العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

صناعة الترفيه والحداثة في بيروت زمن الانتداب

لا تكتمل رواية ولادة دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ من دون الإضاءة على التغييرات الاجتماعيّة والثقافيّة التي صاحبتْ بناءها، ومن ضمنها نشأةُ صناعة الترفيه التي غيّرت طابعَ الحياة اليوميّة في المدينة، وساهمت تدريجيًّا في بناء صورة بيروت كمدينةٍ للثقافة والترفيه والفنّ.

منذ نهاية القرن التاسع عشر، تحوَّلت بيروتُ إلى مدينةٍ ساحليّة رئيسيّة على البحر المتوسّط تتنافس مباشرةً مع القاهرة وحلب ودمشق، وذلك مع اندماجها في الاقتصاد العالميّ وانتشار الهجرة الاقتصاديّة والسياسيّة. وبعد الحرب الكبرى، انتقلتْ بيروت بمؤسّساتها وسياساتها، من عاصمةٍ عثمانيّة (منذ عام ١٨٨٨) إلى عاصمة دولة لبنان الكبير وعاصمة الانتداب الفرنسيّ على سورية ولبنان (١ أيلول/ سبتمبر ١٩٢٠). باتتْ تُعتبر واجهةً للوجود الفرنسيّ، وتمحورت الجهودُ حول كيفيّة تحديث المدينة والمجتمع. إضافةً إلى ذلك، دخلت المنطقةُ في الاستهلاك المحليّ للمنتجات العالميّة مع تداول آخر صيحات الموضة والنزعات الاستهلاكيّة، الى جانب الأسطوانات والأنواع الموسيقيّة المختلفة والأغاني وانتشار حفلات المطربين والموسيقيّين. فأضحتْ بيروت، مثلها مثل العديد من مدن الموانئ شرقيّ المتوسط، ممرًّا مهمًّا في رحلات المطربين في المنطقة، ونقطة دخول للسلع والأسطوانات وأنماط الترفيه الجديدة، ممّا أثّر في الحياة الثقافيّة فيها.

تسعى هذه المقالةُ1 إلى تتبّع التحوّل الثقافي والتغيّرات الاجتماعيّة العميقة التي طرأتْ على الحياة اليوميّة الليليّة في بيروت والتي عزّزتها مصالحُ السلطات الفرنسية والنزعات المحليّة بالحداثة والتجديد خلال فترة الانتداب بين 1920 و1943. وذلك من خلال دراسة ظهور أنماط وعادات ترفيهيّة جديدة، تستعرض كيف أصبحَ الترفيهُ مكوّنًا أساسيًّا في الحياة اليومية لعددٍ من سكان المدينة ومساحةً لتكوين هويّة وثقافة محليّة. وتجادل المقالةُ بأنّ الترفيه أدى دورًا رئيسيًّا في تحديث المدينة وتكوين صورة عنها وعن الفرد فيها. أما الهدفُ العامّ منها، ففهمُ كيف تلقّى المجتمع هذه التحوّلات الثقافية وانتشار المقاهي والملاهي والحانات والمطاعم والتي شكّلت حجرَ الزاوية في صناعة الترفيه التجاريّ خلال تلك الفترة.

بالاستناد إلى الأرشيف الصحافيّ والصوتيّ، أستعرضُ في هذه الدراسة أوّلاً التغّيرات التي واكبت نشأة الترفيه ودور الأفراد والسلطات الفرنسية في تعزيزها، لأستقصي لاحقًا كيف ناقش الأدباء حداثة المدينة عبر انتقادهم الحياة الترفيهيّة، ورسموا صورةً نموذجيّةً للمدينة ولموسيقاها، سواءٌ في الصحافة أو عبر الأغاني.

يمكّننا هذا الفحصُ التاريخيّ الدقيق لتفاعل الناس اليوميّ مع بعضهم البعض من فهم الآثار الثقافيّة الأوسع للانتداب الفرنسيّ وإنشاء لبنان الكبير وتأثيره على المدينة وصورتها، والاقتراب أكثر من تجارب الناس، لفهم كيف أصبحت بيروتُ «باريسَ الشرق» ومدينةَ الترفيه والسهر والثقافة خلال الستينيّات وأوائل السبعينيّات.

واجهةُ الانتداب الفرنسي

لم تكن سياسةُ الفرنسيّين في بيروت مختلفةً كثيرًا عنها في باقي المستعمرات أو بعيدةً عن الإرث العثمانيّ. لكن مع تشكّل دولة لبنان الكبير، أُعطي لبيروت دورٌ متزايدٌ على النطاق السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. كانت بيروت مقرًّا للمفوضيّة العليا والخدمات الإداريّة، وتعتبر مركزًا يصل بين دولتَي سورية ولبنان والعالم، ومركزَ أعمال تدور حوله المراكزُ الأخرى في المنطقة. عبر مينائها، كانت البضائع ترسَل إلى مدن الداخل السوريّ وتركيا والعراق وإيران وفلسطين ومصر وغيرها. سعت السلطاتُ الفرنسيّة والمحلّيّة إلى اختزال صورة وسلطة هذه الدولة الناشئة في بيروت، ممّا رسّخ المدينة كعاصمة سياسيّة وإداريّة وثقافيّة للانتداب الفرنسيّ في المنطقة وكمدينة منفتحة على الغرب2.

