العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

المسألة الكردية: من أجل وطن توافقي على أساس قيم الثورة

النسخة الورقية
ملف

يأتي هذا الرد من أجل استهلال تحاور فكري ومعرفي وتعارف حقيقي بين نخب المكوِّنات السورية لرفد نضالات شباب الثورة ودماء الشهداء بحوار حقيقي وصراحة وطنية تتجاوز الخاص الفئوي إلى العام الوطني، خاصة واننا بدأنا نلاحظ بدايات شحنات لفظية عربية كردية، بغية إرساء أسس شراكة حقيقية لوطن الحرية والكرامة.

البناء على مقدمات مجتزأة

رغم الجهد المبذول، تفتقر الدراسة إلى الموضوعية اللازمة لتناول هذه المسألة الشائكة. إذ تطغى الانتقائية في أدوات الاستقراء التي ثبّتها الكاتبان كمقدمات للخروج بنتائج جاهزة في رؤيتهما السياسية. فالإشكالية تكمن في استيلاد نتائج جاهزة بمقدمات خاطئة للخروج بما يشبه الإدانة السياسية العقائدية. إن تناول المسائل المعقّدة دون كبير معرفة تاريخية وحيثيات واقعية مستقلة عن الرغبات والمشاعر يفضي إلى الابتعاد عن الموضوعية الضرورية، ولا سيما في الظروف الحالية حيث يعم التوتر والخلاف بمبرّر وبدون مبرِّر.

تنطلق الدراسة من لحظة تاريخية اعتُمدت مرجعا لتفسير تشكّل الوعي القومي الكردي في سورية بالقول «تأسس أول تنظيم كردي خاص في سورية عام 1957، وقت كانت الحمى القومية العربية تبلغ واحدة من أعلى ذراها. قبل ذلك وبعده بربع قرن على الأقل ظلت البيئة الكردية في سورية تنشط سياسيا عبر تنظيمات غير كردية ، الحزب الشيوعي السوري تحديدا».

وعلى نفس المنوال السهل والموجَّه يخلص الكاتبان إلى تحديد ثلاث ثوابت («عمليات») «رفعت بحدة من مستوى الوعي الذاتي الكردي [السوري]، ومن درجة تسييسه، ومن استقلاله الذاتي في تمثيل نفسه سياسيا» [التشديد مضاف هنا]. نلاحظ استخدام المصطلح الذي يلبي الحاجة إلى النتيجة الجاهزة:

«[...] في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، وقعت ثلاثة أشياء كان لها أثر بالغ على تسييس الوسط الكردي السوري وتوجهاته العامة. أولها مذبحة حلبجة [...] عام 1988، وقبلها ومعها حملة الأنفال التي شنها نظام صدام حسين ضد أكراد العراق [...]. وثانيها تصاعد المقاومة الكردية المسلحة في تركيا بقيادة حزب العمال الكردستاني الذي كان زعيمه عبد الله أوجلان مقيما في دمشق حينها، وكانت تقدر نسبة المقاتلين الكرد السوريين في صفوفها بالثلث من إجمالي المقاتلين. وثالثها تهاوي الشيوعية، دعوة ومعسكرا، وكانت الإطار الفكري السياسي الوحيد الذي جمع عربا وكردا في سورية. [...] لكن خلال تلك الفترة كانت تعمل ديناميتان أخريان. [الأولى] تكاثر وتخاصم الأحزاب الكردية [...]. والثانية أثر العلاقات الطيبة بين النظام [السوري] والقيادات الكردية العراقية وخصومة النظام السوري الأسدي العنيفة مع نظام صدام حسين، فضلا عن دعمه لحزب العمال الكردستاني في تركيا [...]. وفي عامي 2002 و2003، تطورت مواقف متباينة جدا بين الناشطين العرب والكرد من [غزو] العراق [...] ثم بعد نحو عام تفجرت احتجاجات كردية في القامشلي يسمّيها الكرد انتفاضة [...] سقط خلالها 30 شهيدا. وكانت هذه أول مرة يقع فيها عنف وضحايا من الكرد في احتجاج جماعي. [...] ولعله في هذه الفترة دخل تعبير «كردستان الغربية» التداول لأول مرة، لتسمية مناطق التواجد الكردي في سورية [...]. [...] والمفارقة الأهم أن [حزب العمال الكردستاني الذي يتكلم عن «كردستان الغربية»] [...] هو عضو قيادة هيئة التنسيق الوطنية [...]»

المقصود هو حزب الاتحاد الديمقراطي «بي يي دي» [التشديد مضاف هنا من قبلنا].

