الفقر لا يعني ببساطة أن يكون لديك القليل من المال. لا يمكن اختزال الفقر في وصف ظروف المرء البائسة.
- سلافوي جيجك
«تستفيض الدمعة عند مشاهدة الرضيع يوناس يطلب الطعام، أيّ طعام، ليسدّ به جوعه بينما يجرّه زين، «الرجل الصغير»، في شوارع بيروت باحثًا عن عمل يغطّي نفقات عيشهما».
«نفرح في النهاية عند رؤية قوى الأمن الداخلي اللبناني تقبض على المهرّبين وتعيد الاعتبار لكرامات الشخصيات».
بهاتين العبارتين يمكن اختصار شريط المخرجة اللبنانية نادين لبكي «كفرناحوم».
يروي الفيلم قصة زين، الفتى مكتوم القيد الذي يرفض تزويج أخته القاصر لرجلٍ ثلاثينيّ فيهرب من بيت أهله. يلتقي بعدها بـ«رَاحيل»، العاملة الإثيوبية التي تُخفي طفلها يوناس غير الشرعي وهي تحاول، ومن دون فائدة، تجديد أوراق العمل. حين يُلقى القبض عليها، يهتمّ زين بطفلها قبل أن يضطرّ إلى بيعه لمهرّب بشر. يعود بعدها إلى أهله ليكتشف وفاة شقيقته جرّاء حملها فينتقم لها عبر طعن زوجها. يحاكَم الفتى، فيرفع دعوى ضد والديه يطالبهما بعدم الإنجاب. ينتهي الفيلم بحصول زين على أوراقٍ ثبوتية بفضل جهود محاميةٍ تطوّعت للدفاع عنه، وإعادة يوناس إلى أمّه وإلقاء القوى الأمنية القبض على مهرّبي البشر.
إنه اتحاد المنبوذين والفقراء ضد بعضهم البعض. في الظاهر، يظهر الفيلم كتعبيرٍ صادق عن إنسانية مخرجته وعاطفتها الجيّاشة، ولكن بعد تدقيقٍ بسيط تتّضح السردية الحقيقية: الفقراء ليسوا منّا.
تجارة المآسي
من الناحية الإخراجية، تُوجّه لبكي ممثليها بشكل فعّال، لا سيّما البطل زين الرافعي، وهو لاجئ سوريّ أمضى سنينَ صعبةً في لبنان قبل أن يستحضر معاناتِه في الفيلم. وبعيدًا من الجانب التقنيّ، يصطدم الفيلم بعيوب كبيرة أبرزها عجْز النص عن إيجاد إيقاع متّزن للقصة. يتجلّى هذا في القسم الثاني من الفيلم حيث تضيع السردية في حلقة مفرغة تعجز عن تقديم فكرة جديدة أو جرّ القصة إلى ما هو أبعدُ من «ها نحن نتعذب من دون معين». يتنقّل الفيلم، ومن دون توقّف، بين معاناة وأخرى، فتارةً نشاهد زين يجرّ الرضيع في شوارع بيروت، وأخرى نراه يستعرض مآسيه مع ميسون، اللاجئة السورية التي تنصحه بالهجرة.
تحاول لبكي التطرّق لعدد من المواضيع، منها عمالة الأطفال وزواج القاصرات والاتّجار بالمخدرات ووضع العاملات الأجنبيات وتحدّيات الأمومة وغيرها. تكمن المشكلة في أسلوب معالجتها، فتبدو المواضيع كلائحة يجب المرور عليها بأي طريقة كانت. باختصار، إنها بورنوغرافيا الفقر القائمة على إظهار البؤس والتراجيديا، ممزوجةً بموسيقى ميلودراميّة متواصلة للتشديد على جانبها التراجيدي. ليس الهدف البحث الجدّي في هذه العناوين، بل تقديم نظرة بانورامية للمآسي المحلية. يتشابه هذا مع أسلوب المنظمات غير الحكومية التي تشتهر بطرح عناوين رنّانة تجلب تمويلاً خارجيًّا هائلاً، من دون تقديم طرح يسهم في تفكيك هذه المسائل.
يمتدّ الترابط مع أسلوب تلك المنظمات إلى سردية الفيلم: بعد توقيف العاملة الأجنبية بسبب انتهاء صلاحية أوراق عملها، تُسجن في مبنى الأمن العام حيث تفاجئهم جمعية بوَصلة غنائية تُدخل البهجة إلى قلوب السجناء. تُصوّر المخرجة المشهد بشيءٍ من الافتتان وكأنّ المعاناة النفسية للسجينات قد تلاشت نتيجة «الطقوس غير الحكومية»، وذلك برغم التعقيدات الكبرى لوضع العمال الأجانب في لبنان ولنظام الكفالة.
