في صباحٍ ماطرٍ من شهر آب/ أغسطس ٢٠٠٩، في مهرجان إدنبرة المسرحي اقتربت مني دراماتورج فنلندية شديدة العذوبة مبتسمة، وحدّثتني عن مسرحية بعنوان «حياة في ثلاثة فصول».
قالت لي ضاحكة «إنها مسرحية على ثلاث حلقات. وتقدَّم في وقت الإفطار صباحًا. إنه نوع من كتابة وثائقية جديدة، أعجبتني. عليك بها».
عملتُ بنصيحتها وذهبتُ إلى مسرح «الترافيرس»، مهْد نهضة الكتابة الدرامية الإسكتلندية. رأيت يومها مارك رافنهيل، للمرة الأولى والوحيدة في حياتي، بهيئته التي تشبه ملاكمًا تقاعد في منتصف مهنته. دخل مبتسمًا إلى الخشبة (أو بالأحرى إلى مساحة اللعب لأنها كانت- إن لم تخنّي الذاكرة- صالةً متعددة الاستخدامات لا المسرح الأساسي في المبنى) وقد أحاط بها الجمهور من جهاتٍ ثلاث، ثم قال بطريقة استعراضية وهو يضحك:
«سيداتي سادتي أقدّم لكم بيتي بورن»
عندها دخل/ دخلت بيتي بورن ضاحكًا وقال/ قالت:
«أعتذر عن التأخير، كنت في الكنيسة...»
فانفجر الجمهور بدوره بالضحك.
جلسا قبالة بعضهما البعض وأمام كلّ منهما نوطةُ الحوار الذي أجرياه عن حياة المثلي-الممثل- المناضل بيتي بورن وأدّياها أمامنا في عرض مسرحي شيّق. كانا يمثلان حوارهما. الكاتب المسرحي المشهور، الذي ليس بكاتب هنا، و(الدراغ كوين)، والرجل الذي ليس امرأة لكنه امرأة، الذي مثّل مرةً دور مرضعة جولييت مع فرقة شكسبير الملكية. تتوسطهما شاشة إسقاط إلى الخلف قليلاً، تمرّ عليها صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو قليلة من حياة بيتي على مدى ستّين سنة (وأغلبها لرفاقه الذين سقطوا في سنوات الإيدز الأولى).
اكتشفتُ شيئًا فشيئًا عالمًا مركّبًا من الغرابة والقسوة والعذوبة في مسرح السيرة الذاتية والسرد والتوثيق وإعادة الصياغة هذا. كان رافنهيل قد التقى ببيتي بورن وسجّل معه/ معها حديثًا مطولًا ثم حرّر هذا الحوار، وها هما يمثّلانه في عرضٍ حقق نجاحًا منقطع النظير. ربيع الشعوب في ستينيات أوروبا ذاك، المسرح التجريبي وفرَق العمل الجماعي والإبداع المشترك للعروض، الثورة الجنسية، وكلّ ما هو جنسي هو سياسي، الروك وفرقة شكسبير الملكية، المبدعون في السلطة والجواب المدوّن في الريح، كل ذلك وغيره مرّ عبر ذكريات عشوائية من حياة شابّ من ذلك الزمان غدا الآن ستينيًّا يحدّق في عينَي الموت ويتنهّد مطلِقًا النكات البذيئة وشغفَ الخشبة في آنٍ واحد.
في الصباح الثالث، في اليوم الثالث، في الحلقة الثالثة أو الفصل الثالث وفيما نحن نتابع بخفّةٍ ثرثرة بيتي بورن، تحدّث/ت عن والده/ ها فكان هذا المقطع:
(بيتي بورن: مات والدي. مات الختيار. كانت صدمة هائلة لدرجة أنني انفجرت باكيًا. لم يكن لي حقيقةً أيّ علاقةٍ به. لم أكن أحبه. لم أكن أعرفه حقًّا. لكن أظن أننا كنا قد تجاوزنا كل هذه البضاعة الشبابية وقتها، مجرّد أنني لم أرَه قط. لكنه كان أبي، لذا كان للأمر تأثيرٌ ما، تعرف كيف... ضربةٌ من نوعٍ ما.
