استجابة لحركة الشباب العربي وثورتهم من أجل العدالة الاجتماعية والحرية، وتحت شعار «الثلاثين من يونيو الأخير» خرجت ثورة الشباب في السودان في الثلاثين من يونيو 2012 (وهذا التاريخ هو تاريخ مجيء النظام العسكري الحالي في السودان الى سدة الحكم في العام 1989) . أفسدت انتفاضة الشباب السوداني على «نظام الانقاذ» احتفالاته بالذكرى الثالثة والعشرين. لكنها لم تنجح حتى في اقناع الحكومة السودانية بالعدول عن خطتها الاقتصادية في رفع أسعار السلع الغذائية ورفع الدعم عن الوقود وفي ما بعد زيادة تعريفة الكهرباء وفرض رسوم جديدة على استخدام المياه في المنازل.
تعود انتفاضة الشباب في السودان الى أواخر يناير من العام 2011 حين خرجت مظاهرات كبرى قوامها طلاب الجامعات تندّد بارتفاع أسعار السلع الغذائية مع ثبات الأجور، وتستنكر استحواذ الأمن على أكثر من 70% من ميزانية الدولة. واجهت السلطات السودانية تلك المظاهرات بالعنف المفرط تلته موجة اعتقالات واسعة في أوساط الشباب والمعارضة. في هذا التاريخ أفصح جهاز الأمن والمخابرات الوطني عن منهج الاغتصاب والتخويف الجنسي تجاه المتظاهرات السودانيات. وكان أن تقدمت الفنانة التشكيلية صفية إسحق بشكوى قانونية ضد جهاز الأمن السوداني وتم فتح قضية اغتصابها بعد اعتقالها وضربها ابّان مظاهرة الثلاثين من يناير. استمرت الاضرابات وان نجح جهاز الأمن في قمعها بصورة كبيرة ولكنها انفجرت بقوة في منتصف العام التالي .
في الحادي والعشرين من يونيو 2012 تجددت الانتفاضة السودانية بعد موجات من التظاهرات احتجاجاً على قرار الحكومة رفع الدعم عن الوقود. لم تأخذ الحكومة هذه الاحتجاجات بعين الاعتبار وتم رفع الدعم عن الوقود فعلياً وقبل موافقة البرلمان على القرار. أصدر البنك المركزي ــ بعد ذلك بثلاثة أشهر ــ قراره بتعويم الجنيه السوداني وتحرير سعر الدولار للصرافات. أما المواطن ــ الذي يعيش على متوسط دخل أقل من دولار يومياً ــ فتُرك لتتقاذفه البورصات وتباينات أسعار الصرف. إن تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة لسياسات التنمية غير المتوازنة التي انتهجتها الحكومة العنصرية في الخرطوم أدى الى انفجار الوضع، حيث أصبح السودان بلداً جائعاً وفقيراً بعد أن كان يُتِطلّع اليه أن يكون سلة غذاء العالم العربي. بالاضافة الى ذلك فإن عمليات القتل والابادة والتطهير العرقي في اقليمي دارفور وجبال النوبة كانت عاملاً مؤثراً أذكى الاحتجاجات.
ان الناظر الى الوضع في السودان لا يعدم سبباً يزيده يقيناً بالثورة لاسقاط النظام. ولكن هذه الموجة الاولى من الثورة سرعان ما خبت جذوتها بعد أشهر قليلة من اندلاعها.
انظروا الى 23 سنة من حكم الاسلاميين!
ولا يقتصر الحديث هنا على الأحزاب الدينية المعارضة، بل بما في ذلك الحزب الحاكم نفسه والمنحدر من تنظيم «الجبهة الاسلامية القومية». لقد كان استغلال العامل الديني لدعم الموقف السياسي للحزب الحاكم عاملاً جوهرياً في ضرب الموجة الاولى من الثورة وتثبيط الدعم الشعبي للثوار الشباب. خرج مسؤولو الدولة في لقاءاتهم الجماهيرية يحذرون السودانيين من أن الثورة هي صنيعة «الشيوعيين الذين يريدون اخراجكم من دينكم وتحويل السودان الى مجتمع فاسد ومنحل»!. ولما كان المجتمع السوداني لايزال يعاني نسبة كبيرة من الأمّية اضافة الى كونه مجتمعاً تقليدياً محافظاً في الأساس وذا نفسية انطباعية، فقد كانت هذه التحذيرات كفيلة بتجريد ثورة الشباب السوداني من قسم واسع من السند الشعبي وجعل مناصرة قليل من السودانيين ليست بذات أثر.
