العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

بيروت مدينة التلاقي في الستينيّات العالميّة

تقوم وسائل الإعلام المطبوعة، بما هي أدواتٌ عامّة جماليّة ووظيفيّة في آن واحد، بالإبلاغ والإرشاد والإغواء والتسلية والإلهام والتنفير. لكنّ الأهمّ من ذلك أنّها تدعو الأفراد إلى التصرّف ككائناتٍ مجتمعيّة. وهي تقوم بوظيفتها يوميًّا من خلال ملصقاتٍ ومناشيرَ ومنشوراتٍ وبطاقاتٍ سريعة الزوال، أو من خلال المطبوعات الدوريّة الأكثر ديمومةً نسبيًّا، أو على شكل الكتب المرجعيّة. وإنّ وفرة المادّة المطبوعة في البيت وفي الشارع وفي المحالّ والعمل وسط مشهد الحياة العصريّة — خصوصًا منذ منتصف القرن العشرين — تجعلها، للمفارقة، بالكاد مرئيّة. ذلك أنّ أُلْفتَها المعتادةَ هي تحديدًا ما يخفيها دائمًا عن العين غير الفضولة. وبالرغم من ذلك فإنّ القدرة على إبصارها تمنحها قوّة. إنّها تتمفصل عبر عملٍ سيميائيٍّ من الصوَر والرسوم وتتداخل في المعاني الثقافيّة والرموز التي تُوْحيها، كما تتجسّد في تركيباتٍ مطبعيّةٍ وفي طريقة القراءة البصَريّة التي تفرضها هذه التركيباتُ، والتي تظهر في التناصّ بين الصوَر والكلمات المطبوعة منها وغير المطبوعة، وفي إشاراتها إلى صورٍ ونصوصٍ وممارساتٍ وأفكارٍ وأناسٍ وأغراضٍ وأماكنَ أخرى — حقيقيّة كانت أم متخيّلة أم موعودة — وإلى البُعد العاطفيّ — الأحاسيس والرغبات والقلق — الذي تستحضره. وإنّها كامنةٌ أيضًا في التجربة الجماليّة لكامل التركيبة الغرافيكيّة، وفي المتعة أو النفور الذي تثيره، حيث المعاينةُ اليوميّة للموادّ المطبوعة تفرض قّوتها الخفيّة، وتستثير أحيانًا ردودَ فعلٍ على شكل تدخّلاتٍ مادّيّة — كممارسة الرقابة والتخريب والتمزيق — من أجل إحباط زخَمها المرئيّ حين يكون غيرَ مرغوبٍ فيه بنوعٍ خاصّ.

يبني كتابي الجديد، «الراديكاليّة الكوزموبوليتيّة: السياسة المرئيّة للستينيّات العالميّة في بيروت» (2020)1، على شغلٍ طويل المدى عن العلاقات بين الثقافة المرئيّة والتصميم الغرافيكيّ والسياسة ويعيد النظر في هذا الترابط من منظورٍ عالميٍّ وبَعد كولونياليّ. وتعتمد دراستي على الأرشيف المنسيّ لمطبوعاتٍ يوميّةٍ عصريّة من لبنانَ الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، وتلقي الضوءَ على الممارسات الفنّيّة والثقافات المرئيّة المرتبطة بالطباعة التي لم تُدرسْ على نحوٍ كافٍ، والمحدّدة بالصورة أو الشيء المطبوع القابل للنَّسخ وتداوله بنسَخٍ متعدّدة. وإنّي أعالج — خلال مدّ ظفراويٍّ لحركاتٍ عربيّةٍ مناهضة للاستعمار اكتسحت المنطقة في أعقاب حرب السويس. والثانية، وهي الحرب الأهليّة اللبنانيّة المطوّلة بين عامَي 1975 و1990، اندلعتْ في أعقاب حرب الـ1967 بين العرب وإسرائيل بالتزامن مع صعود المقاومة الفلسطينيّة في إطارٍ عالميٍّ ثوريٍّ مناهضٍ للامبرياليّة. لقد تمت دراسة تاريخ لبنان بين عامي 1958 و1976 بشكل وافٍ من باحثين دفعوا بعدة وجهات نظر عن أصل الصراع: هويّات سياسيّة طائفيّة، فروقات اقتصاديّة، تصوّرات وطنيّة متنافسة، تدخّل إقليميّ ودولي. لكن قليلة جدًّا هي الأعمالُ التي تتناول الأبعاد الثقافيّةَ للنزاع السياسيّ. كيف تقاطعت التكوينات العالميّة للحرب الباردة مع الصراع الإقليميّ ضدّ الاستعمار وفي الحياة اليوميّة في بيروت الستينيّات؟