وتصل الدراسة إلى القول «شارك كرد في الثورة السورية منذ البداية. رفعوا لافتات وهتفوا بالكردية وبالعربية [...]. وعلى نحو ما كانت الثورة مناسبة لإعادة تشكل واسعة في المعارضة التقليدية السورية، فقد شكلت أيضا مناسبة لإعادة تشكل المجتمع السياسي الكردي السوري، وللعلاقة بينه وبين المعارضة العربية التقليدية. [...] وبتأثير جملة هذه التحولات والتفاعلات، تشكل ضربٌ من إجماع غير مستقر على مبدئين: الحقوق الكردية الثقافية والسياسية التي يعبر عنها أحيانا بمبدأ حق تقرير المصير، ووحدة سورية أرضا وشعبا. وكان تجنب توضيح الأمر والخوض في تفاصيله هو ما يبقي هذا الإجماع قائما، لكن على قلق» [التشديد مضاف هنا].

ولا بد من ملاحظة اخرى. تتطرق الدراسة إلى مشاركة «بي يي دي» في «هيئة التنسيق» بغية المحاجّة السياسية على نحو لا يليق بالدراسة البحثية. إنها تقفز عن مشاركة أربعة أحزاب كردية في منظومة «إعلان دمشق» لسنوات دون اختلافات رؤيوية ولا سياسية بين أحزاب وشخصيات قومية عربية وأخرى كردية. من الأكيد أن الثورة السورية أتت لتعرّي عجز الكثيرين من العرب والكرد الذين لبسوا لبوس المعارضة وها هم يتوزعون ولاءات ومجالس وأخطاء فاحشة تشاغب على الثورة بدل احتضانها، ليس أقلها أن حركة الإخوان المسلمين كانت لغاية الشهر الثاني من الثورة قد ألغت معارضتها للنظام السوري ترضية لتركيا وأننا لم نعد نعرف في أية خانة يصنِّف حزب العمل والتجمع الوطني الديمقراطي نفسيهما.

مظلومية لها تاريخ

بمعزل عن الرؤية السياسية التي يحاول الكاتبان بناءها على أساس ما تقدم، فلهما كل الحق في رؤية ما يريان أنه الأقرب إلى أفكارهما ووجهة النظر التي تشدهما إلى الهمّ الوطني السوري (سواء أكانت سورية عربية أم سورية مكونات إثنية ودينية وثقافية تاريخية)، سـأحصر مناقشتي للمسألة في الخلل القائم على المقدمات المجتزأة التي تم البناء عليها، أي الخلل في الاستنطاق التاريخي والمعرفي للمسألة باعتبارها مسألة تمسّ حياة وتاريخ شعب، تعرَّض لمظلمة تاريخية كبيرة في وجوده وفي هويته وحياته. فالمسألة الكردية في تموضعها الحالي لم تنبت فجأة وليست نتيجة عرضية لأحداث وقعت هنا أو هناك. إنها نتاج سيرورة حياتية لجماعة بشرية ترى في الحد الأدنى أنها تعرضت للظلم من جراء اتفاقات دولية، ونتاج إعادة تقسيم للعالم بعد الحرب العالمية الأولى، قاربها بشجاعة ونزاهة فكرية الباحث التركي «اسماعيل بيشكجي» بأطروحة «كردستان مستعمرة دولية» التي حمّل فيها التاريخ والعلاقات الدولية مسؤولية أخلاقية كبيرة، ورأى أنه لا بد من تصحيح هذا الخلل كائنا من كان المسبّب، فتعرّض بجريرة موقفه هذا لأحكام بعقوبات بالسجن لأكثر من 120 سنة.