كانت أمي منزعجة. وكانت حينها قد تزوجت أصلاً مرتين برجلين آخرين، لكنها بقيت مغرمةً به، كانت منزعجة بشكل رهيب.
أذكر مرة أنه اتصل بي وأنا في بيتها ليحدّثني لغرضٍ ما فقالت هي:
«أهذا بابا؟ أعطني الهاتف».
ثم قالت له: «مرحبا، كيف حالك؟ كذا وكذا... ما زلت أحبك، أتعرف!».
وأعطتني الهاتف من جديد.
هذا غريب، أفترض أنك، إن أحببت شخصًا بحقّ، ليس بسهولة أنت، فذلك لا يغيب أبدًا، على ما يقال...)١.
تأمّلنا جميعًا المشهد باختناق: رجل عجوز في ثياب امرأة عجوز يقلّد صوت امرأة عجوز تقول لرجل عجوز هجَرها قبل زمن طويل: «ما زلت أحبك، أتعرف!».
ساد لحْظتها ذلك النوع من الصمت الذي وُجد المسرح من أجله. حالة التمسرح الوجودية لدى رجل مِثليّ يحب ارتداء أثواب النساء وجدتْ مكانَها في قلب صباح عشاق مسرح الطليعة اليسارية (والغرباء أمثالي) في بلد الليبرالية الجديدة ومختبرها الأول. حدّق الجمهور بالكاتب وشخصيته وشعروا أنهم تلقّوا تلك الضربة في منتصف الوجه أو القلب.
أصابنا مارك رافنهيل في مقتل
كان هذا لقائي الأول الفعلي (بالإنكليزية) مع «مسرح اللكمة»، هذا اللفظ الذي استعاده النقد الإنكليزي في تسعينيات القرن العشرين بخصوص كتّابٍ مثل سارا كين أو مارك رافنهيل، واللذين سرعان ما تُرجما، خصوصًا إلى الألمانية، حيث عَرف هذا المسرح المغرق في الواقعية نجاحًا كبيرًا.
كنتُ قد شاهدت في باريس خلال دراستي بين عامَي ١٩٩٨ و٢٠٠٥ «عوز» بالألمانية في إخراج توماس أوسترماير، و«ذُهان الرابعة وثمانٍ وأربعين دقيقة» في إخراج كلود ريجي، و«حب فيدرا» في إخراجٍ باهت في مسرح الباستيل و«مَنسوفون» نص سارا كين الأول في مسرح الكولين مع باسكال غريغوري (وجلس خلفي يومها إدوارد بوند وزوجته في المسرح). بذلك شاهدت كل أعمال سارا كين تقريبًا في ظرف ثلاث سنوات تلَت انتحارها في سنة القرن الماضي الأخيرة. إلا أنني لم أشاهد رافنهيل قطّ في تلك المسارح الوطنية الكبرى. تحدّث عنه أستاذي باتريس برافيس في سيمينير الكتابة المعاصرة في جامعة باريس الثامنة في معرض حديثه عن كزافييه دورانجيه باعتباره أكثر أصالةً من المسرحي الفرنسي الذي نقل رافنهيل مسرحيتَه «رغبة بالقتل» على طرف اللسان إلى الإنكليزية. لكن بمعنى ما، بدا رافنهيل واقعيًّا زيادةً عن اللزوم، قليل الطليعية أو مِثليًّا بطريقة تعجب الألمان ربما أكثر ممّا تروق للفرنسيين.
لذا استغرقني الأمر حتى تلك الصباحات الثلاثة في مسرح «الترافيرس» في نهاية صيف ٢٠٠٩ ليحدث اللقاء الحقيقي فعلاً. اللقاءُ الذي أدركتُ معه معنى أدبية وسياسية عمل هذا الكاتب الملتزم وابن عصره في الوقت ذاته. كانت المرة الأولى التي ألمس فيها حيوية وراهنيّة وعذوبة هذا المسرح القاسي.
