طفيليّاتُ «بارازايت»
عام ٢٠١٩ حقّق الفيلم الكوري «بارازايت» (Parasite) للمخرج بونغ جون-هو نجاحًا منقطع النظير. حصل على السعفة الذهبية في «مهرجان كان» وعلى أربع جوائزَ أوسكار، من بينها أفضل عمل سينمائي وأفضل عمل أجنبي. ليس النجاح المهنيّ العظيم للفيلم المبرّرَ الأول للكتابة المستفيضة عنه هنا وعن مجموعة أفلام تُعنى بالصراع الطبقي. ما يلفت الانتباه ويتطلّب نقاشًا هو التقديرُ الذي حظيَ به «بارازايت» على صعيد التحليل الاجتماعي، والاهتمامُ الكبير الذي لقيَه من قِبل المنظّرين والمفكرين الماركسيين أو المهتمين بالعمل وبالديناميكيات الاجتماعية.
توالت التصريحات والآراء حول «بارازايت»، فبدا كأنه العمل النموذجي للتعبير عن الصراع الطبقي. ومؤخرًا، بتنا نلحظ في السينما والإنتاج السمْعي والبصري نمطًا أو «موضة» (Trend) من الأعمال المتمحورة حول هذا الصراع أو الظروف الاجتماعية للطبقات الأدنى، أو الرغبة بالانتقام الطبقي. أعمالٌ مثل الفيلم الهندي «النمر الأبيض» و«خارق الثلج» و«نحن» و«عدائيون» و«روما»، أو أعمال مخصّصة للعرض على المنصّات مثل «إيثوس» التركي، كلها تشير إلى نزعة سينمائية للتعبير عن الفوارق الطبقية. ويمكن تصنيف هذه النزعة ضمن خانة «الترند»، على طريقة التسويق الإلكتروني، أو الانتشار الإلكتروني للقضايا والسرديات. إنّ ظهور هذا الاتجاه ظاهرة تستدعي التوقّف عندها والتفكير في أسبابها وما تعنيه. وعوضًا عن حصر التفكير في محتواها، علينا ربْط هذا المحتوى بظروف إنتاجه والسياق الاجتماعي الذي يخرج إليه.
كيف يمكننا مثلاً مناقشة فيلم مثل «بارازايت» في العالم العربي من دون التعريج على الظرف السياسي الذي نعيشه، وبالأخص في ضوء آثار «الربيع العربي» المشتعل منذ نهاية عام ٢٠١٠، والمتجدّد في انتفاضتَي لبنان والعراق، وثورتَي السودان والجزائر عام ٢٠١٩؟ هذه التحركات التي كانت بلبّها، هي بنْت، أو نتيجة التحوّلات في السياسات المسيطِرة في المنطقة، وبنْت الفراغ الذي خلّفته السياسات النيوليبرالية في إدارة البلاد. ويأتي «بارازايت»، كما موجة من الأفلام الشقيقة، للحديث عن الانقسام الطبقي، في وقتٍ شكّل فيه الخوفُ من الشعارات الطبقية، أو من تبنّي خطابٍ طبقي، السمةَ الأبرز للتحرّكات الشعبية، في عالمنا على الأقل.
هل يمكن تجاهل هذه الملاحظة/ المصادفة؟ لا أظن ذلك ممكنًا. وهل تشكّل هذه الأفلام، التي تعيد اكتشاف شكل جديد من الانقسام الطبقي، تناقضًا مع ابتعاد الحراك الجماهيري، بل نفوره، من الصراع الطبقي؟ أيضًا، لا أظنّ أنها تشكل تناقضًا بأي شكل من الأشكال.