يُنظر إلى ستينيّات لبنان، غالبًا بكثيرٍ من الحنين على أنّها «العقد الذهبيّ» بما هو ساحةٌ مزدهرةٌ من الرفاه والثقافة العصريّة في الشرق الأوسط. تستحضر أمثلة الحفلات الباهرة لأمثال أوركسترا نيويورك الفيلهارمونيّة في مهرجانات بعلبك الدوليّة أو صوَر صبايا يرتدين البيكيني ويستعرضْنه بأناقة على شاطئٍ متوسّطي، وهما نموذجان عن المشهد الكوزموبوليتاني للحداثة الذي كان يقدّمه لبنان. وعلى القدْر ذاتِه من الوعد كان مشهدُ التجارب الحداثويّة في الفنّ والأدب والذي ترك بصْمته في صفحات مجلّتَي «شعر» (1957–1964 و1967–1970) و«حوار» (1962–1967)، أو تجسّد في «سلسلة النفائس» (1967–1970) الصادرة عن «دار النهار»، والذي زيّن جدران معارضَ ودُور الفنون النابتة حديثًا. لكن كانت بيروت في الوقت نفسه تتطوّر كمنصّة للنشر الراديكاليّ في العالَم العربيّ وله، ومنارةٍ للأصوات المعترضة وملتقًى للالتزام السياسيّ المناهض للاستعمار من خلال الفنون، من مجلة «الآداب» (1953–إلى اليوم) إلى كتب الأطفال الراديكاليّة الصادرة عن «دار الفتى العربي» (1974–1994)، بالإضافة إلى متاهة من الملصقات الثوريّة التي عُلّقت على جدران المدينة والتي لا تقلّ أهمّيّةً عمّا سبق ذكره. انطلقت الكثير من هذه الممارسات والعناوين الثقافيّة في الخمسينيّات لتبلغ أوْجها في الستينيّات واستمرّتْ فعليًّا بالتطوّر خلال السبعينيّات. لذلك يمكن تسمية التوهّج الثقافيّ لبيروت السبعينيّات بالمديد، أي أنّها حقبةٌ تتخطّى الحدودَ التاريخيّة المصطَنعة المحدَّدة بالعقد من الزمن.

لكن على الرغم من بريق المجد هذا — أو قـد يكون بسببه — تميّزت الستينيّات المديدة بفروقاتٍ اجتماعيّة–اقتصاديّة محلّيّة تمأسستْ عبْر السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة من جهة ونظامٍ سياسيٍّ طائفيٍّ ركّز سلطة الحكم في الطائفة المارونيّة وأدامها من جهةٍ أخرى. ولعِب عدمُ المساواة الهيكليّ هذا دورًا ليس بالصغير في إثارة الاحتجاجات التي أدّتْ إلى صراعٍ عنيف. ورغم السياسات الإصلاحيّة ومشاريع بناء الدولة والتنمية في الحقبة الشهابيّة، استمرّت المشاكل الاجتماعيّة–الاقتصاديّة والمظلوميّة السياسيّة خلال الستينيّات. وبينما تتشارك لحظتا الصراع الأهليّ في 1958 و1975 في سياسات النزاعات المحلّيّة، تختلفان في طريقة التعبير عنها في سياق السياسات الإقليميّة والدوليّة. كانت ستينيّات بيروتَ المديدةُ مرتبطةً حتمًا وبشكلٍ لصيقٍ بعمليّات التحرّر من الاستعمار الإقليمية وتعقّدتْ بسبب التحوّلات التي شهدتْها قوى الإمبرياليّة في منظومة الحرب الباردة العالميّة الصاعدة. بناءً على ذلك، يمكن تشخيص بيروتَ كمدينة تلاقٍ في الستينيّات العالميّة. فهذه المدينةُ الواقعةُ شرقيّ المتوسّط التي افتَتحتْ عهد قوّة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عندما حطّ المارينز على شواطئها عام 1958، أعيد إنشاؤها في أعقاب حرب الـ67 كنقطة تلاقٍ عالميّة لقوى محاربة الاستعمار الثوريّة.