من هو إذًا مارك رافنهيل الذي نقدّم هنا لهذا المشهد من مسرحيته الأشهَر حتى الآن: Shopping And Fucking «تسوّق ومضاجعة»؟
حضور طيف الموت
ولد رافنهيل عام ١٩٦٦ في «ويست ساسِكس» ونشأ فيها. درس الأدب الإنكليزي والمسرحَ في جامعة بريستول، ثم انتقل إلى لندن حيث عمل في البداية مديرًا إداريًّا مساعدًا في مسرح «سوهو بولي»، ثم غدا مديرَ ورشة ذاك المسرح بين ١٩٨٩ و١٩٩١. شُخّص رافنهيل عام ١٩٩٠ بمرض الإيدز، وفقَد عام ١٩٩٣ رفيقه نتيجة مضاعفات هذا المرض. وسيكون بالتالي لِطَيْف الموت والمرض حضورُه الجاثم على مجمل عمله الإبداعي. عام ١٩٩٥ شاهد ماكس ستافورد كلارك، المخرجُ الإنكليزي المخضرم ومديرُ فرقة «آوت أوف جوينت» المسرحية، مسرحيةَ رافنهيل القصيرة «قبضة» في مسرح «فينبورو» فشجّعه على مواصلة مشروعه في توثيق قِيم جيله ولُغته، ممّا قاده إلى إنجاز «تسوّق ومضاجعة» التي قُدّمت عام ١٩٩٦ في مسرح «الرويال كورت» غدتْ مع مسرحية سارا كين «منسوفون» عام ١٩٩٥ بداية فصل جديد في تاريخ المسرح البريطاني. حتى أن مايكل بيلينغتون، الناقد المسرحي الصحافي الأشهر في بريطانيا، وصفت «سوق ومضاجعة» لاحقًا بأنها المسرحية التي عرّفت عقدَ التسعينيات.
عام ١٩٩٧ غدا رافنهيل المدير الأدبي (التسمية الإنكليزية للدراماتورج) لفرقة «بينز بلاف» المسرحية المعنيّة بالكتابة الجديدة، وكَتَب مسرحيته «فاوست ميت» لفرقة الممثلين الجوّالين بإدارة نيك فيليبو. مسرحيتاه التاليتان، «حقيبة يد» التي أخرجها فيليبو أيضًا و«بضع صور البولورايد الفاضحة» التي أخرجها ستافورد كلارك لفرقة «آوت أوف جوينت» عام ١٩٩٩، كرّستا مكانته ضمن المسرح البريطاني باعتباره واحدًا من أقوى أصوات الكتابة الجديدة وقتها ولا يزال إلى الآن.
خلال الربع الأول من قرننا الواحد والعشرين، غدت مسرحيات رافنهيل أكثر تجريبية على مستوى البُنية والتجريد. «منزل دعارة الأم كلاب Mother Clap» في المسرح الوطني الإنكليزي عام ٢٠٠٠، إنتاج فرقة «بينز بلاف» ٢٠٠٥ «القطع» في مسرح دونمار ٢٠٠٦؛ «مسبح» (بلا ماء) ففرقة «فرانتيك أسمبلي» ٢٠٠٦؛ «أطلِق/ خذ كنز، أعِد» مع فرقة «بينز بلاف» ٢٠٠٨؛ «حياة في ثلاثة فصول» ٢٠٠٩ والتي انتقلت من إدنبرة إلى لندن ثم إلى جولة عالمية. وفي ٢٠١٠ أخرَج المخرج الألماني الشهير ومدير فرقة «البرلينر أنسامبل» وقتها «أطلِق/خذ كنز/أعد» بعنوان «حرية وديموقراطية إني أكرهكما». بعدها تنوّعت أعمال رافنهيل بين مسرحٍ للمراهقين في «مواطنة» وكتابة ليبيريتو لأوبرا «عشرة طواعين» وصولاً إلى مسرحيته الأخيرة «آنجيلا» في عام ٢٠٢٠ وهي عن والدته التي فقدها مؤخرًا وعن الخَرَف والذاكرة.