بعد المشاهدة والتحليل، يمكنني الافتراض أنّ الانتباه للانقسام الطبقي، أي مشاهدته، اللذين يقوم بهما «بارازايت»، هما نوع من المراقبة والتسجيل الذي يوحي للمشاهد أنّ ميكانيزمات السيطرة والآليات الفاصلة بين الطبقات، والمؤطّرة للعلاقة بينها، أبعدُ ما تكون عن السماح للصراع الطبقي بالخروج إلى السطح والانتظام الاجتماعي. بل يمكننا القول إنّ الشعور الذي ينتابنا من الفيلم يبدو اقتباسًا من قول الناقد الماركسي فريدريك جايمسون «قال أحدهم إن من الأسهل أن نتخيّل نهاية العالم على أن نتخيّل نهايةً للرأسمالية، ويمكننا اليوم أن نعدل لنشهد محاولة تخيّل الرأسمالية عبر تخيّل نهاية العالم». تتجلّى هذه المفارقة في استعاراتٍ ودلالات عديدة ضمن فيلمنا الحاصل على «أوسكار».
«ثيمة الإيمان»
في إحدى المعادلات الممتعة للفيلم، يستخدم الأخير قبوًا للدلالة على الحياة المؤجّلة تحت الأرض لأحد أفراد الطبقة العاملة. يبدأ الفيلم برجل يسكن في قبو عائلة ثريّة هربًا من ديونه الكبيرة. يعيش «الهارب الفقير» مبجّلاً «ربَّ الأسرة الثريّ» فيضيءُ له السلالم في الأعلى من حيث يقبع في الأسفل عبر ضرب الأزرار برأسه الذي يُدمى في بعض الأحيان. تشتعل الأضواء أمام رب الأسرة الثري فيما يتنقّل بين الغرف، ظانًّا أنّ ذلك يحصل أوتوماتيكيّا. يرمز جهلُ الثريّ للجهد الدامي لرجل القبو إلى انعدام الحساسية بين الشخصين، وبالدلالة بين الطبقتين. لقد كان رجل القبو يطمح إلى الترقّي الاجتماعي، حتى اصطدم بجدار الواقع الذي أسكَنه في قبو من يشتهي أن يصير مثلهم. في المقابل، يحكي الفيلم قصة رب أسرة من عائلة فقيرة، يطمح أيضًا إلى الترقّي الاجتماعي فيعمل لدى الأسرة الثرية نفسها، ولكن ينتهي به المطاف إلى ارتكاب جريمة والانتقال هو الآخر إلى القبو نفسه. يتبدّل الرجل، لكنّ الرمز لا يتبدّل. القبو هو القبو، والمكانة هي المكانة، وتبجيل الغنى يبقى على حاله، وجهل الساكنين الجدد لوجود رجلٍ في القبو لا يتغيّر. وعلى الرغم من ثورته ومن الجريمة التي ارتكبها، ومن طموحه، يبقى البناء، الذي نحن بصدده، أي التصميم، الأقوى والأقدر على تحديد المواقع.
في فيلمه السابق «خارق الثلج» (Snowpiercer) يبني المخرج بونغ جون-هو عالمًا مماثلاً، أي مقاربة مماثلة لما نراه في «بارازايت». نحن على متن قطار خارق للثلج في كرة أرضية تعيش عصرًا جليديًّا جديدًا. لا أحياء خارج القطار، كل شيء متجمّد. صنع القطارَ رجلٌ يُدعى ويلفورد، نسبةً إلى تصميم مسبق، وهو ينقسم إلى ثلاث طبقات: الأولى في المقدّمة، وهي تعيش حياة رفاهية نسبةً إلى كوننا في عالمٍ موارده شديدة الندرة؛ والطبقة الثانية في المنتصف، والتي يمكن اعتبارها تعمل وتعيش؛ أما الثالثة فتقبع في ذيل القطار، وهي تتكوّن من الأقل حظًّا، من لاجئين إلى القطار، لا يملكون تذاكرَ أو قوة عمل، يعيشون على مخلّفات الآخرين، ويستغلّهم ويلفورد في تنظيم التطور السكاني للقطار.
