العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

هاينر موللر

«الأب»

النسخة الورقية

ربما كان أفضل الآباء هو الاب الميت
بل الأفضل هو أبٌ ولِد ميتاً.
دائما ينبت العشب فوق الحدود
يجب اقتلاع العشب
من جديد
ومن جديد سوف ينبت العشب فوق الحدود

١- الرابعة صباحا. الواحد و الثلاثون من كانون الثاني ١٩٣٣، إعتقل أبي، الموظف في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وهو في سريره.

استيقظتُ. السماء في النافذة سوداء، ضجة، أصوات، خطى. قريبا مني رموا كتبا على الأرض. سمعت صوت أبي أكثر وضوحا من الأصوات الغريبة. نزلت من السرير وإتجهت صوب الباب. عبر الشِق رأيت رجلا يضرب أبي على وجهه. كنت أرتعد، واللحاف مشدود الى ذقني، في السرير عندما فتحوا باب غرفتي. في الباب، أبي، خلفه الغرباء، طويلو القامة، في زي بنيّ موحّد. كانوا ثلاثة. أحدهم، أبقى الباب مفتوحا بيده. كان الضوء خلف ظهر أبي، لم أستطع رؤية وجهه. سمعته ينادي بنعومة اسمي، لم أجب وبقيت بلا حراك. بعدها قال أبي: انه نائم. أغلق الباب. سمعتهم يأخذونه ثم سمعت خطوات أمي الصغيرة اذ عادت وحدها.

٢- أصدقائي، أبناء موظف بلدية صغير، أعلنوا لي بعد اعتقال أبي أنه لم يعد مسموحا لهم أن يلعبوا معي. كان ذلك ذات صباح، الثلج متجمع في حفر الطريق والريح الباردة تصفر. لاقيت رفاقي في غرفة المعدات، في الباحة، جالسين على قرم أشجار. يلعبون بجنود من رصاص. عند الباب سمعتهم يقلدون أصوات المدافع. عندما دخلت، خرسوا ونظروا واحدهم للاخر ثم تابعوا اللعب. صفّوا جنود الرصاص وجها لوجه قي أرتال قتال يرسلون بشكل متبادل دحلا في الجبهة المقابلة. في ذات الوقت، يقلدون أصوات المدافع. ينادي واحدهم الآخر: يا جنرالي، ويصرخون بفخور بعد كل ضربة أرقام الخسائر. الجائزة قطعة حلوى. في النهاية، فقد أحد الجنرالات كل ما لديه من جنود. كان جيشه بأكمله ممددا على الأرض. هكذا كان يحدد المنتصر. الجنود الساقطون، الأصدقاء و الأعداء معا مع الناجين، استقروا كلهم في علبة من الورق المقوى. نهض الجنرالات. كانوا ذاهبين لتناول الفطور، قال المنتصر، وهم يعبرون أمامي، قال انهم لم يعد يحق لهم أن يلعبوا معي لأن أبي مجرم. أمي كانت قد قالت من كانوا المجرمين. و لكنها قالت أيضا انه لم يكن من الجيّد تسميتهم. لذا لم أقل لرفاقي. عرفوا ذلك، بعد اثنتي عشر سنة، عندما أرسلوا الى النار من قبل جنرالات حقيقيين، تحت رعد بطاريات مدفعية حقيقية لا تحصى، في المعارك الكبرى المهولة للحرب العالمية الثانية، قاتلين ومقتولين.

٣- بعد سنة على اعتقال أبي، حصلت أمي على اذن لزيارته في معسكر الاعتقال. مشينا في الطريق الملتوية الى المحطة الأخيرة. ترتفع الطريق في منحنيات، تحاذي منشرة تفوح منها رائحة الخشب الرطب. من الشرفة على قمة الجبل المخروطي، تمتد طريق المعسكر. الحقول بور على طول الطريق. ثم وجدنا انفسنا أمام البوابة العريضة المشبكة، بانتظار أن يحضروا أبي. ناظرا عبر الشباك رأيتهم قادمين عبر ممر المعسكر المغطى بالحصى. كلما أقتربوا أكثر كانوا القاهم ابطأ حركة. ملابس السجن وسيعة عليه لدرجة أنه بدا صغيرا جدا. لم يفتحوا البوابة. لم يقدر أن يعطينا يده عبر الشباك الضيقة. اضطررت للالتصاق بأكملي بالبوابة لأستطيع رؤية وجهه النحيل كاملا. كان شديد الشحوب. لا أتذكّر ما قيل. خلف أبي كان يقف الحارس المسلح بوجهه المدوّر الزهري اللون.