الراديكاليّة الكوزموبوليتانيّة: من «باريس الشرق» إلى «هانوي العرب»

في نصّه المعنْون «من سويسرا الشرق إلى هانوي العرب، تاريخ مختصر لصورة بيروت» يتتبّع فواز طرابلسي أصول لبنان الحديث عبر الأدوار المنسوبة لبيروت، من الاقتصاد السياحيّ إلى «سويسرا الشرق» الذي أطلقه القوميّون مطلعَ ولادة لبنان الحديثة كدولةٍ قوميّةٍ في عام 1920، وصولاً إلى نقيضها الراديكاليّ، «هانوي العرب»، الناتج من تنصيب بيروت عاصمةً لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة بين عامَي 1972 و19822. تبني محاجّتي على ملاحظات طرابلسي لكي أنظرَ في الظروف التاريخيّة لنشوء «هانوي العرب» الجماليّ. تشير التسمية إلى التخيّل العالمثالثي العابر للأوطان الذي ربَطَ بيروتَ بعاصمة فيتنام الشماليّة. لكنّني أقترح أنّه قبل التجسيد الراديكاليّ لهذه الأخيرة، كان النموذجُ السياحيّ السويسريّ قد أزيح في الستينيّات مع بزوغ بيروت بما هي «باريس الشرق». إنّ هذا الانزياحَ قد نقل الخطابَ السياحيَّ القوميّ وحيّزه البصريّ من الجبال إلى العاصمة المتوسّطيّة الساحليّة. إنّ التعيين التاريخيَّ لهذا الاستبدال أمرٌ مفصليٌّ إذا ما أردنا فهْم الموقع الجديد الذي شغلتْه العاصمةُ في اقتصاد الرفاهيّة، والكشف عن الفالق بين الجبل والساحل المتوسّطيّ في التصوّر القوميّ ما بعد الاستقلال.

اعتاد نقّاد ومؤرّخو الفنّ الحديث في لبنان ما بعد الاستقلال على إبراز توجّهه الأوروبيّ الكوزموبوليتانيّ وعزَوا ذلك لعدد من العوامل، أكثرها ذِكرًا هو التكوين الاجتماعيُّ السياسيُّ متعدّد الطوائف للبنان والروابط القويّة بين النخبة المسيحيّة اللبنانيّة وأوروبا. تستظهر هذه النظرةُ السائدةُ عامّةً فرادة لبنان في منطقةٍ عربيّةٍ ساد فيها تأكيدُ الهويّات الوطنيّة في عمليّات الإنتاج الفنّيّ المناهِضة للاستعمار. إنّي أطرح الآتيَ في المقابل: إذا ما تحدَّينا الأسئلة الموجَّهة والإطارَ اللبنانيّ «القوميّ» التي تنبثّ فيه هذه المحاجّاتُ، سوف نلقى شيئًا آخَر هو شيءٌ راديكاليً وكوزموبوليتانيّ في آن واحدٍ دون أن يكون أوروبيَّ التمركز.

يتيح الإطارُ «العابر للمحلّيّ» كشْفَ ما تخفيه المنظوراتُ القوميّة تحديدًا. في تركيزي على المدينة — بيروت — بدَلَ الوطن — لبنان — كميدانٍ لبحثي، أتبنّى مفهومًا غيرَ جوهرانيّ عن المكان، يأخذ بعين الاعتبار، «إدراكًا عالميًّا لما هو محلّيّ»، كما تحثّنا دورين ماسي على أن نفعل، وهو مكانٌ يتكوّن من شبكاتٍ من العلاقات الاجتماعيّة «تتلاقى وتتواشَجُ في مكانٍ وزمانٍ محدَّدَين حيث تنبني نسبةٌ كبيرة من تلك العلاقات والتجارب والمفاهيم الاجتماعيّة على نطاقٍ أوسعَ بكثيرٍ ممّا نحدّده في تلك اللحظة على أنّه المكانُ ذاتُه، أكان شارعًا أم إقليمًا أم حتى قارةً».3