في أحد المشاهد، يدّعي ويلفورد أنّ الثورات التي قام بها سكان الذيل على مرّ تاريخ القطار ما هي إلا تدبيرٌ من قِبله بالتنسيق مع أحد قادة الذيل بهدف تعزيز التوازن السكاني. وبعد ثورةٍ وحربٍ مكلفة، يصل كيرتيس، قائد الثوار، إلى قمرة القيادة ليواجه ويلفورد. ينتصر في الحرب، إلا أنه يقع أمام خيارين: إما الاستمرار في الطريقة التي يتّبعها ويلفورد في تصميمه للقطار، وإما تصديق عالِمٍ مجنونٍ يظن أنّ العيش في الخارج ممكن! هل يُنهي الحياة على متن التصميم، أي حياة كلّ من على متن القطار، ويخاطر بإنهاء البشرية؟ أو يتبع الطريق التي رسمها له ويلفورد، المصمّم الرأسمالي الذي اخترع القطار ووضعه موضع التنفيذ خدمةً للمساهمين؟ مهما كان الخيار فهو يقرّ بقوة التصميم ويخضع له، ولا يرى مكانًا للخروج عنه إلا بخلاصة شبه نبَوية، بخلاصةٍ إيمانية بأن العالم يمكن إنقاذه خارج القطار.
تتكرّر هذه الإشارة الايمانية شبه الدينية في فيلم «بارازايت». ومن شأن التركيز على هذه النقطة أن يفتح بابًا لفهم آليّات عمل الأفلام التي ندرسها بشكل أفضل، ووضْعها ضمن إطارها بين الصانع والمستهدف.
يحكي «بارازايت» قصةَ عائلة «كيم» المؤلفة من أبٍ وأمّ وشابٍّ وشابة يعملون في تجميع كراتين البيتزا وبيعها من أجل لقمة العيش. يعيشون في شقة ضيقة تحت الأرض لا يدخلها نور الشمس سوى عبْر فتحة صغيرة في أعلى السقف. تتغير حياتهم عندما يلتقي الشاب، بطل الفيلم، بصديقٍ له ينتمي إلى طبقة اجتماعية أعلى. يرغب الشاب بالتمثّل بصديقه فيهدي له الأخير حجرًا يؤمن كثيرون بأنه يجلب الحظّ السعيد. تتوالى بعدها الأحداث لتبدأ عائلة «كيم»، عبر الخداع، بخدمة أسرة ثريّة، آل «بارك»، التي تسكن فوق تلة خضراءَ في منزل عصريّ للغاية. تتحول خدمة آل كيم لآل بارك إلى فرصة لا يمكن تفويتُها، وإلى محاولةٍ شرسة للتمثّل بعليّة القوم، كما لو كانت العائلتان انعكاسًا في المرآة لبعضهما البعض، واحدة في الأعلى وأخرى في الأسفل.
يرسم الفيلم عالمين، عالمًا سفليًّا مسحوقًا بالقذارة والمصاعب والويلات، وآخرَ علويًّا أقرب إلى الكمال، حيث يُرغم أهل العالم السفلي على التمثّل بالعلوي. هذا هو التصميم الذي يقترحه الفيلم في تمثيل المجتمع النيوليبرالي الحديث: طبقة مسحوقة ترغب بنمط حياة الطبقة العليا، ووسيلتُها لذلك بشارة أو نبوءة يحملها حجر يجلب الحظ. عائلة كيم الفقيرة تؤمن بحظّها بسبب الحجر، فتلجأ بكل ما تستطيع إلى الحيل والخداع لدرجة التخلص من عائلة أخرى تعمل في منزل آل بارك. الإيمان الذي تتمسّك به عائلة كيم هو لبّ الموضوع، وهو ثيمة تتكرّر في كثير من الأفلام المعاصرة التي تتناول الانقسامات الطبقية، فيبدو أنّ لا إمكانية للخلاص إلا عبْر صيغةٍ إيمانية أو نبوءة ما، تحمل بعدًا ماورائيًّا.