أشتهي لو أن أبي كان سمكة قرش
مزقت أربعين صياد حيتان
(وفي دمهم لكنت تعلمت السباحة)
أمي حوتٌ أزرق اسمي لوتريامون
مات مجهولا في باريس ١٨٧١

٤- أمي لم تجد عملا لأنها زوجته. لذا قبلت عرض صناعي كان عضوا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي حتى العام ١٩٣٢. كان مسموحا لي أن آكل على طاولته ظهرا. هكذا، كل ظهيرة، كنت أتكئ على البوابة الحديدية أمام بيت المحسن، أصعد الدرج العريض حتى الطابق الأول، أضغط مترددا على زر الجرس الأبيض، وأقاد الى الصالون من قبل فتاة في وزرة بيضاء حيث تجلسني زوجة الصناعي الى الطاولة الكبيرة، تحت لوحة تصور غزالا ينهار وكلابا تتزاحم نحوه. محاطا بقامات الضيوف الهائلة، كنت آكل دون أن أرفع عيني. كانوا لطيفين معي، يستعلمون عن أخبار أبي، يقدّمون لي السكاكر و يسمحون لي بمداعبة كلبهم. كان سمينا و تفوح منه رائحة كريهة. مرة واحدة فقط إضطررت أن آكل في المطبخ، عندما حضر ضيوف كان وجودي سيزعجهم. عندما استندت الى البوابة الحديدية حتى انفتحت صارة على مفاصلها، لآخر مرة كانت السماء تمطر. سمعت انهمار المطر وانا أرتقي الدرج الحجري. لم يكن الزوج على الطاولة. غادر للصيد. كانت هناك كرات بطاطا مع لحم عجل و فجل الخيل. اكلت وانا أنصت الى المطر. سقطتْ آخر كرة بطاطا من شوكتي على السجادة وإنفلقت الى نصفين. لاحظتْ الزوجة ذلك و نظرت الي. في اللحظة ذاتها، سمعت على الطريق ضجة سيارة، ثم ، أمام البيت، صوت فرملة و صرخة. رأيت الزوجة تذهب الى نافذة ثم تسرع خارج الغرفة. ركضت الى النافذة. على الطريق، قريبا من السيارة، كان الصناعي يقف أمام المرأة التي دهسها. وفيما كنت اعبر من الصالون الى المدخل، كان عاملان يحملانها و يضعانها على الأرض، استطعت رؤية وجهها. الفم المتشنج يسيل منه الدم. ثم دخل عامل آخر مع غلّة الصيد، من أرانب وطيور حجل. وضعها أيضا على الأرض، بعيدا بما فيه الكفاية عن المرأة المدماة. شعرت بطعم الفجل يصعد في فمي. على الدرج الحجري كانت هناك دماء. تقيأت قبل ان ابلغ بوابة الحديد.

٥- أطلقوا سراح أبي شرط ألا نراه بعد اليوم في قريته. كان ذلك شتاء العام ١٩٣٤. وفي الشتاء، كان علينا ان ننتظره على مسيرة ساعتين من القرية، على الطريق المغطاة بالثلج في قلب الريف. كانت أمي تحمل تحت ذراعها، فيها معطفه. حضر، قبّلني، قبّل أمي، ارتدى المعطف و قفل عائدا في الثلج، منحني الظهر، كما لو ان المعطف أثقل من أن يستطيع حمله. كنا على الطريق، ونلاحقه بنظرنا. نميّزه في البعيد في الهواء البارد.

كان عمري خمس سنين.

٦- بما أن أبي كان بلا عمل، عملت أمي خيّاطة. كان المصنع على بعد ساعتي مشي من القرية التي كان لنا فيها غرفة وعلّية في بيت يملكه أهل أبي.

مرة إصطحبتني أمي معها الى المدينة، الى بنك الادخار.

دفعت بثلاثة ماركات داخل كوة. إبتسم لي الرجل الذي في الكوة، من الأعلى، وقال اني غدوت الان رجلا ثريا. ثم أعطى أمي دفتر التوفير. أرتني اسمي على الصفحة الأولى. عندما غادرنا، رأيت قربنا رجلا يدحش رزمة ثخينة من الأوراق المالية في جيب سترته. كانت جدتي في المطبخ أمام الموقد عندما أريتها دفتر الادخار. قرأتْ المبلغ و ضحكت. ثلاثة ماركات – قالت، ورمت قطعة زبدة كبيرة في المقلاة. ثم وضعت المقلاة على الموقد. أجل، قلت، و نظرت الى الزبدة و هي تنصهر. قطعت قطعة زبدة أصغر من الاولى ورمتها. لأن أبي معارض لهتلر، كان يجب أن آكل المارجرين. تناولت حبات بطاطا من مرطبان، قطعتها دوائر مفرغة وأسقطتها في الدهن الذي يغلي. تلطّخ دفتر التوفير الذي كنت أمسكه بيدي. «لن تأكل مارغرين – قالت - وهتلر يعطينا زبدة». كان لها خمسة أبناء. الثلاثة الأصغر سقطوا في الفولغا، في حرب هتلر من أجل البترول والقمح. كنت معها عندما وصلها أول بلاغ وفاة. سمعتها تصرخ.

٧- عندما شق هتلر الاوتوسترادات، كان علينا نحن تلامذة المدارس الألمانية أن نكتب مواضيع انشاء عن هذا المشروع الكبير. والأفضل من ذلك انه كانت تمنح جوائز للمتفوقين.

