باتت دارجة نسبة جماعات مسلحة وسياسية إلى «الفكر التكفيري» وسوق استنتاجات وخلاصات تقوم على الهوية الفكرية الحاملة للإقصاء الكامل للآخر، وصولاً إلى إلغائه الجسدي. ودخل المصطلح حيّز التداول اليومي بين مُتّهِم وبين مُتَّهَم يسعى كل منهما إلى تثبيت وصمة التكفير السوداء على خصمه.
يفترض من يلجأ إلى الاستخدام الكثيف للمصطلح أنه يوجه ضربة قاضية إلى الطرف الآخر الموسوم بضيقه بالاعتراف بالاختلاف والتنوع ضمن البيئة الاجتماعية الواحدة. وأنه، هو الرافض للتكفير، رَحِب الصدر بكل تعدّد في الهويات الدينية والثقافية.
لا مفرّ من تأكيد ما يكاد يلامس البداهة: كل فكر ديني، بغضّ النظر عن اسم المذهب الذي يتبعه، يرتكز على تكفير الآخر. مقولة «الفرقة الناجية» و«الجماعة المنصورة»، أكثر اتساعاً وعمقاً من أن ترتبط بمذهب واحد، فضلاً عن دين من الأديان. والتكفير، في نهاية الحساب، يشكل الوجه الآخر للانتماء إلى أي جماعة دينية أو سياسية أو «فوق - عرقية». ذلك أن الإيمان نادر في عرف الجماعات القائمة على اللُّحمة الإيديولوجية، والدين أحد اشكالها، فيما الكفر وافر. يفضي البحث عن الطُّهرانية والنقاء الديني والإيديولوجي إلى احتكار الإيمان والتقوى والصواب السياسي وإلى جماعات مغلقة غالباً ما تتبنى إيديولوجيات ألفيّة (Millenarianism) تنتشر على امتداد الطيفين الديني والسياسي. جماعات من أقصى اليمين الى أقصى اليسار لا تختلف كثيراً في منظوماتها القيمية وفي تأليهها لقادتها عن الطوائف الدينية. منظمة «مجاهدي خلق» الإيرانية التي بدأت كيسار إسلامي متأثر بأفكار علي شريعتي لتنتهي طائفة «تقدس» مسعود ومريم رجوي، قد تكون من الأمثلة الحديثة على المنحى المذكور.
تأصيل العداء
وفي واقعنا، كثيراً ما تجري استعادة الحروب الطائفية وإسقاطها من التاريخ على الحاضر وتحميلها دلالات ليست لها. فإلى جانب المثال الشهير في الحروب الصليبية الذي تراجعت استخداماته بسبب تبدّل سمات الصراعات الراهنة، تحضر حروب الردة وأحداث الفتنة الكبرى ومعركة كربلاء نماذج على حوادث الحاضر، بل كتفسيرات تلقى القبول لأحداث جارية يقال إن جذورها تضرب في صراع يزيد بن معاوية والحسين بن علي. وهناك من يستسهل التذكير بالحروب والمجازر المتبادلة بين السنّة والشيعة في العصر العباسي (خصوصاً في حقبة الدولة البويهية) وتنكيل الخلفاء بالشيعة، بل وتسليم بغداد إلى المغول من قبل الوزير ابن العلقمي، كعلامات على عداء جذري لا علاج له بين الطائفتين السنية والشيعية.
ولا يصعب العثور على «تأصيل» للعداء هذا في أدبيات قديمة وجديدة لأئمة وعلماء وفقهاء يتوزعون على جانبي الانقسام. ابن تيمية وابن القيم الجوزية والبربهاري من جهة والكليني والمجلسي والجزائري من الجهة المقابلة. نَواصب يقاتلون روافض منذ فجر التاريخ، وسيظلون على الحال هذه إلى يوم الدين. هذا ما يُطلب من مواطني القرن الحادي والعشرين أن يصدقوا.
غنيٌّ عن البيان أن المقاربة هذه تتجاهل الطبيعة العاصفة بالصراعات التي كانت عليها حقبات مديدة من التاريخ العربي – الإسلامي والتي لم تقتصر بحال على الاحتراب السني – الشيعي؛ إذ يحضر بقوة، في تاريخ تهمله الإيديولوجيا القومية العربية، سلسلة لا تنتهي من الحروب الأهلية القبلية عمّت كل الحقبتين الأموية والعباسية، بين تحالفات قبلية عربية صميمة وشديدة «الأصالة». يصعب العثور على الانقسام السني – الشيعي في حروب القيسيين واليمنيين وفي مئات المناوشات والاشتباكات والحروب الصغيرة والكبيرة التي عمّت المنطقة العربية وكانت سابقة على الفتح العربي في القرن السابع الميلادي. يضاف إلى ذلك أن النصوص المستخدمة في تكفير الآخر والتي تعود إلى مئات الأعوام، تطفو إلى سطح الخطاب الطائفي ثم تختفي وفقاً للتوتر ولضرورات التوظيف السياسي وليس بوصفها حقائق «جوهرانية» من الإيمان.
