العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

نحو دستور عام ١٩٢٦

لبنان بين يسار ويمين المفوّضين السامين

سيمة سامي فرح

يقرّ جزءٌ كبيرٌ من تأريخ حقبة الانتداب الفرنسيّ في المشرق أنّ لبنانَ ودستوره هما نتاج مشروعٍ فرنسي. كما يصعب إنكارُ اعتماد فرنسا لسياسة «فرّق تسُد» الإمبرياليّة سيّئة الذكر. لكنْ مع أنّ لا جدال حول صحّة المنحى العامّ لهذين الادّعاءين ــــــ الأصول الفرنسيّة للدستور وسياسة «فرّق تسُدْ» الإمبرياليّة ــــــ لا ينبغي التغاضي عن تفاصيل السرديّة القائلة إن «السيادة الوطنيةّ» لم تأتِ من نداءٍ موحَّد لقوميّةٍ لبنانيّة، بل نتجت من سطوة سلاح قوّةٍ استعماريّة. هناك الكثير من الخيوط التي تحتاج إلى تفكيكٍ في الحكاية المضطربة التي تُوّجت بإصدار دستور عام 1926، بما في ذلك معنى تأسيس الدولة وشكلها. ويدلّ التعمّقُ في الأرشيف، خصوصًا في التوثيق التفصيليّ للنظام الأساسيّ الذي سبق دستورَ عام 1926، على عدم دقّة السرديّة المعتمَدة. فكما سيظهر من هذا الاستكشاف للموضوع هنا، تضاربتْ أيديولوجيّات الإدارة الفرنسيّة في بيروت والـ«كي دورسيه» (وزارة الخارجيّة) من الداخل، لاسيّما في ظل تأرجُح الحكومة الفرنسيّة المتكرّر بين اليسار واليمين. وكما أوضح العديدُ من المؤرّخين، أثّر هذا التأرجحُ في علاقة الإمبراطوريّة مع الجماعات الموالية والمعارضة لها في لبنان، كما أثّر بشكلٍ موازٍعلى الأقلّ على أهداف ورسالة ما سُمّي بـ«الانتداب» والذي لم يتمّ الاتفاق على مفهومٍ موحَّدٍ له بين مجموعة المفوضين السامين الفرنسيّين في لبنان.

تهدف هذه الدراسةُ إلى البحث في كيفيّة تجلّي الصراع الشرس بين اليسار واليمين الفرنسيّ في المشرق العربيّ (وصولًا إلى أيّار/ مايو 1926). كما تهدف إلى إظهار كيف أنّ الإدارة السياسيّة الفرنسيّة كانت متوافقةً على مبادئَ أساسيّةٍ أخرى مثل النهج العسكريتاريّ والهيمنة والتعليم والثقافة، رغم انقسامها حول ثنائيّات النظام الاجتماعيّ في العالم. يُظهر المقالُ كيف استغلّتْ سلطة الانتداب الانقساماتِ الطائفيّة وعزّزتْها كلما كانت هيمنتُها على المشرق مهدّدةً، بغضّ النظر عن أيديولوجيّتها السياسيّة، وذلك سعيًا لإحكام هيمنتها على المنطقة. إضافةً إلى ذلك، حظيتْ مهمّة «تحديث» المشرق بتأييد جميع المسؤولين الإداريّين، الذين غالبًا ما كانوا يرفعون الطبقة الوسطى ذات الثقافة الغربيّة إلى مستوى المثال بينما ينظرون إلى باقي الشعب، من وجَهاء وعامّة، على أنّهم ينتمون إلى الماضي.

كان الحفاظ على الهيمنة الأمرَ الأكثرَ أهمّيّةً بالنسبة إلى سلطة الانتداب، ولم تمانعْ في انتهاك السيادة المحليّة لتحقيق هذه الغاية. وكما سنرى لاحقًا، حتى عندما كانتْ مُثلُ الجمهوريّة الفرنسيّة تُعتمد أحيانًا من قِبَل بعض المفوّضين السامين الفرنسيّين، كان ذلك بشرط ألّا يقوّضَ هذا الأمرُ الهيمنةَ الاستعماريّة.