«الفصل الطبقي» وقوة الديزاين
يحيلنا ما سبَقَ إلى الوصف الذي تقيمه هذه الأفلام للنظام المتحكم، أو لما يمكن تسميته الديزاين (Design): ديزاين المدينة في فيلم «بارازايت» حيث الأغنياء في الأعلى والفقراء في الأسفل، وديزاين القطار حيث اللاجئون في الذيل والأثرياء في المقدّمة. يبدو الديزاين قويًّا وشبه نهائي ولا يمكن اختراقه، حتى أنه مليء بالرموز التي تعزّزه، والتي تبدو متشابهة بين الفيلمين. فلنأخذ رمز الماء مثلاً، في «بارازايت» عندما تمطر السماء بشدّة يبدو الماء نعمةً على العائلة الثرية في أعلى التلة، فيما ينقلب إلى كارثة عندما يصل إلى جحر آل كيم في أسفل المدينة. إن الماء الذي ينعش حياة الأغنياء في الأعلى يُغرق بيوت الفقراء في الأسفل. ويتكرّر الرمز كذلك في فيلم «خارق الثلج» عندما ندرك أنّ الماء، وهو الشرط الأساسي للحياة في القطار، يتشكل في المقدّمة، وعن ذلك تعبّر إحدى موظفات القطار لكيرتيس، بطل الذيل، قائلةً «الماء يدخل عبر الفم يا كيرتيس وليس عبر المؤخرة».
يبدو كذلك التركيزُ على التصميم/ الديزاين وقوّته من خلال التركيب الهندسي للمدينة في «بارازايت» وللقطار في «خارق الثلج». في «بارازايت» يعبّر المخرج عن رؤيته لنظام الفصل الطبقي عبر مجموعة من الأسوار، وعبر نظام طويل منهِك من الأدراج الفاصلة بين العالَمين الأدنى والأعلى، والذي لا تحتاج إليه الطبقة العليا التي تنعدم لديها أي رغبة بالنزول إلى الأسفل. ولكن، في الوقت نفسه، يقتضي حلمُ الطبقة العاملة في الصعود النظرَ إلى الأعلى، فلكي يرى بطل الفيلم الشاب نفسه في البيت الحديث النظيف عليه تسلّقُ الأدراج الطويلة. بالتوازي، ينقسم القطار إلى عربات كثيرة تفصلها مئاتُ الأبواب التي يجب على أبناء الذيل تجاوزُها كي يتعرّفوا إلى إمكانية الحياة الرغيدة لأبناء الطبقة الأولى.
إذًا، يعمل النظام المعدّ سلفًا، بحسب الفيلمين، على إقصاء أبناء الطبقات الفقيرة/ العاملة عن رغبتهم بالحياة الهانئة. إلا أنه، من بابٍ ثانٍ، يمنحهم دائمًا فرصة النظر إلى الأعلى، إلى العالم المشتهى عبر نبوءة أو عامل ماورائي ذي طابع إيماني.
هذا الوصف الذي يقدّمه لنا بونغ جون-هو في فيلميه لقوة الديزاين في فرض سطوته على الواقع والإحاطة بإمكاناته والسيطرة على رغبات ساكنيه، يمثّل بشكل مُفزع خيال صانع الفيلمين عن الديزاين (النظام) وسيطرته على قدرة الأفراد وأحلامهم في مجتمعٍ معاصر. لذا يبدو لي أنّ الاحتفاء بفيلم «بارازايت» من قِبل كبار المفكرين اليساريين في العالم، مخيف. ربما يحاول الفيلم تمثيل الواقع من دون عمليات تجميلٍ أو بيع أحلام وفانتازمات، كما يعبّر سلافوي جيجك في تعليقٍ على الفيلم عندما يقول إنه ممتاز لأنه لا يصنع فانتازيا عن الفقراء أنهم أناس طيّبون، بل الطيبون في الفيلم هم الأغنياء الذين يعيشون فوق التلة، لأنّ لديهم من الامتيازات ما يجعلهم قادرين على اكتساب صفة اللطف والطيبة، بينما الفقراء قد يميلون أحيانًا إلى العنف أو القسوة لأن هذه هي الطريقة الوحيدة كي يستمرّوا. ولكن علينا أن ننظر إلى هذه القسوة ونسأل «هي قسوة لأجل ماذا؟». يبدو من خلال الفيلمين أنّ هذه القسوة ستتوجّه لأجل الحصول على رغبة الآخر، أي الرغبة في التماهي مع الطبقات العليا، كما أنّ أيّ رغبة بكسر النظام المصمّم مسبقًا، تأتي في باب السحر أو النبوءة أو التخاريف.
