«الطائفة» في اللغة وفي المصطلح
تبدو كلمة «طائفة»، في أصل معناها المثبت في المعاجم اللغوية، كلمة ذات مفهوم فقير للغاية وذات ماصَدَقٍ شاسع للغاية بالتالي ومتشعّب. فأظهرُ معانيها أنها «القطعة» من أي شيء أو من أيّ مجموع. عليه لا تُشترط نسبة الطائفة إلى العاقل. فإنما يسعها أن تكون «طائفة من الليل» ويسعها أن تكون «طائفة من الحكماء». وهي، حين تميل إلى معنى المجموع، يُجيز لها هذا الميل أن تكون، مثلاً، «طائفة من شجر الصفصاف» أو «طائفة من بنات آوى». والجامع بين «الطائفة»، بهذا المعنى، و»الطواف» هو، على الظاهر، معنى الاقتراب والمحايثة وهو يشتمل على معنى الدوران حول شيء واحد ومعنى الخروج من الذات نحو هذا الشيء أو الموضع. فيصبح «طواف» المعتمر بالبيت الحرام أو طواف الخاطرة بالبال نوعاً من الإلمام ينطوي على طلب انتساب إلى المطوف به من الطائف أو على طلب قبول لهذا في ذاك. ويصبح مفهوماً أن «الطوفان» هو إحاطة المياه بكل شيء وطغيانها على ما هو خارجها.
وخلافاً لما يتبادر، من جرّاء الاستعمال المُحْدَث للكلمة، لا يُشترط في «الطائفة» أن تكون جماعة أو مجموعاً داخلاً في جماعة. ففي بعض المعاجم القديمة، يسع «الطائفة» أن تكون فرداً واحداً إلى ألف. على أن هذا لا يبطل ما تدلّ عليه أقدم النصوص التي بين أيدينا من غلبة لمعنى «الجماعة» أو «القسم من الجماعة» على هذه الكلمة. مثال ذلك في التنزيل: «وليشهدْ عذابَهما طائفةٌ من المؤمنين» (النور، ٢). فكأنما الطائفة هنا جماعة داخلة في جماعة المؤمنين أي فئة منهم. وفي الحديث: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة» (سنن ابن ماجة، كتاب المقدّمة، ٦). فالطائفة هنا جماعة من أصل الأمّة أي قسم أو فئةٌ أو فريق من هذه الأخيرة أيضاً. غير أن لزوم المعنى اللغوي لكلمة «طائفة» قد لا يصحّ اعتباره عامّاً في القرآن الذي وردت فيه اللفظة (مفردة أو مثنّاةً) عشرين مرّة. وقد يوجد في الحديث ما يخطّئ هذا الاعتبار نفسه أيضاً. هذا محتاج إلى فضْل تحقيق. فمن يتلو الآية «ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلّون إلّا أنفسهم وما يشعرون» (آل عِمْران، ٦٩)... أو الآية الأخرى «أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قَبْلِنا وإن كنّا عن دراستهم لغافلين» (الأنعام، ١٥٦)...» يرجح عنده أن «الطائفة» هنا جماعة معرّفة بمعتقدها الديني على غرارٍ قريب مما هي عليه في عُرْفنا أو في اصطلاحنا اليوم. وفي الحديث قارَبَ المائةَ عددُ المرّات التي ورد فيها هذا اللفظ نفسه. والحالات هنا، على صعيد المعنى، تبدو أكثر تنوّعاً مما هي عليه في القرآن، وهو ما تكفي لتفسيره، على الأرجح، كثرة عددها النسبية. ولكنها تبقى موزّعة، على وجه الإجمال، بين معنى «الجماعة»، بعموم مفهومه، ومعنى «القطعة» أو القسم. وفي الحالين تكون «الطائفة» مشتملاً عليها في ما هو أكبر منها أو أوسع. وفي العدد الأقلّ من الأحاديث (ومنه الحديث الذي سبق ذكره) نشعر أيضاً بقرب المقصود من معنى الطائفة الدينية المميّزة بمعتقد أو بمسلكٍ خاصّ بها. ولكن يبقى ممكناً ألّا يعدُوَ هذا القُرب أن يكون مجرّد اتّفاق.