تخلى المواطنون عن الشباب وثورتهم ــ الشباب الذين خرجوا لمواجهة العسكر ــ من أجل حياة أفضل لهؤلاء المواطنين ومستقبل آمن لأطفالهم. تخلى أولئك المواطنون عن شباب الثورة دون أن يتساءلوا عما اذا كان النظام الشيوعي فاسدا فلِمً تتحالف حكومتهم مع أكبر دولة شيوعية في العالم الحالي ــ الصين؟! ولمَ يطالب هؤلاء المواطنين حكومتهم المؤمنة بتفسير للفساد المالي في وزارة الأوقاف والارشاد الديني! كما لم يحركوا ساكنا حين تناقلت وكالات الأنباء ــ التي حُظرت في ما بعد وأُجبر غالبيتها على تقديم تضليل حول الخبر مصحوباً باعتذار ــ الفضيحة الأخلاقية لنائب رئيس الحزب الحاكم ونائب رئيس المجلس التشريعي بولاية البحر الأحمر والذي ضبطته شرطة القسم الشرقي بالخرطوم في شقة لممارسة الدعارة بصحبة أربع فتيات دون رباط شرعي في شهر رمضان! ان ما يحدث في السودان لهو نوع من المفارقة التي يصعب تفسيرها وتساؤلات ذات اجابات لا تخضع للمنطق. فبالرغم من توافر جلّ الظروف والمسببات لقيام ثورة تسقط النظام الّا أن هذه الثورة ــ وللأسف ــ لم تحدث.
في احد لقاءاته مع الاعلام وعندما سُئل الرئيس السوداني، عمر البشير، عن امكانية حدوث ربيع عربي في بلاده ــ أجاب بالنفي القاطع مبرراً ذلك بأن الثورات الربيعية أسقطت حكوماتها وأتت بحكومات اسلامية بينما الحكومة في السودان في الأصل حكومة اسلامية ومن ثم فلا حاجة بالشعب السوداني الى اسقاطها. وان كانت ثمة نصيحة تُعطى هنا ــ وانْ لمْ يسبق السيف العذل ــ فهي أنّ على الشباب العربي أن يَتَنَبّه الى سارقي الثورات وأن ينظر الى تجربة ثلاثة وعشرين عاماً من حكم الاسلاميين في السودان. ثلاثٌة وعشرون عاماً أفضت بالبلاد الى انهيار اقتصادي سببه الفساد الاداري والمالي في السلطة ودوائر الحكومة وفقر مدقع وظروف صحية وتعليمية متدهورة وتشرذم البلاد وانفصال الجنوب. نقابات واتحادات متهالكه يشتريها المسؤولون ويبيعونها. وانهيار الطبقة الوسطى وتركز المال والثروة بأيدي الرأسمالية الطفيلية الاسلاموية.
أحد المجانين المعروفين في سوق مدينة أم درمان ــ وهو في الأصل أحد ضحايا تعذيب أمن النظام القائم ما افقده عقله ــ يستوقفك ملوّحاً بالبيان الأول للثورة الذي أصدره النظام الحالي يوم مجيئه في العام 1989 مراهناً ايّاك على أن ثورة الانقاذ لم تنقذ السودان، وحجّته أن تقرأ البيان ــ الذي يشرح للمواطنين سبب سطوه على الحكم الديمقراطي معدداً الأوضاع المتدهورة التي يتطلب انقاذنا منها وفي مقدمتها «تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية» وقيام النظام الديمقراطي «بإثارته النعرات العنصرية والقبلية في حمل أبناء الوطن الواحد السلاح ضد إخوانهم في دارفور وجنوب كردفان» إضافة إلى «ما يجري في الجنوب من مأساة وطنية وسياسية». يطلب منك المجنون أن تعقد مقارنة بالوضع الراهن في البلاد ولا ينتظر هذا المجنون أن يسمع حجتك وينطلق صارخاً «أعيدونا للحال الذي أنقذتمونا منه»!
«الأمّة» و«الاتحادي الديمقراطي» يرفضان دعم الانتفاضة
ولهذين الحزبين دور كبير في تاريخ السودان المستقل حتى الوقت الحالي. والحزبان دينيان في الأصل انطلقا من بيت الامام المهدي (حزب الأمة) ومن بيت السيد المرغني (الحزب الاتحادي الديمقراطي). والمسألة هنا أن زعيمي «الحزبين الكبيرين» طالبا جماهير الحزبين بعدم دعم انتفاضة الشباب واصفين ايّاها بأنها تهدف الى اثارة البلبلة والفوضى في البلاد، محذّرين من الخراب الذي سوف يعم اذا غادر الحكم العسكري الحالي السلطة!