«إيثوس» و«روما»
يضعنا هذا الوصف لقوة «التصميم» أمام التساؤل الآتي: هل تنجو الفنون عمومًا، وبالأخص السينما والأفلام والمسلسلات باعتبارها النصَّ الأمثل لوصف الزمن المعاصر، من هذه السطوة؟ أم أنّ الديزاين، مرةً أخرى، يحدد أطر الصناعة حتى في فلتاتها المعادية للنظام في أكثر من مكان؟ لا شك في أن فيلمًا مثل «بارازايت» لما فيه من جهد فنّي وأسئلة وإشارات عميقة يفتح بابًا واسعًا على فهمنا لصناعة السينما في الزمن المعاصر.
إذا نظرنا إلى أفلام أخرى تناولت الانقسام الطبقي، بعد مرورنا على «بارازايت» و«خارق الثلج»، نجد تقاطعًا كبيرًا مع عملين ناجحين آخرين هما فيلم «روما» للمكسيكي ألفونسو كوارون، والحاصل على جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام ٢٠١٨، والمسلسل التركي المصغّر (ثماني حلقات) «إيثوس» للمخرج والكاتب بركون أويا. يحكي هذان العملان أيضًا قصة أفراد من الطبقات المسحوقة يقارنون حياتهم بحياة الطبقات العليا. والشخصية الرئيسية في العملين عاملة منزلية.
كما في فيلم «بارازايت»، تبدو الفوارق الطبقية في «إيثوس» واضحة تمامًا. المساحة الخاصة بمريم الفقيرة ريفية وبعيدة ومعزولة عن المدينة حيث يعيش الشابُّ الذي تتولّى تنظيف بيته في مساحة ألترا- مودرن خارجة من مجلة هندسة ديكور. وكما تتماهى الشخصيات الفقيرة في «بارازايت» بشخصيات العائلة الثرية، ترى مريم نفسها في مرآة الرجل الذي تعمل لديه، فتحبّه حبًّا نابعًا من مثال الحب الذي يصل إليها عبْر «المسلسلات المعروضة في التلفاز للريفيين»، بحسب تعبير إحدى شخصيات المسلسل والتي تلعب دور ممثلة. ترى مريم في حكايات التلفاز حلمها الرومانسي، وتُسقطه على واقعها في رحلتها نحو منزل الشاب. مجددًا، تتجلّى الرغبة في التماهي بالآخر، لا في الثورة عليه. إلا أنّ ما يقترحه «إيثوس» كحلّ لهذه المعضلة مزيجٌ شبه سحريٍّ من الإيمان الديني لفتاةٍ ريفية متديّنة، والعلاج النفسي. هنا يحاول «إيثوس» قلبَ المعادلة، ووضعَ البطلة أمام حقيقة أنّ رغبتها في التماثل بالطبقات العليا هي مشكلتها، ولا حلّ أمامها سوى في اختراع نوع جديد من الحبّ من مستواها، ومن قريتها. هي استكانة أقرب إلى التسليم (بالمعنى الإسلامي) بالقدَر تحكم العمل، فكلّ شخصياته تستكين إلى نفسها وتسلّم نفسها لقدَرها. مرة جديدة يوصف النظام المرسوم بكونه أقوى من أن يُخترق، وبأنّ حلّه هو حل روحيٌّ، كما توحي تسمية العمل في الأصل.