في سنة 1920 لم تكن الحدود السورية الحالية موجودة، ولم يقدم تاريخ المنطقة قط خارطة لسورية بهذه الحدود ولا سيما في ما يخص البلاد الكردية التي ضُمت إلى دولة محدثة مفتوحة الحدود، معروفة ببلاد الشام أو سورية الطبيعية التي تعرف فلسطين بجنوبها ولم تذكر قط باعتبارها تشمل حلب ولا جبل لبنان ولا الموصل ولا ديار بكر ولا ماردين بل على العكس فسلطة باشوية «ويران شهر» الكردية، كانت تصل حدود الرقة وجبل عبد العزيز. وذلك أن حدود هذه الدولة رُسمت باتفاقات جُهّزت وعُدّلت أكثر من مرة بمعزل عن شعوبها بين الحلفاء ابتداءً ثم بين إدارة الانتداب الفرنسية وحكومة مصطفى كمال اتاتورك القومية التي ورثت الإمبراطورية العثمانية بحدود الأناضول الرومية مع تعديلات هيأت لاتفاقية لوزان لعام 1923 على أنقاض اتفاقية سيفر لعام 1920، التي لاحظت قيام كيان كردستاني على جزء من البلاد التي تسمى كردستان تدخل فيها ولاية الموصل النفطية، جاعلة من خط سكة قطار الشرق السريع على امتداد أكثر من 350 كيلومترا حدا فاصلا بين دولتين. ونعلم جميعا أن هذا الحد هو وسيلة مواصلات تربط بين الفضاءات ولا تفصلها، نجم عنها فصل بيئة وأرض ومجتمع قام منذ مئات السنين، بعشائر وقرى وأنهار ومزارع ومراع، بين شماله الذي أصبح تركياً وجنوبه الذي غدا سوريةً. هكذا رُمي بكرد إلى الدولة السورية في هذا الجزء مثلما فُصل ما بين جبال كرداغ وامتداداتها الشمالية لصالح أسواق حلب وريفها المنتج للمواد الأولية (الزيتون والفحم). وابتغاء استقامة الحد الحديدي تركت قبائل عربية في منطقة جرابلس مثلما ترك لواء اسكندرون ترضية، على الجانب التركي.

يذهب الكاتبان في بحثهما المستعجل إلى القفز عن 37 سنة من إلحاق الكرد بالدولة السورية، مباشرة إلى سنة 1957، تاريخ تشكل أول حزب سياسي كردي باعتباره لحظة مفصلية في تشكل وعي سياسي كردي في سورية بالتعارض مع لحظة «الحمى القومية العربية» في «واحدة من أعلى ذراها» متناسيين أن سنة 1947 هي تاريخ تأسيس أول حزب قومي عربي (البعث)، بعد تأسيس عصبة العمل القومي ببضع سنوات، وأن الاتحاد القومي للناصرية لم يكن قد تشكل يومها وأنه لم تكن هناك قبل هذه المرحلة الا أحزاب عقائدية وتكتلات أشمل من القومية (الكتلة الوطنية والحزب السوري القومي الاجتماعي والإخوان المسلمون والحزب الشيوعي). وعلى غرار مواطنيهم العرب توزع الكرد السوريون على هذه التكتلات كلها بنسب متفاوتة.

يبدو أن الكاتبين، الحاج صالح وصدقي، يجهلان أو يهملان الإشارة الى أن أول تنظيم سياسي كردستاني (منظمة «خويبون») تأسس في مدينة القامشلي (كردستان الغربية) سنة 1927 في منزل الوجيه الكردي وعضو المنظمة قدور بك. وشارك في الاجتماع التأسيسي لهذا التنظيم 32 عضوا يمثلون مختلف نخب وشرائح المجتمع الكردستاني من سورية وتركيا والعراق وإيران ومن الداخل السوري (دمشق، حلب، حماه) حيث تعيش منذ مئات السنين جاليات مستوطنة. وضمّ هذا التنظيم الكردستاني أعضاء أرمنيين لوضوح الرؤية الكردستانية وشمولها أقواما غير الكرد. وخطط هذا التنظيم للثورة الكردية المشهورة في جبال آغري (كردستان تركيا حاليا) سنة 1930 واحتضنها، ما يدحض القول بأن الوعي الكردستاني المجتمعي للكرد في سورية المحدثة هو نتاج عوامل من خارج البيئة الكردية السورية. وقد فات الكاتبين حقيقة تاريخية أساسية أن بلاد الكرد في الجزيرة السورية حاليا هي فضاء جزيرة «بوطان»، الإمارة الكردستانية الأخيرة الأكثر تطورا من الناحية الفكرية ومن ناحية الهوية، التي قضى عليها العثمانيون بفضل الدعم الأوروبي لتحالفها الوثيق مع حملة إبراهيم باشا من أجل إسقاط الدولة العثمانية (1830 ـ 1840).

ولا يجوز نسيان او اغفال عشرات الأنشطة السياسية والثقافية التي شهدتها حلب ودمشق وعامودا لإشاعة وتنظيم وعي الكرد بهويتهم وثقافتهم بذاته ولذاته (صحافة ومنتديات ونواد وغرف فقهية ومطابع)، قبل دخول الحزب الشيوعي السوري كفكرة سياسية قائمة بذاتها بمعزل عن العرب أو الكرد أو الأرمن أو السريان، بل بمثابة ايديولوجيا شعبوية ونخبوية في آن معاً، وجدت لها انصارا بين الكرد (اقطاعاً ومثقفين وائمة ونشطاء شعبيين) كما بين غيرهم من شعوب البلاد الشامية.