هدفي في هذه الدراسة البحثُ في السياسة الفرنسيّة في المشرق: كيف تماشتْ مع أهداف «عصبة الأمم» والأيديولوجيّة الفرنسيّة وكيف تفاعلتْ مع السكان المحليّين. وإنّي أحاجج بأنّ عددًا من المفوّضين السامين الفرنسيّين كانوا صادقين في طموحهم إلى «تحديث» المشرق وفي رغبتهم بازدهار المنطقة. ومع ذلك، تعارضتْ هذه التطلّعاتُ الفرديّة جذريًّا مع مشروع الوصاية الانتدابي. وفي نهاية المطاف، طغى السعيُ العمليُّ للهيمنة والضبط و«الحداثة»، التي رأتْها الإمبراطوريّةُ الفرنسيّة على أنّها تشكّل «الحكم الرشيد» على المُثل الراقية لبعض المفوّضين السامين والموظّفين كأفراد. وبذلك أصبحت التحالفاتُ والمساومةُ والتلاعبات الطائفيّة جزءًا من سياسة تأمين الديمومة لإمبراطوريّةٍ قلقةٍ لعدم قدرتها على الحفاظ على هيبةٍ متناقصة1. وأدّى التلاعب بمفاهيم القوّة والتمييز الذي وَسَمَ هذه السياسات، ولو عن غير قصد، إلى تغذية انعدام الثقة بين الطوائف المحليّة وتقويض التماسك الوطنيّ والسيادة.

سأطّلع أيضًا على الأحداث التي تحكّمتْ في مسار صياغة الدستور ووتيرته ومحتواه، مثل «الثورة السورية الكبرى»، وتقلقُل وضْع الإمبراطوريّة الفرنسيّة في المشرق. كذلك يأخذ المقالُ بعين الاعتبار الظروفَ المحيطةَ بفترة صياغة الدستور والفترة التي سبقتْها، بالإضافة إلى المعاني المختلفة التي أسبغتْها الإدارةُ الفرنسيّة، كما السكّانُ المحليّون، على الدستور.

النظام الأساسيّ: دستور أم ورقةٌ إداريّة؟

لم يكن واضحًا دائمًا ما إذا كانت سلطة الانتداب تنوي منح لبنانَ ودول المشرق الأخرى دستورًا في ظلّ سلطة الانتداب، ناهيك عن السماح للسكان بصياغة الدستور بأنفسهم. في الواقع، بدا هذا المسعى بعيد المنال جدًّا، إلى حين اندلاع الثورة السوريّة الكبرى عام 1925، رغم المادّة الأولى من شرعة الانتداب في «عصبة الأمم» التي تضمن صياغة «قانون أساسيّ» بـ«التوافق مع السلطات المحليّة والذي من شأنه أن يراعيَ حقوق ومصالح ورغبات جميع السكان المتواجدين على الأراضي [الواقعة تحت الانتداب]»2. وبهذا المعنى، لم تأتِ عصبة الأمم ولا الإدارةُ الفرنسيّة على ذكْر الدستور بحدِّ ذاته في تصوّرهما للانتداب. فما كان المقصود بعبارة «النظام الأساسي» بالضبْط؟

يتّضح من التنقيب في الأرشيف أنّ كافّة قطاعات الجماعات اللبنانيّة المختلفة ونُخبها فهمت «النظام الأساسيَّ» على أنّه إشارةٌ ضمنيّة إلى صياغة دستورٍ وطنيٍّ لبنانيّ3. ونظرًا إلى أنّ وجوبَ أن ينتخب الشعب ممثّلين يترجمون «الإرادةَ الشعبيّة» في نصٍّ تأسيسيٍّ للجمهوريّة، فكرةٌ هي في الصلب من الإيديولوجيا الفرنسيّة، رفَعَ هذا الأمرُ بالتأكيد من توقّعات هذه النخَب اللبنانيّة. ومع ذلك، لم ينوِ الموظفون الفرنسيّون تصدير مبادئ ثورتهم، التي ناضلوا بشِقّ النفس من أجلها، إلى المشرق. بالنسبة إلى المستعمِر المتنكِّر بزيّ الوصيّ، يهدّد الدستور المَصوغُ محليًّا شكلَ السلطة التي تفترضها الإمبراطوريّة الفرنسيّة. وصفتْ مذكرةٌ سرّيّة في شباط/ فبراير 1924 احتمال استشارة السكان بأنّها محاولةٌ «خطِرة» من شأنها أن تؤدّي إلى «فائضٍ من الطموحات الوطنيّة» فيقوم القادة المحليّون «بخداع شعوبهم حول أفعال ونوايا فرنسا في بلادهم». أكّد كاتبُ المذكرة بريڤا أوبوار4، أنّه على أيِّ حال «لا يوجد رأيٌ عامٌّ في هذا البلد»، بل يوجد زعماءُ محليّون عنيفون فقط5. هكذا كانت نظرة الإدارة الفرنسيّة شبْهُ الإجماعيّة إلى «النظام الأساسيّ». فبدلًا من أن يعبّر «النظام الأساسيّ» عن المبادئ والعادات المحليّة للمواطنة، تحوّلَ إلى مجموعةٍ من النصوص القانونيّة، عُرفتْ أيضًا باسم «مراسيم» يُصِدرها المفوّضون السامون منذ دخولهم إلى المشرق6. ثم أجبرت المجالس المحلية لكل ولاية على تبّني هذه المراسيم الصادرة عن المفوّض السامي، بعد أن تُراجعَها الإدارةُ الفرنسيّةُ وتجمعها في وثيقةٍ شاملةٍ واحدة7. بعد انتشار الشائعات عن هذه الخطّة، قدّم «المجلس التمثيلي» اللبناني8 شكوى رسميّةً إلى المندوب السامي، وندّدت الصحف المحلّية بخيانة فرنسا لمبادئ الجمهوريّة، لكن من دون جدوى9.