أما «روما» فيصوّر تعايشًا بين امرأتين من طبقتين متناقضتين: سيّدة منزل من طبقة برجوازية صغيرة يخونها زوجها الدكتور ويهجرها مع أطفالها لأجل عشيقته؛ وعاملة منزلية من الريف، من السكان الأصليين، يتركها صديقها بعد علمه بحمْلها منه. تعيش السيدتان حالة الهجر، ليقدّم الفيلم لنا اقتراحًا بالتماهي بين الشخصيتين، إلا أنه في المقابل يرسم لهما عالمين منفصلَين تمامًا. المرأتان تشتركان في المكان، أي البيت، وفي الهجر من قِبل الرجل، إلا أنّ عالَمَيهما يبدوان، وبوضوح، غريبين متوازيين برغم الاقتراب. حتى أنّ «كليو» العاملة المنزلية مهدَّدة بالصرف من العمل بسبب عدم قدرة العائلة على إيفائها أجرَها بعد هجران الوالد. هكذا يقترح الفيلم أن تستمرّ المرأتان في المأزق الذي خلقتْه الخطيئة؛ خطيئة الزوج في الخيانة، وخطيئة العاملة المنزلية في الحمل خارج إطار الزواج، إلى أن تخرج المرأتان مع الولدين إلى البحر، فيكاد الطفلان أن يغرقا لولا تدخّل كليو لإنقاذهما على الرغم من أنها لا تعرف السباحة! تقوم كليو بفعل الفداء، وتعترف بعدها بأنها لم تكن تريد طفلها. يخلق فعلُ الفداء، معطوفًا على الاعتراف، تقاربًا بين الشخصيتين. ويأتي الحل بأن تبقى كليو في وظيفتها فيما تنصرف ربة البيت لتدبير أعمالٍ تعيل العائلة. مرةً أخرى يكون الحلّ في بقاء الأشياء على حالها، وكلّ شخص في مكانه. حتى الحلول تأتي على شكل معجزة ذات نفَس دينيّ فدائي على الشكل المسيحي للفداء.
سينما وفق الديزاين
بعد هذه القراءة يتبيّن أن الموضة الجديدة في صناعة الأفلام عن مواضيع الصراع والانقسام الطبقي، تحاول تجسيد واقعٍ معيش. أي أنها لا تقترح نضالاً طبقيًّا أو ثورة طبقية، بل تحاول وصف الانقسام الطبقي أو الصراع الطبقي مع ترك مساحة من الأمل الذي لا ينتج من واقع أو قوّة مادية أو نضال، بل من إيمان غيْبي أو قوة روحية أو افتداء. هنا يأتي السؤال عن الديزاين الحاكم للمجتمع وأثره في صناعة السينما، وإذا أردنا الاستطراد لرأيناه في كل ما نفعل على الهواتف الذكية في خاناتٍ مصمَّمة للرأي على «فايسبوك» و«تويتر» وغيرها، إذ تقوم الأجهزة بمعالجتها لتضع كلّاً منّا في إطاره الذي لا يخرج منه إلا قليلاً كي يعود إليه. هل ينطبق هذا النمط أيضًا على السينما؟
فلنبدأ من تأكيد المؤكد، أن السينما، إن كانت فنًّا، فهي فن برجوازي بامتياز. صحيح أنّ نشأة السينما في أوائل القرن العشرين كان لها طابع عمّالي، وأننا شهدنا على مرّ السنين بعضَ الحركات السينمائية المطالبة بالتحرر من مستلزمات السوق الفنية، إلا أنها بقيت على هامش الحراك والإنتاج السينمائي في العالم. وإذا ما استثنينا النموذج السوفييتي في الإنتاج، والذي يحمل طابعًا خاصًّا ذا وجهٍ بيروقراطي/ تكنوقراطي، يمكننا الحديث عن السينما كمنتجٍ فني برجوازي بالكامل. حتى وإن انحاز بعض الأفلام والإنتاجات أحيانًا إلى مواضيع تُعنى بالطبقة العاملة أو الثورات العمّالية، إلا أنه لا يمكن أن نتغاضى بأي شكل من الأشكال عن الشرط البرجوازي للإنتاج السينمائي.