«مسرح اللكمة» في عيون النقاد
في قاموس العروض الأدائية والمسرح المعاصر يعرّف باتريس بافيس «مسرح اللكمة»، الذي يُعتبر رافنهيل أبرز ممثليه التاريخيين، على هذا النحو طارحًا أسئلةً على حدود هذا التيّار الجمالية والفكرية:
«يتنافس (في هذا المسرح) النص والتمثيل في الاستفزاز والانتهاك والشطَط: العديد من المواقف وأنماط السلوك التي اعتادها المتفرّجون بالتأكيد عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، ولكنها إذ تُقدَّم لهم على الخشبة، تمسّهم عن قرب وبشكل جسدي ساعيةً إلى إقلاق وضعيّتهم بأقصى صورة ممكنة محطمةً كلّ التابوهات التي يمكن تخيّلها. يضع مسرح اللكمة هذا، عبر إظهاره الأشياء تحت إضاءةٍ فجّة وإضافته لتفاصيل مثيرة للكآبة ولعبه بالدرجة ذاتها على لغة قمامية وحقائق مقزّزة، الجمهورَ في حالة صدمة أو إحباط إلى الأبد، لأن المتفرّج قادر دائمًا على أخذ مسافة ورفض المعاملة المسيئة التي ننزلها به. بحسب آلكس سيرز (Aleks Sierz)، أفضل مؤرّخي هذه الجمالية، «النقطة الأساسية تكمن في أنّ «مسرح اللكمة» هذا يقول لنا أكثر ممّا نحن عليه فعلاً. على عكس نمط المسرح الذي يسمح لنا بأن نستريح في مقاعدنا لنتأمل ما نراه في حالة انفصال، يجرّنا أفضل أنواع «مسرح اللكمة» في رحلةٍ عاطفية انفعالية ويخترقنا في أجسادنا. بعبارات أخرى، هو مسرح تجربة وليس مسرح تخمين». يبقى على الرغم من ذلك أن نقوّم هذه المعالجة: «ما هو الأثر، أبعد من الصدمة أو من القرف، الذي تحْدثه فينا؟ أيّ انفعالات قصوى وأحشائية تثير؟ هل تبلغ حقًّا الهدف المنوط عمومًا بتقنية الهول والعنف والانحطاط هذه؟»٢.
يبدو مسرح رافنهيل جوابًا على هذه التساؤلات في تأكيده رؤيتَه السياسية. يقول ضمن مقالة في جريدة «الإندبندنت» إنّ إدوارد بوند، أبرز وأعتى كتّاب المسرح الإنكليز الملتزمين سياسيًّا، كان مدخلَه الحقيقي لعالم المسرح:
«كنت في العشرين عندما قرأت لأول مرة مسرحية إدوارد بوند «مُنقَذ». اكتشفت للمرة الأولى كاتبًا مسرحيًّا هو معاصري. نحّى بوند جانبًا كلّ رطانة المسرح البريطاني التقليدية. تواصلت شخصياته بجمَل مقتضبة، شعبية. يتطور الفعل الدرامي لديه عبر سلاسل من الضربات البصرية الصاعقة بقدر ما يتطوّر عبر الكلمات. كان عالمه عالمًا تعرفت عليه على الفور».
ويشرح في مقال آخر بعنوان «دمعة في النسيج» مهمّته الفنية بهذه الطريقة:
«لطالما كتبتُ في تضادٍّ مع النسبوية الأخلاقية. (...) أن تكتب ضد أزماننا ليّنة المراس والمتناقضة، حيث ذابت وتلاشت أي تراتبية قيَمية، أن تضع على الخشبة شيئًا يجعل الجمهور يقول: «هذا خطأ» – هذا بالتأكيد شيء استمتعت في إنجازه».
ويصف الناقد دان رابيلاتو، في تقديمه للمجلد الأول من «الأعمال الكاملة» لرافنهيل، رؤيته بأنها: «بشكل مضمر وواضح للعيان في ذات الوقت، رؤيةٌ اجتماعيةٌ بل وحتى اشتراكية. إنه يواجه الكل لا الشذرة فقط فلا يقدّم مجرّد صور فورية فاضحة بل الصورة الأكبر بذاتها». ليعود فيلاحظ في مكانٍ آخر أنّ لائحة الآباء الغائبين الطويلة في مسرحيات رافنهيل تشير إلى «أبوّة دولة الرفاه المختفية» في حقبة ما بعد ثاتشر.
