تنتمي هذه المسرحية إلى ما يسمّى «مسرح الثمانينيات الثاتشري» المُعارض. وهو يقع بين عالمين، أولهما مندثر، وثانيهما مجهول. كان على كتّاب تلك المرحلة التعايش مع انعدام التمويل المالي للمسرح من ناحية، ومحاولة إيجاد شكل فني جديد يعبّر عن المرحلة الانتقالية، ما بعد الصناعية التي هم بصددها، من ناحية أخرى. تقع السياسة والاقتصاد في صميم الكتابة المسرحية الجديدة، لكنهما يظلان مضمَرين، تعكسهما القيمُ الأخلاقية المتسيّبة والعلاقات الأسَرية وجدوى الاحتجاج، والعنف والجنس وغيرها من المواضيع التي سادت في تلك المرحلة القاتمة من تاريخ بريطانيا المعاصر، عهد رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر.
من العمّال إلى المسرح
منذ فوز مارغرت ثاتشر في انتخابات مجلس الوزراء عام ١٩٧٩، سعت إلى تقليص دور الدولة في حياة الفرد، معلنةً عن سياساتها الليبرالية الجديدة من دون مواربة: «ما من شيء يسمّى مجتمع، هناك فقط نساء ورجال»١. ارتأت «سارقة حليب الأطفال»، كما لُقّبت، أنّ الحل الوحيد أمام الانهيار الاقتصادي الذي مرّت به البلاد خلال السنوات السابقة وأدّى إلى التضخم في ظلّ حكومة المحافظين، هو تطبيق اقتصاديات السوق الحر والتخلّي عن مفهوم دولة الرفاه الذي تبنّته الحكومة العمالية السابقة. رفضت ثاتشر سياسات كينز الاقتصادية، وتأثرت بأفكار ونظريات خطّها كلٌّ من آدم سميث وميلتون فريدمان وفريدريش فون هايك.
تسبّبت قراراتها الاقتصادية الجذرية، كالحفاظ على سعر الصرف المرتفع، بإدخال بريطانيا في حالة من الركود، وارتفاع عدد العاطلين من العمل. وبحلول عام ١٩٨١، بدأ الوهم الثاتشري ينقشع شيئًا فشيئًا، وبدأت الحكومة المحافظة تفقد شعبيتها بين الناس. ثارت أعمال الشغب في العديد من المدن البريطانية، احتجاجًا على سوء الأوضاع المعيشية، و«ارتفع عدد العاطلين من العمل إلى ثلاثة ملايين»٢. وجد سكان مدن الشمال الصناعية أنفسهم أمام وضع كارثيٍّ يزداد سوءًا كل يوم مع تطبيق حكومة ثاتشر إصلاحاتها الاقتصادية. أعلنوا رفضهم الصريح لهذه السياسات رافعين شعار: «أن تدوس القانون خيرٌ من أن تدوس الفقير».
وعلى الرغم من وعي الشعب البريطاني للمصير القاتم الذي ينتظره، استعادت الحكومة المحافظة مع العام ١٩٨٢ بعضًا من شعبيتها وذلك نتيجة استخدام القوة على أيرلندا الشمالية، واشتعال حرب الفوكلاند بين الأرجنتين وبريطانيا. عزّز انتصار الأخيرة في الحرب الشعور الوطني، وأظهر ثاتشر على أنها قائدة لا تُقهر، كما حقق لها انتصارًا ساحقًا في انتخابات العام التالي. لكن العام ١٩٨٤ حمل مزيدًا من التحديات لحكومتها، إذ «وصلت سوق الأسهم البريطانية إلى أسوأ انهيار لها منذ عقود، واشتعلت إضرابات عمالية في عدد من البلدات الصناعية، ردًّا على موجة التسريحات التي حرمت أعدادًا كبيرة من العمال وظائفهم بسبب إغلاق مناجم الفحم والتوجُّه نحو الاستيراد الأقل كلفة»٣. لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ العديد من الصناعات البريطانية بالاختفاء الكلي، كصناعات الفولاذ وبناء السفن والسيارات.