قلت هذا لأبي عندما عدتُ الى البيت. قال: «لست مضطرا للحصول على جائزة.» لكن ردف بعد ساعتين: «يجب أن تبذل مجهودك». كان واقفا أمام الموقد، كسر بيضة فوق المقلاة، ثم كسر ثانية بعد تردد، و أخيرا، كسر الثالثة بعد ان تأملها طويلا في يده.

«هكذا ستكون لدينا وجبة جيدة»، قال. أكلنا وقال أبي: «يجب أن تكتب أنك سعيد لأن هتلر يشق الاوتوسترادات. هكذا سيجد أبي عملا بالتأكيد بعد ان بقي طويلا بلا عمل. هذا ما يجب أن تكتبه.» بعد الوجبة ساعدني في كتابة موضوع الانشاء. ثم ذهبت لألعب.

٨- بعد ثلاثة عشر عاما، كنا نسكن في مركز مقاطعة في المكلمبرغ. البارونة الجالسة الى طاولتنا هي أرملة جنرال أعدم بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال آدولف هتلر في ٢٠ ايلول ١٩٤٤. كانت تطلب من أبي، الموظف في الحزب الاشتراكي-الديمقراطي الذي أعيد تأسيسه ان يساعدها ضد قانون الإصلاح الزراعي.

وعدها بأن يساعدها.

٩- في عام ١٩٥١، كي يبقى بعيدا عن الصراع الطبقي، انتقل ابي الى القطاع الأمريكي عابرا ساحة بوتسدام في برلين. رافقته أمي الى برلين. بقيت وحيدا في الشقة، جالسا أمام المكتبة أقرأ قصائد. المطر يتساقط في الخارج. كنت اسمع صوته أنا أقرأ. وضعت الديوان جانبا، ارتديت سترتي ومعطفي، أغلقت باب الشقة بالمفتاح ومضيت تحت المطر الى الجانب الآخر من المدينة. وجدت نَزلا بصالة رقص. سمعت الضجة من بعيد. عندما وصلت الى باب صالة الرقص أعلنوا الاستراحة. دخلت صالة النزل. على واحدة من الطاولات تجلس امرأة، وحيدة، تحتسي الجعة. جلست قربها وطلبت «ماء الحياة». شربنا. بعد رابع كأس من ماء الحياة كنت أتحسس صدرها وأقول لها ان شعرها جميل. ولما كانت تبتسم طلبت المزيد من ماء الحياة.

بالقرب منه عادت الموسيقى، في صالة الرقص: الطبول ترعد، والساكسفونات تزعق، والكمنجات تصرخ. وانا أضغط بأسناني وشفتي على فم المرأة. ثم دفعت الحساب وخرجنا الى الشارع لنلقى ان المطر قد توقف. القمر الأبيض في السماء يشع نورا باردا. قطعنا الطريق بصمت. علت وجه المرأة ابتسامة جامدة عندما خلعت ثيابها بلا حرج أمام السرير الكبير في غرفة أهلي. بعد ان مارسنا الحب، قدمت لها هدية من السجائر أو الشوكولا. وجوابا على سؤالي الذي سقته بدافع التهذيب على الأغلب: «متى سنرى بعضنا من جديد؟» أجابت : «متى تشاء». وانحنت انحناءة صغيرة أمامي، والأحرى انها انحنت أمام ما كانت تعتقد أنه منصب أبي الرسمي.

اخلد ابي الى الراحة الابدية بعد ذلك بسنوات، في مدينة صغيرة في بمنطقة «باد» بعد ان دفع معاشات التقاعد لقتلة العمال ولأرامل قتلة العمال.

١٠- رأيته آخر مرة في جناح الأمراض المعدية في مستشفى في شارلوتنبرغ. أخذت القطار الى شارلوتنبرغ. نزلت وحاذيت أطلالا وجذوع أشجار وشارعا عريضا. في المستشفى، قادوني عبر ممر مضيء طويل الى الباب الزجاجي لجناح الأمراض المعدية. دق الجرس، ظهرت ممرضة خلف الواجهة الزجاجية، اشارت برأسها بنعم صامتة، عندما طلبت مقابلة أبي، فنزلت في الممر الطويل واختفت في واحدة من الغرف الأخيرة. ثم جاء أبي. كان يبدو ضئيلا في بيجامته المخططة الأكبر من مقاسه. خفّاه يشحطان على الأرض. كنا هنا، بيننا الواجهة الزجاجية، ننظر واحدنا بلآخر.

كان وجهه النحيل شاحبا. وكنا مضطرين لرفع اصواتنا. هز الباب المغلق ونادى الممرضة. حضرتْ، أتت باشارة لا برأسها وذهبت. خفض ذراعيه، نظر اليّ عبر الواجهة الزجاجية وإلتزم الصمت. سمعت طفلا يصرخ في احدى غرف المرضى. عندما غادرت، رأيته خلف الباب الزجاجي، واقفا، يلوّح بيده. كان يبدو عجوزا في الضوء المتساقط عبر النافذة الكبيرة في نهاية الممر.

كان القطار يمضي بسرعة، يجوز أنقاضاً وورشات بناء. في الخارج، ضوء تشرين الأول الرصاصي ذاته.

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣
«الأب»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.