ومن الأهمية بمكان عدم إغفال ريادة الكرد السوريين في رفض الإدارة والانتداب الفرنسيين مراراً. أفليس شيخ المجاهدين السوريين هو إبراهيم هنانو؟ قائد ثورة جبل الزاوية الذي أقدم على جمع أثاث بيته وأحرقه معلنا بداية الثورة قائلاً جملته المشهورة «لا أريد أثاثاً في بلد مُستعمَر». ولا ننسَ أن الجزيرة السورية شهدت ما عُرف بمعركة «بياندور» عام 1923 وثورات عامودا عام 1925 وعام 1937 بقيادة سعيد آغا الدقوري، حيث تعرضت المدينة وريفها لقصف جوي أشعل فيها الحرائق وسبب خرابا وتهجيرا. لقد شغل قادة (نخب) المجتمع الكردي في سورية مكانهم الطبيعي في الكتلة الوطنية وبالتنسيق معها، دون ان ننسى ان فرنسا احتلت الجزيرة السورية بجيش قوامه الهجانة من بدو الشامية.

وفي ما يخص تشكل الوعي السياسي الكردي، تذهب الدراسة بانتقائية غير مفهومة إلى تثبيت مظالم متأخرة ستين سنة عن بدء تشكّل الدولة السورية، وخارجية حدثت في كردستان العراق وفي كردستان تركيا في ثمانينيات القرن العشرين (مجزرة «حلبجة» ومهلكة «الأنفال» في العراق ولجوء قيادة الثورة المسلحة لكرد تركيا إلى دمشق) وكأن الكرد قبل ذلك كانوا يعيشون في سويسرا أو في إحدى جمهوريات المدن السوفياتية الفاضلة.

تغفل الدراسة أن حياة مئات الآلاف من الكرد تشظّت على مدى سنوات بمظالم يعجز عن تخيلها أي فكر شيطاني غير بعثي، في دولة بدأت بمسمى توافقي دستوري (الجمهورية السورية) بعد الاستقلال فغدت سنة 1958 بالوحدة مع مصر «الجمهورية العربية المتحدة». وبقيت الصفة العربية ملصقة بكل دويلات البعث الاستبدادية التي صارت أسّ ومنبت الاضطهاد القومي للكرد فضلا عن الاضطهاد السياسي للمجتمع السوري. وطُبِّقت في هذا السياق الطريقة البعثية العتيدة في الاستنتاج «المنطقي»: ما دامت الدولة عربية فكل المواطنين عرب، وغير العربي هو بالضرورة دخيل معاد انفصالي ولا سيما إذا كان كرديا.

لا تشير الدراسة ولو تلميحا إلى مفاعيل سياسة التمييز الاقصائية، التي نجمت عن أخطر وثيقة عنصرية لضابط الأمن السياسي في الحسكة، محمد طالب هلال، الذي كوفئ عليها فغدا عضوا في القيادة القطرية ووزيرا في حكومة السيد يوسف زعيّن سنة 1966. إنها شملت بآثارها الحرث والنسل وما زال ملايين كرد اليوم ضحايا لها لا مثيل لهم في التاريخ البشري. لقد نظّمت سلطة الدولة، عن طريق مضبطة لا أخلاقية، مصير قسم من مواطنيها بفعل إحصاء سكاني حصري في الجزيرة السورية الحالية، منطقة تواجد الكرد (كردستان الغربية)، تمخض عن أكبر عملية إقصاء قسري عشوائي بلا معايير قانونية وعلى النقيض من التوافق الوطني التاريخي، بل بعنفوان قومي متبجح. وأغمض ملايين العرب عيونهم عن رؤية هذه الشائنة الأخلاقية والسياسية، بمن فيهم الشيوعيون السوريون وأنا منهم. إن هذا التبجح القومي العشوائي الملغوم هو من أهم الأسباب التي أتت للعرب بثلاث هزائم متكررة أمام إسرائيل وللشعب السوري بخمسين سنة من الاستبداد.

«الحزام العربي»: الحرمان من الارض والجنسية

لقد تقرر الاحصاء في دولة الوحدة سنة 1961 ونفّذ في عهد الانفصال سنة 1962 وظهرت نتائجه بعد انقلاب البعث سنة 1964-1965 وبقيت مفاعيله إلى سنة 2011 تتوالد مظالم واضطهادا من مراسيم جمهورية وأوامر محلية وقوانين حكومية وأعراف أمنية، لدرجة ان إحدى شقيقات حافظ الأسد صارت توزع أراضي الكرد، التي نزعت منهم ملكيتها في الجزيرة، على أتباعها مجانا أو على غيرهم لقاء رُشى.