ساهم انفتاحُ بيروت التجاري والثقافي على البحر المتوسط منذ نهاية القرن التاسع عشر في ترسيخ وتطوير هذا الدور مع التداول المتزايد للمنتجات العالميّة ورأس المال والأفكار العالمية. كما ازداد النموُّ الديموغرافيّ للمدينة، المتكاثر منذ أواخر القرن التاسع عشر، لتصبح خلال فترة الانتداب مركزًا سكانيًّا متنوعًا أعطى للمدينة صبغة كوزموبوليتيّة، على الرغم من الفروقات الاجتماعيّة المتزايدة. وتحوّلت بيروت بسرعةٍ إلى مكانٍ يجذب آلاف النازحين من الأرياف ومن المنطقة، إلى جانب اللاجئين الهاربين من الصراعات الإقليميّة3.

سعى الفرنسيّون والسلطات المحلّيّة لاستكمال المشروع العثمانيّ لتوسيع وتطوير وسط المدينة القديمة من أجل تحويله إلى مركزٍ اقتصاديٍّ حديث. وُسِّعَت الطرقات لتسهيل حركة المرور والنقل، وأقيمت شبكة حديثة لتزويد المياه والكهرباء، كما عُزّزت شبكةُ اتصالات المدينة على حساب مناطق لبنانيّة أخرى. اتَّبع مشروعُ تحديث المدينة النموذجَ الباريسيّ الهوسماني مع مزج أنماطٍ معماريّة مختلفة، وذلك لمَنح المدينة وجهًا أوروبيًّا وكوزموبوليتيًّا يعكس الحضارة والثقافة الفرنسية، وبالتالي تحويلها إلى مركز حديث يمحي تدريجيًّا ماضيها العثماني4. جذبت المدينة الزائرين بمبانيها الجديدة ومخازنها وبضائعها ومنتجاتها الفاخرة المستوردة من باريس، خصوصًا مع التشجيع الفرنسي والمحلّي المتزايد لقطاعَي السياحة والمنتجعات.

شهدت بيروتُ تطوّرَ وجهها الحداثيّ على حساب التقليديّ، على عكس دمشق التي أدى المخطّطُ العمرانيُّ الذي وضعه الفرنسيون فيها إلى مزج ما بين المدينة الحديثة والتقليديّة5. اختفت تدريجيًّا المدينةُ القديمة في بيروت وأنماطُ حياتها. وترّكزت العلاقات الاجتماعيّة بين مركز مهيمن يسعى إلى الحداثة والتفرنج، وأطراف أكثر تقليدية غالبًا ما كانت مهمّشة، ما أثّر على المدينة على جميع المستويات، بما في ذلك الموسيقى والغناء والترفيه.

نشأة الاستهلاك الترفيهيّ

أدّت التغيّرات العمرانيّة والديموغرافيّة والتكنولوجيّة إلى تحوّلٍ أساسيٍّ في الحياة الثقافيّة في بيروت خلال فترة الانتداب، إذ ساهمت التحسيناتُ التدريجيّة في إنارة الشوارع والنقل وإشرافِ الشرطة، في تشجيع الناس على الخروج ليلاً، إلى جانب زيادة الدخل وتقليص ساعات العمل. وأدى السكان المحلّيون أيضًا دورًا مهمًّا في هذه التغييرات، إذ طوّر التجّار وروّاد الأعمال خدمات المدينة من تجارة وعمران وسياحة.

شهدتْ بيروت نموًّا سريعًا لأماكن الترفيه التجاريّة وظهور أنماطٍ ترفيهيّةٍ جديدة مع تشكيل نَوادٍ وجمعيّاتٍ ثقافيّة ومَرافق رياضيّة وشواطئ تجاريّة6. وقد عكست بذلك التغيّراتِ في الحياة اليوميّة لطبقةٍ وسطى ناشئة، تملك المال ووقت الفراغ لتقليد أسلوب الحياة الباريسيّة أكثر فأكثر. لم تكن بيروت استثناءً في المنطقة، فقد ازدهرت مختلف أنواع الترفيه في مدن حوض البحر المتوسط، من اسطنبول إلى وهران والدار البيضاء، مرورًا بحيفا والإسكندريّة والقاهرة وغيرها، وظهرت في هذه المدن أحياءٌ جديدة مخصصة للترفيه الليليّ، وشكّلتْ مراكز جذّابة للتواصل الاجتماعيّ في هذه المدن.

في بيروت، تمّ افتتاح حاناتٍ ومطاعمَ ومسارحَ وكازينوهات ومقاهيَ جديدة وفنادق ودوْر سينما في وسط المدينة (ساحة البرج) ومنطقة ميناء الحصن غرب بيروت7. وسرعان ما أضحتْ صناعة الترفيه مصدر ربحٍ لروّاد الأعمال الذين استثمروا الأموال في استقدام آخر التحسينات التكنولوجية بهدف تطوير مراكز الترفيه. سعى العديدُ من هذه الأماكن إلى توفير ترفيهٍ فنّيّ ٍحديث ومتطوّر لعملائه عبر مجموعة واسعة من وسائل التسلية، خصوصًا في ظل المنافسة المتزايدة، الأمر الذي فتح مجالاتٍ جديدةً لصناعة الموسيقى والترفيه. كما ظهرتْ تقنيّات ترفيهٍ جديدة ساهمت بتشكيل نواة الصناعة الموسيقيّة الجماهيريّة، مثل الراديو والغراموفون، والاستماع إليهما في المقاهي والمنازل.