أحبطت ثاتشر الإضراب الشهير لعمّال المناجم. وشنّت الشرطة هجومًا واسعًا على المضربين فأصابت واحدًا وخمسين منهم إصابات بالغة. عند كل فرصة، حاربت ثاتشر هؤلاء العمّال، فأطلقت عليهم لقب «العدوّ الداخلي»، وحرمتهم من الاستفادة من قانون الضمان الاجتماعي لعام ١٩٨٠، ما تسبّب بضائقة مالية شديدة في شمال إنكلترا واسكتلندا وويلز، انتهت بإقفال العديد من المصانع. كما سمحت بتوظيف العمال غير النقابيين الذين رضخوا لسياسة الأجور المنخفضة الجديدة»٤. واستغلّت ثاتشر إضرابات العمال لتشنّ حربًا شعواء على النقابات العمالية، فحاولت لجم «المجلس النقابي»، المتضرّر أصلاً من فتح السوق البريطانية أمام الاستثمارات، لتمرّر قراراتها الجذرية الجديدة المتعلقة بخصخصة المرافق الاقتصادية التابعة للقطاع العام في ظلّ غياب معارضة قوية. وما إن أحرزت هدفها بضعضعة «المجلس النقابي»، حتى بدأت بتنفيذ أكبر عملية خصخصة شهدها التاريخ المعاصر، فباعت إلى القطاع الخاص صناعات الصلب والسيارات والطائرات والنفط والغاز والاتصالات والمواصلات.
تمكنت ثاتشر من القضاء كلّيًا على سياسات تَوافق ما بعد الحرب. قلّصت كثيرًا خدمات الرعاية الاجتماعية والصحية، محطمةً وهْمَ المجتمع الموحّد بإعلان سياسة جديدة تتمحور حول الفرد. وكانت قراراتها المتعلقة بخفض التمويل الحكومي ذات أثر كارثي على الفن عمومًا والمسرح خصوصًا. أما آخر قراراتها السياسية، الذي نصّ على فرض «ضريبة الرأس»؛ المفروضة على كل مواطن بريطاني بالغٍ بمعزل عن دخله، فلقيتْ رفضًا شعبيًّا عارمًا، حتى أنها تسبّبت في نشوء معارضين لثاتشر داخل الحزب المحافظ نفسه، ما أجبر المرأة الحديدية على تقديم استقالتها عام ١٩٩٠.
تدهورت الفنون بشدّة في ظل حكومة ثاتشر، ففرضت سياساتِها الليبرالية عبر مجلس الفنون* الذي دعا الفنانين إلى البحث عن وسائل تمويل خاصة لتحلّ محل الدعم الحكومي. نصّت سياسة الفنون الثاتشرية على «توفير ما يكفي من المال لإبقاء المسرح على قيد الحياة فقط، دون أن تشجع أي نشاط مسرحي ذي أبعاد اجتماعية سياسية حقيقية»٥. انتهت الفترة الوجيزة التي كان يمكن فيها لصانعي المسرح الاشتراكي استخدام الدعم الحكومي لمهاجمة الحكومة البريطانية كدولة رأسمالية، إذ أصبح المحتوى الفني خاضعًا لمعايير المموّل. دفع هذا الواقع بعض الكتّاب، ومنهم كاريل تشرشل، إلى الاستقالة من مسرح الرويال كورت عام ١٩٩٠ احتجاجًا على اعتماده تمويلاً من القطاع الخاص عن طريق بنك باركليز٦. وقد تحوّل المحتوى الدرامي في كثير من المسرحيات من التركيز على المشهد السياسي العام إلى عرض الفضاءات الشخصية المغلقة وطرح موضوعات سياسية أقل علانية. أما الفِرق المسرحية التي بقيت متمسّكة بنقدها السياسي المباشر فتوقّفت عن العمل بسبب عدم قدرتها على تأمين الدعم المالي لنشاطاتها خلال الثمانينيات٧.
يمكن القول إنّ الصبغة التجارية التي طغت على معظم خشبات المسارح أتت استجابةً مباشرة للذائقة العامّة في تلك المرحلة أيضًا، إذ لم يقتصر أثر صعود الثاتشرية واليمين الجديد على دائرتَي السياسة والاقتصاد، بل تعدّاهما ليصل إلى فكر ولغة الحياة اليومية أيضًا. إلا أن التضييق الاقتصادي على المسرح من قبل ثاتشر، والذي هدَف إلى إضعاف نفوذه، رفع مستوى التحدّي لدى العديد من كتّاب المسرح الذين شكّلوا تيارًا جديدًا دُعي بالمسرح الثاتشري المعارض. وقد خاض هذا التيار صراعًا مريرًا مع الحكومة من جهة، ومع المسارح الشعبية الكبرى من ناحية ثانية.