إنّي أشدّد، أوّلاً، على الكيفيّة التي نمَتْ بها بيروتُ الستينيّات المديدة بما هي مركٌز للِقاءٍ عربيٍّ عابرٍ للحدود، للتلاقي الفنّيّ وللتجارب الجماليّة والنقاش الفكريّ والاحتجاج السياسيّ. لم تكن كوزموبوليتيّة المدينة موجّهةً حصرًا نحو الحداثة اليورو–أميركيّة ولا كانت محدودةً بالذاتيّة القوميّة اللبنانيّة. بل تشكّلتْ من مَحاورَ متنافسةٍ عابرةٍ للحدود من الحداثة ومن قدرة المعبّرين عنها على التنقّل، بدءًا بالفنّانين المصريّين والفلسطينيّين والسوريّين والعراقيّين الذين كانوا يجوبون المدينةَ بمَعارضها الفنّيّة ودُور نشرها ومَواقعها السياحيّة ومَعالمها السياحيّة المزدهرة.

ثانيًا، أزعم أنّ هذه الكوزموبوليتانيّة كانتْ راديكاليّةً سياسيًّا، بيّنت كيف أنّه إثْر نكسة العام 1967 ونشوءِ مشروعٍ عالمثالثيٍّ للتضامن الأمميّ، تجذّرتْ شبكاتُ المدينة الجماليّة المدينة الحداثيّة، وما ارتبط بها من بُنًى تحتيّة، لتوضَع في خدمة الوعد الثوريّ الفلسطينيّ. هكذا أطيح بكوزموبوليتانيّة «بيروت — باريس — الشرق» لصالح «هانوي العرب» الثوريّة وتحوّلت المدينة بالتالي. وأعيد توظيف «الليبراليّة الراديكاليّة» لبيروت مطلع الستينيّات — أي المركز الحداثيّ الذي يشجّع التداولَ الحرَّ للأفكار والبضائع والبشر ورأس المال — لتخدم كعقدة لقاءٍ للأمميّة العالمثالثيّة مع نهاية العقد. نقل تسييس الفنون في تلك المرحلة أمكنةَ عرْضها من المَعارض إلى المطبوعات القابلة للنّسخ. وجاهد مناضلو الفنّ العربيّ الحداثيّ لجعْل المساحة الفنّيّة في المجتمع أكثرَ ديمقراطيّةً ووصلوا ممارساتِ التصميم الغرافيكيّ بفنّهم في هذه العمليّة. تعيد هذه الممارساتُ الجماليّةَ السائلةَ تكوينَ المفاهيم العامّة للعلاقة بين هذين التخصّصَين، تحديدًا الفكرة القائلة إنّ التصميمَ الغرافيكيّ ما هو إلّا اشتقاقٌ تجاريّ من الفنّ، بل إنّه كان للفنّانين بمثابة البديل التكتيكيّ لنظام السوق والمدخل إلى الثقافة العامّة والسياسة الراديكاليّة.

دوائر الحداثة العابرة للحدود

أبحث في أرشيف الموادّ المطبوعة في التدفّقات المتقاطعة والعابرة للحدود، لكنّها منفصلة، والتي كشفتْ مدًى جغرافيًّا أوسعَ للعلاقات السياسيّة والجماليّة التي تتنافس على بيروت. وكما أشرتُ سابقًا، يُعنى أوّلُ مسارٍ بحثيٍّ بتكوين المدينة بما هي موقعٌ متوسطيٌّ للسياحة والرفاهيّة في اقتصادٍ عالميٍّ فترةَ ما بعدَ الحرب والمبنيّ على السفَر والرغبات الاستهلاكيّة. دفعتْ هذه التدفّقاتُ المعزّزة بصناديق التنمية وضرورات التحديث ببيروت إلى كنَف ما يُسمّى «الديمقراطيّة الرأسماليّة» الأميركيّة في الحرب الباردة. وكانت أميركا تحمي مُطالبتها ببيروت بالقوّة مقابل أيّة تهديداتٍ ثوريّةٍ من خلال استراتيجيّةٍ مضادّةٍ للثورة ثلاثيّة الجبهات: اقتصاديّة وعسكريّة وثقافيّة. وكما كشَفَ الباحثون أخيرًا، شكّلت «الحربُ الثقافيّة الباردة» العالميّة ساحةَ معركةٍ للهيمنة على المفاهيم المتنافِسة للحداثة التي اكتسحتْ عالَم الفنون والأدب والمَعارض العالميّة والتصاميم اليوميّة والثقافات المادّيّة، من السلع الاستهلاكيّة ذات الإنتاج الضخم إلى المفروشات المنزليّة، ودَورها في تكوين العلاقات الدبلوماسيّة بين الدول. هنا أيضًا، قدمّتْ بيروتُ موقعًا رئيسًا لتمارس الولاياتُ المتّحدة تدخّلاتِها الثقافيّة الخفيّة في العالم العربيّ في أعقاب التدخّل العسكريّ للعام 1958.