تدريجيًّا، أصبحت الأنشطةُ التجاريّةُ الترفيهيّةُ عاملاً مهمًّا في الشبكة الاقتصاديّة للمدينة، والترفيهُ أكثر احترافًا. تراجع الاهتمامُ بوسائل الترفيه التقليديّة كالحكواتي وخيال الظلّ، وانتشرت العروضُ الموسيقيّة والمسرحيّات لفِرَق الهواة المحلّيّة ولفنّانين من لبنان وسورية وفلسطين ومصر وأوروبا كانوا يجوبون المنطقة ويُحيون الحفلات. تم استهلاك موسيقى الرقص الخفيفة والمصريّة والأغاني الهزليّة والكحول والطعام في كباريهات وملاهي وسط المدينة كـ«الباريزيانا» و«كوكب الشرق» و«الكريستال». أمّا منطقة الزيتونة وجادّة الفرنسيّين على طول خليج السان جورج، فقد أرستْ في المدينة، تحديدًا خلال الثلاثينيّات والأربعينيّات، نمَطَ حياةٍ ترفيهيًّا حديثًا لطبقة وسطى وبرجوازية تسعى إلى التشبّه بالغرب، وتتمحور حول السهر في ملاهي المدينة ومطاعمها، والشرب في باراتها، والتلاقي الاجتماعيّ في مقاهيها، والاستجمام في فنادقها وعلى شاطئ السان جورج والشواطئ الأخرى التي انتشرت خلال تلك الفترة.

أماكن جديدة لاختبار «الحداثة»

اختلفتْ هذه الأماكن بحسب نوعها وزبائنها وصِيتها ووسائل الترفيه التي كانت تقدّمّها. لكنّها غالبًا ما تميّزتْ بالاختلاط بين الجنسين، وتمّ تخصيص أيّامٍ وأماكنَ للنّساء في بعض المسارح والحفلات. تفاوتتْ أسعار الدخول إليها، ممّا ساهم في انفتاحها على فئاتٍ اجتماعيّة مختلفة8. وتردّدتْ أعدادٌ إضافيّةٌ من سكان المدينة على الأنشطة التجاريّة الترفيهيّة المتنوّعة، خصوصًا على العديد من المقاهي التي شكّلت أماكنَ للاستماع الجماعيّ والاستهلاك الثقافيّ للغراموفون والراديو وقراءة الصحف والشعر وحفلات الزجَل، والتي أصبحتْ جزءًا لا يتجزّأ من المخزون الثقافيّ في المدينة. سمح ذلك بالاختلاط وتشكيل علاقاتٍ اجتماعيّة جديدة والتعرّف على أنماطٍ سلوكيّة متنوّعة أثّرتْ في أساليب حياة الناس والتواصل الاجتماعيّ والعادات والتقاليد.

ساعد انتشارُ الصحف والطباعة على تعزيز هذه الأماكن ووسائل الترفيه، إذ واكبت الصحف التغييرَ الترفيهيَّ في المدينة وفتحت المجال للإعلان يوميًّا عن الملاهي والنوادي والحفلات الموسيقيّة. كانت الإعلانات الترفيهيّة تُنشر إلى جانب تلك التجاريّة عن الفنادق والمطاعم والمخازن الكبرى والألبسة وآخر صيحات الموضة والفونوغرافات والمشروبات الروحيّة والفرش المنزليّ. وغالبًا ما كان يتّم تسويقها كمنتجات حديثةٍ تتناسق مع روح العصر والتمدّن وتذوّق الفنّ الراقي9. توجّهتْ هذه الإعلاناتُ تحديدًا إلى الطبقة الوسطى القادرة على اقتناء هذه المشتريات، والطامحة إلى التمدّن والحداثة. وقد ساهمت الإعلانات

في رسم صورةٍ عن الفونوغراف والموسيقى والترفيه كوسائل للحداثة والرقيّ، عبر ربطها بمجموعةٍ من القَيم والمعتقدات الاجتماعيّة والثقافيّة المستوردة من السياقات الغربيّة وبالبيئة المحلّيّة، إذ غالبًا ما تمّ إظهارُ الفونوغراف أو الأسطوانات كسلعٍ تجلب السعادة والثقافة والحضارة والذوق للمجتمع. أمّا الحفلاتُ الموسيقيّة، فكانتْ تقدَّم كمساحاتٍ عامّة للتذّوق الموسيقيّ السليم والتلاقي الاجتماعيّ.

لعبتْ هذه الإعلاناتُ والأماكنُ دورًا مهمًّا في تشكيل ثقافة الطبقة الوسطى الناشئة وبَسْط سيطرتها على المدينة. وقد عزّز هذا وجودَ المنتوجات الاستهلاكيّة المختلفة وترسيخ استهلاكها كوسائل ترفيهيّة حديثة. كما ساهمَتْ في بثّ واستقبال الإنتاجات الثقافيّة الجديدة وجَمْع ناسٍ من مختلف الطبقات التي ناقشتْ وتفاعلتْ وشاركتْ أفكارها. وبذلك، شكّلت الإعلاناتُ أماكنَ لانتشار الأفكار الوطنيّة والأيديولوجيات القوميّة، ممّا أثّر في الثقافة المحليّة الجماهريّة النامية، وشارك برسم وترويج صورة بيروت المرتبطة بالترفيه والثقافة والفن والسهر، وتعزيز مركزيّتها.

الرّقابة الفرنسيّة

لم تكن السلطات الفرنسيّةُ بعيدةً عن هذه التغيّرات، إذ ساهمتْ في تطوير المشهد وتنظيم أماكن الترفيه والإشراف على مختلف وسائل التسلية عبر سَنّ القوانين والرقابة والترخيص، ضمن تنظيمٍ شامل للمهَن المختلفة في المدينة.