وعلى الرغم من إعلان بعض النقاد موتَ المسرح السياسي خلال ثمانينيات القرن العشرين في بريطانيا، إلا أن تلك المقولة لم تكن عادلة تمامًا. صحيح أن المسرح السياسي لم يفرز تعبيرات سياسية مباشرة، ولم يخدم أجندة محدّدة، لكنه اتّخذ صيغة أخرى أكثر مرونة وأقلَّ راديكالية، مؤكدًا مقولة المسرحي البرازيلي أوغستو بوال الشهيرة: «كل المسرح سياسي». ركّز هذا المسرح على استكشاف الطرق التي تتداخل عبرها العوالم الشخصية والاجتماعية للفرد مع الظروف الاقتصادية والسياسية المحيطة به. وقد شملت موضوعات الكتابة: الأزماتِ الناجمة عن خفض الإنفاق الحكومي، الحرب الباردة، الوجود البريطاني المسلّح في أيرلندا الشمالية، سباق التسلح النووي، البطالة، العنصرية، الهوية البريطانية السوداء والآسيوية، حقوق المرأة، حقوق المثليين والمثليات خصوصًا مع اكتشاف فيروس الإيدز وتسييس حركة المثلية الجنسية. وقد أكّد كتّاب تلك المرحلة أن سياسات التمييز القائمِ على اللون أو النوع الاجتماعي ذات جذر اقتصادي بالضرورة، إلا أن الموضوعة الأكثر إلحاحًا حينها تمثّلت بأزمة البطالة في الشمال البريطاني عقب اندثار صناعة الفحم.
«طريق» الطبقة العاملة
وُلد كارترايت عام ١٩٥٨ لأسرة من الطبقة العاملة في فارنوورث بمقاطعة لانكشاير شمال إنكلترا، حيث ما زال يعمل ويعيش. منذ شبابه أظهر اهتمامًا جديًّا بالمسرح، فكانت له تجاربُ عدّة في المسارح المدرسية والمجموعات الشبابية. ترك المدرسة في سن السادسة عشرة وعمل في مصنع، ثم درس التمثيل في المدرسة المركزية للخطابة والدراما*. ورغم ولعه الشديد بالكتابة، بدأ كارترايت مسيرته كممثل، فصرّح في مقابلة مع صحيفة «شيكاغو سن تايمز»: «كان من السخف أن تفكر في أن تصبح كاتبًا في تلك البيئة، إذ كانت الملاكمة أو التمثيل تذكرتك الوحيدة للخروج منها».
لم تكن تجربة كارترايت الشاب في المدرسة المركزية كما يَأمل. تركها لينضمّ إلى مجموعة مسرحية تفاعلية Acme Acting، مع تيم بوتر ولويس ميللر وجيم هيرب. وقد شُبهت عروض تلك المجموعة بالوجبات الجاهزة، إذ يمكنك الاتصال هاتفيًّا لطلب عرضٍ منزلي، ويمكن أن يُقدم العرض في أماكن متعددة كالمطبخ وغرفة الاستحمام وصولاً إلى منجم الفحم. قدّمت الفرقة عروضًا مصغرة عن كلاسيكيات السينما، مثل فيلم «القيامة الآن» لفارانسيس كوبولا، و«سايكو» لآلفريد هيتشكوك، ومثّلت لوحاتٍ درامية قصيرة مستمدّة من مسرحيات «عربة تسمى الرغبة» لتينيسي وليامز. عام ١٩٨١، مثّل كارترايت دور بوب في مسرحية شون لوتون «زاوية الخارج عن القانون»؛ وهي مسرحية تقدم تصويرًا شعريًّا عن حياة الشوارع في المناطق الشمالية، لعب أدوارَها ممثلون سيكون لهم حضور فعّال في الثقافة البريطانية خلال العقود المقبلة، ومنهم الممثل غاري أولدمان. عام ١٩٨٢، عاد كارترايت إلى بلدته التي دمّرها الركود الاقتصادي من دون أن ينجح في العثور على عمل: «لم تكن هناك وظائف. اعتدتُ أن أقضي ساعات وأنا أتجول في المدن الصناعية، مستفسرًا: هل عندك وظيفة، يا صديقي؟ فيجيبني: لا، آسف، حاولْ مرة أخرى في الأسبوع المقبل. كان الأمر مثل الثلاثينيات اللعينة»٨.
