العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

مذكرات صحافي يمني في الثورة

النسخة الورقية

الكتابة ضد الخوف

...انتقلت من الكتابة في الشأن الثقافي إلى الكتابة السياسية. كتبت عن الفساد السياسي الذي سمح للتيارات الأصولية بالظهور وقتل الناس. (لقد كشفت معلومات صحافية لاحقا أن نظام علي عبد الله صالح كان يقف وراء ذلك القاتل بمعنى أن صالح لا يزال يلاحق حياتي ولا يريد أن يتركني لحال سبيلي).

وفي هذه الفترة نفسها، ظهرت مجموعة من الصحافيين الشباب ممن سيقومون برفع سقف الكتابة والحرية في البلد. صحافيون شباب كان من بينهم الصحافية توكل كرمان (التي ستنال جائزة نوبل للسلام للعام 2011).

ساعدني هذا المناخ الجديد كي أزيد جرعة شجاعتي في الكتابة على الرغم من بقاء الخوف في داخلي. ذلك الخوف الذي يرافقني منذ طفولتي ولم استطع التخلص منه بعد.

وكتبنا في كل شيء، لم نترك شيئا من تصرفات صالح الفاسدة إلا كتبنا عنه. كتبنا عن فساد عائلته ونهبهم للمال العام، شبكات الفساد التي تم نسجها في اليمن وصارت تملك كل شيء تقريبا. كتبنا عن نجله أحمد علي وعصابة الفساد التي يترأسها وصارت تتحكم في كل مفاصل الحياة، وبسبب هذه الكتابات الصحافية ارتفع وعي الناس قليلا وشعروا بأن صالح وعائلته ليسوا شخصيات مقدسة لا يمكن الاقتراب منها أو الحديث عنها. ولهذا كان من المتوقع أن يتعرض عدد منا للاعتداءات الجسدية والخطف والتعذيب والمحاكمات والسجن. وكان من نصيبي محاولة قتل متعمدة عن طريق شاحنة نجحت في دهسي، لكنها لم تنجح في قتلي وخرجت بأعجوبة من الحادثة ببعض الرضوض الخفيفة، وهو ما اضطرني إلى التوقف عن الكتابة مؤقتا. الغريب في الأمر أنّي كنت أفكر بأمي في اللحظة نفسها التي دهستني فيها تلك الشاحنة. كانت أمي غائبة عن اليمن منذ شهرين تقريبا في زيارة لأهلها في الحبشة. اكتشفت أن مجرد التفكير فيها يحميني. أمي لاتزال تحميني... ولو من بعيد.

تزايدت حدة الكتابات وتواصل ارتفاع وعي الناس بشكل تدريجي أيضا. لكن اللعبة تغيرت تماما عندما بدأ صالح في التمهيد لنجله الأكبر أحمد كي يصبح رئيسا للجمهورية من بعده. من بعد عودته من إكمال دراسته العسكرية خارج اليمن، أدخله مجلس النواب ومن بعد ذلك قام بتعيينه قائدا للحرس الجمهوري، أحد أكبر وأهم الأجهزة العسكرية في اليمن. اصبح لديه إمكانات كبيرة، استطاع من خلالها شراء الذمم والولاءات. انتشرت صوره في الشوارع إلى جانب صور أبيه، كأن الهدف من هذه الصور إيصال رسالة إلى المواطنين أن هذا هو رئيسكم القادم.

وفي وقت قصير صار اسم احمد علي عبد الله صالح كافيا ليفتح الأبواب المغلقة، والاقتراب منه يعني الوصول سريعا إلى أي منصب. صار كبار رجال الدولة يخافون منه ويعملون حسابه لأنهم يعلمون أنه قادر على تغيير مسار حياتهم.

وعلى هذا الشكل التدريجي ظهر أكثر فأكثر أن اليمن سائر فعلا على طريق التوريث، وتحويله من جمهورية إلى ملكية ولكن في شكل جمهوري فارغ من معناه. وصار اسم احمد مصحوبا بلقب «ولي العهد».

وهذا السيناريو هو نفسه الذي كان ساريا في سورية مع بشار الأسد وليبيا مع سيف الإسلام القذافي ومصر مع جمال مبارك. فلماذا لا يكون نجل الرئيس اليمني مثلهم؟ حينها كان حقدي الشخصي يتصاعد عندما أفكر أن طريق مستقبلي سوف يكون مرتبطا بهذا الشخص الذي لا يكبرني كثيرا في العمر ولا يمتلك ميزة واحدة عني غير أنه ابن رئيس الجمهورية.

