العدد ٣٢ - ٢٠٢١

مجتمع الاستهلاك

عندما صدرت «بدايات» العام ٢٠١٢ أعلنت من خلال شعارها «بدايات لكل فصول التغيير» أن أبرز أهدافها هو متابعة الحركات الشعبية في لبنان والعالم العربي. كان الهمّ، ولا يزال، التزوّد بوسائل منهجية ونظرية لفهم أسباب ومسارات تلك الحركات قدر ما كان، ولا يزال الهمّ، هو التعلّم واستخلاص الدروس من الممارسة العملية. أصدرنا أعدادًا عن انتفاضات العام ٢٠١١ كما عن الموجة الثانية من الانتفاضات العام ٢٠١٩. وتابعنا عن قرب انتفاضةَ ١٧ تشرين/ أكتوبر في لبنان التي وضعت الاقتصاد في صلب هموم اللبنانيات واللبنانيين من خلال الأزمة المالية وأثارت أسئلة تأجّل الخوضُ فيها طويلاً حول طبيعة النظام الاقتصادي- الاجتماعي الرأسمالي الذي تأسس بعد الحرب الأهلية وحول تركيب الطبقة الحاكمة وأنماط هيمنتها الفكرية والثقافية.

مساهمةً منا في سدّ بعض هذه الثغرات، أصدرنا ملفًّا خاصًّا عن النيوليبرالية- النظام الاقتصادي المتعولم الذي نعيش في منوّعات من تطبيقاته منذ الثمانينيات من القرن الماضي. وهو نظام ليس يقتصر على الاقتصاد، وإنما يشمل تحولاً جذريًّا في النظرة إلى الحياة وفي الفكر والسياسة والثقافة... ولمّا كانت النيوليبرالية المهيمنة قد ابتكرت لغة عالمية قائمة بذاتها للحياة العامة ونحتت مصطلحات جديدة، وأعادت تعريف وتحوير مصطلحات قديمة، قررنا أن تشمل متابعاتنا للنيوليبرالية البحث في دلالات تلك المفردات وتحولاتها وأثرها على الوعي والسلوك. أنشأنا «القاموس النقدي لمصطلحات النيوليبرالية» وافتتحناه بنبذات عن الفقر والشباب والمجتمع المدني.

وقد شجّعنا الاستقبالُ الإيجابي لملفّ النيوليبرالية على المضيّ في سبر مواضيع تتعلق بالنيوليبرالية. نقدّم في هذا العدد ملفًّا عن مجتمع الاستهلاك، وهو مكوّن أساسي من مكونات النيوليبرالية. وما يقال عن النيوليبرالية يقال عن مجتمع الاستهلاك: إننا نعيش في تطبيقات هذا النوع من المجتمعات مع أن حضوره يكاد لا يلاحظ في الوعي والبحث والنقد. والاستهلاك- بمعنى الاستهلاك الشعبي الذي ندرسه في هذا العدد- منظومة من الأفعال الغريزية والعادات الأليفة أكثر منها أفعالاً واعية، وهذا سر قوّته على كل حال. تجده يمارس تأثيره عن طرق الكلام والصورة من خلال الإعلان والإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعية، أكثر من أي شيء آخر.

في لبنان شكّل نمو القطاع الاستهلاكي الشعبي الوجهَ الأبرز لاقتصاديات ما بعد الحرب الأهلية زمن تحوّلها من الليبرالية إلى النيوليبرالية (مع زائدة بيروقراطية توزيعية). الذي كان له دوره في استيعاب تدفقات أموال الاغتراب والعاملين في الخارج وتحويلها إلى الشبكة المالية-الاستيرادية.

ولم يقتصر الأمر على مجرّد نمو. بذل القطاع المالي جهودًا حثيثة لتنمية الحاجات الاستهلاكية من خلال تعميم بطاقة الائتمان والقروض الشخصية. كان الشعار «اشتر الآن وادفع لاحقًا»: سيارة خصوصية واحدة على الأقل (والموت للنقل العام!)؛ تملّك شقة بالدين المدعوم من خزينة الدولة (بعد «تحرير» الإيجارات وتأكيد مبدأ الملكية الفردية المقدسة في الدستور)؛ توافر القروض لإجازات شتوية أو صيفية في تركيا مثلاً أو للجراحة التجميلية (لتنمية «رأس المال الجمالي» ولنا إليه عودة)؛ حتى لا ننسى استخدام العمالة المنزلية الوافدة، وفق نظام العبودية الجديد المستورد من دول الخليج، والقيمة التفاضلية المعطاة فيه لكلفة العاملة.