ولا عجب، فالزعيمان الكبيران لهما ولدان في السلطة يشغل كل منهما منصب المساعد لرئيس الجمهورية! والمسألة أيضا أن للحزبين الدينيين أعداداً كبيرة من المؤيدين، ما افقد الثورة سنداً أساسياً، ومرةً أخرى تمّ استخدام الدين والمواطنين البسطاء لغرض سياسي لا يخدم الا شهوة بعض الأشخاص للسلطة ومصالحهم فيها.
انفرد الحزب الشيوعي في دعم الثورة وشكّل شبابه مكوّناً هاماً من مكوّناتها وإن يكن نأى بنفسه عن تبنّيها مباشرة.
النخبة السودانية وادمان الفشل
عجز المثقفون السودانيون عن قيادة الثورة، وتركوها جسداً بلا رأس. وفشلوا في تقديم بديل يمكنه كسب ثقة الشعب السوداني كما عجزوا من قبل عن حماية الحكومات الديمقراطية في السودان وتركوها حلبةً لصراع السلطة بين زعماء الأحزاب الدينية. انقسم المثقفون السودانيون الى ثلاث فرق: الأولى تداهن زعماء الأحزاب الدينية التقليدية سعياً وراء المال والمنصب. الثانية تنتقد الآخر من قوى المعارضة وتقضي الوقت في التفاكر والتشاور والترحال الى أماكن المؤتمرات التي تخرج بمذكرات تنسى في الجيوب. أما الفرقة الثالثة فهم المثقفون ذوو الحمية والغيرة على الوطن والذين يسعون هنا وهناك بخطوات جادة ودون انتظار مقابل. وللمفارقة ــ فإن هؤلاء لا يُسمَعون ولا يَطْرِبون.
ان النظام الحالي ليس بالقوة التي كان عليها في العام 1989. هو مواجَه بحروب داخلية في عدة جبهات من البلاد: في دارفور وجبال النوبة وكادوقلي والنيل الأزرق، بالاضافة الى ضغط المجتمع الدولي لانتهاكه حقوق الانسان وتورطه في عمليات التطهير العرقي في دارفور. أضف الى ذلك التوترات والانقسامات داخل الحزب الحاكم نفسه فضلاً عن التوترات مع حزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي، عرّاب النظام الحالي الذي أُقصي عن الحكومة ابّان قرارات «الرابع من رمضان» في ديسمبر 1999.
كل هذه الأسباب تجعل من النظام في حالة من الضعف تسهّل فرص اسقاطه اذا عقد العزم. لكن الدور السلبي للمثقف السوداني وتشرذم قوى المعارضة مافتئا يمنحانه عمراً جديداً.
ان فشل المحاولة الثورية السودانية المتجددة للعام 2012 لم يكن بسبب كون الشعب السوداني متخاذلاً أو خائفاّ، فهذا الشعب فجّر أول ثورة شعبية في أفريقيا والشرق الأوسط في العام 1964، وأسقط النظام العسكري مرة أخرى في انتفاضة أبريل 1985. إنما الفشل مردّه الى عجز المعارضة السودانية عن تقديم بديل محل ثقة يستأهل ما سيفقده السودانيون في طريق الثورة من أرواح وأمن. على نفس القدر من الأهمية يأتي وعي الشعب بحقوقه وبمن يستغلون تديّنه لأغراضهم الشخصية.
وهكذا فالدرس الذي تعلمه الشباب السوداني من انتفاضته هو ضرورة أن يعمل على تنوير المواطن السوداني وتوعيته وتوضيح الرؤية. من ناحية أخرى، أدرك الشباب أن عليه ايجاد بديل قادر على قيادة البلاد في مرحلة الديمقراطية المنشودة وأن يسعى الى توحيد قوى المعارضة.
ومع هذا وذاك، فإن الموجة الثورية السودانية الاولى لم يُمحَ أثرُها. الجمر لا يزال تحت الرماد. ولا تزال الاحتجاجات مستمرة في بعض الأحياء ومناوشات بين الشباب وعناصر الشرطة والأمن. لقد فطن الشباب الى حقهم المسلوب ولن يتوانى يناضل لاسقاط تجار الدين وسارقي قوت الفقراء
«والظلم ليلته قصيرة».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.