غَلَبة «الفرقة»
وعلى الرغم من مثول معنى الافتراق في الطائفة، أي التميّز بحالٍ من الأحوال أو بفعلٍ من الأفعال، فإن هذا الاسم لم يفرض نفسه، في التراث الإسلامي، اسماً اصطلاحياً للـ«فِرَق» التي يتفرّق بينها أهل الملل بما فيها الإسلام نفسه. وإنما بقي غالباً على اللفظة، في هذا الحقل الدلالي، معناها اللغوي وهو المعنى المراد في الآية وفي الحديث أعلاه، وهذا لا يستبعد إضمار صفة «الدينية» للطائفة المعنية أو إضمار غيرها أو ما جرى مجراها من الصفات. وأما المصطلحات التي غلبت في حديث «الفِرق» فهي تلك المذكورة في عناوين كتب ذائعة الشهرة لأمثال ابن حزم والشهرستاني والبغدادي أي «الملل» و«النَحل» و«الأهواء» فضلاً عن «الفِرَق». و«الملّة» مصطلح قرآنيّ و«الفرقة» واردة بمعناها الإصطلاحي أيضاً، أي بمعنى الجماعة المتفرّعة من الملّة، منذ حديث «الفرقة الناجية» المشهور، واستعمالها بهذا المعنى متواتر في ما يسمّى، على وجه التحديد، «كتب الفِرَق». ولا نعلم أن «الطائفة» يتواتر استعمالها، في هذه الكتب نفسها، بذاك المعنى نفسه. يبقى أن نلاحظ أن غير المسلمين سبقوا المسلمين، على الأرجح، إلى اعتماد «الطائفة» اعتماداً منتظماً اسماً للجماعة من جماعاتهم الدينية أو المذهبية. فهذا مثلاً ما نقع عليه عند البطريرك إسطفانوس الدويهي في أواخر القرن السابع عشر. هذا فيما اعتَمَدت السلطة العثمانية، في تلك العهود نفسها، اسم «المِلل»، لا الطوائف، اسماً لغير المسلمين ممّن وضعت لهم نظاماً خاصاً يرعى شؤونهم وعلاقتهم بها. وهذه، في كلّ حال، ملاحظة يزكّيها اطّلاعنا الشخصي، بحدوده، وأما الاستيثاق التامّ من صحّتها فيقتضي تحقيقاً شاقّاً لم نتكلّف مؤونة القيام به ولا نعلم أيضاً أن غيرنا قد أجراه.
«الطائفة» بين المصطلح الديني وغير الديني
وإنما كان للـ«طائفة» وللـ«طوائف»، عبر تاريخ الاجتماع الإسلامي، معان أخرى اصطلاحية تدرجها في حقول دلالية مختلفة بعضها متّصل بالدين وبعضها متّصل بتقسيم العمل الاجتماعي وبعضها الأخير يدخلها في مصطلح السياسة والسلطان. وفي جميع هذه الحالات، تكتسب الكلمة صفتها الاصطلاحية من إضافتها، على التصريح أو على التقدير، إلى اسمٍ آخر. ففي مضمار الدين، كانت تطلق على شيوخ التصوّف عبارة «طائفة القوم». و«القوم» هنا قوم الله والمتصوفّة طائفتهم أي جماعتهم. وهذه صفة ظلّوا يتداولونها قروناً كثيرة ابتداءً من الثالث الهجري مؤكّدين بها تميّزهم عن العامّة من أهل الملّة. وكانوا يشيرون إلى أنفسهم أو يشار إليهم باسم «الطائفة» معرّفاً بحيث يبدو وكأنه عَلَمٌ عليهم. وفي مجال الصناعات والمهن، عُرف المنتظمون في كلّ حرفة باسم «الطائفة» أيضاً أي طائفة الحرفة أو جماعتها وهو ما تجاوز مضمار الحرف إلى مضمار «الفتوّة» المحايث له. وكان يطلق على «طوائف الحرف» تلك اسم «الأصناف» أيضاً، والكلمتان هنا بمعنى واحد.