«جغرافيا هوجاء»
لعلّ المشكلة الكبرى في هذا العمل غياب أي تصويرٍ فعلي للحالة المعيشية لمن هم تحت خط الفقر. نعم يمتلئ الفيلم بمشاهد عذاب الفقراء، لا سيّما الأطفال منهم، لكنها لا تتعدّى كونها تَصوّرًا برجوازيًا لواقع الشارع على غرار أعمال هوليوودية. في خضمّ البحث عن سردية تعزّز صورة الفقر كآفةٍ اجتماعية هي وليدة نفسها، تلجأ المخرجة إلى كتابة وتصوير شخصياتها بأسلوب ميكانيكي يعبّر عنهم كحاجات بيولوجية فقط، مُخفيةً الجانب النفسي. منذ اللحظات الأولى، وبينما تُظهر الكاميرا بلقطةٍ واسعة امتدادَ الأحياء الفقيرة الهائل (لقطة تتكرّر في أكثر من بقعة)، لا يفعل الأطفال، ومنهم زين طبعًا، سوى التضارب والشتم. حتى وإن كان زين في محيط أكثر هدوءًا كمنزل راحيل، فإنّ أغلب حديثه يتضمّن السباب والحشيشة.
يكتفي الفيلم بتصوير معاناة راحيل على أنها وليدة عدم انصياعها للقوانين: ولادة ابنها يوناس ناجمة عن علاقةٍ غير شرعية مع أحد البوّابين ما جعلها تخسر عملها. أما أهل زين، فلكلٍّ عِلّته: الأب سكّير عنيف، أما الأم فمهووسة بمظهرها، وكلاهما يعنّفان أطفالهما حدّ ربط طفلتهما بجنزير كي لا تخرج من المنزل! ممارسة يكررها زين لاحقًا مع يوناس في شوارع المدينة.
حتى الأماكن الشعبية، التي تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من مَعيش قسم كبير من اللبنانيين، تصبح عند لبكي بؤر شرّ يسكنها المهربون وتجّار البشر. لا يخرج الفيلم للحظة واحدة عن نطاق تلك المناطق ليستكشف الواقع المعاكس المحيط، على الرغم من أنّ معظم المناطق الثريّة بُنيَت على أنقاض بيوت الفقراء. تُشعرنا هذه الانتقائية في التصوير بأنّ العاصمة في الفيلم رهينة لدى همجية الفقراء!
يعود اعتماد هذه المقاربة لسببين رئيسيين: أولاً، عدم رغبة المخرجة في إظهار نقمة الشخصيات تجاه النظام السياسي، فتوجيه الغضب نحو أبناء المجتمع الواحد تبرئةٌ غير مباشرة للنظام ولومٌ مباشر للضحايا لتجرُّئهم على أن يكونوا ضحايا! وثانيًا، نشأة المخرجة نفسها في مجتمع برجوازي. ليست نشأتها جنحة، لكنها جزء لا يتجزأ من فَك معضلة الشخصيات أحادية الأبعاد التي تملأ «كفرناحوم». كلما استمرّ الفيلم، ظهر بقوّة هذا التقارب المصطنع من الفقر والتحدّيات الاقتصادية في إظهار محاولات زين شبه الكوميدية لإطعام يوناس حليبًا جافًّا أو بيعه المخدّرات بأسلوب فاضح.
يفشل الفيلم في فهم صلب المعاناة النفسية لذوي الدخل المحدود، ويستبدلها بعرض مطوّل لمآسٍ بعضُها واقعي لكن معظمها مصطنع. عبر التفاعل السطحي مع الشخصيات، يُظهر العمل مدى فَوقية نظرته فيبدو أشبه بسائح غربي يحمل كاميرته ويتجوّل في أحياءَ محلية «قذرة».
«لا تُنجبوا الأطفال»
نصل إلى أكثر فصول الفيلم سوريالية: المُحاكمة. بعد أن يقرر زين الهجرة، يعود إلى منزل أهله لأخذ أوراقٍ ثبوتية فيكتشف وفاة شقيقته. يغضب ويهاجم صهره بسكين حادةٍ انتقامًا، فيتمّ اقتياده إلى سجن الأحداث. بعد فترة وجيزة، يتصل بالإعلامي جو معلوف ضمن برنامج «هوا الحرية» على شاشة «المؤسسة اللبنانية للإرسال» ليطالب بمحاكمة أهله، فيؤمّن له معلوف محامية. تبدأ المحاكمة بإحضار المتّهمَين الرئيسيين: الأب والأم. والتهمة؟ إنجاب زين. الغريب أنّ موضوع زواج القاصرات الذي أجّج غضب الصبي ودفَعه إلى ارتكاب جريمته يغيب عن الفيلم لما يقارب الساعة ونصف الساعة ليعود في نهايته، الأمر الذي يعيدنا إلى فكرة استغلال مواضيع حسّاسة بغية تقديم فيلم «جريء» من دون أيّ معالجة للواقع.