 

المحاولات الأولى

في ربيع عام 1924، عاد المفوّض السامي ويغان إلى باريس والتقى عددًا من كبار المسؤولين في الإدارة الفرنسيّة للمساهمة في صياغة مسوّدة «القانون الأساسي»، وتم التوضيح في حينها أنّه لا ينبغي الخلطُ بين القانون الأساسيّ و«دستور يُمنَح لدولة تحت الانتداب»، بل هو «قانون صاغته سلطات الانتداب وحدها»10. ورغم مطالبة شرعة «عصبة الأمم» بموافقة السلطات المحليّة على القانون الأساسيّ، لم ترَ التفسيراتُ الفرنسيّة وجوب أن يكون للأخيرة رأيٌ في صياغته.

مع وصول إدارة ويغان إلى نهاية ولايتها، عدّلت الإدارة اليساريّة لرئيس الوزراء إدوارد هيريو في كانون الثاني/ يناير 1925 النظامَ الداخليَّ الذي صاغتْه الإدارة السابقة. وإذ حدّدَ هيريو بوضوحٍ أنّ الهدف هو الالتزام بـ«الوصاية» بدلًا من «الاستعمار»، وفي تعبيرٍ معتدّ بالنفس عن «حسن النية بالنسبة لتحقيق المساواة»، حثّ على مقاومة إغراءات إقامة «سلطةٍ إمبرياليّة» في منطقة تمارَس فيها «سلطة الانتداب» بسهولة11. ومع ذلك، تلاشتْ هذه المبادئُ الليبراليّة في مقابل القرار السلطويّ المتّخذ بالصياغة الحصريّة للنظام الأساسيّ وتقديمه إلى اللبنانيّين على أنّه «مرسومٌ» صادرٌ عن سلطة الانتداب. في الواقع، حذّر هيريو من الإيحاء للسلطات المحليّة بأن تنظر إلى نفسها على أنّها «مجالسُ تمثيليّة»، بينما كان منفتحًا، في المقابل، على مشاوراتٍ «غير رسميّة» و»فرديّة» مع الوجهاء المحليّين12.

كانتْ ردّة الفعل على القانون الأساسيّ (الذي صاغتْه إدارة هيريو) النقدَ القاطع. اعتبر مكتبُ المفوضيّة العليا في بيروت في رسالةٍ إلى هيريو أنّ الامتيازاتِ التي نصّتْ عليها فرنسا في النظام الأساسيّ، متساهِلة للغاية بحيث تمنع الحكمَ الفعّال. وتتعلّق العديد من المخاوف التي أعرب عنها المفوَّضُ السامي بشركاتٍ فرنسيّةٍ مالكة لامتيازات، والإصلاحات الضريبيّة، والأشغال العامّة. في الأخير، أكدت الرسالة: «سنضطرّ إلى أن نضرب بقبضاتنا على الطاولة ولن نحصلَ على أيّ شيء إذا لم نفرضْه فرضًا»13.

تقدّمَ مقرّر ميزانيّة الشؤون الخارجيّة والنائب السابق هنري سيمون بالحجّة الآتية:

«من أجل أن تتمكن دولةُ الانتداب من تولّي مسؤوليّة تشغيل الخدمات العامّة وضمان النظام، من الواضح أنّه يجب أن تظلّ مسيطرةً على اتخاذ أو تنفيذ جميع القرارات التي تراها ضروريّةً، ضمن حدود التوجيهات الواسعة للغاية التي يضعها لها الانتداب... إنّ ممارسة الانتداب في ظروفٍ مختلفة لن يسبّب إلّا الصعوبات. إنّ توجيه الإدارة لا يتمّ فقط بإسداء النصائح لها، وبإرشادها إلى الطريق، بل إنْ لزِمَ الأمر، يجب إلزامُها بالسير في هذا الطريق، حتى لو كان ذلك بعكس إرادتها...»14.