فور وصول الفرنسيّين إلى المدينة، فرضوا الحصولَ على تصريحٍ لأداء المسرحيّات وتنظيم الأمسيات الأدبيّة10، والضرائب على دُور السينما والمسارح والمقاهي والعروض الموسيقيّة والمسرحيّة والفنّانين والإنتاجات الموسيقيّة11. كما نظّمت الدعارة التي ربطتْها بأنشطة المغنّيات والراقصات المحليّات اللواتي أُجبرن، مثل بائعات الهوى، على الخضوع لفحوصات طبّيّة12. عام ١٩٢٤، أسّست حماية الملكية التجارية والصناعية والأدبيّة والموسيقيّة في سورية ولبنان بعد «اتفاقيّة برن».

عام ١٩٢٩، اتّخذ أيضًا المفوّض السامي لفرنسا في بلاد الشام هنري بونسو تدابيرَ تتعلّق بتنظيم عمل المطربين. تمّ تمديد السماح بالغناء والرقص والموسيقى حتى الساعة الثانية صباحًا، بعد أن كان الإغلاق عند الساعة العاشرة مساءً حسب القانون العثمانيّ13. تمّ تحديد عدد المطربين الأجانب في كل ملهى (عشرة كحدٍّ أقصى، مع مدّة إقامةٍ لا تتجاوز ستّة أشهر لكل مطربٍ أجنبيّ14). راقبت السلطاتُ الفرنسيّة حركةَ المطربين وأصحابِ الملاهي، ليصبح ممنوعًا على أيّ مطربٍ أجنبيٍّ دخولُ الدولة المنتدبة من دون إذنٍ مسبقٍ من المفوضيّة العليا. قُيِّدتْ بذلك حركةُ المغنّين وسهولة تنقّلهم اللتان مَيّزتا المشهدَ الموسيقيّ خلال الفترة العثمانيّة. وساهمتْ هذه الإجراءاتُ بزيادة نفوذ أصحاب الملاهي الذين أصبحوا الوسيط الأساسيَّ الذي يستجلب الفنّانين، ويستصدر لهم إجازات العمل والإقامات. كما راقبت السلطاتُ عملَ المغنّين اليوميّ، محدِّدةً ساعات عملهم وأطُرَه.

من خلال فرض الضرائب والرقابة وتنظيم عالم الترفيه والموسيقى، هدفت سلطاتُ الانتداب إلى حماية الموظفين والعسكريّين والإداريّين الفرنسيّين عبر تأمين وسائل ترفيهٍ آمنةٍ لهم. كما أرادتْ تشجيعَ الترفيه الحديث والمنظّم، ومراقبة الأماكن العامّة والمجتمع. وسَعتْ إلى فرض سيطرتها على رعاياها بطرقٍ مختلفة وممارسة الرقابة الاجتماعيّة للحدّ من انتشار الأفكار الوطنيّة والنزعات القوميّة وطبعًا تطوير الاقتصاد الذي أصبح يشمل، على نحوٍ متزايد، عالمَ الترفيه والسياحة. لكنْ سرعان ما شكّل عالمُ الترفيه الحديث هذا مصدرَ قلقٍ وإشكاليّةٍ في المدينة، انعكس في صحف تلك الفترة وأغانيها.

أماكن الترفيه: مصدر قلقٍ اجتماعي

لم يكن انتقادُ التغريب والتفرنج موضوعًا جديدًا على بيروت، إذ ناقش أدباءُ النهضة حداثةَ المدينة وتقدّمها وهويّتها منذ نهاية القرن التاسع عشر15. اعتقد الكثيرون أنّ الإفراط في التقليد والتغريب يشكّل خطرًا على تمدّن بيروت. وجادلوا بأنّ السبيل الرئيسيَّ لإنشاء مدينةٍ حديثةٍ هو بدمج التطّوّر الغربيّ الحديث مع التقاليد المحليّة وإنقاذ الثقافة المحليّة من التهديد الأوروبي، ومن السكان المحليّين المتفرنجين الذين يهدّدون هويّة المدينة بتقليدهم للغرب وعدم وعيهم لأهميّة الحفاظ على ثقافتهم. وبطبيعة الحال، انتقدوا مقاهيَ الغناء والموسيقى التي تزايدتْ تدريجيًّا، واعتبروها أماكنَ متخلّفةً ومراكزَ للفحش والمجون وتضيع الوقت.

تعمّق هذا الخطابُ خلال فترة الانتداب الفرنسيّ مع التغريب المتزايد للمدينة وانفتاحها على وسائل ترفيهٍ واستهلاكٍ جديدة وكثيرة شملتْ طبقاتٍ مختلفةً من المجتمع وتميّزت بالوجود النسائيّ في الفضاء العامّ. على سبيل المثال، انتقد أسعد عقل، الصحافيّ في جريدة «المعرض»، كيف أصبحتْ بيروت مدينةً تعجّ بأماكن ترفيهيّة متعدّدة تجذب المجتمع بأسره، قائلاً: «هل في استطاعتي أن أصِفَ ملاهيَها الزاهية، وأنديتها الساهرة ومسارحها المكتظّة وحاناتها العامرة ومغائرها الراقصة. في كلّ شارع تبصر حانة أو مرقصًا أو ناديًا للمقامرة. هذه بضاعةٌ رائجةٌ مرغوبة يُقبل عليها الموسرون والمعدَمون ويرتاد مرابعَها الأغنياءُ والمفلسون»16. كما نشرتْ الصحفُ في العشرينيّات والثلاثينيّات نقاشًا حادًّا ومتناقضًا حول هويّة المدينة وصورتها، تزامن مع انتقال المجتمع إلى الوضع الاستعماريّ. وانقسم الأدباءُ بين مؤيّدٍ للتغريب ومنتقدٍ له.