كنت أرى كيف يحاول زملائي في الجامعة التقرب من نجل الرئيس عن طريق الحديث عنه للآخرين بشكل إيجابي وان مستقبل اليمن بين يديه. كأنهم يعلمون أن الكلام الذي يقولونه سوف يصل إلى الأجهزة الأمنية وسيكون ذلك في رصيدهم.

المعركة ضد التوريث

لم أكن أمتلك غير السخرية من أساتذة جامعيين يبتذلون أنفسهم بهذه الطريقة المشينة لمجرد الترقي في مناصبهم أو في الحزب الحاكم. كنت أعتقد أن امتلاكهم لدرجة «دكتور» تكفي أن يعيشوا حياتهم بشكل كريم ومحترم بالنظر إلى الراتب الشهري الكبير الذي يتقاضونه مقارنة بغيرهم في الوظائف الأخرى.

وتدريجياً تحولت سخريتي تلك من مجرد الكلام أمام الزملاء في الجامعة إلى الكتابة. كتبت عن «أحمد علي» وهو الاسم المختصر الذي يعني نجل الرئيس. كتبت مقالات عدة لكن أبرزها كان واحداً تحت عنوان «أحمد علي». مُنعت طباعة العدد الأسبوعي من الجريدة لمدة أسبوع، ثم سُمح لها بالطباعة في الأسبوع التالي. كان مقالا ناقدا بشدة لكن بلغة غير جارحة ولا تحمل أي سباب. لكن صديقاً قديماً لي يعمل في أحد الأجهزة الأمنية أخبرني أن مقالي ذاك قد أدى الى ردود أفعال كبيرة لدى مكتب رئيس الجمهورية وأنهم منزعجون مني بشدة. لكني لم أهتم، كنت أعتبر ما كتبته حقا لي ولم يكن فيه أي أمر يعاقب عليه القانون. كما كنت اعتبر هذه الكتابة القوية هي حمايتي. هي الستارة التي تحجب جبني وخوفي. كلّما كتبت بقوة اعتقدوا أني شجاع ولم يلاحظوا الخوف الذي يسكن تحت جلدي.

لكن ذلك الصديق القديم أخبرني أنهم وضعوني في اللائحة السوداء وان عقابي سيكون حتميا. لم أكن اعلم وقتها أن هذا العقاب سينزل بي فعلا ولكن بعد وقت لاحق. حينها سأدرك أنهم لا ينسون أبدا.

كان لا بد من نهاية أو ردة فعل تجاه كل هذا الفساد والظلم الذي فعله ويفعله صالح وعائلته باليمن واليمنيين الذين اعتقد أنهم صاروا ملكية شخصية له ويرغب في توريثهم لابنه أحمد.

لم يكن من المعقول أو المنطقي أن تستمر حياة اليمنيين في تدهورها وهم ينظرون إليها بصمت وجمود. وعليه فقد بدأت الشكوى تتصاعد أكثر فأكثر والتذمر صار على كل لسان والخوف من المستقبل المظلم الذي صار ينتظر الجميع. فهذا الرئيس لم يعد يأبه بشيء أو يكترث لأحد. لقد أصبح يعتقد أنه قد صار إلهاً ولا أحد يستطيع الوقوف أمام الإله.

لكن ظهر أن الكأس قد صارت ممتلئة تماما ولم يعد يتبقى غير سقوط القطرة الأخيرة كي تفيض بالغضب الذي تحتويه.

جاءت فاتحة الربيع العربي، سقط الرئيس التونسي وهرب، فخرج عدد من طلبة جامعة صنعاء في تظاهرة احتفالية صباح اليوم التالي. كان خروجا بعدد قليل لكنه كان مدهشا إذ لم تكن تلك الشعارات واللافتات التي قاموا برفعها تنادي بمطالب اعتيادية كالمساواة والحرية والعادلة الاجتماعية. لقد هتف الطلبة: «الشعب يريد إسقاط النظام». هكذا دفعة واحدة بدون تمهيد أو مقدمات، على عكس ما فعل شباب الثورة في تونس ومصر الذين تدرجوا في مطالبهم ولم يصلوا لمطلب اسقاط النظام إلا بعد أن إطلاق الرصاص عليهم وسقوط قتلى من بينهم. كان شباب الجامعة مختلفين عنهم في هذه النقطة. لقد خرجوا مباشرة وهتفوا: «الشعب يريد إسقاط الرئيس والنظام». ربما لأنهم أدركوا أن لا فائدة من مطالبة صالح بإصلاحات سياسية واقتصادية وقد صار مدمنا على الفساد ولم يعد قادرا على التخلص والشفاء منه.