ردّد كبارُ موظفي الانتداب في بيروتَ بصوتٍ واحدٍ أنّهم يتوقّعون الحصول على صلاحيّاتٍ أوسع. وتم توضيح ذلك في تعديلاتٍ أدخلَها خلفُ ويغان، المفوّض السامي موريس ساراي، على النظام الأساسيّ.

ضَمن نصّ ساراي المعدّل للمفوّض السامي حقّ إصدار القوانين وتعليق العمل بها، ومنَحه الحقَّ في حل المجلس النيابي وعزْل رئيس الدولة (كما ورد في مشروع هيريو الأوّل) كما عليه الموافقةُ على المرشّحين لمنصب رئيس الدولة وكذلك على رئيس الدولة المنتخَب. ويملك المفوّضُ السامي هيمنةً كاملة تقريبًا على الإدارات والخدمات المحليّة من خلال تعيين مفتّشينَ ووكلاء فرنسيّين «لمراقبة» الموظفين المحليّين، من دون تدخّل «المجلس التمثيلي»15. أخيرًا، وكما كان الحال في الأنظمة الأساسيّة السابقة، لم يكن للدوَل الخاضعة لنظام الانتداب أيُّ قولٍ بالمطلق في سيادة دولها خصوصًا في ما يتعلق بالاتفاقيّات الدوليّة. وكذلك المعاهدات والعلاقات مع العالَم الخارجيّ، فهي من اختصاص سلطة الانتداب حصرًا، وهي السلطة التي تسيطر بالكامل أيضًا على جميع القوّات المسلحة على الأرض.

يفترض أن يعطي ما ورد أعلاه انطباعًا كافيًا عن النقاشات الحامية حول محتوى النظام الأساسيّ وحول مقدار ما تضمَّنَه من تعظيم السلطة الفرنسيّة في المشرق من دون انتهاك المتطلبات القانونيّة لشرعّة عصبة الأمم. فتغَلغَلت الأفكار حول الهيمنة والانضباط والتعليم في مواجهة الانحطاط المحليّ في الحجج المؤيِّدة للسلطويّة الفرنسيّة. نظر الفرنسيوّن إلى أنفسهم على أنّهم «عقولٍ متطوّرة» على عكس السكان المحليّين، وبالتالي قادت النظرةُ الاستعلائيّة الأبويّة الفرنسيّة نبرة السرد16. فمن خلال توصيتها بتأجيل الاستشارات المحلية إلى «آخر موعد ممكن»، ذهبتْ سلطة الانتداب في معاملتها للعرب كأطفالٍ إلى حدِّ تحويل الاستشارات إلى تمثيليّةٍ تهدف إلى تهدئة المشاعر المحليّة17. والمفارقة الساخرة أنّه كلما زادتْ حماسة مفوَّضين سامين أفراد، من أمثال موريس ساراي، لنقل المنطقة إلى «العالم الديمقراطي الحديث»، تقلّصتْ ليبراليّتهم بالقدْر ذاته في تنفيذ مشروعهم. فكان وصفُه للعقليّة المحليّة بأنّها «إقطاعيّة» ومناقضة لمفهوم «الإصلاح الديمقراطيّ القانوني» أحدَ طرُق ساراي في تبرير سياساته التسلطيّة18. وكان لذلك انعكاساتٌ خطيرة على الانتداب.

فترة حكم ساراي

تمكّن ساراي، في غضون ستة أشهرٍ من تولّيه منصبِ المفوّض السامي، من إغضاب المجموعات المختلفة التي عمل أسلافُه طويلًا على التمييز بينها: رجال الدين المسيحيّين، والقوميّين المسلمين والدروز، والطبقة الوسطى الليبراليّة، والوجهاء التقليديّين من الطوائف كافّة. وبقدْر ما زادتْ تدخّلاتُه السياسيّة وقاحةً واشتدّت القبضة الحديديّة لسيطرته، ازداد غَلَيان الإحباط العربيّ تحت التهديد الفرنسيّ غيرِ المستتر كثيرًا باللجوء إلى العنف. وفي الواقع، سرعان ما تبيّن خطأ الافتراض بأنّ الغليانَ الشعبيَّ يمكن إغراقه بالخوف والترهيب، كما أثبتَت الأحداث لاحقًا.

إنّ إرث ساراي، كمفوّض سامٍ، مثيرٌ للجدل إلى أبعد حدّ. وصل إلى المشرق على خلفيّة صعود اليسار في فرنسا، وكان من المرجَّح أنّ تطرُّفُه وإلحاده سيؤدّيان إلى قطيعةٍ جوهريّةٍ مع أسلافه.