يبقى أنّ أبرز عناصر مجتمع الاستهلاك هو الإنفاق التبذيري قصد التمايز الاجتماعي. يبدأ بالتفاخر بأرقام السيارات والهواتف النقّالة وتسوّق السلع المستوردة الموسومة بالعلامات التجارية الشهيرة ولا ينتهي بالأعراس الباذخة. وتشكّل هذه الامتيازات الاجتماعية الصغرى لدى قطاعات واسعة من ذوي الدخل المحدود والطبقات المتوسطة الوجه الآخر لتركّز الثروة بيد القلّة وللنمو الشاهق في الفوارق الطبقية والمناطقية. في الحالة اللبنانية، تضافرت عوامل نفسية ورمزية إضافية لإطلاق حالة الهوَس الاستهلاكي لفترة ما بعد الحرب: التعويض النفسي للخارجين من ١٥ سنة حرب؛ صرف الأنظار عن تسوية طوائفية مختلّة لم ترضِ أحدًا؛ وتوفير فرص التشاوف واستعراض البذخ لدى حديثي النعمة، نتاج انتفاعات الحرب وعائدات العمل في الخارج، تحدو أفرادها الغريزة إياها في البناء الحجري المميز في القرية والتمايز الاستهلاكي في اللباس والمأكل والمشرب والمركوب وسواها.

باكرًا التقط الاقتصادي المصري محمود عبد الفضيل ظاهرة التشاوف الاجتماعي في الاستهلاك وتمثُّل المواقع الطبقية المستعارة بواسطة الرمز والمظهر؛ أطلق عليها اسم «الصَرَع الطبقي» يحلّ محلّ «الصراع الطبقي»، وإن يكن أغفل أن «الصرع» لون من ألوان «الصراع» طالما أنه من ديناميات الانتقال، الفعلي أو الرمزي، من موقع طبقي إلى موقع طبقي آخر.

يتولى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار التقديم النظري لمجتمع الاستهلاك. وهو من روّاد الباحثين في هذا الحقل: يتناول الاستهلاك بما هو الحافز الرئيس للإنتاج، ويشتغل على الدلالة الاجتماعية للتسوّق، وعلى دراسة تقنيات إنتاج حاجات جديدة لدى المستهلكين. ننشر بعده مقالتين عن المدينة العربية: بيروت في تحولها من الليبرالية إلى النيوليبرالية خلال عهد «إعادة الإعمار» في نص للجامعي اللبناني رواد شاكر، ودمشق التي تستقبل الانفتاح النيوليبرالي للنظام البعثي بتحويل المدينة القديمة إلى ميدان استهلاكي في نص تأسيسي لعالمة الاجتماع الأميركية كريستا سالاماندرا. في دراستها الوافية، تحلل عالمة الاجتماع منى أباظة القاهرة في ظل النيوليبرالية ونشوء مجتمع الاستهلاك مع تركيز خاص على مراكز التسوّق الضخمة– المولات. ومنى التي غادرتنا في تموز/ يوليو المنصرم ونحن نعدّ هذا الملف، رائدة في الأبحاث عن مجتمع الاستهلاك. وسوف ننشر المزيد من أعمالها في أعداد لاحقة. يلي دراسة مولات القاهرة بحث ميداني عن المولات في لبنان للجامعيتين منى خنيصر وسارة محيو. ونختم بنص عن رسملة القيم في مجتمع الاستهلاك، هو فصل من كتاب يصدر قريبًا للأستاذ الجامعي والكاتب المغربي عبدالإله بلقزيز.

نواصل نشر مفردات من «القاموس النقدي لمصطلحات النيوليبرالية» بمادتين عن الثقافوية والعدالة الاجتماعية. وفي السياق ذاته، ننشر مادة للمفكرة الماركسية الأميركية نانسي فريزر تبحث في إشكالية الحق في المساواة والتوزيع الاجتماعي مقابل الحق في الاعتراف بالاختلاف. والأهمية المميزة لنص فريزر هي محاولتها تقديم تسوية بين هذين الحقّين بديلاً من الاستقطاب وتكريس التضادّ بينهما. هذا بالإضافة إلى مساهمات في أقسام المجلة عن الذاكرة وفلسطين والموسيقى والشعر وغيرها.

وسنتناول في العدد المقبل المزيد من مكوّنات مجتمع الاستهلاك: الدعاية والإعلان، السكن المسوّر، ثقافة السيارة الخاصة، الأزياء، بما فيها الاستيعاب الاستهلاكي للزيّ الإسلامي («الإسلام شيك»)، والجراحة التجميلية وغيرها.

ف.ط.

العدد ٣٢ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.