ويؤكد بافيس نفسُه هذا البُعد السياسي فيقول: «إنه يرسم عملية تقويضٍ للسمعة أعمق واكثر إثارةً للقلق، ويكشف عن أجساد حقيقية وصراعات تاريخية وتناقضات مثيرة، ويجبر الجمهور على إعادة بناء قصة سياسية تمضي أبعد بكثير من مظهر الاستفزاز الجنسي فحسب».
ويتحدّث بيتر بيلينغهام عن مشروع رافنهيل الدرامي باعتباره يمتاز بـ«حساسية سياسية وأخلاقية معاصرة هي غالبًا في مقاومة فاعلة لما يدركه رافنهيل باعتباره فراغ العديد من السرديات ما بعد الحداثية الفاتر».
الرؤية والملاحظة
في المِثلية والمسرح
تجاوز عالمُ رافنهيل المسرحي عالمَ «تسوّق ومضاجعة» وحده وعالمَ «مسرح اللكمة». وفي ردّ أراه شديد البلاغة على تصورٍ ثقافي سياسي لكاتب الطليعة المسرحية في الخمسينيات، جون أوزبورن، مؤلف مسرحية «أُنظر خلفك بغضب»، يتبدّى رافنهيل، من دون الاستناد إلى الأفضلية الزمنية، بل في خطاب مناقض لسياسات التسويق الثقافية السائدة، بأنه كاتبٌ جعل شعارَه كلماتِ شكسبير الشهيرة في مسرحيته «الملك جون»: «إن هو إلا ابن حرامٍ لعصره مَن ليس مَذاقه الرؤية والملاحظة».
وكان أوزبورن قد كتب في رسالة شهيرة إلى جريدة «الديلي إكسبريس» بتاريخ ١١ نيسان/ أبريل ١٩٥٩ يقول فيها:
«منـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذ بداية عملي في (المهنة المسرحية) حاولتُ أن أهاجم السيطرة المثلية على كل حقولها... يبدو لي أن أغلب الفن المثلي ينحو لأن يكون مبالغًا في تقليديته، محافظًا، ومحدودًا، وضيّق الأفق، ومادحًا ذاته، ونرجسيًّا. هيمن مثليون موهوبون بشدة على المسرح الإنكليزي وكانت النتيجة الاستنقاع في شكل المسرحية المبهرج، غير الحقيقي، والديكورات الرائعة وتشكيلةً باذخة ولامعة من أسياد وسيدات المسرح. إني أبغض هذا النوع من المسرح وكل ما يمثله ويدافع عنه وسأواصل مهاجمته لأنه سيّئ، ولأنه مملّ، وهو فنٌّ خالٍ من المغامرة. إن كان الفن السويّ فنًّا أفضل، فلننتج بعضًا منه».
فكتب رافنهيل عام ١٩٩٩ في مجلة «حال المسرحية» ضمن عددٍ بعنوان «عن كتّاب المسرح وعن الكتابة المسرحية»، من تحرير ديفيد إدغار، أحد كتّاب اليسار (الرسميين) الثلاثة في السبعينيات، مــــــــــــــــــــــــــستعيدًا نص أوزبورن ومنظوره:
«كتابة المسرحيات أمر أصعب بكثير بالنسبة إليّ من أن أشغل نفسي بخدمة أيّ أفكارٍ نظرية فيما أنا أكتب تلك المسرحيات. أعرف أنني لا أريد أن أكتب مسرحيات مثلية، لأنني لست حريصًا إلى تلك الدرجة على أن أكون (رجلاً مثليًّا).
«مصطلح (مِثلي)، بما هو منتج، قد تمّ استملاكه نهائيًّا باعتباره فئة استهلاكية، لا باعتباره تعريفًا سياسيًّا لذات المرء. حاول مثليون راديكاليون تسمية أنفسهم «كويريون» لكنّ ذلك بدا سخيفًا بعض الشيء على الدوام. لذا أسمّي نفسي على الأغلب (ما بعد-مثلي)، على الأقل إلى أن يظهر اسم أفضل منه. (المسرح المثلي) غدا (مسرح كالفين٣) – وقد سمّي كذلك بسبب السروال الداخلي الذي يرتديه أبطاله بفخر وكثافة كبيرين – وهو ما يبدو غالبًا مادحًا للذات ونرجسيًّا كما قال أوزبورن أنه سيكون».