ناقش العديدُ من الأدباء والصحافيّين وضْعَ بيروتَ الجديد بعد وصول الفرنسيّين، متسائلين عن معنى ودور «العاصمة»، وعمّا يجعل بيروتَ مدينةً جذّابةً ومركزًا في المنطقة: ملاهيها وحياتها الليليّة، أم دُور نشْرِها وجامعاتها، وحفلاتها النوعية بين المثقّفين؟ تأسّف مثلاً محرّرُ جريدة «لسان الحال» عام ١٩٢٨ في افتتاحيّة مُعنْونة بـ«الحياة في بيروت، ملاهيها الكثيرة، احتلال المشروبات الأجنبيّة لباراتها وحاناتها»، على التغيير الجذريّ في أسلوب حياة المدينة بعد الحرب الكبرى و«احتلال» العادات الأجنبيّة17. الاحتلال بالنسبة له ليس فقط سياسيًّا، بل ثقافيٌّ أيضًا. واستنكر نزوعَ البيروتيّين إلى التباهي وتقليد الغرب وتَناسي الهويّة المحلّيّة، والركض خلف تيّار المدنيّة الحديث، وكتب: «إنّنا لا نريد محاربةَ التجدّد، بل هل الخلاعةُ وهل إنفاق الليالي حول موائد القمار وفي الحانات من التجدّد الذي ننشده؟».

أصرّ المحرّر على أهميّة بيروت ودورها على المستوى الوطني، فـ«بيروت هي الأستاذ، ومنها ينبعث في بقية البلاد إن صلاحًا فصلاح وإن فسادًا ففساد»، وهو دورٌ أُسند إلى بيروت وبُني تدريجيًّا في الصحافة والأدب منذ نهاية القرن التاسع عشر. اعتقد العديدُ من الأدباء أنّ على هذه المدينة أن تمثّلَ المدنيّة الحديثة وتصبح نموذجًا تعليميًّا وحضاريًّا للمنطقة، لكونها تمثّل جوهر المنطقة18. لكن بحسب محرّر «لسان الحال» لم تقُم المدينةُ بدورها، لا بل نشرت الرذائل، عبر كونها مكان تجمُّع الشبّان الذين يعودون إلى قراهم حاملين عاداتهم البيروتيّة السيّئة معهم. واستنكر غيابَ الحكومة وعدم مراقبتها للحياة الليليّة، وحزنَ على مصير بيروت بين مدن المنطقة، فالمدينة تتاجر في جميع المجالات، حتى اللهو، وأضحت «صاحبة العلم في هذا المضمار حتى أصبح كثيرون من شبّان فلسطين يقصدونها ليقضوا لياليَ لهوهم وملاذهم فيها»19.

ترشيد الترفيه

غالبًا ما تمّ توجيه الانتقادات إلى المقاهي والملاهي الليليّة، خصوصًا في صحيفة «لسان الحال» التي ربطتْها بالفساد الأخلاقيّ. اعتبرت الصّحيفةُ أنّه كان من المفترض أن تعكس هذه الأماكنُ صورةً حضاريّةً أكثر استنارةً لبيروت، خصوصًا لكونها أماكن العامّة. ووصفتْها بأنّها أماكنُ لتجمّع الطبقات الدنيا سيّئة السمعة، مندّدةً بخطورتها على المجتمع، حيث يهدر الشباب أوقاتَهم وأموالَهم مُعاشرين أصحابَ السوء، وتختلط المغنّيات بالرجال، مستعرضاتٍ أصواتهنّ وأجسادهنّ في هذه الأماكن العامّة. واتّهمتْها بأنّها أماكن للفجور، تفتقر إلى الحضارة وتساهم في تراجع المجتمع، في حين رأتْ في المسارح التي تُعرض فيها المسرحيّاتُ الأدبيّةُ والموسيقى الحديثة رمزًا للثقافة والحضارة. وغالبًا أيضًا ما تمّ انتقاد السلطات الرسميّة لسماحها بانتشار هذه الأماكن وعدم مراقبتها. ففي مقال آخرَ نُشر في «لسان الحال» بعنوان «الأخلاق في بيروت: لا تتركوا الباب مفتوحًا على مصراعيه»، انتقد المحرّرُ مرّةً أخرى انتشارَ الراقصات ودور القمار والدعارة، متّهمًا الحكومةَ بالإهمال، وداعيًا إلى تنظيم وإغلاق النوادي العديدة التي تحرّض على اللهو والخمول. كما طالَبَ بوضع جداول عمل لها كما هو الحال في «الدول المتحضّرة»20.

في مقالٍ بعنوان «الراقصات العاريات، أين المحافظة على الآداب العامّة»، انتقد بدوره الأديب الياس يوسف حاطوم (مؤسس مجلة الزنبقة) غيابَ الرقابة عن دُور الرقص والملاهي والسينما، موجّهًا أصابعَ الاتّهام الى أصحاب هذه الأماكن ولجنة مراقبة الروايات. ويُظهر مقالُ حاطوم إلى أيّ مدًى جذبتْ هذه الأماكنُ الناسَ، لكنّها أثارتْ مخاوف الرجال على صعيد أخلاق العائلة ووجود النساء في الفضاء العامّ: «شاهدنا في نهاية الرواية النهاريّة من رقصٍ خلاعيٍّ ما ينفر منه أصحابُ الأخلاق الكريمة ويجرح الآداب والعفاف. فما رأيكم في راقصةٍ عارية؟! أجل عارية تمامًا!... إلا ما يستر عورتَها بخرقةٍ صغيرة لا تزيد عن عرض الكفّ ترقص في أحد المسارح على منظرٍ من ألف مشاهد والأنوار الكهربائية الملوّنة مصوّبة إليها فتظهر في كل ثانية بمظهر جديد خلاعيّ جذّاب يثير الشهوة البهيميّة. ولو كان حادثًا يجري ليلاً على مرأى الرجال فقط، لربما هان الأمر ولربما كنا نسكت! لأنّ الرجل الذي يترك امرأته وأطفاله عرضةً للأهواء، وينغمس هو في المراقص الخلاعيّة والملاهي، لا حرج عليه! لأنّه عديم الأخلاق. أمّا أن تمثل وتظهرَ الراقصةُ بشكلها الطبيعيّ التام، وتعرض جسمَها وتقاطيعها بوضوحٍ أمام النساء والبنات والأولاد تجاه العيال في حفلاتٍ نهاريّة، فهذا قبيح وفظيع جدًّا وما لا نسكت عنه»21.