بناءً عليه، يتشارك كثرٌ في تبنّي التكفير أداةً في التعامل مع التعدد. وعقلية القلعة المحاصرة «الماسادا» وابتكار المزيد من التقاليد المحفّزة لحميّة الجماعة والقائلة بعصمتها واستثنائية زعامتها واعتبار قتال الشركاء في الوطن، بغض النظر عن اسم طائفتهم، أولوية تعلو مواجهة الأخطار الخارجية، ضروب من التكفير لا تُخفى على عين يقظة. خصوصية التكفير السني تنبع من مكان آخر. من حقيقة انتشاره بين الأكثرية الطائفية والدينية في المشرق التي طالما نظرت إلى نفسها باعتبارها حاضنة الاعتدال والوسطية والأهم بصفتها جسم الأمة الذي يحتمل، بل يرعى باقي المكونات، بغض النظر عن صحة هذا التصور وتماسكه أمام المساءلة التاريخية.
إفلاس مشروع الدولة الوطنية
مهما يكن من أمر، ارتفع خطاب العداء السني - الشيعي في العقد الأول من القرن الحالي لأسباب لا علاقة لها بالشقاق الفقهي والمذهبي. وكان من السهولة بمكان العثور على الغطاء الإيديولوجي الديني لصراعات سياسية حديثة سال الكثير من الحبر في تشخصيها ووصفها، مثل النهوض الإيراني ومشروعه الإمبراطوري ومشكلة الأقليات في المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم إرث السلطنة العثمانية وإخفاق مشاريع العروبة البعثية والناصرية والأنظمة التقدمية والرجعية سواء بسواء والتخبط في كل التصوّرات التي قامت لمواجهة إسرائيل واستعادة الحقوق الفلسطينية وغير ذلك من الأسباب. بكلمات ثانية، إفلاس مشروع الدولة الوطنية العربية.
إن النصوص المســتخدمة في تكفير الآخر، التي تعود إلـى مئات الأعوام، تطفو إلى سـطح الخطاب الطائفي ثم تختفـي وفقاً للتوتر ولضرورات التوظيف السياسي، وليس بوصفهــا حقائق «جوهرانية» من الإيمــان
على مسرح يعمّه كل هذا الخراب، يظهر الإسلام التكفيري ممثلاً نشيطاً مؤدياً دوره بقدر كبير من الإقناع. والمجتمعات العربية التي تجتاحها عولمة لا تني تدفعها إلى هوامش الفعل والحضور العالمي وما يرافقهما من تقدم اجتماعي واقتصادي وعلمي، من جهة، والفشل المدوي في الداخل من الجهة المقابلة، لا تجد أمامها إلا العودة إلى الانتماءات الأولية القائمة على الهوية الدينية والقبلية. وليس غريباً أن تكون المناطق المهيّأة أكثر من غيرها لاستقبال الإسلام التكفيري هي ذاتها التي تشعر بالتهميش السياسي والاجتماعي. البوادي العراقية والسورية وعلاقة عشائرها (المتقلبة، لا بد من هذه الملاحظة) مع تنظيم «دولة الإسلام في العراق والشام» («داعش») مثال ساطع على هذا اللقاء.
لا يهمّ كثيراً هنا ما يحمله الإسلام التكفيري من «عِدّة معرفية»، إذا جاز استخدام هذا التعبير، أو إيديولوجية. فهي تقوم على سلّم من شُعبتين: التركيز على الهوية الجمعية المهددة من الخارج (الشيعي – المسيحي - المؤيد للحكم القائم...) والاعتقاد أن حروب الهويات مستمرة إلى ما لا نهاية له، ما يفسح في المجال أمام استغلال مناخات الذعر والتشبّث بمصادر الأمان الاجتماعي النسبي (الطائفة، العائلة، المنطقة). الشُّعبة الثانية هي الاعتقاد بقدرة القوة العارية على حكم المجتمعات المسلِمة. تستعيد التنظيمات التكفيرية هنا نهج الأنظمة العربية مع دفعه إلى حده الأقصى. ويمكن العثور على الكثير من المتوازيات بين التكفير الإسلامي بمعناه الرائج اليوم وبين ممارسات سلطات الاستبداد العربية من منع كل تعبير سياسي أو ثقافي أو اجتماعي لا يتوافق مع المنظومة الرسمية للقيم «الصائبة».
تجوز هنا استعادة بعض رسائل قادة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» كأبي عمر وأبي بكر البغدادي التي يبرز فيها ما يصطلح على تسميته «فقه الغلبة» القائم على حق جماعة المؤمنين في فرض سلطانهم بالقوة. وبديهي أن هذا النوع من التفسير للنص الديني لا يعكس غير جانب ضيق من معنى الدين ويحيل إلى الهاجس الحقيقي لأنصار هذا النوع من التدين، وهو الوصول بكافة السبل والوسائل إلى السلطة.