بحلول آذار/ مارس 1925، صاغ المفوضُ السامي مشروعًا جريئًا لقوانين انتخابٍ جديدة في البلاد: انتخاب مباشِر وعلمانيّ وشامل للجميع19. وعنى ذلك إلغاءَ نظام التصويت ذي المستويَين الذي يشجّع على المحسوبيّة والرشاوى20، والتخلّي عن التوزيع الطائفيّ للمقاعد في المجلس التمثيلي، وإعادة رسْم الدوائر الانتخابيّة21. وكان من المفترَض أن تكون هذه الإصلاحاتُ الإداريّة أعظمَ إبداعات ساراي. وفي هذا السياق، بات من الضروريّ قطْعُ العلاقات مع زبائن فرنسا المَوارنة وتغيير موقف الإدارة تُجاهَ المسلمين. وبدا ذلك على مستوياتٍ عدّة وكأنّه إعادةُ تقييمٍ لدور فرنسا في المنطقة وصياغة مفهومٍ جديدٍ لمشروع الانتداب.

عام 1921 كتب المؤرّخ الفرنسيُّ ألفونس أولارد: «إنّ سورية تحبّ فرنسا عام 1789، لا فرنسا الحملات الصليبيّة22». ولكنْ، بالرغم من ذلك، ادّعتْ إدارة ساراي لنفسها المكانةَ والهَيبة المرتبطتين بمهمّة التحديث، واحتضنتْ تلك المهمةَ بنفس حماسة مواطنيها من أنصار يمين الوسَط. لكنْ، ثبُت في النهاية أنّ النوايا الحسنة وحدها غير كافيةٍ لتعديل الإصلاحات ثقيلةِ الوطأة للإدارة الفرنسيّة. في تلبُّسهم دورَ «الأب الصارم»، مارس المفوّضون السامون، سواءٌ من اليسار أو اليمين، الأبوّة المتعاليةَ على السكان المحليّين. ولم تتغيّر هذه المعاملةُ للسكان الأصليّين وكأنّهم أطفالٌ جُهّل مع التغيير المتكرّر للموظفين الفرنسيّين؛ بل على العكس من ذلك، بدتْ وكأنّها عنصرٌ بُنيويٌّ متأصّل في نظام الانتداب.

لم تتقبّلْ وزارة الخارجيّة إصلاحاتِ ساراي. وتعاقبت الضغوط عليه من داخل الـ«كي دورسيه» والمجلس الوطنيّ والصحافة الفرنسيّة23.

في 19 آذار/ مارس 1925، نَشرت الصحافة اللبنانيّة مسوّدةَ مشروع العلمنة الذي أعدّه ساراي وليون دو كايلا، فأثار الانتقاداتِ من المسيحيّين والمسلمين على حدٍّ سواء. بدا البطريرك المارونيُّ وكأنّه يتحدّث باسم الجميع عندما صرّح بأنّ الفرنسيّين يستخدمون لبنان كـ«حقل تجارب» وأنه «لا يمكن تغيير عقليّة الناس من خلال إقرار قانون24». وعندما وصلتْ أخبار الفضيحة إلى باريس، تلقّى ساراي تنبيهًا بضرورة التراجع عن المشروع من قِبل مسؤولين من وزن هيريو وروبير دو كيه25. ومع ذلك، وحرصًا على الاندماج الوطنيّ والتكافؤ الاقتصاديّ، أصدر ساراي المرسومَ رقم 3066 في نيسان/ أبريل 1925 الذي قضى بترسيم الوحدات الإداريّة على أسس «الاختلاط» الطائفيّ، مُبرّرًا ذلك بالتشديد على أهداف الخطوة ومَزاياها الاقتصاديّة والإداريّة. لكنْ حينها كانت مصداقيّة ساراي قد تلطّختْ، حتى أنّ البعض تساءَلَ عمّا إذا كان الغرضُ من الإصلاح الإداريّ ليس إلا جَعْل الإصلاح الانتخابيّ أمرًا لا مفرّ منه26.

