العدد ٣١ - ٢٠٢١

مسرحية «طريق»/مختارات

ڤاليري
«أكرهه الآن، ولا أريد أن أكرهه»

أغلب سكان الطريق عاطلون من العمل، كنتيجة مباشرة لتدهور الوضع الاقتصادي وتراجع صناعات الفحم في بريطانيا آنذاك، وبإمكاننا أن نرى حرص كارترايت على ذكر تلال نفايات التعدين المهجورة في عدد من الملاحظات الإخراجية على النص. لقد أصبح العمل شيئًا من الماضي، وبات الفقر وتوسّلُ لقمة العيش مهنةَ السكان الجديدة. لم تضنِ أزمة البطالة الشبانَ من سكّان البيوت المجاورة للطريق فحسب، إلا أنها وقعت ثقيلةً فوق رؤوس النساء والرجال الذين اعتادوا العمل سابقًا، ووجدوا أنفسهم اليوم محاصرين بأعمال لا تتناسب مع كفاءاتهم وقدراتهم الذهنية والجسدية، فنرى ڤاليري، وهي امرأة متوسّطة العمر، تعاني من إحباطات زوجها العاطل من العمل والذي يعيش شكلاً من أشكال الخصاء الناجم عن شعوره بالعجز عن إعالة عائلته، دافعًا إياه إلى الشرب المفرط.

«سئمتُ الجلوس هنا وانتظاره. سأنتظر مائة سنة أخرى على وتيرته. يا لها من حياة، أستيقظ، أطعِم كل طفلٍ في المنزل. أفعل كل ما بوسعي فعله، بلا نقود. بينما هو يشرب ويشرب ويشرب، ولا يدفع في دربي شيئًا إلا يديه القاسيتين في السرير أثناء الليل. كلبٌ هائجٌ هو. كلبٌ كهلٌ هائجٌ وثقيل. كلبٌ يعشّش القيءُ في فرائه. لقد دفعني إلى شدّ شعري، انظروا إلى شعري، إنه جافّ جدًّا، جافّ بشكلٍ تعيس. أريد أن أبكي لكنّني لا أظن أن الدموع ستخرج، ولا يوجد ما هو أسوأ من البكاء الفارغ، إنه كالاختناق. لمَ نفعل هذا؟ لمَ أبقى؟ لمَ هذه الـ «لمَ» لمَ؟ تستطيع أن تُغرق نفسَك بالأسئلة ومع ذلك تبقى جاهلاً لأنك أكثر تعبًا من أن تجيب عنها. دائمًا أدّخر وأكشط البقايا، بينما يأخذ هو تعويض البطالة ويفعل ما يشاء به، تاركًا بعض القروش على الطاولة أحيانًا؛ أحيانًا. لكن لا يمكنك أن تعرف متى يحين موعد ذلك، وإن سألتَه يرمي لك قرشًا بسرعة. لهذا يجب أن أقترض، أستلف، من الجميع. أنا مثل جرذ هزيل يجري هنا وهناك، يحاول أن يشتمّ شيئًا ما. يساعدونني، مع أنني أراهنكَ على أنهم يكرهونني بحَق، يحتقرونني بحق. لأنني دائمًا هناك أطلب، أطلب ولا يسعُهم أن يرفضوا، بل يفتحون حقائبهم فقط وأنا أقول شكرًا، شكرًا آلاف المرّات حتى نشعر جميعنا بالغثيان. ربّاه، لا أطيق الانتظار حتى يكبُر الأطفال وعندها يمكنني أن أرسلهم بعيدًا. سيأتي قريبًا. سكران حتى الموت. ويخبرني أن عليّ بذل جهد أكبر في تنظيف المكان. يأكل كل ما في البيت. يتبوّل ولا يصيب حفرة المرحاض. يعصر الأطفال بشدّة. يصرخ ويعبس، ثم يغطّ في نوم عميق برائحته الفوّاحة، ملفوفًا مائة لفة بالبطانيات. الكحول حقيرة. الكحول خراءٌ بنّي حقير. بحرٌ يفوح بالنتانة، وهو قبطان ذلك البحر بشُعيراته المبلّلة. يبتلع ويتقيّأ، يبتلع ويتقيأ فوقي ماءً أبيضَ بنيًّا. ما الذي أهذي به! إنه كابوس. ألومه ثم لا ألومه. ليس ذنْبه أن ليس هناك عمل. إنه رجل ضخم، لا يجد مكانًا يتّسع له. يبدو غريبًا ومحزنًا جدًّا عند ذلك الحوض، والمكنسة الكهربائية كاللعبة في يده. يملأ الغرفة عندما يلازم البيت. مثل حيوان كبير جريح، يتحرّك، يحاول العثور على نعله، أخرَق مع الأشياء الصغيرة في المنزل، هائم. أنا أرى هذا. أرى الوحش المسكين في العالم الخطأ. أرى عينيه حزينتين وذابلتين. أراه مع مرور الأيام، يتكوّم كجُرُب رطبة مهترئة، الواحدة فوق الأخرى. أراه؛ الفضلة، فضلة الأرض من البشرية. لكن لا يمكنني أن أسامحه، لا يمكنني أن أسامح القسوة في تلك الكومة الكبيرة اللعينة. الكومة الكبيرة الخرقاء اللعينة. (ترتعب ممّا تقول، توشك أن تبكي). إنه كبير ومحدَودب وبشع جدًّا. (تتراجع). آه يا رجلي. (تختنق). أكرهه الآن، ولم أكن أكرهه قبل. أكرهه الآن، ولا أريد أن أكرهه. (تبكي). أيمكننا أن نتخطّى المداعبة؟ أيمكننا؟ (تبكي). أيمكننا أن نتخطى المداعبة؟ (بشكل مفاجئ وهذياني). أيمكننا؟».