منذ أن فقدت السينما وجهها الحرَفي ذا الطابع البرجوازي الصغير، في العَشر الأولى من القرن العشرين، ومنذ أن راح الحرَفيون المقْبلون بدهشة على المادّة الجديدة لإتقانها واقتناء معرفتها يخسرون أماكنهم المتقدّمة كفنانين وروّاد لمصلحة تقسيم العمل وماكينة الإنتاج والكتابة والتصميم المسبق، أصبحت السينما مشروطةً بشروط إنتاجها، أي بالرأسمال الموظف في خدمة مشروع إنتاج فيلم. سواءٌ كان رأس المال كبيرًا أم صغيرًا، لا مهرب من أنّ السينما بصفتها عملاً وصناعة، صارت مشروطة بالقدرة على توظيف الأموال لإنتاج الأفلام. وأيًّا كان مصدر الأموال، فإنها ذات مشروع وخطاب ورواية محدّدة تريد إيصالها إلى جمهورٍ معيّن.
ليست الأفلام كائنًا فنيًّا بحتًا، بل كائنات هجينة من الفن والمال، والمجتمع والاقتصاد، والأفكار والتنفيذ، والواقع والتمثيل. ولأنها كذلك فهي قادرة على احتمال التناقض، بمعنى أنْ تحمل أفلامٌ هوليوودية (أعلى أشكال الرأسمالية السينمائية) مضمونًا في سياق الصراع الطبقي. في هذا السياق كان يمكننا مثلاً أن نرى في أفلام البروباغندا السوفييتية مساحات واسعة من الحرّية التعبيرية على الصعيد الشكلاني. إنّ هذا الكائنَ السينمائي الهجين هو ابن المال أولاً، وابن القدرة المالية على صناعته، إلا أنه ابن صانعيه وابن الفكرة كذلك، وهذا التناقض هو ما يصنع الجدل داخل الأفلام، الأمر الذي يجعلنا نعتبرها الناقلَ الأول والأهمّ لأحداث وتغيّرات القرن العشرين وتوجّهاته.
من الطبقات العاملة إلى الوسطى
الأعمال السينمائية منتجٌ اقتصادي موجَّه إلى الاستهلاك العام. ومن أخطاء أكثر النقّاد السينمائيين أنهم عاملوها بصفتها أعمالاً فنية مغلقة على نفسها وقائمة بنفسها، وهذا ظنّ مضلّل. يبحث هذا المنتج الاقتصادي عن متلقٍّ، أيْ مستهلك. والمستهلك في القرن الماضي وحتى العشر الأولى من قرننا هذا، كان جماعات من قاصدي الصالات في المدن والضواحي والقرى وغيرها. وقد قامت عملية الإنتاج على برجوازية محلية تموّل فنانين لصناعة أعمالٍ محلية الطابع وموجهة للعرض في أماكن محدّدة. ولم تكن هناك سوى قلة من الأفلام الموجّهة إلى جمهور كبير، أو جمهور عالمي. وكانت أغلبية جمهور الصالات من الطبقات العاملة التي لم تراكم الكثير من المعرفة النظرية. أما اليوم فاختلفت التجربة، إذ دخل عامل جديد تمامًا على الصناعة، وهو العرض عبر الإنترنت من خلال وسائط كـ«نتفليكس» وأخواتها. لقد نقل العرضُ عبر الإنترنت تجربةَ السينما من كونها فسحة العطلة الأسبوعية في صالة السينما لأغلبية الطبقة العاملة، إلى كونها النمط الاستهلاكيّ اليومي في راحة المنزل لأغلبيةٍ مستهدفة من الطبقات الوسطى والتي تحمل معرفة ثقافية أوسع.