في رسالةٍ إلى رئيس الوزراء الجديد أريستيد بريان في حزيران/ يونيو 1925، كتب بول فيرشير دي ريفي (الأمين العامّ المعزول لمكتب ساراي) عن «الانحراف» الذي سوف يشوّه نتائج الانتخابات المقبلة. ويشير «الانحراف» طبعًا إلى إنشاء ساراي وحداتٍ اداريّةً عابرةً للحدود الطائفيّة. فمن أجل الحفاظ على حلفاء فرنسا في المجلس التمثيليّ الذي يتعيّن عليه تمريرُ النظام الأساسيّ الذي صاغه الـ«كي دورسيه»، أصرّ دي ريفي على الحفاظ على الوحدات الإداريّة القائمة. بدا ذلك وكأنّه السبيلُ الوحيد لضمان انتخاباتٍ تتماشى مع المصالح الفرنسيّة27. وبالإضافة إلى سعْيه لتعديل العمليّة الانتخابيّة، حاوَلَ ساراي أيضًا تعزيزَ نظام المدارس الرسميّة. لكنّ أيًّا من هذه الإصلاحات لم يُنفّذْ. وبحلول صيف عام 1925، أدّى اندلاعُ الثورة السوريّة الكبرى إلى السقوط النهائيِّ للمفوّض السامي.

الثورة السوريّة الكبرى

كمناسبةٍ لأعنف التدخّلات الفرنسيّة في المنطقة، تؤكّد الثورة السوريّةُ الكبرى ــــــ التي انطلقتْ من جبل الدروز وامتدّت إلى أجزاءَ كبيرةٍ من سورية ولبنان ــــــ درسًا أساسيًّا: على الرغم من إعلان فرنسا عن حدودٍ وطنيةٍ ودولٍ منفصلة، فإنّ التطوّرات السياسيّةَ في سورية لا بدّ أن ترتدّ دومًا وبشدّةٍ على لبنان. أعادت الثورة طَرْح مسألة الوحدة السورية؛ وعلى الرغم من أنّها فشلتْ في دمج لبنان في نظام الدولة السوريّة، إلّا أنّها أثّرتْ بشكل حاسمٍ في الشكل النهائي لدستور لبنان لعام ١٩٢٦.

في تقريرها السنويّ إلى عصبة الأمم، قدّمتْ فرنسا روايةً عن أحداث ثورة عام 1925 معتبرةً أن الحملةَ الطموحة للغاية للحاكم غابرييل كاربييه من أجل «تحديث» جبل الدروز كانت المحرّكَ الرئيسيّ للأحداث. وكما صديقُه المقرّب ومعاونه موريس ساراي، كان كاربييه ملتزمًا بإحداث تغييرٍ جوهريٍّ خلال فترة حكمه، حتى عندما تطلّب ذلك استخدامَ أساليبَ قاسية وعفا عليها الزمن كفرض السخرة على السوريّين28.

ما بدأ على شكل احتجاجاتٍ عفويّةٍ ضد حكم كاربييه في جبل الدروز، تدحْرَجَ ككرة الثلج ليتحوّل إلى ثورةٍ عارمةٍ اجتاحتْ معظم سورية والأراضي التي ضُمّت إلى لبنانَ الكبير. وبدا أنّ القمع العسكريَّ للثورة زادها اشتعالًا. في لبنان، اعتُمد تفتيتُ السكان كطريقةٍ في إدارة الأزمة. وفيما الثورةُ تتقدّم ببطءٍ من الجنوب نحو الشمال، سلّحت الإدارةُ الفرنسيّةُ السكانَ المسيحيّين بينما صادرتْ أسلحةَ السكان الدروز والشيعة، بل إنّها جنّدتْ مقاتلين مسيحيّين في تنظيمها للقمع العسكريّ للثورة. ويشرح إدمون ربّاط أنّ من الممكن أيضًا أن يكون ساراي قد حاول إطلاق «قومة» مسيحيّة ضدّ الإسلام، لكن لا توجد أدلّة قاطعةٌ على ذلك29.

رغم كل تناقضات فترة ساراي في الحكم وأخطائها السياسيّة، فإنّها تعكس أيضًا رحلةَ مفوّضٍ سامٍ هزمتْه مثاليّتُه الجوفاء والمتكبّرة والتزامه بمبادئ الجمهوريّة. أدّى فقر معرفته بالمشرق وعدمُ قدرته على النظر إلى ما هو أبعدُ من المبادئ المجرّدة، وأبويّته الصارمة إلى إثارة غضب السكان المقهورين. وانخرط بعد ذلك في أنماطٍ من المساومة السياسيّة سوف تُشكّل سابقةً لما ستشهده السياساتُ اللبنانيّة من بعد. والمفارقةُ أنّ أشدَّ الضبّاط الفرنسيّين مناهضةً لرجال الدين لجؤوا إلى تحريض المجموعات المحليّة بعضُها ضدّ بعض بحجّة العدالة الطائفيّة، فقط ليضمنوا دورَهم الأبويّ بما هم الحاكم الناهي في المشرق. في نهاية المطاف، فإنّ ساراي في سعيه لجعل المشرق مكانًا أفضلَ اختار الهيمنةَ على التغيير.