تعتمد مشاهد المحكمة على أسلوبٍ هوليوودي في التقديم والعرض، حيث يؤمن زين، صاحبُ النظرة السوداوية، بعدالة المحكمة والدولة. انطلاقًا من هذا المبدأ يُدلي كلّ متهم وشاهد بدَلوه، فتنطق الشخصيات بالمفاهيم المتنازَع عليها، ويتحوّل الفيلم إلى عظة مبسّطة تشرح لنا بالحرف الواحد رسائل المخرجة، وبذلك تُسقِط أهمية السردية في العمل. يمتدّ الأسلوب الهوليوودي إلى استخدام الإعلام كمنقذ يظهر فجأةً ولثوانٍ ثم يختفي بعد تأدية دوره.
في نهاية المطاف، يتحوّل الفيلم إلى منصّة تتزاوج فيها المؤسسات المسؤولة عمّا آلت إليه أوضاع الطبقات الفقيرة، فيقدّم حلًّا لأزمة زين أركانُه حلقة فساد متكاملة: النظام والقضاء والإعلام. وتجدر الإشارة إلى أنّ لبكي هي التي تلعب دور المحامية «نادين العلم»، التي تدافع عن زين بوجه أهله، وهي بذلك تنصّب نفسها محاميةً وقاضيةً وجلّادةً.
ثم نصل إلى الخاتمة المروّعة. يُسأل زين في المحاكمة عمّا يريد، فيجيب: «بدّي ياهن ما بقا يجيبوا ولاد!» مختبئةً خلف زين، تعبّر لبكي عن مشاعر الغضب والضغينة التي تخالجها تجاه الفقراء والمحرومين لإنجابهم أطفالاً يشوّهون صورة «بيروتها» الراقية ذات المَعالم الأرستقراطية والتي لا يستفيد منها سوى نسبة ضئيلة من اللبنانيين. ولا تنبثق الفلسفة اللّاإنجابية المعبَّر عنها هنا من مقاربة معرّية، فالطلب غير معمّم على الجميع، بل هو دعوة خاصة للفقراء، علّ وعسى تنجح باستئصال هذا «الورم». لهذا السبب تسقط عن الفيلم صفة «اللّاسياسي»، لا سيّما أن هوية العمل الإعلامية ربطتْه بالطفولة ومعاناة الأطفال المحرومين. هو فيلم سياسي بامتياز، يتبنّى مزيجًا من الداروينية والـ«أين راندية» ليخرج باستنتاجٍ مفاده «البقاء للأغنى»! ويزيد استخدام الممثل البالغ من العمر ١٢ عامًا من خطورة هذه المقاربة، حيث تُستغلّ آلامه ومشقّاته المعيشية الحقيقية لتبرير استنادها إلى هذه الفكرة الأقرب إلى مفهوم التطهير الطبقي منها إلى السموّ الأخلاقي.
يصبح الموضوع أكثر تعقيدًا وحساسية عندما نأخذ بعين الاعتبار واقع معظم العائلات الأكثر فقرًا. يدرك هؤلاء حجم الصعوبات المترتبة عليهم عند الإنجاب، وبرغم ذلك يمضون قدمًا. ولهذا عاملان مهمّان، الأول غريزة البقاء والاستمرار لدى البشر. والثاني، حاجتهم إلى سنَد نفسي واقتصادي، فولادة الطفل تصبح بحدّ نفسها محفّزًا لتأمين لقمة العيش قبل أن يصبح الطفل معيلاً لأهله. لا يعني هذا أن الأهل يرون أطفالهم سلعًا وأدواتٍ تُشترى وتُباع، برغم ما يحاول الفيلم تصويره، بل يرونهم امتدادًا لأنفسهم، لحاجاتهم ومعاناتهم كما أفراحهم وبهجاتهم. بطبيعة الحال، في عالمٍ مثاليّ، ليس على القاصر أن يعمل، بل أنْ يدرس ويلعب ويستكشف محيطه، لكنّ الواقع مغاير ولا يلبّي حاجات الأطفال والأهل.