بقيت عبارة «ملوك الطوائف»، وهي توحي حين تستعمل في سياق الراهن من أحوالنا بأن ملوك العهد الأندلسي الممتدّ على طول القرن الحادي عشر الميلادي كان كلّ منهم يولّى حُكْمَ جماعة مميّزة بمذهب خاصّ بها في الدين أو بسمة أخرى، في الأقل، لها قوّة إفراد وتمييز تشابه ما للمذهب الديني وتقرّب الطائفة المعنية من المفهوم الذي نعرفه للطوائف اليوم. على أننا نفاجأ عند التحقيق بأن هذه «الطوائف» لم تكن إلا وحدات جغرافية أي قِطَعاً من بلاد الأندلس تَوَزّعها هؤلاء الملوك وحملت أسماء مدن من قبيل المريّة وغرناطة وسرقسطة، إلخ. وكانت «الطائفة» منها تضمّ، إلى الكثرة المسلمة، قلّة من المسيحيين وأخرى من اليهود! فيكون معنى الطائفة هنا «القطعة» أو الجزء وليس «الجماعة»، وهذا مع العلم أن المعنَيَيْن لا تَعارضَ بينهما، إلاّ أنهما يختلفان في زاوية النظر. وقد رأينا أن معنى «القطعة» هذا أصيل (بل قد يصحّ اعتباره مقدّماً) على الصعيد اللغوي. ذاك، في الأقلّ، ما توحي به المعاجم القديمة. ويفيدنا صاحب المقالة المكرّسة لـ«ملوك الطوائف» في الموسوعة الإسلامية (وهو د. ج. فاسرشتاين D. J. Wasserstein) أن هذا اللقب لم يستأثر به حكّام الأندلس العربية في مرحلة تبعثرها تلك بين سقوط الدولة المنصورية وتغلّب دولة المرابطين. وإنما سبقهم إليه ملوك سادوا على «القِطَع» التي آلت إليها الإمبراطورية الفارسية بين هزيمة داريوس أمام الإسكندر الأكبر ونشوء الدولة الساسانية، أي ما يزيد عن خمسة قرون. هذه «الحالة» الفارسية هي، على ما يبدو، ما فرض نفسه على مخيلة الأندلسيين أو المؤرّخين لهم على أنه سابقة لما انتهت إليه بلادهم، بعد قرون كثيرة، في العهد المشار إليه.
هيمنة الصفة الدينية
عليه يتبيّن أن المفاهيم المتعاقبة أو المتزامنة لكلمة «طائفة» العربية ولجمعها «طوائف» قد اتّسمت بأكثر ما يمكن تخيّله من اختلاط وتشعّب في مدى عمرها الطويل. ولكن باتت تقدّر لها في عصرنا صفة الدينية في الكثرة الكاثرة من حالات استعمالها وأصبح هذا المعنى غالباً جدّاً عليها. فليس يسهل أن نقع في نصّ من أيامنا على عبارة من قبيل «طائفة من الأرانب» أو من قبيل «طائفة من الشهر» ناهيك بما هو من قبيل «طائفة دبي» أو «طائفة البحرين» مثلاً. وفي البلاد العربية، وهي بلاد يغلب عليها الإسلام غلبة ساطعة، تشعر الكثرة السنّية من السكّان بضيق مستمرّ من نعت جماعتها في هذه الدولة أو تلك بـ«الطائفة السنّية». وهذا ضيق متحدّر من عهود الدولة الإسلامية الجامعة التي سقط آخر تجسيد لها (وهو العثماني) غداة الحرب العالمية الأولى. فقد كان «أهل السنّة»، في تلك العهود هم أهل المّلة وأصحاب الدولة أي المسلمون لا أكثر ولا أقلّ ولم يكن يناسبهم أن يعدّوا أنفسهم أو أن يعدّهم غيرهم «طائفةً» من الطوائف. وإنما كان الأغيار أولئك هم «الطوائف»، بمعنى الكلمة المضبوط، وهذا في عُرْف المسلمين وفي عُرْفهم هم أنفسهم.