«لجنة بونكور»

أحرجتْ أخبار الاضطرابات في المشرق حكومةَ هيريو التي كانتْ قد عيّنت أحدَ أكثر الناشطين اليساريّين طموحًا مفوّضًا ساميًا في سورية ولبنان. الى ذلك، تناقضتْ أساليب ساراي بوضوحٍ مع القاعدة الأخلاقيّة لليسار في النأي بالنفس عن تفسيرات الحكومات الاستعماريّة السابقة لمشروع الانتداب. ومع إتمام المسوّدة الثانية للنظام الأساسيّ من قبل الـ«كي دورسيه» أوائلَ صيف عام 1925، المبنيّة على اقتراحات ساراي، كانت الثورة السورية تشقّ طريقها إلى لبنان، فباتتْ توصيات المفوّض السامي فاقدةً لمصداقيّتها وقد تجاوزَتْها الوقائعُ على الأرض. ضغطت الجمعيّةُ الوطنيّة الفرنسيّة على الحكومة لتشكيل لجنةٍ من المتخصّصين في القانون للتحقيق والمراجعة وصياغة القانون الأساسيّ الذي طال انتظاره30. أُنشئت اللجنة في 15 حزيران/ يونيو 1925 من قِبل رئيس الدولة الجديد أريستيد بريان، وترأسها السيناتور جوزيف بول بونكور، ووَضعتْ قائمةً من الأسئلة التي رأتْ أنّها تتعلّق بأسباب تأخير إصدار القانون الأساسيّ. وكان أهمّ تلك الأسئلة بالطبع هو كيفيّة تفسير وتطبيق المادّة في شرعة عصبة الأمم بشأن موافقة السلطات الممثّلة للسكان المحليّين على النظام الأساسيّ31.

أصيب جوزيف بول بونكور بالصدمة جرّاء التحيّز ضدّ المشاركة المحليّة. ويتّضح من الأرشيف أنّه اعتبر دورَ المجلس المنتخب محليًّا ركيزةً من ركائز المبادئ الديمقراطيّة التي يجب أن تعمل جنبًا إلى جنبٍ مع الإدارة الفرنسيّة. لكنّه لم يتمكنْ من إقناع باقي أعضاء اللجنة التي أوصتْ، كمبادرة حلٍ وَسَط، بإجراء مشاوراتٍ فرديّة حول بعض القضايا القليلة والعامّة مع شخصيّاتٍ محليّة مختارة32.

تشير الأدلّة التي نظرنا إليها حتى الآن إلى أنّ مختلف مشاريع النظام الأساسيّ التي تمّ النظر فيها منذ عام 1923، في ظلّ الإدارات اليمينيّة أو اليساريّة، اعتبرت البندَ المتعلّق بـ«التوافق مع السكان الأصليّين» مجرّد تفصيلٍ هدفُه تزيينُ الواجهة فقط. أمّا بول بونكور فقد أخذ الأمرَ بجدّيّة أكبر، خصوصًا مع انفجار السخط المحليّ واكتساب الثورة السورية زخمًا في لبنان. وبحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 1925، كان ساراي قد استُدعي من منصبه وكان بونكور جاهزًا للتغيير، فأعلن الأخيرُ أن الثورة نجمتْ عن التأجيل الطويل لصدور دستورٍ والتجاهُلِ المنهجيّ للرغبات الشعبيّة33.

في حين عبّر بونكور بوضوحٍ عن غضبه من مناورات فرنسا الاستعماريّة، كان واضحًا تمامًا أنّ الحكومة الفرنسيّةَ لن تتخلّى عن سلطتها في المشرق، لاسيّما خلال اضطراباتٍ كالتي كانتْ حاصلة. في مواجهة ما بدا أنّه مشكلةٌ مستعصية، عثرتْ فرنسا أخيرًا على حلٍّ مقْنع: تمنح فرنسا الدولَ الخاضعةَ للانتداب الحرّيّةَ الكاملةَ في مناقشة وصياغة نظامها الأساسيّ الداخلي، ما دام أنّه لا يؤثّر على الصلاحيّات التي احتفظتْ بها فرنسا لنفسها في إعلانٍ مفروضٍ على السلطات المحليّة34. وعندما أعطى روبير دو كيه وسائر أعضاء اللجنة مباركَتهم، أفسحتْ هذه السياسةُ المجال أمام لجنة لصياغة دستور لبنان لعام 1926.