لقد شاع حينها هذا الخطابُ الغاضبُ تجاه تفشّي أنماط اللهو، والذي ينتقد وجود جمهورٍ نسائيّ ويطالب بحماية المرأة والعائلة المثاليّة من الفواحش. وغالبًا ما كان يتعلّق الأمرُ بترشيد الترفيه. وقد تمّ بذلُ العديد من الجهود لحظر أو تقييد الأشكال المختلفة للترفيه التي كانتْ تُعتبر بمثابة بؤرٍ لجميع رذائل المجتمع الحديث التي تمثّل تهديدًا له. وتعرّضت هذه الملاهي لانتقاداتٍ بسبب الراقصات «الفاسقات» أو الأغاني «الفاحشة». وكان هدفُ الإصلاحيّين إقامةَ رقابةٍ اجتماعيّة وتوازُن، تحديدًا في ما يخصّ تصرّفات النساء في الفضاء العامّ، والسيطرة على الطبقات الدنيا ووعظها من أجل إعادتها إلى صورة الطبقة الوسطى المثاليّة. لذا سعى الواعظون إلى المطالبة بمراقبة هذه الأماكن الترفيهيّة والحدّ منها، وشنّ الحملات ضدّ الدعارة، إلى جانب الترويج لأماكن جديدة للتواصل الاجتماعيّ، مثل النوادي الاجتماعيّة، التي تقدّم بنظرهم وسائلَ ترفيه «حديثة» ومحترَمة. ونُظِرَ إلى الأدب والموسيقى «الراقية» والفنون الجميلة والرياضة كأنشطة ترفيهيّةٍ محترمة، ومحلّ التقدير، وغالبًا ما يُروّج لها على أنها متعةٌ مقبولة أو مسموح بها من أجل خلق ثقافةٍ حديثة.

«أحضِروا لنا مفرِحًا»

لم تكتفِ النخَبُ المثقّفة في بيروت بالتعليق على أماكن الترفيه ودورها في المجتمع، بل ناقشتْ أيضًا مكانة الموسيقى التي تقدّمها المدينة وحداثتَها وطرقَ تحديثها. في مقال بعنوان «الأغنية التي نريدها اليوم. شبعنا عويلاً وبكاء. أحضِروا لنا مفرحًا»22، حلّل الصحافيّ في «لسان الحال» كرم البستاني (١٨٩٤–١٩٦٦) وضْعَ الموسيقى في بيروت. وعلى عكس أسعد عقل والياس يوسف حاطوم، لم تزعج البستاني الباراتُ والملاهي كثيرًا، لا بل طالب بموسيقى تتناسب مع التحوّلات المدنيّة والتغيّرات الاجتماعيّة التي أثّرتْ في الحياة اليوميّة في بيروت: «إنّنا نريد غناءً يصوّر حالتنا ويعبّر عمّا في نفوسنا ويناسب أذواقنا ويضرب على أوتار عواطفنا»23.

وانتقد البستاني تحديدًا سيطرةَ الأغاني المصريّة التي كانتْ تحظى بشعبيّةٍ كبيرة، لكنّها بالنسبة له لم تعُد تتوافق مع أسلوب حياة بيروت الحديث، فهي مليئة بالندب والعويل. رأى أنّ الشاب الحديث قد تغيّر وحياته الاجتماعيّة أضحتْ مرتبطةً بالسهَر وأماكن اللهو واستهلاك آخر الصيحات والخروج مع الحبيب. لذا بات «يتململ» من الموسيقى والغناء العربيّين، وينصرف عنهما إلى الموسيقى والغناء الأعجميّين، ولا لوم عليه فهو يرى كل شيء حوله قد تجدّد إلا إياهما فهما لا يزالان في ثوبهما البالي [...] هو ينفر إذا غنيّتَ له «ياما انت واحشني وروحي فيك» لأنّه يراه مخالفًا لواقع الأمر، وإنمّا يريد أن تغنّي له «ياما انت لاصق بي ليل ونهار».

وصَّف البستاني بيروتَ مدينةً حديثةً وجديدة، وشدّد على اختلاف الذوق بين الرجل المصريّ و«اللبناني السوري». فالأخير بنظره مواطنٌ حديثٌ يمتلك المعرفة والتاريخ والثقافة، ويتّبع قطار الحداثة. هو جزءٌ من مجتمعٍ متميّز مختلف عن المجتمع المصريّ، وينتمي إلى العصر الحديث، وبالتالي لا يمكنه تحمّل الموسيقى المصريّة المليئة بالرثاء. وكتب: «المصري طروب في طبيعته يستخفّه كل شيء، ويضحك طويلاً لأقلّ فكاهة أو حركة، أو نكتة، ويرمي بعمامته صعدًا هاتفًا آه اواه لأقلّ مقطع أو «قفلة» موسيقيّة، بَيدَ أنّ اللبنانيّ السوريّ على خلاف ذلك، وهذا ما جعَلَه يتبرّم بالغناء المصري لأنه لا يراه في جموده متفقًا ومجرى حياتِه الناهجة منهجَ التجدّد في كل أحوالها. ينفر من الموسيقى الكسول لأنه تعوّد الموسيقى الإفرنجيّةَ وحركاتها وسرعتَها إذ رآها تناسب سَير حياته، وهذا أيضًا يفسّر وقوف سوق قوالب الفونوغرافات المصريّة، فقد كانتْ تكتسح سوق بيروت وسوريا قبل أن أنزَلَ حنينُ المغنّي الشعبيّ البيروتيّ قوالبَه التي ماشى فيها الحياة»24. واعتبر البستاني أنّ على بيروتَ تطوير موسيقاها مستندةً إلى الموسيقى الغربيّة التي تتوافق أكثر مع روح العصر. أمّا مصر، فهي بنظره الشرقُ الراكدُ الذي يجب التخلّي عنه لمتابعة التطوّر العالميّ.