مهما يكن من أمر، لا تَظهر النوايا الأمبرياليّة بالضرورة في النتيجة المبتغاة. يجب على الهيمنة الثقافيّة، وفقًا لريموند وليامز، «أن تتجدّد ويُعاد إنتاجُها ويتمّ الدفاعُ عنها وتعديلها باستمرار. إذ إنّها هي تتعرّض للمقاومة والصَدّ والتبدّل والهجوم المستمرّ تحت وطأة ضغوطٍ ليستْ ناتجةً منها»4. لذلك ينقل تحليلي التركيزَ من المشاريع الأميركيّة العالميّة والنوايا الأمبرياليّة إلى قراءاتٍ أدقّ في الاختلافات في دور اللاعبين المحليّين — الفنّانين والمصمّمين والمثقّفين والناشرين وروّاد أعمال السياحة والاقتصاديّين. وبذلك يصوّب التحليلُ الاهتمامَ إلى الحالة التاريخيّة الطارئة في الممارسات الجماليّة حيث تُقرَن «حداثة الحرب الباردة» بحمّى النضالات ضدّ الاستعمار. وبالفعل، كان الميدان الثقافيّ على أراضي العالم الثالث في ظلّ سياسات التدخّل خلال الحرب الباردة موقعَ صراعٍ تتقاطع فيه التناقضاتُ ومساعي الحداثيّة والتضامن العابرة للمحليّ، والتي لم تحُدَّ منها ثنائيّةُ المعسكرَين المفروضة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

ينظر المسارُ البحثيّ الثاني في صعود بيروتَ كمركزٍ للنشر العربيّ نشأ نتيجةَ تدفّقات رأس المال وتقنيّات الطباعة والمثقّفين والفنّانين الحداثيّين العرب، وربْطِ اقتصاد النشر العربيّ بعمليّات محاربة الاستعمار الإقليميّة. تطوّرَ قطاعُ النشر، كما السياحة، ليصبح قطاعًا صناعيًّا أساسيًّا في لبنانَ الستينيّات وكان مرتبطًا بالاقتصاد السياسيّ الليبراليّ الذي أعطى الأولويّةَ لقطاع الخدمات الموجّه للخارج.

يلاحظ فرانك ميرمييه أنّ الناشرين الذين يتّخذون بيروتَ مقرًّا لهم هم «نقطة التقاءٍ لإنتاجٍ فكريٍّ حيث تشكلتْ مجالاتٌ عامّةٌ مختلفة في العالم العربيّ وتجلّتْ بمعظمها عبر بيروت»5. انطلاقًا من تصوّر ميرمييه لبيروتَ كمساحةِ لقاءٍ فكريٍّ في العالم العربيّ، أريد أن أستكشفَ حدود المجال العامّ التعدّديّ من خلال ظهور الانقسامات المتناقضة التي اتّسمتْ بها المدينةُ، بمجالها الفكريّ القوميّ العربيّ ودوائر الحداثة العابرة للحدود التي منحتْ مطبوعاتِها شكلها. تتجلّى بسرعةٍ هشاشةُ مجالٍ عامٍّ بمثل هذه التعدّديّة عندما يؤخذ بعين الاعتبار عددُ الشخصيّات التي اغتيلتْ بين المثقّفين العاملين في قطاع النشر في بيروت في الستينيّات المديدة، بالإضافة إلى الاتّهامات بالخيانة الموجّهة إلى بعض المنشورات بسبب مَصادر تمويلها المنحازة بوضوح.