«أقرأ وأترجم وألخّص وليمة الآراء النقدية هذه في ذهاب وإياب بين الرؤية الاجتماعية وجدل سياسات الهوية مفكرًا بواقع أنني أتحدّث هنا عن بريطانيا، أي عن البلد الذي أُنتجتْ فيه خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ثلاثةُ آلاف مسرحية جديدة. ومع تنقّلي في هذه العجالة السريعة بين عديد الكتب٤ التي تتحدث عن رافنهيل، أرجع دائمًا إلى صورة العرض الحيّ، إلى «حياة في ثلاثة فصول»، إلى صورة بيتي بورن وصوته المشروخ المنقوع بالألم والشغف وهو يقول من جديد في ذلك العرض قبل اثنتي عشرة سنة، مشتكيًا إلى الخصم والحكم في ذات الإنسان الذي هجره: «مازلت أحبك، أتعرف!»
«فأرى جلاء وصحة كلمات الناقد كاريداد سفيش: «يكتب رافنهيل ليستخلص وينتج معنًى من عالم منسوف. منسوفٍ لكنه غير مكسور. هذه الدرجة من الأمل الذي لا سبيل لدحره (ضد الأمل) هي التي تميّز عمله عن معاصريه».
بمثابة تقديم
ضمن تمرين دراماتورجي لعله كان الأمتعَ بالنسبة لي حتى اليوم في مهنتي مخرجًا، وبمعنًى ما (كاتب خشبة)، قدّمتُ في الشهر الأخير من عام ٢٠١٠ في دمشق إعدادًا للمشهد الثاني من مسرحية رافنهيل «تسوّق ومضاجعة» التي ترجمتُها كاملةً ولم أنشرها بعد. دخل ذلك المشهد في صلب عرض كان عنوانه «حدث ذلك غدًا». كان المشهد الافتتاحي لمسرحيةٍ عن هواجس عالم العمل وعلاقة الأجيال بعضها ببعض.
تضمّن العرضُ بالإضافة إلى مشهد رافنهيل مونولوجَين للإيطاليَّين داريو فو وفرانكا راميه من مجموعةِ مونولوجاتهما النسوية في نهاية السبعينيات هما «عاهرة المصحّ العقلي» و«حدث ذلك غدًا»، ومسرحيةَ الألماني فرانتز كزافيه كروتز الصامتة «حفلة على الطلب». قُدّم أيضًا هذا العرض لاحقًا في مسرح «دوّار الشمس» في بيروت و«مسرح الرور» في ألمانيا. رافنهيل، الذي بدأ مهنته المسرحية بعد زمن تطويب مُعلميه الثلاثة الكبار هؤلاء بجيلين أو جيل على الأقل، بدا المدخلَ والامتدادَ والمحاور الكامل لحساسيات فرسان المسرح الدراماتورجية والسياسية المرهفة أولئك: صنّاع المسرح التجريبي والمشتبك بالواقع في السبعينيات مثل فو وكروتز وراميه، الرجال والنساء المترعين بالحب والذين قارعوا شياطين وكوابيس الرأسمالية في مراحل صياغة النيوليبرالية كمشروع في أوروبا الغربية عبر ذلك العقد عندما كان ما زال ثمة نبض في المثال.
استوعبتُ مع تلك التجربة المسرحية المعنى العميقَ لأفكار مثل نقل المعارف والتمثل والاقتحام المجدّد للتجربة الإنسانية عبر وسيط المسرح باعتباره اللحظة التي يدرك فيها المجتمع ضرورة اتخاذه المسافة من ذاته في جحيمه وتألقه معًا. وعيٌ ما برح يتجدد مع كل محاولة استكشاف للمسرح الحقيقي اليوم هنا وفي كل مكان.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.