وفي سنة 1966شكلت حكومة يوسف زعيّن لجنة سميت بلجنة «الحزام العربي» مهمتها إخراج وضبط سجلات الإحصاء والجنسية في الجزيرة السورية بحيث يتم بموجبها تجريد الكرد من الجنسية ومن ملكية الأراضي استنادا إلى قوانين الإصلاح الزراعي بحسب وثيقة طالب هلال، بعمق يراوح بين 15 و20 كيلومتراً على امتداد 350 كيلومترا، من عين ديوار على نهر دجلة إلى حدود كوباني الغربية. وآنذاك نفّذت حكومات البعث ابتداءً تجريد 160 ألف مواطن من الجنسية السورية ومن سندات ملكية أرض (عثمانية) ومن حق الانتفاع ضمن منطقة «الحزام العربي» المسمى بخط المطر. والأرض المعنية هي من أخصب أراضي الكرد التي وقعت جنوب سكة القطار صدفة، وصارت تابعة للدولة السورية. وفي مرحلة لاحقة تمّ تحويل الأراضي المستولى عليها إلى «مزارع دولة» كقاعدة للاقتصاد «الاشتراكي»، ثم حُولت في عهد سلطة حافظ الاسد إلى مستوطنات استُقدم إليها فلاحون من محافظة الرقة وتم توطينهم في قرى نموذجية (مستوطنات) كما يصفها محمد طالب هلال، على غرار المستوطنات الإسرائيلية. وسُلح سكانها وزودوا بالقروض الزراعية وأهدوا الآلات الزراعية التي كانت لمنشأة مزارع الدولة. وأُسكِنوا كمواطنين نخبة (موالين حاليين)، في أراضي الكرد وبين ظهرانيهم. لقد رمت سياسات التمييز العنصرية بعشرات الآلاف من الكرد، غدوا بالتكاثر الطبيعي مئات من الآلاف، إلى جحيم الحرمان في وطنهم سواء أكان اسمه سورية أم كردستان الغربية. لقد اخضعت حياة المجرد من الجنسية، قبل حلبجة وقبل الأنفال بسنوات، لمنظومة عقوبات تجبره على الهرب بالحرمان:

ـ يُحرم هو وأسرته من حق الانتفاع بالأرض الزراعية كفلاحين.

ـ يُحرم من حق التملك، تملك أي شيء: أرض، منزل، منشأة تجارية، وسيلة مواصلات، أو الحصول على بطاقة تموينية في بلد كان فيه الفارق، على مدى أربعين سنة، بين السعر المدعوم بالبطاقة والسعر الحر، خمسة أضعاف.

ـ يورِّث أولادَه الحرمانَ من الجنسية السورية ولو عاشوا مئة سنة.

ـ يُمنع، هو وذريته، من الزواج إلّا عرفيا، ومن تسجيل ولاداتهم إلا عرفيا، وإذا تزوجت مواطنة سورية من سوري مجرد من الجنسية فإنها تفقد جنسيتها بدلا من إعطاء الجنسية لزوجها.

ـ يُمنع من النوم في الفنادق بغير إذن من أجهزة الأمن.

ـ يُمنع من أن يسافر بوسائل المواصلات الداخلية بغير موافقة مخفر المحطة المعنية.

ـ لا يُسمح له بحمل بطاقة هوية وطنية ولا جواز سفر إلا لسفرة واحدة لكي يغادر بغير عودة.

فهل سأل الكاتبان نفسيهما عمّا إذا كانت توجد دولة أخرى فيها مثل هذه القوانين؟ وعمّا إذا لم تكن مثل هذه السياسة تشكل وعيا سياسيا وشعورا بالقهر؟ هذا مع العلم بأن ثمة مثقفين سوريين أصبحوا نجوما ومناضلين كبارا لأنهم مُنعوا لأشهر معدودات من السفر والعودة؟

سياسة التعريب

تتناسى الدراسة محرضات للوعي السياسي من قبيل سياسة التعريب التي شملت أسماء مئات القرى والبلدات والمواقع الأثرية التاريخية الكردية والميزوبوتامية عديد المرات، بترجمة أولى حرفية للمعنى الكردي إلى العربية، مثلا غدت بلدة «تربة سبية» «قبور البيض» ثم أصبحت «قحطانية». وفي المرحلة التالية تم تعريب عنصري قهري إلغائي بإطلاق أسماء استفزازية مثل البعث والعروبة والقدس وحيفا وغزة ويافا وعكا والبواسل والباسل والفخارية والفرزدق والمناذرة والبرقة وأم الفرسان على قرى الفضاءات الكردية ...