وقد بقيت بقية من هذه الصورة، بشقّيها، في «الدول الوطنية» أي في دولنا اليوم. ولكنّ منطق هذه الدولة قضى بالميل إلى التناظر في الاعتبار المعنويّ... وفي التشريع أيضاً، إلى حدّ يختلف باختلاف الحالات، ولو افتقد التناظر في الواقع العملي، بين الجماعات المكوّنة للمجتمع، أي بين الطوائف قبل غيرها حيث توجد وتحظى بقدْرٍ معلوم من صراحة الحضور. بل إنه يمكن القول إن التناظر موروث من مواريث الحداثة العثمانية سبق عهد «الدول الوطنية» ومهّد له. لذا بات وارداً، اليوم، أن يسمّى أهل السنّة طائفة في بغداد أو في بيروت ولو أنهم ما زالوا لا يقبلون هذه الصفة إلا على مضض. وحيث تلابس خطوط الفصل بين الطوائف، إلى حدّ يفرض نفسه على الإدراك ويتعذّر المضيّ قدماً في إنكاره، جبهات الصراع على السلطة وعلى لواحقها المادّية، تتخفّى «النخب» المتصارعة وراء أسماء مستعارة للطوائف من قبيل «العائلات الروحية» أو تأخذ في كيل النعوت المرغوبة بعضها لبعض تمويهاً لحقيقة العلاقات بينها وحفظاً لخطوط رجعة قد لا يكون منها بدّ. وفي الكلام السياسي اللبناني، على التخصيص، لا تحصى الأمثلة الواشية بهذا الميل. وقد لاحظ معلّقون في الشهور الأخيرة أن نعت العلويين السوريين بـ«الطائفة العلوية الكريمة» ارتفعت وتائره كثيراً بينما كان بؤس العلاقات الطائفية يتكشّف في سورية ويزداد. فمثل هذا دليل على سوء الحال غالباً ونذير بشرور مهولة، حاصلةٍ أو مقبلة.
فتوّة « الطائفية»
ومن «الطائفة» اشتقّت «الطائفية». وهذه الكلمة يترجّح اعتبارها بين أن تعدّ مصدراً صناعياً وأن تعدّ صفة منسوبة جرت مجرى الاسم المستغني عن موصوف. وترجّح دلالتها السياقية، بالتالي، على غرار غيرها من أسماء المذاهب في الفكر والفن أو في السلوك والتنظيم. واللافت أن المقالة المكرّسة للـ«طائفية» في «الموسوعة الإسلامية» مكرّسة بتمامها للنظام الاجتماعي-السياسي في لبنان. وكأن كاتبها لم يجد في أية بلاد أخرى ما هو جدير بالتناول تحت هذا العنوان. وهو ما يحمل على التساؤل إن كان (A. Rieck) أ. رييكّ (هذا هو اسمه) سيعتمد هذا الحصر لو انه كتب مقالته اليوم وليس قبل اليوم بعشر سنوات أو تزيد. و«الطائفية»، بما هي مصدرٌ صناعي أو صفة منسوبة جاريةٌ مجرى الاسم المستقلّ بنفسه، كلمة جديدة نسبياً في العربية، بخلاف أمّها «الطائفة» التي رصدنا حضورها في القرآن والسنّة وهذان لم يخترعاها بطبيعة الحال، فهي بالضرورة سابقة لظهورهما في الزمان.
ونرمي من تعليقنا الآنف على مقالة رييك إلى التشديد على كون الطائفية لا تنجم من مجرّد وجود الطوائف في مجتمع من المجتمعات ولا تكون على حال واحدة في هذا المجتمع وفي ذاك ولا في هذه المرحلة وفي تلك. فإنما هي وليدة لتاريخ المجتمع الذي تنشأ فيه وتنمو، بما في ذلك ما يقع على هذا المجتمع من أفعال الخارج وما يوقعه هو من أفعال في خارجه. وتجتاز الطائفية أطواراً فتَكون شبكة ميول مكتومة وقواعد نظر وعملٍ وتصرّف لا تطيق أن تُشهر وتكون فلسفة معلنة للنظام السياسي الاجتماعي كله، كما هي حالها في لبنان، فتجد من يتولى صوغ حججها وأشكال تطبيقها ولو بقيت معارضتها ماثلة أيضاً وبقي معظم أهلها والمنافحين عنها أنفسهم خجلين بها، إلى هذا الحدّ أو ذاك، ردحاً طويلاً من الزمن، معتدّين لتسويغ دفاعهم عنها بكونها بنت الضرورة المكروهة. هذه الظاهرة (أي إظهار التبرّم بالنظام الطائفي مع التمسّك المؤكّد به) أطلقنا عليها، في كتابٍ قديم، اسم «خجل الطوائف» أي «حشمتها» أو «خفرها» ووجدنا فيها مجالاً تخليه هذه الأخيرة لنشوء دولة تشعر بالحاجة إليها وتتحسس التعارض بين مقتضيات استقرارها والفلسفة الطائفية. عليه لم يكن بِدْعاً أن لا يقع رييك على الطائفية إلا في لبنان فيما هي موجودة هنا وهناك وهنالك في مجتمعات المشرق، ولكنها كانت في هذه المجتمعات الأخرى غير ما كانته في لبنان حين كتب رييك مقالته. ثم إذا بنا نشعر اليوم بميول منتشرة في المحيط إلى اللبننة... فيروح الكاتب أو المترجم يسأل نفسه عمّا يعنيه بالضبط حين يقول «طائفية».