ويوم خرج الشباب إلى ساحة الجامعة كنت سعيدا ومبتهجا في أعماقي. فرح لم أتذوقه منذ سنوات طويل. كما كنت في الوقت ذاته خائفا على قلبي أن يتماهى كثيرا مع هذا الفرح. أن يتورط في فرح جديد لن يُكتب له أن يدوم طويلا وسرعان ما سوف يخمد ويذوي كغيره من أفراح سابقة عشتها. لم تعد روحي قادرة على احتمال انكسارات وهزائم أخرى لأني وقتها كنت لا أزال غارقا في صدمتي بسبب خبر وصلني واستطاع طلاء شاشة عينيّ بلون اسود ولم أعد قادرا على الرؤية. فقد نفذوا عقابهم وأصدروا قرار فصلي من الجامعة نهائيا بدون إبداء الأسباب في مخالفة صريحة للقانون الذي يقف إلى جانبي. لكن البلاد صارت بلا قانون وكان قانون صالح هو قانونها الوحيد. كنت أعمى فعلا وقتها ومنكسرا ومهزوما بشدة، إذ لم يقف احد إلى جانبي أو يدافع عني. كنت وحيدا ومخذولا تماما. أصبحت عاطلا من العمل مرة أخرى.

لذلك عندما جاء «ربيع الشباب اليمني» لم أمنع نفسي من الاندفاع نحوه والسير في اتجاهه على الرغم من خوفي الأبدي ذاك وعلى الرغم من خشيتي أن يملّ الشباب سريعا ويرجعوا إلى بيوتهم. لكن على العكس من هذا تزايد العدد وتضاعف حجم الاحتجاجات بسرعة كبيرة ليضم مدنا يمنية أخرى غير صنعاء. تكوّنت «ساحة التغيير» حيث اعتصم فيها آلاف الشباب إضافة إلى انضمام أعداد كبيرة أخرى من شباب القبائل الذي جاؤوا إلى صنعاء من اجل المشاركة في الثورة. بدأ الأمل ينمو في داخلي من جديد.

لكن كان هناك ما يوجعني أيضا. لقد كان أقسى ما يواجه «ثورة الشباب اليمنية» في بدايتها تلك اللغة الساخرة التي كانت تُلقى عليها. سخرية تأتي من كتّاب ومثقفين عرب يتندرون في مسألة قيام ثورة في اليمن وان شباب اليمن ليسوا قادرين على فعل ثورة مثل شباب تونس ومصر. كانوا يكتبون: «هؤلاء قبائل مسلحة لا يفهمون غير لغة السلاح والرصاص والنار! كيف لهم أن يفهموا لغة الاحتجاجات السلمية وأن تكون ثورتهم سلمية! هؤلاء قوم متخلفون ولا يجيدون استخدام الانترنت والفايسبوك!». كانت كلماتهم قاسية للغاية. لكن سرعان ما تبدلت وهم يرون إلى هؤلاء الشباب في مختلف ساحات الحرية في المدن اليمنية وهم يصنعون المستحيل ويبهرون العالم. لقد تغيرت الصورة تماما.

«لقد فعلها شباب اليمن وصنعوا مثالا مدنيا مدهشا، كان من الصعب مجرد تخيل أمر تحققه»، هكذا قال معلق قناة «الجزيرة» القطرية وقال «لم يكن أكثرنا تفاؤلا يعتقد أن شبابا عرفوا السلاح ويمتلكونه لم يطلقوا رصاصة واحدة للدفاع عن أنفسهم أمام الهجوم الذي تشنه عليهم قوات نظام الرئيس صالح». لقد سقط قتلى كثر منا، لكننا لم نطلق رصاصة واحدة على الرغم من أن صالح لم يترك وسيلة همجية إلا واستخدمها لإنهاء الاعتصام وإفشال الثورة. قُتل العديد من أصدقائي. أصدقاء رافقوني من أيام المدرسة والجامعة. في مرة واحدة قتلت قوات صالح 53 شاباً عن طريق قناصة تم وضعهم على أماكن عالية تطل على «ساحة التغيير» التي يعتصم فيها الشباب، ولقد شاهد العالم تفاصيل هذه المجزرة على شاشة قناة «الجزيرة».