ستعيد التنظيمات التكفيريــة هنا نهج الأنظمة العربيــة مع دفعه إلى حده الأقصــى. ويمكن العثور على الكثير من المتوازيـات بين التكفير الإسلامي بمعناه الرائج اليـوم وبين ممارسات ســلطات الاســـتبداد العربية... قسوة التهميش والحرمان وانسداد آفاق الترقي والتعبير والتغيير، ترفد كلها صفوف إســلاميين أصدروا حكمهم بإعدام كل من يرون فيه سبباً لمعاناتهم الفردية والجمـــاعية
وفي بعض المراسلات والنقاشات التي جرت بين الإسلاميين في سورية خصوصاً في العام الماضي، اشتكى إسلاميون كثر من استحالة النقاش مع عناصر «داعش» المسارعين إلى تكفير خصومهم وإلى رميهم بتهم الزندقة والخيانة والانتماء إلى «الصحوات» وما شاكل. إن تفحّص النقاشات هذه والمستوى الفقهي الراقي الذي حاول بعض الإسلاميين السوريين إقناع «داعش» بخطأ ممارساتها الاستفزازية للسكان وإباحتها للاعتداء عليهم وعلى أملاكهم، لا يُظهر فقط ضحالة العدة النظرية عند التكفيريين فقط، بل أيضاً تلبّسهم حالة سلطوية لا تقيم وزناً كبيراً لأصول الفقه، وخصوصاً فقه المعاملات، وللخلفية الأخلاقية التي يُفترض أن تسود التعامل بين المسلمين.
أبواب التوظيف والاستغلال الواسعة
لا يعني ذلك بحال أن تنظيمات الإسلام السياسي الأقل تطرفاً لا تولي السلطة اهتماماً مركزياً في نشاطها. على العكس. فالسلطة هي ما يهمها في المقام الأول على ما بيّنت تجارب «الإخوان المسلمين» في مصر و«حركة النهضة» في تونس. لكن الفارق يتركز في الانتماء الاجتماعي الذي يأتي الناشط الإسلامي السياسي منه. قسوة التهميش والحرمان وانسداد آفاق الترقي والتعبير والتغيير، ترفد كلها صفوف إسلاميين أصدروا حكمهم بإعدام كل من يرون فيه سبباً لمعاناتهم الفردية والجماعية.
تفتح هذه المناخات أبواباً واسعة أمام أنواع شتى من التوظيف والاستغلال من قبل أجهزة وقوى تخترق التنظيمات التكفيرية وتتحكم بها بسهولة. ذلك أن أسلوب التزكية المَشْيخي (تزكية شَيْخين للعضو الجديد) المعتمد في الانتساب إلى الجماعات التكفيرية المسلحة يُسهم في جعل أبواب الجماعات مشرعة أمام كل من هب ودب. ويجزم ناشطون سوريون، على سبيل المثال، بأن تنظيم «داعش» تحركه أجهزة الاستخبارات السورية والإيرانية. أدلتهم على ذلك تمتد من عدم مشاركة «داعش» في أي معركة ضد النظام الذي لم يبادر إلى قصف مقارّ التنظيم، وصولاً إلى اختطاف وتصفية ناشطين مشهود لهم بالإخلاص للثورة السورية.
لكن الأهم من هذا، سؤال عن قدرة تلك الجماعات على التكيّف والعمل في مجتمعات يُعتبر التعدد الديني والعرقي والسياسي والاجتماعي من أسس قيامها. بالأحرى، كيف لجماعات تقوم على التكفير أن تمارس السياسة بما هي إدارة للاختلاف والتنوع وحوار دائم وصراع غير مسلح في غالب الأحيان مع القوى الحاضرة في المشهد العام. فانهيار حكومات الطاغوت والسلطان الباغي، العدو الأول المُعلن لجماعات التكفير، لا ينهي المجتمعات التي تنشط فيها الجماعات تلك ولا يغير صفاتها ومكوناتها.
التجارب الحديثة تقول بما لا يدع مجالاً للشك إن فقه الغلبة والشوكة، لا يترك مساحة لتعايش سلمي أو تنافس سياسي بحده الأدنى. فالسلطة في عُرف الجماعات تلك تعني التحكم بكل مفاصل الحياة في البيئة التي تسيطر عليها. وقد لا يبدو ذلك شديد الصعوبة على قادة الجماعات في مناطق ينشغل أهلها بالحفاظ على حياتهم وعائلاتهم ورزقهم، كالمناطق الصحراوية في العراق والشام حيث تبدو العشائر صاحبة الدور الاجتماعي الأول، لكن الأمر يتحول إلى صِدام رأسي ما إن تتمدد الجماعات تلك إلى نواحٍ مركبة ومتنوعة.
بناءً عليه، تبدو ثمة هوة شاسعة بين ادعاءات التكفيريين (السنّة) بالعمل على إقامة الحكم العادل وبين قدراتهم الفعلية على البرّ بوعودهم، وبين مواقفهم من أنظمة الاستبداد، وبين التعايش مع المجتمعات التي تتخلص من نير الطغيان. وبغض النظر عن التوظيف والاستغلال الأمنيين للتكفيريين، يجدر النظر إليها بصفتها مرحلة متقدمة من أزمات المجتمعات العربية والإسلامية ونتائج للرضّات والصدمات التي تعرضت لها تلك المجتمعات أكثر من اعتبارها أخطاراً هبطت من كوكب آخر.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.