العدد ٣١ - ٢٠٢١

جعفر حسن، الفينيل والغيتار

أنا مصاب بإدمانٍ تستحيل السيطرة عليه، أحبّ أسطوانات الفونوغراف الفينيليّة وأعشق جَمْعَها. أنا على هذه الحال منذ زمن بعيد، مذ كنت في السابعةَ عشرة؛ أهتمّ بالغريب والنادر منها، خصوصًا الأُسطوانات العربيّة. كان دائمًا من الصعب جدًّا إيجاد اسطواناتٍ أعتبرها «جيّدة»، تحديدًا من الحقبة التي انتشر فيها إنتاج واستيراد الأسطوانات الفينيليّة خلال ستينيّات وسبعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى الثمانينيّات نوعًا ما. عمومًا، أتى معظم الأسطوانات التي وقعتُ عليها ضمن أنواع محدودة غريبة وغير مثيرة للاهتمام في غالبيتها.

«لنغنّ معًا»

كنتُ قد سمعت عن ألبوم موسيقى روك شعبيّة عربيّة اشتراكيّة، بدا خرافيًّا، فقد قرأت عنه لكن لم يتسنّ لي سماعه. وهو لم يكن منشورًا كطبعة خاصّة فحسب، بل كان نادرًا، نوعًا ما، ومطلوبًا جدًّا من قِبل العديد من هواة الجمع. بالطبع، رغبتُ في التفتيش عن هذه الدرّة، علمًا أن توقعاتي كانت في حدّها الأدنى أن أضمّه إلى مجموعتي الموسيقية. تبيّن أنّ المهمّة ليست سهلة، إذ استمرّ بحثي عنه لسنوات، لكني في النهاية وجدت نسخةً منه بسعرٍ مرتفع قليلاً. في الحقيقة، ولا أريد المبالغة هنا، كان العثور على قطعة الموسيقى هذه من أهم ما تمكّنت من إيجاده خلال بحثي الموسيقي.

لأني أميلُ عمومًا إلى انتقاد تصميم الأسطوانات وتنفيذها، فإنّ مزاوجة كافة المفاهيم لإيجاد هذا الشيء الملموس أمرٌ مهمّ للغاية بالنسبة لي. وبصراحة تامّة، تحاكي أسطوانة «لنغنِّ معًا» الكمال. غلاف الأسطوانة كناية عن رسمٍ تخطيطي يصوّر جعفر حسن بقميصه الأحمر الذي ينزف لونه ليصبّ في ما تبقّى من الأرضيّة الحمراء بما يشبه الملصقات السياسية، بالإضافة إلى كتابة العنوان باللغتين العربية والإنكليزية وتوزيعه على أنماط أربعة من الحروف الطباعية المنظمة عموديًّا وأفقيًّا. ومن العنوان، «لنغنّ معًا»، نفهم على الفور مقاصد الفنان.

أما الجهة الخلفية للغلاف فواحدة من الأكثر تأثيرًا ضمن مجموعتي. لقد كُتبت عليها بخط أسود عريض، وباللغتين العربية والإنكليزية، سيرةُ جعفر حسن المختصرة بما يتّصل بالألبوم، وكذلك عناوين الأغنيات. الغريب في الأمر أنّ الحروف طُبعت كأنّها نصوص كُتبت بخط اليد على قطعة من الورق نَفذت مساحةُ الكتابة عليها مع مشارفة النص على الانتهاء، فكان على الأخير أن يصغر كي يتموضع ضمن السطرين الأخيرين. جودة استثنائيّة. يقدّم النص جعفر حسن بوصفه «مغنٍّ عراقي تقدّمي»، مشيرًا بالتالي إلى المضمون الاشتراكي للألبوم، ومن دون أن يتفادى تقديم نفسه على أنه صاحب إيديولوجية اشتراكيّة شيوعيّة.

بعد ارتواء النظر ننتقل إلى الموسيقى. حالما وضعتُ الأُسطوانة على القرص الدوّار كان من الصعب احتواء الإثارة. حتى تلك اللحظة كنت قد سمعت من الألبوم ثلاث أغنيات ظهرتْ سابقًا في مجموعة من موسيقى البوب والفولكلور العراقيّة التي صدرت مؤخرًا في الولايات المتحدة. كانت الأغنيات الثلاث رائعة، وكنت في غاية الفضول للاستماع إلى الألبوم كاملاً.

بلا تردّد، أعترف بأني وقعت في الحال في حبّ كلّ ما يتعلّق بالأسطوانة. الإنتاج غاية في البراعة؛ ولا أعني أنّه أفضل ما يمكن إنتاجه من تسجيل في الاستديوهات وأنه ذو دقة عالية، فعلى العكس من ذلك، تقع الأسطوانة على مسامعك ككبسولة زمنية. هي ليست مؤرّخة، لكنها بنْت زمانها في الكثير من النواحي. يصعب جدًّا تفسير الأمر، لكن هذا الغنى في الدفء الذي يبثّه الألبوم له وقع رائع على السمع. يتدفّق الألبوم عبر الأغنيات ببراعة فيحيك صوتُ جعفر حسن مع قيثارته نسيجًا موسيقيًّا يتركك مفعمًا بشعور من الارتباط العميق، ليس به وبصوته فحسب، بل بما يغنّي عنه وفي سبيله. يستحضر حسن قصّةَ الشرق الأوسط المتأزّم من خلال صور شاعريّة تحفل بالأمل، يساندها تناغم في الموسيقى وأصوات الجوقة التي تغنّي وتكرّر، مع تركيز على فلسطين ولبنان. مجددًا، يقول الألبوم الكثير عمّا يريد الفنان توجيه انتباهنا وشعورنا إليه.

من المهم الإشارة إلى أنّ جعفر حسن أطلق عام ١٩٧٨ ألبومًا لأغنية اشتراكية فولكلورية ونشره كطبعة خاصّة، كانت جميعُ أغنياته باللغة العربية لكنّ الآلات الموسيقيّة وتوزيعها غربيّة بالكامل؛ ومع ذلك، وبطريقة ما، أنجز ألبومًا متجذّرًا في نتاج التاريخ الثقافي الجمعي للمنطقة. هذا فعلاً إنجاز يؤمل يومًا ما أن يسمعه كثيرون، خصوصًا أن موسيقاه ورسالته تلامسان واقع اليوم بالقدر الذي لامستاه عام ١٩٧٨.

العدد ٣١ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.