جوي: «إنكلترا تمتصّ دماغي»

كلير: «الجميع فقراء وشاحبون»

تبدو لانكشاير جثّة هامدة أصابها التفسّخ. إنه المكان الذي تُهدر فيه الطاقات البشرية، ويَلقى قاطنوه الازدراء بشكل مستمرّ وممنهج. ليست دورةُ حياة ساكنِ تلك البلدة إلا تعفنًا تدريجيًّا، يطاول العقلَ والقلب والروح تباعًا. إلا أنّ تعفن أحلام الشباب هو الأقسى والأكثر فظاعة، وهذا ما نشهده بوضوح في قصة حبّ جوي وكلير، شابان مفلسان وعاطلان من العمل. يعلن جوي الإضراب عن الطعام حابسًا نفسه في غرفة نومه. تلتحق به حبيبته كلير. يسلّمان جسديهما للموت البطيء دون أن يكون لفعلهما أي غاية واعية. لم يكن إضرابهما احتجاجًا سياسيًّا بل استسلامًا تامًّا لليأس المحيط بهما.

جوي: «أشعر أن إنكلترا تمتصّ دماغي. لقد قرفت منها، قرفت منها كلّها. الذين يقرأون الصحف: محبّو الأوروبية، أمّنا الملكة، دموع ماغي١، يجري خداعهم مرارًا وتكرارًا. ما هذا بحقّ الجحيم اللعين؟ أين أنا؟ إنني أستلقي هنا منذ أسبوعين، أعتصر شيئًا فشيئًا. أعتمر الألم كالقبّعة. الكل مجانين، والعالم دلوٌ مليء بقَيء الشيطان. كل لحظة صغيرة هي لحظة غبيّة. سئمت من الناس... الناس... الناس الأغبياء. يشعلون الهواء بكلماتهم القذرة، بأفكارهم القذرة، نواياهم القذرة. يُمارسون جنسًا كريهًا أسفل الأسرّة العفنة. يُمارسون جنسًا سقيمًا على الأسرّة المهزومة. ماذا حلّ بالإنسان؟ لماذا أصبح مخطئًا جدًّا؟ لماذا أتألم طوال الوقت؟ كُدمت كل قطعة مني أو قُضمت حتى تسلّخ الجلد عنها. لو بإمكانك النظر إلى قلبي، لرأيته يشبه الكوع. لقد انتهيت بسببهم، بسبب سماء الجهل الساحقة، بسبب أفخاذ الخنازير الجاهلة. ماذا فعلت! ما هي جريمتي؟ من ألوم؟ هل ألوم الله لأنه أعطاني شرارة الرؤيا؟ لا تكفي لفعل شيء، إلا أنها تكفي للسخط فقط، تكفي لدفعي إلى الحافة. غير قادر على إخراج أيّ شخص إلى هنا معي، غير قادر على الدخول مع الباقين. يا إلهي، لقد تأخرت كثيرًا، فات الأوان. أنا نصف ميت ولست حزينًا ولا سعيدًا. أنا لست حزينًا ولا سعيدًا، يا لها من حالةٍ لعينة، مقيتة، انهزامية. أنا أسود من الداخل. تتفتّح داخلي المرارة مثل وردة سوداء، تئنّ بتلاتها داخل صدري. أريد إخراجها منّي! إلى الخارج! إلى الخارج! يا أيها الشيطان، الله، الشيطان، الله، الشيطان، الله، أنقذني يا أيّ شيء من أي شيء. لا بدّ من مخلّص يأتي لمساعدتنا. ليتنا نستطيع أن نُصلح حالنا. ليتني أستطيع أن أصلح حالي على الأقلّ. هذا هو كلّ ما في الأمر. هذا هو السبب في حميَتي. (ينظر حوله، يتذكر). بحق الجحيم هل أنا في فيلم أم ماذا؟ أم مخادع أم ماذا. (يشدّ على نفسه). أناااااااا أخرجتُ عصافيرَ بيضاء صغيرة مغطّاة بالعصارة الصفراء والدم المتخثّر؛ كانت هذه أحلامي. أخرجت خنزيرًا مكتنزًا صغيرًا، كان هذا قدَري. أريد أن أخرج كلَّ شيء مني ولكن ولكننننننني ممسك بالمرارة، لن تُخرج نفسها بنفسها. أعطني مسهّلًا أيها الله إذا كان لديك واحد. ها!!! أرررررر! أرررررر! أوووه! أرررررر! (يتعرّق ويعتصر). اخرجْ، اخرج أيّها الوغد المرصوص. آه لا! امتصّني الموت عبر تلك القشّة في عمودي الفقري! لا اتركني! آه أنا مليء بالجليد الأسود. من فعَل هذا بي! ولماذا! آه لماذا؟ أتستحقّ نتفة الأعمال الزائدة أن تراني أتعذّب، أتستحق؟ ألومكِ أنتِ أيّتها الأعمال وأنتَ أيها الدين، صديقها المفضّل. يدًا بيد، قتلتما الطفل داخل الإنسان! قتَلة! جبناء! أودّ لو أفتح بطنيكما وأرى العصارة البنّية تنسكب!».