أدى التغيّر في نمط الإنتاج إلى تغيّر في نوعية الموادّ المنتَجة، فأصبحت أكثر تنوعًا لناحية وجود منتجين عالميين ينتجون موادَّ في بلدان مختلفة، لكن أقلّ تنوعًا لناحية أنّ المواد في البلدان المختلفة تدخل في «إطار عمل» محدد يُبنى السيناريو والإنتاج والإخراج على أساسه، سواء أكان العمل في اليابان أم في مصر. وكما تشير الأفلام المذكورة في النص إلى تصميمٍ صلب في المجتمع من الصعب تجاوزه، يمكننا أن نرى كذلك تصميمًا لطريقة التفكير بالأفلام. لم يكن هذا التصميم يومًا غائبًا عن المنتجين الكبار، لكنه لم يكن يومًا بهذه القوة التي تُمكّن المنتج من معرفة رغبات جمهوره في اللحظة نفسها التي يشاهد فيها الفيلم، فيعالج معاييره إيفاء لرغبات طبقة وسطى ساعية للاستقرار حتى في تجربة المشاهدة.
ليس هذا الحُكم ذمًّا في قيمة الأعمال المذكورة على الإطلاق، بل نقاشٌ مستمَدّ من طروحٍ استقيناها من الأعمال نفسها. وللمفارقة، يمكننا من جديد ملاحظة كيف تفتح الأعمال السينمائية بابًا جدليًّا بين الإنتاج كقيمة مالية، والفكرة التي يحملها الفنان السينمائي. لذا، لا يمكن أن نتوقّع أفلامًا ثورية على منصّة، أو في صالة، تستهدف الطبقة الوسطى. وفي الوقت نفسه، تحمل هذه الأفلامُ غير الثورية بطبيعة خضوعها للديزاين/ التصميم، بذورًا لحكاية عن نفسها وعالمها يمكن مناقشتها، وشهادة عن عالم الطبقات العاملة والمسحوقة تستحقّ النظر، إذا ما التفتنا طوال الوقت إلى أثر آلية الإنتاج على المنتَج (الفيلم) نفسه. بهذا المعنى، يصير «بارازايت» أو «خارق الثلج» مثالَين عن تحدّيات الطبقة العاملة من جهة، والمهاجرين من جهة أخرى. وتحمل الأفلام المذكورة في النص أيضًا نقدًا جادًّا وعميقًا للرغبة التي يفرضها نموذج الارتقاء الاجتماعي في التمثّل بالطبقات الأعلى على الصعيد الفردي. لا يقترح علينا أيٌّ من الأفلام حلًّا جماعيًّا للمآسي ومعاناة الطبقات الأقل حظوة، بل يقدم الثورة مثلاً على أنها كارثة مصممة مسبقًا تؤدّي إلى خلاصٍ فردي للبطل في «خارق الثلج» على سبيل المثال.
ولكن، هل يمكننا الطلب من الأفلام تقديم الحلول؟ وأيّ مدعاةٍ للسخرية ستكون لو ادّعى فيلمٌ معرفته للحل الصحيح؟ وعلى الرغم من ذلك، تقدّم الأفلام فرصة للسؤال عن غياب
أي اقتراح لحل اجتماعي في أيٍّ منها. ثم لماذا كل عمليات البحث عن حلول للمعضلات، من البيئة إلى الحب مرورًا بالرخاء الاجتماعي؟ كل الحلول المقترحة هي إما حلول فاشيّة للمجتمع عبر التنظيم العسكري له، أو حلول فردية تدفع الفقير إلى تمنّي حياة الثريّ، أو حلول سحرية وروحية. أين الحلول الجماعية؟ وهل يمكن أن نتكلم عنها، أو بالأصح، عن غيابها؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.