هذا فضلا عن عشرات الأوامر والقوانين التي منعت الكرد من استخدام أسماء كردية سواء للمحال التجارية أو للمواليد باعتبارها أسماء أجنبية؛ ومنعت الأغاني الكردية في الأعراس فارضة الاستئذان قبل إقامتها؛ وحظرت على الكرد التكلم في ما بينهم باللغة الكردية في الدوائر والمدارس تحت طائلة الفصل من الوظيفة أو المعهد أو الحرمان من التقدم للامتحان النهائي بحجة مقتضيات أمن الدولة. ويمكن للمرء في هذا الصدد الرجوع إلى عشرات الأوامر العرفية والقوانين التعسفية والممارسات خارج نطاق القانون. هكذا تم تمليك مئات الهكتارات من أراضي الكرد لموظفين كبار في أجهزة البعث والدولة وأفراد من أسرة الأسد ومخلفاتها في منطقة الكوجر ديرك ورميلان وعلى ضفاف نهر دجلة التي غدت منطقة أمنية بحجة الصراع مع نظام صدام حسين.

ملحوظة هامة: يشكل الطلبة الكرد في ثانويات الجزيرة (كردستان الغربية) نسبة تفوق السبعين في المئة بكثير. والطلبة الكرد متفوقون دراسياً، لا لأسباب جينية، بل لأن الكردي، شأنه شأن الفلسطيني، إذا لم يتفوق فلن يحظى بفرع دراسي جيد أو بوظيفة لائقة. ومع ذلك تقل نسبة الكرد الموظفين على مدى سنين عن عشرة في المئة. كان يندر أن تجد مدير مدرسة ابتدائية واحدة كردياً، كما كانت عليه الحال في سائر دوائر الدولة وإداراتها. فهل لذلك من علاقة بحلبجة أو الأنفال أو بحظوة حزب العمال الكردستاني لدى نظام الأسد؟

انتفاضة ٢٠٠٤ عواملها داخلية

يمر الكاتبان في دراستها مرور الكرام على انتفاضة الكرد سنة 2004 باعتبارها من تجليات التطورات المتباينة بين مواقف الناشطين الكرد والعرب في عامي 2002 و2003 من غزو العراق. فيخلصان، من تطرقهما إلى ما سّمياه «احتجاجات كردية» (هكذا) بغير تدقيق في ما حدث، إلى مقولتهما «[...] لعله في هذه الفترة دخل تعبير «كردستان الغربية» التداول لأول مرة [...]»؟!

نقول بداية إن أحداث أو انتفاضة او احتجاجات 2004 لم تكن نتيجة المواقف المتباينة (لولع الكرد بالانتقال من الشيوعية إلى الأمركة واستخدام الحرف اللاتيني والترحيب بالغزو الأميركي للعراق كما رآه بعض المثقفين العرب حينها) بل فجّرها حادث متقن الإخراج، كان القطرة التي طفحت بها كأس المظالم في عالم جديد. إن الغزو الأميركي العربي الصهيوني للعراق لإسقاط سلطة صدام حسين، بتعاون رسمي عربي كامل من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، أفرز احتقانا شعبيا عربيا، بخاصة لدى أهالي المناطق الشرقية العرب الذين لم يخفوا يوما ولاء مشاعرهم الصامتة لنظام صدام حسين في حربه مع إيران التي تواطأت معها سلطة الأسد. ولأكثر من سبب تم تنفيس هذا الاحتقان سلطويا في لحظة شيطانية بإدارة «شبيح ينتمي الى الطائفة الدرزية» هو محافظ الحسكة سليم كبول الذي تقدَّم جماهير كرة القدم لفريق مدينة دير الزور آتياً إلى القامشلي لمنازلة فريق ذي أغلبية كردية بشعارات استفزازية، جمهور أمني عربي، وشبيحة مسلّحون، يحميهم جند مسلحون ومحافظ من طائفة ناقمة بدورها على السلطة. المحافظ يطلق الرصاصة الأولى من مسدّسه على جمهور الفريق الكردي الأعزل الذي استفزته شتائم للبرزاني والكرد فردّوا بمثلها لصدام والأسد. وفي اليوم التالي أُطلقت النار مجددا على جنازات الشهداء فسقط زهاء ثلاثين شهيدا من الكرد دون غيرهم كما تشير الدراسة، فضلا عن نهب مئات المتاجر الكردية في الحسكة وراس العين على أيدي سكان المستوطنات والبعثيين المسلحين بحماية أمنية. وعمد الشبيحة إلى الإجهاز على نشطاء جرحى في مستشفى راس العين (سري كانية)، تماما كما يحدث اليوم.