هذا وما نرجّحه (ولا نملك القطع بصحّته) أن اشتقاق «الطائفية» من «الطائفة» حصل فعلاً في لبنان وأنه لا يرقى إلى ما هو أسبق من المخاض الذي أفضى، عبر مرحلة من التنازع والفتن، إلى إرساء الصورة الأولى للنظام الطائفي في جبل لبنان، وهو مخاض استغرق معظم الثلث الثاني من القرن التاسع عشر. ولعلّ المصطلح لم يظهر إذ ذاك بصورته اللفظية هذه وإنما بصيغ أخرى مركّبة تفيد معناه أو تقارب إفادته. وقد يكون التناضح اللغوي مع هذا أو ذاك من الألسنة الأوروبية، وهو تناضحٌ راحت وتائره تتسارع في تلك المرحلة نفسها، هو الذي حفز إلى توليد هذا المصطلح. أي أن أهل البلاد قد يكونون ترجموا عن لغة أجنبية تسميتهم لما كان يحصل عندهم أو لهم. وهذا ليس بالأمر النادر في بلادنا وفي غيرها. فإذا صحّ ترجيحنا كانت «الطائفية»، أو ما هو بمثابتها، قد برزت إلى ساحات الكلام في العهد نفسه الذي علا فيه النداء بـ«الوطنية» على لسان المعلّم بطرس البستاني. وكان لا بدّ من هذه لمواجهة تلك. وقد بقيت هذه المواجهة راهنةً مذّاك في ما يتعدّى السعي المتقطّع من بعض المتكلّمين لإثبات عدم التعارض بين هذين القطبين أو لاجتراح صيغة ما لإجراء الصلح بينهما.
«طائفيتان» أميركية وفرنسية
نقول هذا ولا نسهو عن كون الاسم الأجنبي confessionalism, confessionnalisme الذي اعتمد أوّلاً لظاهرة الطائفية كان غير خال من التردّد. فهو قد وصل إلى الطائفة عبر «المذهب». وهو قد جاء محمّلاً أثقالاً من مدلول المذهبية في تاريخ المسيحية الغربية لم تكن متضمّنة في المدلول الشرقي الذي اقترحت له الكلمة. وهو ما جعل المختصّين يسرعون إلى استبدال الكلمة حالما لاحت في الحقل أخرى بدت لهم أوفق للمقصود وهي communautarism, communautarisme. وذاك أنهم لاحظوا أن الطائفية لا تتعلّق بالمذهب بل بجماعة المنتمين إليه. غير أن الكلمة الجديدة هذه جاءت أشدّ رزوحاً تحت أثقالها الغربية مما كانت عليه سابقتها. كانت الكلمة الغربية المحيلة إلى المذهب هي ما جرت به أقلام كتّابٍ لبنانيين من قبيل ميشال شيحا في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. مع ذلك يؤرّخ معجم لو روبير الصغير ميلادها بسنة ١٩٨٤. وهو ما يدلّ، في أرجح الظن، على ندرة استعمالها قبل ذلك في النصوص الفرنسية المنشورة في فرنسا. ويشار هنا إلى أن الناطقين بالإنكليزية اعتمدوا للكلمة نفسها مرادفاً تقريبياً هو sectarianism وهذه كلمة لقيت تفضيلاً عند منتقدي الطائفية. ويصعب مدّ هذا الترادف إلى sectarisme الفرنسية إذ يشتدّ الميل كثيراً في هذه الأخيرة إلى تحقير مسمّاها ويستبعد استعمالها في التناول المحايد للظاهرة المسمّاة.