عام ١٩٨٦ كلفتْه إدارة «رويال كورت» تقديم مسرحيته «طريق» على خشبتها. تُجسّد المسرحية شعورَ اليأس الذي أغرق الطبقة العاملة في لانكشاير الصناعية خلال عهد ثاتشر، حيث دُفنت مشاعر الحب والرقة أسفل ركام المصانع القديمة المغلقة. منحت المسرحية كارترايت موقعًا بين كتّاب المسرح المعاصر، ونال عليها عددًا من الترشيحات والجوائز المسرحية، منها «جائزة جورج ديفاين» للكتّاب الواعدين و«جائرة صموئيل بيكيت». وعلى الرغم من الإقبال الشعبي الكبير والاعتراف النقدي الجادّ بأعمال كارترايت، إلا أننا نادرًا ما نقرأ عنها في الدراسات المسرحية الأكاديمية أو في مختارات الدراما البريطانية. مع أنّ أعمال كارترايت تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، يغيب اسمه بالكامل عن المسرح العربي.
بعد النجاح الكبير الذي حقّقته مسرحية «طريق»، كتب كارترايت مسرحيات عدّة، منها مسرحية «سرير»، الأكثر سوريالية بين أعماله، وتدور أحداثها بين النوم واليقظة والحلم، في سبعة مونولوجات مترابطة لسبع شخصيات تلازم فراشًا ضخمًا يحتل الخشبة، مشكّلًا أرضًا هشة لكوابيسها وأحلامها. كتب بعدها مسرحيات عدّة عكست معظمها قسوةَ وتشوهَ العالم الحضري المعاصر الذي طحنتْه السياسات الاقتصادية للحكومة الثاتشرية، فشلّه الفقر، وعمّه الطموح الفردي والجشع. ويصوّر كارترايت الاحتجاجَ المنزلي الصامت بوصفه آخر وسيلة للرفض، ويعلن الاحتفاء بالفشل في وجه قصص النجاح الفردية الثاتشرية، ويصف لعنة الذاكرة ومعاداة المرء لنفسه والميول الجنسية المكبوتة والعنف، وغيرها من المواضيع التي صبغت عقدَ «الأنا» الثاتشري.
عُرف كارترايت بوصفه كاتبًا مسرحيًّا واقعيًّا، إلا أن أسلوبية أعماله تتجاوز محاولات تصنيفها. صحيح أن معظم نصوصه تصوّر حياة الفقراء من الطبقة العاملة الشمالية، إلا أنها تخاطب واقع الطبقة العاملة في كلّ العالم. وقد استقى كارترايت نهجه من مسرح الطليعة، متجاوزًا البُنى التقليدية للواقعية الدرامية، وذلك عبر تنويعاته غير المعتادة بين الواقعي والخيالي والغنائي، ماحيًا الحدود بين المؤدّين والجمهور. فنرى في أعماله آثار المسرح الارتجالي وتجربته الشخصية في الأداء الذي يخاطب الجمهور بشكل مباشر وحميم. ولا تتْبع نصوص كارترايت لتيّار الطبيعية أو الواقعية الاشتراكية، فهو ملتزم سياسيًّا، لكنه أكثر مرحًا من إدوارد بوند. كتابات كارترايت مشْبعة بالذكاء والأسلوب، وتحتوي على عناصر سوريالية وعبثية، لكنها أكثر واقعية من صموئيل بيكيت. إن قدرته العالية على ضخّ الفكاهة في أكثر المواقف مأساوية، كالمجاعة والعنف المنزلي، تؤكد على كونه كاتبًا مسرحيًّا يتخطى حدود الشكل والنوع.
اللهجة العامّية فعل سياسي
تمتدّ مسرحية «طريق» من غرف الجلوس الضيقة إلى الحانات الرخيصة المترامية على جانبَي طريق لتصوّر عالمًا سفليًّا «تنزلق فيه الأشياء لكنها لا تسقط»٩، حيث جحيم العطالة من العمل، جحيم أن تكون عشرينيًّا أو مسنًّا أو امرأة أو جنديًّا. يقودنا الشاب سكولري، راوي المسرحية، برحلة في أحد شارع لا اسم له لأنّ لافتته مكسورة. تبدأ الجولة ليلاً مع زحف الشباب العاطل من العمل إلى حانات البلدة الرخيصة، وتنتهي مع فجر اليوم التالي الذي يُنذر بمزيد من المعاناة لسكان الحيّ. وعن طريق سلسلة قصيرة من اللوحات المنفصلة، تتنوّع بين المونولوجات والحوارات والموسيقى والغناء، نتعرف إلى سكّان هذه البلدة الصناعية التي باتت تربض أسفل الهرم الاقتصادي البريطاني بعَيد اندثار صناعة الفحم وارتفاع معدّلات البطالة. وبمزيج مدروس من الأسى والطرافة، تُصور «طريق» الحياةَ الليلية البائسة، حيث تنشد معظمُ الشخصيات خدرَ الخمر أو الجنس، وتعرّف معنى العيش وسط مدينة طحنتْها السياسات الاقتصادية لحكومة ثاتشر.