فالانتفاضة الكردية أتت ردا قوميا وشعبيا وإنسانيا على حجم المظالم والتصرف البالغ القسوة لسلطة تطلق رموزها النار على جمهور الكرة لمجرد أنهم كرد. [نترك التحليل في اختيار اللحظة والمشهد وانتماءات المسؤولين للباحثين الأقدر منا، خاصة وأن المباريات التالية للفريقين نقلت إلى القرداحة حيث الأمان وحيث تغيب «الهيجانات» الفالتة من عقالها.]

واليوم إذ نرى احتضان الكرد في القامشلي و«سري كانية» أهلهم المستجيرين من جحيم دير الزور، نقف على حجم الوعي السياسي الكردي وطنيا ومدى تفويته على السلطة رُشاها الفتنوية.

مصطلح «كردستان الغربية»

أما تعبير «كردستان الغربية» الذي يثير حفيظة الإخوة العرب، فهو مصطلح جغرافي وتاريخي لأرض يقيم عليها منذ مئات السنين قوم لم يخلّوا ببند واحد من شروط المواطنة والوطنية منذ الخلافة الاموية مرورا بالعباسية والسلطنة الايوبية والعثمانية الى يومنا هذا رغم المظالم والقهر، رغم حرمانهم من جلّ الحقوق (عدا مرحلة تاريخية بعد جالديران 1514 مع السلطنة العثمانية) وتحميلهم كل الواجبات مضاعفة. إنه مصطلح أتى نتاج وعي معرفي وتطور ثقافي لمجتمعات كردية تلاقت في المهاجر الأوروبية بعد عزلة طويلة عاشوها كل على حدة تحت قسوة المظالم (في ظل الشاه والأتاتوركية والبعث) بلغت في لحظة تاريخية مستويات فائقة في الفحش في التعامل بجملة متغيرات اهمها:

اولاً، شهدت تركيا فوضى عارمة أدّى إليها الحراك الطلابي والنشاط النقابي اليساريان في منتصف السبعينيات، بتأثير من الثورة الطلابية في فرنسا ومن انتصارات الثورة الفيتنامية ومن استعصاءات برامج الحكومات اليمينية التي تحالفت سرّا مع منظمات إرهابية ومافيا الأجهزة الأمنية واليمين القومي التركي المتطرف. هكذا انطلقت قوى الثورة المشبعة بالثورة الثقافية في الصين الماوية، فأتى انقلاب كنعان ايفرين سنة 1980 ومباشرة منظمة «الذئاب الرمادية» وعصابات الأجهزة الامنية عمليات اعتقال واغتيال واسعة بحق نشطاء الطلبة والنقابيين والحركة الشبابية والمثقفين كرداً وأتراكاً أدت إلى تشتتهم في الأرياف المهمّشة. وكان لكردستان تركيا النصيب الأوفر من الفوضى ثم من التثوير ثم من قتل وسجن القيادات والرموز التاريخية مما آل ميراثه إلى رجل اسمه عبدالله أوجلان لجأ بحكم الانتقال إلى سورية إلى الكفاح المسلح لمواجهة حرائق سطوة السيد افرين و«الذئاب الرمادية» وحراس القرى ومنظمة «أرغنكن». ونتجت من ذلك حركة هجرة كبيرة لمثقفين وطلبة وشباب وأدباء وفنانين كرد إلى أوروبا حيث بدأت حركة وصول أحزاب اشتراكية إلى السلطة (كما في فرنسا واليونان).

ثانياً، في إيران جاءت السلطة الخمينية سنة 1979. وقد فاقت حكومات الشاه في حربها على الكرد رغم مشاركتهم النشطة في الثورة الإيرانية. لقد شنت سلطة ملالي الخميني حملات اجتياح وترهيب وإعدام ميداني. وأوقعت في كردستان إيران، من خلال محاكم خلخالي الميدانية، مذابح يندر مثيلها ايام الشاه، زاد من همجيتها انتماء غالبية أهالي كردستان إيران للمذهب السني. وأدى ذلك إلى هجرة نخب كردية من إيران إلى أوروبا، خاصة وأنه كانت تربط عبد الرحمن قاسملو، الشخصية القيادية الكاريزماتية، علاقات صداقة بقيادات اشتراكية أوروبية أصبحت في الحكم.

ثالثاً، في العراق كان صدام قد ألغى الاتفاق مع البرزاني الأب مستقويا بالدعم الدولي في صراعيه مع إيران والصلح الذي أنجزه مع حافظ الأسد لبعض الوقت. فاجتاحت قواته المدربة والمسلحة بتفوق كامل جبال كردستان التي كان قد جهّزها بطرقات سهّلت وصول دباباته إلى ذراها، بحجة تطوير الإقليم خلال فترة الهدنة. فأدّت الظروف التي نجمت عن ذلك مجتمعة إلى نزوح كردي عراقي كبير إلى إيران وسورية ثم بهجرة النخب الثقافية الكردية العراقية إلى أوروبا وديمقراطيتها خاصة بعد سقوط سلطة عرفات في بيروت 1982.