وأما الكلمة المحيلة إلى «الطائفة» أو إلى «الجماعة» communauté, community فوُلدت فعلاً في أواسط الثمانينات وأصبحت، بُعَيد ولادتها، متنازعة بين محيطين أميركي وفرنسي فَرَضا على مدلولها استقطاباً داخلياً وإغراء بموقفين متخالفين إلى حدّ معتبر من الظاهرة التي تسميها الكلمة. فبينما تحمل اللفظة الأميركية معنى الدعوة العامّة إلى الاعتراف بأسبقية الجماعة على الفرد وبحقوق تلك على هذا، تنحو اللفظة الفرنسية منحى تنديدياً بالتباين في تعريف حقوق الأفراد تبعاً لانتمائهم إلى هذه الجماعة أو تلك وبإلزام الفرد إلزاماً مكبّلاً بـ«جماعته» الدينية أو القومية أو اللغوية وإنكار حقّه في الخروج على ما يمليه انتسابه إلى الجماعة وحتى في تغيير هذا الانتساب من أصله. غير أن الكلمة اكتسبت أيضاً معنى أوروبياً يقابل «السيادية» souverainisme فأصبحت تدلّ على المنحى المؤيّد لتوطيد «الجماعة» الأوروبية، ممثّلة بمؤسسات «الاتحاد»، ولتوسيع صلاحياتها في وجه الدول الوطنية والمنافحين عن حقوقها السيادية. وهذا، بطبيعة الحال، معنى للكلمة غير «طائفي» البتّة ويقتضي البحث عن مقابل عربي يفيده في جهة «الجماعة» أو «الاتّحاد». فضلاً عن ذلك، تبسط الكلمة الجديدة ظلّها على أنواع من الجماعات فيها اللغوي وفيها القومي وليس الديني إلّا واحداً منها فلا تُفترض له غلبة على سواه، بالضرورة. ذاك تنوّع أصبحت «الطائفية» العربية ضيقة عليه بعد أن ضمر، في الاستعمال المعاصر، مجالها وتعدّد إحالاتها القديمان فباتت توحي حصراً بإضمار صفة «الدينية» لمسمّاها.
وفي كل حال، كان على الصفة «الطائفية»، بلفظها العربي هذا، أن تسمّي، في العهد السابق وفي العهد الجديد، صفتين غربيتين لا واحدة، تدلّ كل منهما على صلة بـ«الطائفة» أو بـ«المذهب» مختلفة عن تلك التي تدلّ عليها الأخرى. فإن confessionnel و communautaire تدلان على النسبة الموضوعية من غير الإفادة عن موقف المنسوب من نسبته تلك. وأما اتّصال اللاحقة isme بأيّ منهما فيدرجها في فئة من الصفات تفيد على الإجمال استبطان المنسوب للنسبة وميله بها إلى دائرة العصبية أو الولاء أو ما يجري مجراهما. هذا الازدواج الذي لا تفلح العربية في مجاراته دائماً بل تكتفي بصفة واحدة للحالتين كثير الحصول، كثير الإحراج للمترجمين، على ما هو معلوم، وليست الحالة التي نتناول هنا إلا واحدة من أمثلته. وفي عدد من الحالات، يُزال اللبس بإلحاق ألف ونون بالصفة التي تفيد الميل الذاتي أو الولاء المذهبي. فيقال «عقليّ» حيث يراد rationnel ويقال «عقلانيّ» حيث يراد rationaliste . إلا أن العربية تبدو، في حالات كثيرة، غير طيّعة لهذه الرغبة في التمييز. ومن أمثلة ذلك الصفة «الطائفية» التي نتناول ههنا. فلا أحد يقول «طائفاني» مع أن ذلك ممكن نظرياً، لا يحول دونه غير الاستثقال. وهذا الأخير حائل شديد البأس في تصاريف اللسان العربي ولو انه كثيراً ما يكون ذوقياً بحتاً فلا يفعل فعله امتثالاً لقاعدة مقرّرة. لا يبقى، في آخر المطاف، غير السياق يُعهد إليه بـ«حلّ» المشكل المطروح علينا ونظائره.