وكنت أنا أشاهد من بعيد رفاقي يسقطون واحدا تلو آخر. لم أكن أمتلك الشجاعة كي أشارك في الدفاع عنهم. كنت أكتب فقط. كنت أقول لنفسي إن مهمتي هي الكتابة. هكذا كنت أخادع نفسي الجبانة الخائفة على الدوام. لم أكن بطلا مثلهم، ولن أكون.

السعودية ضد الثورة

وتصاعدت الثورة. نحو تسعة أشهر من النضال والأعمال البطولية المدهشة وصالح يواصل ممارسة القتل والحرق وأنا أكتب فقط ولا افعل شيئا غير الكتابة. ومع تواصله في القتل لم يكن ممكنا أن يستمر العالم على وقوفه متفرجا على ما يحدث. تدخل مجلس الأمن وأصدر قرارات تحذيرية لصالح لكنها لم تكن كافية لإيقاف مسلسل القتل. كان من الواضح أن هناك دولا غربية وعربية تخشى أن يرحل هذا الرجل ويغرق اليمن في الفوضى وسيطرة جماعة القاعدة التي كان صالح نفسه يستخدمها لتخويف العالم. كان يقول لهم «أنا أو القاعدة. إذا رحلت انا فمن سيوقف زحف القاعدة!» على الرغم من أنهم يعلمون أنه من يقوم برعاية أفراد هذه الجماعة الإرهابية ويقوم بحمايتهم، واستخدامهم كفزاعة للغرب عند اللزوم.

وكان هناك السعودية، البلد المجاور لليمن. لم يكن أمراء هذا البلد مرتاحين لوجود ثورة تهدد مصالحهم في اليمن لأن الجيل القادم لن يسمح باستمرار سيطرة هؤلاء الأمراء على سياسة اليمن وتحكّمهم في مصيره بتواطؤ من صالح. لقد حاربت السعودية كل الثورات العربية و في اليمن، وهي تخشى أن تمتد هذه الثورة إلى أراضيها.

لكن ومع تصاعد أعمال القتل كان لا بد من إصدار قرار قوي يُظهر تلك الدول على أنها غير منحازة لصالح الذي لم يتوقف عن القتل في كل مكان ومازال مصرا على إشعال حرب أهلية في البلد. فكان تقديم تلك الدول لمبادرة تبدو في ظاهرها كحل للوضع في اليمن لكنها في الحقيقة حبل نجاة لصالح. مبادرة اقترحتها السعودية تبعده عن الحكم لكنها لا تغيّر النظام ولا تبعد نجله وأقاربه عن الحكم وعن الجيش الذي يسيطر على البلاد. كما كانت مبادرة تعطيه الحصانة وتحميه من الملاحقة القضائية الدولية عن أفعال القتل التي قام بها في حق الشباب. وبالفعل تنحى صالح عن الحكم لكن النظام بقي وبقي نجله «الوريث» وأقاربه، وهو ما رفضه شباب الثورة الذين أصروا على ضرورة رحيل النظام بأكمله ومحاكمة صالح في المحكمة الجنائية الدولية بسبب ارتكابه لجرائم ضد الإنسانية. فلا يمكن أن يقوم بقتل كل هؤلاء الشباب وينجو من العقاب. هذا ليس عدلا.

وعليه لا يزال الشباب مستمرين في ثورتهم لحين تحقيق كل مطالبهم والنجاح فيها والتفرغ بعد ذلك لبناء دولتهم المدنية. دولة العدالة الاجتماعية والمساواة بين كل المواطنين وطيّ صفحة صالح إلى الأبد.

أمّا أنا فما زلت على قيد الحياة، أكتب عن الثورة وعن هذا الشباب الرائع الذي أدهش العالم بثورته السلمية المدنية. أشعر ولو بقليل من الفخر أني كنت مشاركا من بعيد في صنع هذه الثورة الإنسانية النبيلة.

ما زلت عاطلا من العمل وأحاول ترتيب أيام حياتي من جديد. أقيم مع أمي في بيتها وقد عرفت أخيرا أنهم قد قاموا بفصلي من الجامعة، وهي سعيدة على كل حال فما زلت أنا على قيد الحياة.

أنهض كل صباح لأكتب مجددا. وحدها الكتابة والكلمات وسيلتي للنجاة من الغرق في بحر الخوف الذي لايزال يلاحقني حتى اليوم. هذا الخوف الرهيب من العالم والناس. الخوف، هذا المرض المتوحش الذي يسيطر عليّ ولا يريد أن يتركني. هذا الخوف الذي يبدو أني لن أنجو منه أبدا.

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.