في المحضن الأوربي تجمعت منذ بداية الثمانينيات حشود مثقفين وطلبة وفنانين كرد تلهمهم وتوحدهم بشكل خاص أغاني «شفان» و«كلستان» و«اي رقيب» والحيوية التنافسية التي استطاعت حركة اوجلان بثها في المهاجر. فتأسس المعهد الكردي في باريس كمرجعية ثقافية كردية لكرد المهاجر خلفت أنشطة الاخوين كامران وجلادت بدرخان وخويبون ومجلة «روناهي» الصادرة من دمشق بالحرف اللاتيني. ما بين 1942 و1945، حدث كرديا نوع من التعرّف إلى الذات بطرائق وآليات ومصطلحات عصرية في مهب رياح الحرية وفي ظل حكومات اشتراكية أوروبية قدمت منحاً دراسية للطلبة الكرد (فضلا عن حيوية كردستانية ثقافية ولغوية في سورية). وأقول على عجل استنادا إلى معرفتي المتواضعة إنها أتت نتيجة ظهور الكفاح المسلح الكردستاني في سورية وفي مواجهته، كما وضّحته الدراسة عن مشاركة الشباب الكرد السوريين في قوات أوجلان، وأنتجت جيلا كرديا يطمح إلى تبوّء مكانته بين الشعوب على قدم المساواة.

خريطة جديدة لكردستان

هكذا رسمت خريطة جديدة لكردستان الشاملة بدقة واقعية وبشراكة كرد من كل الأوطان الكردستانية بإشراف المعهد الكردي بباريس (تم تنفيذها في الورشة الفنية التي كان يديرها كاتب هذه السطور سنة 1984) وصارت تعقد مجامع لغوية متواضعة من الشتات الكردستاني لتوحيد المصطلح اللغوي بما يجمع. لقد شاع بين الكرد استعمال مصطلحات كردستان الجغرافية للتعريف بأنفسهم بدلا من أن يقول أحدهم أنا كردي عراقي أو سوري أو تركي. وهذا أمر طبيعي يلبي نزعة شبابية وثقافية لجيل ينضج في أوروبا يرى في نفسه معادلا للآخر خاصة وأن كثيرين منّا كانوا قد قدموا كل ما يستطيعون للثورة الفلسطينية التي رأينا فيها ذواتنا البديلة للنضال المجاز. فلمَ الخجل من ثوراتنا وبشمركتنا وأحلامنا القومية ما دام الشريك العربي يصوم ويصلّي للوحدة العربية والبلاد العربية والوطن العربي ولقدس الأقداس العربية. صارت ديار بكر، آمد، قدسنا وعاصمتنا ثم صارت هولير تنافسها هذه الايام متخلية عن اسمها الآخر (أربيل) ... إلخ.

لا يخفى على أحد أن فضائية «روج تي في» التي أطلقها حزب العمال الكردستاني من أوروبا أدّت دوراً إعلامياً كبيراً في إشاعة المصطلح والكثير من المعرفة والثقافة الجامعة. وبمعزل عن الهوية السياسية للحركة أقول، على سبيل الأمانة التاريخية، إن هذه القناة ساهمت بشجاعة إعلامييها والديمقراطية النسبية لإدارتها في خلق حالة جامعة ووعي معرفي كردستاني وكان للكرد السوريين في ذلك النصيب الأكبر.

خاتمة:

لا يخفى على الكاتبين أن حيوية كبيرة انتقلت من المهاجر إلى الشباب الكرد المحروم والمقهور تمثلت في مشاركة عدد كبير من المثقفين الكرد وكتابهم باللغتين العربية والكردية في أنشطة فنية وأدبية بالغة الغنى وفي أعمال لتفعيل المجتمع الأهلي ومنظمات حقوق الانسان، جعلت منهم فاعلين مهمين في كل نشاط متسم بطابع عصري. فهم لم يعودوا أولئك المواطنين من الدرجة الرابعة أو الخامسة. لهذا كانت عامودا أول المدن التي هتفت «بالدم بالروح نفديك يا درعا»، ولم يتقدم لطلب استعادة الجنسية من أصل قائمة بـ 30 ألف اسم إلا 3000 لأن معظم الكرد المعنيين رأوا فيها رشوة من سلطة القاتل بشار الأسد على حساب الدم السوري.


بشار العيسى
«حاملات القشّ»

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.