قُدمت المسرحية أخيرًا عام ١٩٨٦، بإخراج سيمون كيرتس، في الطابق العلوي من الـ«رويال كورت» على طول الممشى الذي يسمح بمتابعة الراوي وهو يقود الجمهور في جولة حول «الطريق»، مارًّا ببيوته المهترئة ومتسكّعيه الثملين. وعرضت مرّة أخرى عام ١٩٨٧ في الطابق السفلي من المسرح نفسه. ثم انتقلتْ عام ١٩٨٨ إلى نيويورك على خشبة La Mama. وقد أخرجها كارترايت بنفسه في مانشستر عام ١٩٩٥ كما أخرجها المخرج السينمائي آلان كلارك عام ١٩٨٧ ضمن سلسلة مسرحيات تلفزيونية أنتجتها قناة BBC . وقُدمت نسخة جديدة من المسرحية عام ٢٠١٧ من إخراج جون تيفاني.
تنقل مسرحية كارترايت الصورة الحقيقية المريرة للشمال البريطاني. وتتناول قضايا وهموم الفئة الاجتماعية التي أطلق عليها مصطلح «الطبقة الدنيا» من دون أيّ تزيين، وتعرض علاقاتها الإشكالية والمتناقضة مع مفاهيم مثل الحرية/ الكبت، النقاء/ الفساد، الأصالة/ الحداثة. وتتميز المسرحية باستخدام المونولوجات الطويلة والإفادة من التقنيات البريشتية الملحمية بدءًا من النص حتى خشبة العرض، وصولاً إلى استخدام اللهجة المحكية، لهجة شمالية محلية. وقد شاع استخدام اللهجات المحكية في المسرح البريطاني سابقًا بوصفها منبعًا من منابع الفكاهة، إلا أنّ اللغة العامّية فقدت عناصرها الهزلية مع الوقت، وتحولت إلى مؤشّر سوسيولوجي لسانوي. وقد وصف بيرش استخدام اللغة العامّية في الدراما بأنه «حركة سياسية مقصودة»١٠. وقد تعدّى الأمر استخدامَ الكلمات والتركيبات المحلية إلى مجموعة متنوعة من التعبيرات والأمثال الشعبية العامية. واختيار كارترايت للغة نصه اختيارٌ واعٍ وموجّه، يقصد منه إظهار «ثقافة الأقلية» المعزولة للمدن الصناعية، والتي يمارَس عليها الاستعلاء الثقافي من قبَل النخب الثقافية والسياسية المهيمنة. لذا يغدو التمسك بهوية الشمال فعلًا احتجاجيًّا هدفه تقويض الصورة الشائعة عن المجتمع الصناعي. صحيح أن تلك الشخصيات بعيدة كل البعد عن عالم الأدب والفعالية الثقافية، إلا أنها تتحدث بلغةٍ شعرية، مستخدمةً الاستعارات الأدبية والتَوريات الشعرية. وينجح كارترايت في تقديم مزيج متجانس من الغنائية الشعرية ولغة الشارع المليئة بالسباب والألفاظ المبتذلة أحيانًا.
إنّ مسرحية «طريق» نموذج ساطع عن المسرح الملتزم سياسيًّا في الفترة التي سادت فيها الأيديولوجيات الفكرية والسياسية، ملقيةً بظلالها على الحياة الأدبية والفنية بطرق عدّة ومتباينة. وقد أراد كتّاب هذا المسرح الكشف عن أنماط الاستغلال الاقتصادي التي تتسبّب في إهدار حيوات الناس وتركها معلّقة إلى أجَل غير مسمّى، فكان عليهم أن يستهدفوا جمهور الطبقة العاملة، الضحايا الأشد تضرّرًا من ذاك النظام الاقتصادي، بدلًا من التوجه إلى ما يُطلق عليه بجمهور النخبة الذي تَوجه له مسرح ما بعد الحداثة الأوروبي حينها. فكرة الالتزام السياسي في المسرح فكرة قديمة، إلا أن التجديد الذي قام به روّاد المسرح الثاتشري المعارض، وعلى رأسهم كارترايت، كان على صعيد الشكل بالتحديد، إذ تُقدّم «طريق» خير دليل على أن الالتزام السياسي عبر المسرح لا يقف عند حدود الموضوع والفكرة، وإنما يشمل أساليب وتقنيات الكتابة والأداء أيضًا.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.