقدّمه لنفسها، تصف إحدى هذه المجموعات (مجموعة اللاعنف والنضال السلمي) نهجها بأنّه «إصلاحي متكامل ليست الغاية منه إسقاط نظام أو حكومة بل بناء مجتمع مدني ديمقراطي تفاعلي في سوريا، يكون منيعا على الانجرار إلى أتون العنف والوقوع في شرك الصراع الذي تحاول السلطات الحالية جر الشعب إليه».

تنوّعت نشاطات مجموعات النضال السلمي في سوريا. أضافوا لنشاط الثورة الرئيسي، السلمي هو الآخر، والمتمثل بالتظاهرات، أنشطة احتجاجيّة أخرى عُنيتْ بتحقيق هدفين على الأقل: تشكيل نشاط رديف للتظاهرات واستكمال ما تفعله هذه في سعيها لتحقيق هدف الانتفاضة: إسقاط النظام. وإيصال الصوت للعديد من الشرائح الاجتماعيّة الصامتة أو المتردّدة وحتى الموالية للنظام: انتبهوا، هذا البلد يشهد ثورة.

بعض اشكال النضال السلمي

يهرول رجال الأمن في جميع أنحاء «سوق الصالحيّة» التجاري. يكشفون بذلك هويتهم بالنسبة لمن لا يعرفهم من أصحاب محالّ ومارّة. عصبيّة بادية على وجوههم. ضحكات مكبوتة. ونظرات مندهشة ومشدوهة.

لم يكن ثمّة تظاهرة في ساحة «عرنوس» حيث ينتصب تمثال كامل للرئيس الراحل حافظ الأسد. ولا إطلاق نار من قبل أيّة «عصابة مسلّحة». الأمر أبسط من ذلك: صوت إبراهيم القاشوش، المنشد الحموي الذي ألهب حماسة مئات الألوف عبر أهازيجه التي غطت على الضجيج في أحد أشهر أسواق دمشق التجاريّة وأكثرها ازدحاما. يردّد أهزوجته ذات اللازمة التي أضحت شهيرة: «...ويلا ارحل يا بشار!»

اكتفى نشطاء النضال السلمي في سوريا بجهاز بسيط لتضخيم الصوت (سبيكر) مع «يو. إ س. بي» سجّلت عليها أهازيج القاشوش. وضع الجهازان على سطح أحد الأبنية وأطلقت الأهازيج و«إخلاء الموقع». اعتقل رجال الأمن «السبيكرات». فحظيت هذه بصفحة على موقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك) دُعيت «الحريّة لسبيكرات ساحة عرنوس»!.

كانت هذه التجربة الأولى لما سيُعرف لاحقا باسم (المذياع القاشوشي). وسيعيد نشطاء النضال السلمي الكرّة في غير مدينة سوريّة، لاسيّما تلك التي بقي فيها الحراك ضعيفا.

بعد ذلك بوقت قصير، وفي عصر يوم الثالث عشر من تشرين الأوّل، يرتفع في «سوق الحريقة» التجاري صوتا يخاطب تجار دمشق، يدعوهم لقول «كلمة الحق والانتفاض للدفاع عن إخوتهم في محافظات الوطن وفي مدينتهم دمشق». وبعد الدعوة، يرتفع مجددا صوت المنشد الحموي، الذي اقتلعت مخابرات النظام حنجرته هو الآخر، متمازجا مع أصوات «عراضة» شاميّة تحيي مشايخ دمشق وسورية.

لن ينجح الطَرقُ أو الخلع أو حتى الرفس في «إسكات» صوت المنشد الصادر عن المذياع. مرّ زمنٌ طويل جدا على رجال أمن النظام قبل أن ينجحوا في استعادة القدرة على النظر في وجوه المتجمهرين. سقط النظام «رمزيّا» وتمّت السخرية من أهمّ رموزه على مسمع و«مرأى» من الناس. وعلى بعد ما لا يزيد عن كيلومتر واحد من سوق «الحميديّة» حيث يقع الجامع الأموي، وحيث يخطب كل يوم جمعة «الشيخ» محمد سعيد رمضان البوطي.

قبل هذه الحادثة بأسبوع، كان شباب مجموعة «أيام الحريّة»، إحدى مجموعات النضال السلمي الأكثر نشاطا، قد فاجأت المنتفضين السوريين، وسكّان العاصمة تحديدا، في صباح الخامس من تشرين الأوّل، بتلوين بعض من البحْرَات الموجودة في ساحات دمشق الأشهر باللون الأحمر. صُدمت العاصمة، التي يشهد مركزها، وتحديدا داخل السور التاريخي القديم، نشاطا اعتيادا، لدرجة يبدو معها أنّ ما يجري في مدن سوريّة أخرى لا يقع في نطاق اهتمامها. جاء اللون الأحمر الذي اصطبغت به بحْرات كلّ من ساحة «باب مصلى» و«السبع بحرات» إضافة إلى «دوّار البطيخة» ليشهد سكّان العاصمة، رمزيّا، على سيلان الدماء في مدن سوريّة أخرى.