يضع مساري الثالثُ بيروتَ وَسط مشروعٍ تضامنيٍّ عالمثالثيّ ويربطه، عبر المقاومة الفلسطينيّة، مع الخطاب الأمميّ المناهض للأمبرياليّة والكفاح المسلّح الثوريّ الذي أعقب الحربَ العربيّة الإسرائيليّة عام 1967. يجمع كتابي وجهاتِ نظرٍ ناشئةً حديثًا تعيد النظرَ في تأثير هذا الحدث على الفكر العربيّ والممارسات الجماليّة، إذ يسائل الحالةَ التي طرأتْ جرّاء تلك اللحظة التاريخيّة في التلاقي العالمثالثي في الستينيّات العالميّة. وكما جادَلَ الباحثون أخيرًا، كان يسارُ العالم الثالث هو تحديدًا مَن علّمَ جيلاً جديدًا من المحتجّين في أواخر الستينيّات على المستوى العالميّ ووفّر لليسار الجديد أفقًا أمميًّا راديكاليًّا جديدًا. هنا تحديدًا توفّر وجهةُ النظر الصادرة من الجنوب العالميّ بصريّاتٍ مختلفةً عن الحرب الثقافيّة الباردة التي لم تكن باردة، وجهة نظر تعقّد الواقع الثنائيّ في التأريخ التقليديّ للحرب الباردة. يرتكز تحليلي في المقابل على السياسات الراديكاليّة وجماليّات محاربة الاستعمار الثوريّة، التي كانتْ مفصليّةً في تصوّرات التضامن في الجنوب العالميّ وما بعده. في هذا السياق، فصّلت الثقافةُ البصريّةُ والمطبوعة أنماطًا جماليّةً جديدة للمعارضة العابرة للحدود وربطتْ ثوّارًا من كوبا بآخرين في فيتنام مرورًا بالجزائر والشرق الأوسط. في وسط هذه الجغرافيا الثوريّة العالميّة الواسعة، لعبتْ بيروتُ دور مدينة تلاقٍ حيث اجتمعتْ فيها وعبْرها جماليّةُ التضامن مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة وانتشرتْ في دوائرَ عابرةٍ للحدود.

في كل من المسارات البحثيّة الثلاثة والدوائر الحداثويّة التي تعبُر خلالها، كانت القدرة على الإبصار مسيطِرة بشكلٍ متزايدٍ والطلب على التصميم الغرافيكيّ شائعاً أكثرَ فأكثر. ولم ترتبط العلاقات التناقضيّة المشكّلة للفضاء العالميّ لبيروتَ فقط بالتجلّيات المحلّيّة للهويّات القوميّة والطائفيّة والطبقيّة، بل أجادل في أنّ هذه العلاقات الاجتماعيّة كانتْ أيضًا متداخلةً مع أنماط إبصارٍ عابرةٍ للحدود المحلّيّة. بعكس أيّ استذكارٍ احتفاليٍّ لحقبة «السنوات الذهبيّة»، تطرح جدليّتي أنّ ستينيّات بيروتَ المديدة كانت منعطفًا انتقاليًّا وزمنًا ومكانًا قلقًيْن حيث حملت المدينةُ وعودًا راديكاليّة في السياسة وكوزموبوليتانيّةً في راديكاليّتها في آنٍ واحدٍ.

 

  • 1. 1 Cosmopolitan Radicalism: The Visual Politics of Beirut’s Global Sixties (Cambridge University Press 2020)
  • 2. Fawwaz Traboulsi (2001) ‘De la Suisse orientale au Hanoi arabe: une ville en quête de rôles’, in J. Tabit (ed.), Beyrouth, Paris: Institut français d’architecture, 28–41.
  • 3. Doreen Massey (1991) ‘A Global Sense of Place’, Marxism Today (June), 28–9
  • 4. Raymond Williams (1977) Marxism and Literature. Oxford: Oxford University Press, 112
  • 5. Franck Mermier (2005) Le livre et la ville: Beyrouth et l’édition Arabe, Arles: Actes sud/Sindbad, 87
العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.