يعكس مقالُ البستاني خطابَ عددٍ متزايدٍ من أدباء المدينة الذين اعتقدوا بتميّز المدينة عن محيطها بسبب تمدّنها وإيقاع حياتها الحديث. ساهم هذا الخطابُ، الذي يربط بين الفرد والمجتمع ويحدّد صورةً مثاليّةً للفرد المتمدّن المتذوّق لموسيقى عصريّة، في إرساء أسسٍ لهويّةٍ محليّة حديثة ومتخيّلة مرتبطة بالمدينة العصريّة، بيروت، التي هي بدورها مختلفةٌ عن محيطها العربيّ بذوقها وفنونها وثقافتها. وبالنسبة للبستاني والعديد من المثقّفين البيروتيّين، جسّد الشاعرُ الشعبيّ عمر الزعنّي (حنين) الذي كتب وغنّى مونولوجاتٍ اجتماعيّة وسياسيّةً ساخرة، صورة المغنّي الحديث القادر على تمثيلهم، بموسيقاه ذات الإلهام الأوروبي، ونَصّه الذي يلامس الحياة اليوميّة ولغَته العامية الأكثر شيوعًا في المجتمع من اللهجة المصريّة أو الفصحى.

بيروت زهرةٌ في غير أوانها

كان عمر الزعنّي شاعرًا و«مونولوجيستًا» بيروتيًّا ذا شهرةٍ واسعة في المدينة، حادًّا في نقده للحياة الاجتماعيّة والسياسيّة خلال فترة الانتداب الفرنسي وبعد استقلال لبنان عام 1943. وكانت أغانيه، التي مزجت الإيقاعات الغربية الخفيفة بالنصوص العامّيّة الساخرة، تحظى بشعبيّة كبيرة. كما أنّها شاركت بطريقةٍ غير مباشرة في تشكيل خطابٍ شعبيٍّ حول بيروت كمدينةٍ متنوّرة معرّضة للخطر بسبب جهل أهلها وانحلال المجتمع والتهديد الاستعماري25. مجّد الزعنّي بيروت في أغانيه واصفًا إيّاها كمدينةٍ محبوبةٍ ذات «مكانة مقدّسة» و«مناظر خلابة» وتاريخٍ غنيٍّ وعاصمة ثقافيّة، مستخدمًا استعاراتٍ تعبيريّة مثل جنة سورية والزهرة. في الوقت نفسه، أعرب في أغانيه عن أسفه لمصير بيروت خلال فترة الانتداب الفرنسيّ وحزنه على ماضيها المجيد.

على سبيل المثال، في أغنيته الشهيرة «بيروت زهرة في غير أوانها»، وَصفَ الزعنّي بيروتَ كمدينة جميلةٍ ذات ماضٍ جميل لكنّها فقدتْ مجدها وبريقها بسبب التفرنج والاستعمار. المدينة مهدّدة من قبَل سكّانها وتصرّفاتهم المنحلّة. وانتقد الانبهارَ المتزايدَ بأنماط الاستهلاك الجديدة المستورَدة من أوروبا والمجتمع الاستهلاكيّ الذي يحاول تقليد الأوروبيّين بكل الوسائل، في أوقات فراغه وأنماط حياته وأماكن ترفيهه، في ملبسه ومظهره وأنماط استهلاكه. بالنسبة له، يكمن التدهورُ الاجتماعي والاقتصاديّ لبيروت في غزو العادات والمنتجات الأجنبيّة الأوروبية. اتّبع العديدُ من أغاني الزعنّي النمطَ نفسه، فتميّز بإضفاء الطابع الرومانسيّ على الوجه الثقافيّ والمستنير لبيروت، مع الحزن على تدهورها وفسادها وعدم المساواة الاجتماعيّة والوضع الاستعماريّ والتفرنج الشديد، كما في أغنياته «كريزة» و«شبان شيك» و«كلّه نظيف» أو «صندوق الفرجة». وقدّمت مجمل هذه الأغاني تماهيًا عاطفيًّا مع المدينة وفخرًا بالانتماء إليها على الرغم من الحزن على مصيرها.

لم يكن هذا الموقف من بيروت جديدًا. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، احتفى العديد من الشعراء بالمدينة وعمرانها وتمدّنها في قصائدهم ومدحهم، ناسبين لبيروت دورًا خاصًّا ومستقبلاً باهرًا في المنطقة بسبب موقعها الطبيعيّ والثقافي بين مصر وإسطنبول وبين أوروبا والهند26. وقد أصرّوا على التمييز بين العالَمين، الريفيّ والحضريّ، معتبرين أنّ الانتماء إلى المدينة في الخيال الاجتماعيّ هو الجزءُ الأساسيّ في بناء الأمّة. كان يُعتقد أنّ رأس مال بيروت الثقافيّ هو مصدرُ تطوّرها وحداثتها ومدنيّتها، معزّزةً بنموّها الاقتصاديّ، على عكس الريف الذي يشكّل فضاءَ ما قبل الحداثة غير الراقي27.