أما استخدام القاصرات كسلعة للتزويج، فهو أمر أكثر ارتباطًا بالثقافات منه بالفقر، حتى أنّ أغنياء بعض القبائل ما زالوا يمارسون هذه العادة الوحشية والرجعية، كما أنها كانت من ركائز تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية بين نبلاء أوروبا منذ وقت ليس ببعيد. لذا فإنّ في حصر هذه المسألة بالحالة الاقتصادية شبهةٌ لناحية نوايا الفيلم الترويجية.
بذلك يصبح جليًّا أن هدف الفيلم ليس دعوةً لإنقاذ الطفولة المعذبة، فلو كان هذا الهدف فعلاً لكان النص تقصّى، ولو قليلاً، عمّن وعمّا أوصل قسمًا كبيرًا من الشعب إلى هذا المستوى من العوَز.
ليست هذه المرة الأولى التي تستخدم لبكي في أفلامها حلّاً مبسّطًا للأزمات الاجتماعية والسياسية. هي تُزيل عنها جميع التعقيدات والعوامل المتغيّرة، كما التأثير الخارجي الكولونيالي والطبقي، لتستحضر حلولاً بسيطة لطيفة منقّحةً تقتضي «عدم الإنجاب»، كما في «كفرناحوم»، أو الامتناع عن الجنس، كما في «وهلّأ لوين؟». يُنذر هذا التعليبُ المخمليّ للتحدّيات المحلية بتضليل شامل لمسبّبات الأزمات الاجتماعية، ويُعبّد الطريق لوعي جماعي يؤمن بأنّ كلّ مشكلة هي وليدة نفسها، لا الظروف المحيطة.
من يشاهد «كفرناحوم» يظن أنّ أهل زين وأبناء حيّهم هم مَن أوصلنا إلى ما نحن عليه من غلاء فاحش وتضخّم وتوسّع متزايد للهوّة الطبقية.
علاقة الفقر بالسينما
ليست علاقة الفقر بالسينما عابرة، فهي تعود إلى بدايات القرن الماضي. لقد عولجتْ بأسلوب ملحمي في أفلام العبقري سيرغي أيزنشتاين الذي أظهر اتحاد القوّة العاملة في وجه الأرستقراطية كفعلٍ جبّار وذلك في أفلام «بوتمكين» (١٩٢٥) و«أكتوبر» (١٩٢٨) . أما أيقونة السينما الصامتة شارلي تشابلن فاشتُهرت بشخصية «ذا ترامب»، أو المتشرّد، الذي يخوض مغامراتٍ توضح للمشاهد مدى تأثير المفارقة الطبقية على ذوي الدخل المحدود. ويُستثنى هنا فيلم «الأزمنة الحديثة» (١٩٣٦) الذي ذهب أبعد من ذلك في نقد المنظومة الصناعية ككل واستغلالها لموظفيها.
أما المدرسة النيوريالية الإيطالية، والتي يبدو أن لبكي استوحت منها بشكل خاص، فاعتمدت على ممثلين غير محترفين ومن البروليتاريا، إضافةً إلى استخدام مواقع تصوير حقيقية للمحافظة على واقعية الفيلم. من أبرز روّاد هذه الحركة روبيرتو روسيليني وفيتوريو ديسيكا، والأخير صاحب الرائعة «سارق الدراجة» (١٩٤٨) التي تجسّد معاناة شخصياتها كما تلذّذهم بلحظاتٍ بسيطة وصادقة.
حتى في قالب معاصر ينجح مخرجون كثر بنقل صورة الفقر من دون تجريد شخصياتهم من إنسانيتهم، كما مثلاً في «أولاد السماء» (١٩٩٧) و«مدينة اللّه» (٢٠٠٢) و«مشروع فلوريدا» (٢٠١٧).
إن الفنان المسؤول لن يتجرّأ يومًا على تبسيط شخصياته حدّ الهزل، بل يحترمها مهما كانت خلفيّاتها، ويحاول دائمًا الغوص في تعقيداتها ليفهم لبّ مشاكلها. فما الذي منع لبكي من نقل صورة واقعية تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الفرد ومحيطه وإظهار حجم التفاوت الطبقي؟
لعلّها رغبتها بتلقّف الغرب لفيلمها، ولعلّها نظرةٌ فوقية، وربما بكلّ بساطة لم تعرف أيّ طرف خيط تلاحق فاكتفت بمشاهد الميلودراما.
إن الفقر المادّي هو ما يكون عادةً وليد التقسيم غير العادل للثروات، أّما الفقر الحقيقي فيتجسّد باستغلال معاناة الآخرين بغية إلباس المرء لنفسه ثوب المخلّص.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.