وبعدما تجاوز المنتفضون السوريون الهتاف الأبرز لثورات الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام» إلى هتاف «الشعب يريد إعدام الرئيس»، قامت مجموعة «نفوس كرام» ضمن فعاليات «روزنامة أيام الحريّة» بإجراء مراسم إعدام رمزيّة للرئيس الذي أسقطت الثوّرة شرعيّة نظامه في أواخر شهر حزيران. فقد تمّ تعليق مجسّم ورقي للرئيس «الشاب» على مدخل نفق «باب شرقي» القريب من حي «باب توما». وفي ليل ذات اليوم، الخامس والعشرين من شهر تشرين الأوّل، قامت مجموعة أخرى بإطلاق حزمة قويّة من الضوء باتجاه قصر الشعب في ما اسمته «هجوما ليزريّا لإخافة فاقد الشرعية و ليستيقظ مرعوبا على كابوس الحرّية الذي تسرب لمخبئه».

تنوّعت نشاطات الكفاح السلمي لمجموعة أيام الحريّة، وخاطبت شرائح اجتماعيّة متعدّدة. كان أحد أهمّ نشاطاتها توزيع رسالة على أساتذة الجامعات من خلال وضعها في صناديقهم البريديّة. تزامن النشاط مع وضع «مذياع قاشوشي» لتشتيت انتباه رجال الأمن في الكليات التي شهدت توزيع تلك الرسالة وهي كليات الآداب والطب والشريعة والاقتصاد والعمارة. تضمّنت الرسالة عرضا للحال التي وصلت إليها الجامعات السوريّة في ظلّ «سوريا الأسد». كما طلبت الرسالة من قارئها أن يتساءل عن «طلاب تغيّبوا عن محاضراتك؟ أتعلم أنّهم يقبعون خلف القضبان؟... ألا تتحمّل بمكانتك هذه قدرا من المسؤوليّة لسكوتك عن الظلم؟!».

بعد أساتذة الجامعات، قامت مجموعات «أيام الحرية» بإعداد رسائل وفق ثلاثة نماذج تخاطب التاجر الدمشقي أو الحلبي انطلاقا من موقفه. تمّ ذلك عقب متابعة لموقف التجّار في المدينتين السوريتين الكبيرتين. وكان من الطبيعي أن يختلف مضمون الرسالة حسب «المرسل إليه». فقد جاء في الرسالة الموّجهة إلى التاجر المؤيّد «سعر صرف الدولار يساوي مائة وعشرين ليرة سوريّة!. هذا اليوم قريب بقيادة الأسد. حينها، لن يشتري منّك لا فقير ولا غنيّ!. إذا سقط النظام ستسقط معه... غيّر موقفك لأنّ الشعب لا يسقط!».

الوسيلة غاية

مع انطلاق الإضراب العام، الحادي عشر من كانون الأوّل، والذي دعت إليه تنسيقيات الثورة وهيئات ومجالس المعارضة على اختلاف أطيافها، دخلت الثورة السوريّة طورا جديدا عنوانه العريض «المقاومة المدنيّة اللاعنفيّة». غطى «الإضراب العام» على الدعوات التي خرجت منذ فترة تطالب بالتدخل الخارجي بصيغته الأكثر خشونة «حظر جويّ» «منطقة عازلة»، لصالح تفعيل ما يمكن تسميته «عناصر القوّة الداخليّة» للثورة.

قبل ذلك بحوالي الأسبوعين، كانت مجموعات الحراك السلمي السوري، قد خطت واحدة من أولى خطواتها نحو العصيان المدني العام. حيث قامت بوضع مادّة الصمغ في أقفال عدّة مراكز حكوميّة في بعض أحياء العاصمة دمشق وريفها: ركن الدين، السويقة، شارع ٢٩ أيار، حرستا.

بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على اندلاع الثورة السوريّة. ورغم العدد الهائل من الضحايا الذين سقطوا، وفائض الكراهيّة والحقد اللذين واجه بهما النظام الشعب المنتفض. يسعى طيف كبير من المشاركين في أنشطة الثورة المختلفة إلى الحفاظ على سلميّتها.

وبوعي كبير، يدرك المنتفض السوري أن السلميّة تبني حين تهدم. ويدرك أن بناء سوريا المستقبل، سوريا ما بعد «سوريا الأسد»، لن يبدأ في المرحلة التي تلي سقوط «نظام العنف»، بل كان قد بدأ حين خطّ عدد من الفتية الشعار الأبرز في ثورات الربيع العربي على جدران مدرستهم: الشعب يريد إسقاط النظام.

العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢
ضد القتل

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.