كلير: «أشعر أنني مترهّلة من الرأس حتى أخمص القَدم. كل يوم أَشْبه بالسباحة في الألم. لم أعُد أحتمل ارتداء نفس الثياب مرّة تلو مرّة. أعيد تضييقها وتقطيبها، سئمت من كل هذا يا جو. سمعت أمي تبكي ثانيةً البارحة. غرفتي باردة. لا أستطيع شراء الشامبو المفضّل عندي. الجميع فقراء وشاحبون. آه جو! جو! جو!».

جيري
...والفتيات، كم كنّ جميلات!

المستقبل ضبابيّ ينذر بتفجّر الكارثة. هرع سكان «الطريق» لما هو مألوفٌ عندهم. مولي العجوز ملكةُ جمال سابقة. تضع مساحيق التجميل القديمة على وجهها كل مساء، وتسترجع في وحدتها القاتلة ذكرى الرجال الذين واعدَتهم. جيري رجل عاطل من العمل في منتصف عمره، متمسّك بارتداء حلّة الرقص القديمة خاصّته، يحكي في مونولوج طويل عن عجزه الواضح عن مواصلة حياته في بريطانيا الجديدة. كان جنديًّا شاهدًا على أيّام عظمتها السابقة، يتحسّر على انقضاء أيام الخدمة الوطنية، ويجترّ ذكرياته عن بريطانيا الاستعمارية، المنتصرة دومًا، قبل «أزمة السويس»:

جيري: «لا أستطيع تخطّيه. لا أستطيع تخطّي الماضي. كيف كان. لا أستطيع فحسب. (يضع حذاءه). يا إلهي. في داخلي هذه المشاعر العارمة، وهي حزينة لدرجة أنه بالكاد يمكنني أن أحتملها. (يضع ربطة عنقه على لوح الكيّ ويبدأ بكيّها) أوه، أوه أستطيع أن أحسّ بها الآن؛ تفطر قلبي بشدّتها والدموع تصعد إلى عيني. وكل هذا لأنني فكرتُ بشيءٍ مضى. يا إلهي. (يعود إلى الكيّ) كانت أوقاتًا جميلةً جدًّا، كان لها نغمها الخاصّ. أسرح فيه عندما أذكره. (يجلس، رافعًا نظره إلى الأعلى). أكره اجترار التفاصيل، ولكن... كرة الديسكو الفضّية الكبيرة التي كانت تدور هناك، وكل تلك الأضواء التي تصدع منها وتسقط علينا، نحن الحشود الراقصة أسفلها، والفرقة الموسيقية الكبيرة، وكل الفتيات والفتيان الذين أعرفهم، كل واحد منهم بشخصيته المميّزة. والطريقة التي كنتَ تقف بها، أنت تعرف كيف، وكيف كنت تحمل السيجارة، حتى أنك كنتَ تشعل السيجارة بطريقة مختلفة آنذاك. كانت هناك طريقة ما، لا أستطيع فعلها الآن، وهذا شيءٌ جيّد، لأنني لو فعلتها لبكيت قلبيَ المتدفّق إلى الخارج. لهذا أنا لا أضع كريم تصفيف الشعر في هذه الأيام. لا أستطيع. كنتَ تؤدّي الخدمة الوطنية أيضًا، الجميع كان يؤدّيها. لم تكن تتذمّر كثيرًا وقتها، لم تكن لتشعر برغبة في التذمر، لا أعرف لماذا. أما الخدمة الوطنية، فستكونون كلّكم فيها. أما أنا لكنتُ في السلاح الجوّي الملكي، بذلك الزيّ الأزرق الناعم؛ القلنسوة. (يتلمّس رأسه). وفي وقت الاستراحة كنتَ لتستلقي على سريرك، قد يقول لك زميلك: أعطنا سيجارة. (يغطّي عينيه بيده). وعندما تذهب في إجازة إلى البيت، إلى مسقط رأسك، غالبًا ما يكون الطقس ضبابيًّا بعض الشيء، وتتمشّى بزيّك في شوارع مألوفة. ويكون لدى الجميع شيء ما ليقولوه لك. وتذهب بعدها إلى مصنع حبيبتك، ويرسلون في طلبها: «هناك رجل عسكري يريد رؤيتك». وتنتظر في الخارج، تُخرج سجائرك من جيبك العلوي (يلمس ذات المكان). تشعل السيجارة. تقف هناك في ذلك الطقس الضبابي، بزيّك الأزرق، ممتلئ بشعور ما. وكل شخص كان يمتهن شيئًا ما، أو يقضي خدمته. أو لربما كنت ستعمل بداية في المخازن أو في السكة الحديدية لكسب مزيدٍ من المال، ولكنه عمل لا يؤتي أكُله في النهاية. أو تصبح بائعًا متجوّلاً تبيع الألعاب والتذكارات في البارات. كان هناك الكثير من الوظائف حينها، كثيرون يبدؤون في الواحدة صباحًا، ينتهون منها، ويبدؤون أخرى في الظهيرة، ينتهون منها، ثم يذهبون إلى مكان مختلف في اليوم التالي. كانت لديك قائمة الأغاني٢. الأعياد في جزيرة مان٣ أو في بلاكبول٤ وأغنية «فولاريه»٥. شعرنا جميعًا أننا مميّزون لكننا شعرنا بالأمان في ذات الوقت. لستُ أدري. لا أقول إنّ هذا صحيح، ولكن الفتيات لم يكنّ يذهبن إلى الحانات. لم يكنّ يذهبن! وفي الحفلات الراقصة، كان كل الشبّان يتّجهون إلى الحانة المجاورة خلال فاصل الاستراحة. تبقى الفتيات في قاعة الرقص، ثم نعود جميعًا. والفتيات... كم كنّ جميلات جدًّا. آه عندما أفكر فيهنّ! (يضع يده على عينيه). كنت تظل تتودّد إليهنّ لأيام، تتودد إليهنّ، تمشي معهنّ وهنّ يحملن ستراتهنّ الصوفية فوق أذرعهنّ. (يرفع يده قبالة وجهه). والسينما. كنتَ تذهب إليها مرتين أو ثلاثًا خلال الأسبوع. النجوم، الموسيقى، الأسود والأبيض، القبلات، الجنس. لمّا أقول هذه الكلمة الآن، وكيف كنت أقولها سابقًا، أشعر أنها تترك فيّ أثرًا مختلفًا. أعرف أنها... أنها نفسها. لكنها مختلفة. لا أستطيع الهروب من الماضي. لا أستطيع. وبغض النظر عمّا يقولون، لا أفهم كيف يمكن أن يتحوّل ذاك الزمان إلى هذا الزمان. زمن مروّع جدًّا بالنسبة لي ومعقد جدًّا بالنسبة لي. لا خير في أن تكون فقيرًا أو عديم الفائدة. (ينظر إلى الأعلى والدموع في عينيه). أراهم الآن، أصدقائي القدامى، تستدير وجوههم الصغيرة وتبتسم. بحقّ الجحيم، من الذي يفسد الحياة؟ أنا، نحن، هم، أم الله؟».

العدد ٣١ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.