وهكذا كانت بيروت تصوّر في المخيّلة الجماعية كمكانٍ يختلط فيه الناس من أصولٍ وطبقاتٍ اجتماعيّة مختلفة، حيث تَختلط الثقافة والحداثة والعمران، وتُميّز الحياةَ اليوميّةَ للناس. ومع ذلك، بسبب التنافس بين النفوذ الأوروبيّ والهويّة المحليّة، وجهل بعض سكانها والعادات الاستهلاكيّة الجديدة، اعتُبرت المدينة بأنّها تحت تهديدٍ مستمرٍّ بسبب التدهور الاقتصاديّ والاجتماعيّ والفكريّ والتخلّف. وبذلك كانت في صراعٍ دائم من أجل التقدّم والمعرفة والثقافة والصقل الاجتماعي. شكّلت أهمية أغاني الزعنّي خروجَ هذه الأفكار من دائرة الصحف والمثقفين ووصولها إلى الأغاني، ممّا سهّلَ انتشارَها بين العامّة عبر الأسطوانات والمساحات العامّة حيث كانت تغنّى، وساهمتْ بذلك في شيوع هذه الصورة عن بيروت وفي تشكيل نواة ثقافةٍ جماهيريّةٍ محليّة تتمحور حول الانتماء إلى المدينة المستنيرة والمثقّفة والحديثة.

خسارة بيروت

قدّمت بيروتُ خلال فترة الانتداب تجاربَ حضريّةً جديدة، وأصبحت أوقاتُ الفراغ والترفيه جانبًا مهمًّا في الحياة اليوميّة لعدد متزايدٍ من أفراد المجتمع. عكَسَ ازدهارُ الترفيه الحديث التخلّي التدريجيّ عن أنماط الترفيه التقليديّة، وجسّد كيف اختبر البيروتيّون التغيّراتِ الثقافيّةَ التي طرأتْ على مدينتهم عبر انتقادها أو المشاركة في عمليّة تحديثها. وشكّلت أنواعُ الترفيه هذه رمزًا ووسيلةً للحداثة، اختارها الناس بسبب مواكبتها للعصر والسمات الاجتماعيّة التي تعكسها إلى جانب المتعة التي توفّرها، على الرغم من الإشكاليّات التي خلقتْها.

ومع التهميش التدريجيّ للمدن اللبنانيّة الأخرى منذ بداية الانتداب الفرنسيّ، وزيادة الدور الذي أعطتْه السلطاتُ الفرنسيّة لبيروت كعاصمةٍ مركزيّةٍ، احتكرت المدينةُ الخطابَ عن الموسيقىّ والترفيه والثقافة الجماهريّة للبلاد، واستولتْ على صناعتها. وتشكّلت صورة بيروت كمركزٍ ثقافيٍّ وترفيهيّ يعكس حداثة وتمدّن لبنان الكبير، لتتبلور أكثر بعد استقلال لبنان عام ١٩٤٣ مع تبنّي الدولة لخطاب «لبنان بلد السياحة والترفيه». وتعزّزتْ صناعة الترفيه أكثر مع تطوّر قطاع السياحة في لبنان، لتصبح جزءًا أساسيًّا في اقتصاد البلاد وتعطي لبيروت لقبها «سويسرا الشرق».

من جهة أخرى، وعلى الرغم من الدور المتزايد لبيروت، تغيّرت تدريجيًّا النظرةُ إلى العالم الريفيّ في المخيّلة الجماعيّة، إذ أصبح مكوّنًا مهمًّا في بناء السرد الوطنيّ مع ظهور جيل من المثقّفين (مثل جبران خليل جبران وأمين الريحاني وأنيس فريحة) بالإضافة إلى شعراء العامّيّة (الزجّالين) ولاحقًا مغنّين وموسيقيّين، تركوا قُراهم ليستقرّوا في بيروت أو في المهجر منذ بداية القرن العشرين. عزّز هذا الجيلُ الريفَ واللغة العامّيّة في كتاباته وأغانيه وأشعاره، وبنى حوله مخيّلاتٍ وطنية. تبلورَ هذا الخطابُ أكثر بعد الاستقلال. وفي الخمسينيّات، اعتبر القوميّون اللبنانيّون الثقافةَ الشعبيّة في قرى جبل لبنان مصدرًا أصيلاً لتشكيل ثقافة «لبنانيّة» مختلفة عن محيطها وموسيقى جديدة باتت تعرف بالموسيقى «اللبنانيّة» (ممثّلة بشكل أساسيٍّ بالأخوَين الرحباني، فيروز، صباح، زكي ناصيف، وديع الصافي وآخرين). لكن على الرغم من اعتمادها على الريف وفلكلوره، بقيتْ هذه الموسيقى وثيقةَ الصلة ببيروت ومرتبطة بشكل أساسيٍّ بالمدينة التي كانت مركز إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها، برغم انتشارها في لبنان وخارجه.

طوال القرن العشرين، تشكّلت صورةُ بيروت بين وجهين متعارضين ومتشابكين: حياتها الليليّة النابضة بالحياة من جهة، ودوائرها الفكريّة والثقافيّة من جهةٍ أخرى، دارتْ من حولهما أطرافها المهمّشة التي حاول الخطابُ الرسميُّ تناسيها أو محوها. اليوم، وبعد مضيّ مائة عام على تأسيس لبنان الكبير، خسرتْ بيروت رأس مالها وتناقضاتِها بالكامل، لتواجه أشدّ أزماتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.