«الجماعة» أنواع و«الأمّة» جالية: عذاب المترجم
صفوة القول أن «الطائفية» العربية متعلّقة، لحداثة سنّها النسبية، بركاب «الطائفة» بالمعنى الذي استقرّت عليه هذه اللفظة حديثاً وهو أضيق بكثير من ذاك الذي حفظته لها معاجم ونصوص قديمة. وهو ما يجعل confessionnalisme، على علاّتها، مقابلاً لـ«طائفية» أوفق وأبعد عن الخلط بين الأمور المختلفة من communautarisme. وهذا على الرغم من ميل الكتّاب والمترجمين، في العقود الأخيرة، إلى تغليب هذه الأخيرة واستبعاد الأخرى. وأما المقابل العربي لـ communautarisme فإن البحث عنه أنجع في جهة الـ«جماعة» العربية لا في جهة الـ«طائفة». وقد تحضر «أمّة» حين تراد ترجمة عبارات من قبيل « la nation maronite» و «la nation druze» وهاتان عبارتان يقع عليهما القارئ، على سبيل المثال، في الوثائق القنصلية الفرنسية المتعلّقة بلبنان في القرن السابع عشر. غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن كلمة nation لم تكن تدلّ في ذلك العهد على ما نسمّيه «أمّة» في أيّامنا. فنحن نقع، في الوثائق نفسها على حديث ما يسمّى «...la nation francaise» في صيدا!!! و«الأمّة» المذكورة عبارة عن قنصل وبضعة تجّار ومرسلين يتّسع خان الإفرنج لمعظمهم إن لم يتّسع لهم جميعاً. وهو ما يجعل عبارة «الجالية الفرنسية» هي الأقرب هنا إلى أداء المعنى المراد. وهو أيضاً ما يجعل البناء على هذه العبارات للقول بتاريخ «قومي» للطوائف (يجري تأسيس وجود «قومي» عليه لهذه الأخيرة في عصرنا هذا) أمراً يختلط فيه التعصب والجهل: الجهل لا بتاريخ القومية وحده بل أيضاً، فيما يعنينا هنا، بتاريخ الألفاظ. تبقى إشارة أخيرة، بهذا الصدد، إلى أن «الأمّة» و«الجماعة» تنتميان كلتاهما إلى المصطلح الإسلامي ويتلابس مدلولهما فيه تلابساً بيّناً وإن لم يبلغ حدّ التطابق. غير أن استعمالهما المعاصر في الكلام السياسي والاجتماعي جعل ماصدقيهما يفيضان، في كثرة من الحالات، عن النطاق الديني.
كان في ماضي كلمة «طائفة» من سعة المدلول ما يفي بالحاجة (أو يزيد) لإباحة التقابل، في الترجمة، بينها وبين كلمة communauté. ولكنّ ماصَدَقَ هذه الكلمة العربية راح يَضْمر في الاستعمال مع الميل إلى الغلبة الشديدة للصفة الدينية على مدلولها. وهو ما لم يحصل للكلمة الغربية التي مال ماصَدَقُها إلى التوسّع والتفرّع. وقد كان هذا التطوّر دالاً على تنامي الظاهرة الطائفية وتضاؤل التمايز الاجتماعي السياسي وذواء أنواع منه واعتماد أنواع أخرى صوراً غربية المنشأ اعتمدت لها أسماء عربية ذات حمولة تاريخية مغايرة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، لحمولة أسمائها الغربية. وقد وقعت الواقعة نفسها تقريباً حيث أريد اجتراح مقابلات غربية تسمّي وقائع عربية أو إسلامية. ولا يسوقنا ذلك سوى إلى أمر معلوم يتعلّق بمهمّة الترجمة. وهو أن للكلمة في كل لغة معنى أو أكثر من معنى، لغوي أو اصطلاحي، يتبع تاريخه تاريخ الذهنيات والمجتمعات. ولا يجاوز ما قمنا به هنا أننا قدّمنا مثالاً لذلك انطلق من كلمتين عربيتين هما «طائفة» و«طائفية» ومن المقابلات التي اقتُرِحَت لهما أو اقتُرِحَتا لها في اثنتين من أوسع اللغات الغربية انتشاراً. ولا يعدو كلامنا كلّه حدّ الإشارة الخجلى إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإعداد المستمرّ لحرفة الترجمة وإلى وجهٍ من عذاب المترجم يزداد ظهوراً له كلّما ازداد تعلّقاً بأصول حرفته وتقدَّمَ إعداده لمزاولتها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.