نحو الدستور

في أوائل كانون الأوّل/ ديسمبر من عام 1925، وصل المفوّض السامي الجديد هنري دو جوفنيل إلى بيروت. كانت الأجواء متوتّرةً والناس لا يزالون يتعاملون مع آثار الثورة السورية الكبرى. وسْط حالة عدم اليقين هذه، حضر دو جوفنيل حفلًا تكريميًّا في بيروت لأولئك الذين قاوموا مسلّحي الثورة السوريّة الكبرى في حاصبيّا، وقال: «السلام لمن يريدون السلام، والحرب لمن يريدون الحرب»35.

في المحصّلة، أعطى دو جوفنيل الوطنيّين السوريّين إنذارًا أخيرًا، إذا استمرّوا في ثورتهم سوف يُكتب الدستورُ من دونهم. وطبعًا لكي يكون الممثِّلون جزءًا من العمليّة الدستوريّة، عليهم التحدّثُ نيابةً عن هذه الطائفة أو تلك كما تشيرُ المقاعد التي يمثّلونها. وبالتالي، ضمِنت البنى الطائفيّةُ التي حاول ساراي جاهدًا كَسْرها في إصلاحاته الإداريّة أن تكون السلطات المحليّة الحاكمةُ معتدلةً في موقفها ضدّ فرنسا (إن لم تكن حليفة لها)، وأن تكون طائفيةً في التزاماتها السياسيّة. طبعًا، كان لهذا التركيب الطائفيّ سابقةٌ في تاريخ جبل لبنان؛ لكنّ إنذار الإدارة الفرنسيّة استغلّ هذا التركيبَ بدهاءٍ لمنع مقاطعة المسلمين للدستور.

في 11 كانون الثاني/ يناير 1925، أصدر المجلسُ البلديُّ في بعلبك بيانًا ضد العمليّة الدستوريّة وأعلن تضامنه مع الثورة القائمة، فأصدر ليون دو كايلا مرسومًا بحلّه في اليوم التالي. وفي خطوةٍ لتهدئة الاستياء الشيعيّ الناجم عن حلّ المجلس، وفي محاولة لكسبهم، أصدر مكتبُ المفوّض السامي في 24 كانون الثاني/ يناير 1926 مرسومًا آخرَ يعترف فيه رسميًّا بالمحاكم الجعفريّة الشيعيّة36. في اليوم التالي، أعلن السيّد عبد الحسين شرف الدين ووفد من وجهاء الجنوب الشيعة ولاءهم للبنان ضمن حدوده القائمة. وهكذا، بدا أنّ فطنة دو جوفنيل السياسيّة الحاذقة نجحتْ في جمع المجلس التمثيلي اللبنانيّ من أجل صياغة دستور.

تطوّرتْ مناورات دو جوفنيل الذكيّة، على ما يبدو، بالنظر إلى تجربة حكم ساراي. ويلاحَظ الفرقُ عن نهج عمل ساراي المباشر، إذ فرَضَ دو جوفنيل سياساتِه بشكلٍ غيرِ مباشر واستغلّ المنظومة الاجتماعيّة الطائفيّة القائمة في البلاد لصالحه37.

وفي حين دانَ دو جوفنيل سياسةَ فرنسا للإدارة المباشرة في المشرق، لم يدعُ إلى موقفٍ أكثرَ عقلانيّةً تجاه السكان المحليّين. في ملحقٍ لرسالةٍ من بول بونكور في تشرين الثاني/ نوفمبر 1925، أُغرقت التوصيةُ الخاصّة بمؤتمرٍ تأسيسيٍّ في مبرّرات تقول إنّ الإدارة غير المباشرة، كما يتّضح من الصياغة المحليّة للدستور، ليست بأيّ حالٍ من الأحوال تخلّيًا عن السلطة بل هي تطبيقٌ للهيمنة بوسائلَ أخرى38.

يؤكد الملحقُ التعليماتِ الرسميّةَ المعطاة لدو جوفنيل في مجلس النواب الفرنسيّ قبل انطلاقه إلى بيروت، إذ يشير إلى أن: «لسلطة الانتداب الصلاحيّات التي تنطوي عليها مسؤوليّتها، وهي تقديم المشورة لحكومتَي سورية ولبنان، وممارسة السلطة عليهما وتصحيح قرارهما، واستبدالهما في حالة الإخفاق في الأمور التي تمَسّ المصالح الجوهريّة للدول والالتزامات الدوليّة»39.

تفتح مثلُ هذه الحوادث ثغراتٍ في ادّعاءات الإدارة الفرنسيّة بأنّها سمحتْ للبنانَ بممارسة سيادته وصياغة دستورٍ شرعيٍّ غيرِ مفروضٍ عليه من أعلى. في قصةٍ تُلقي الضوءَ على هذا الأمر، يعلّق الصحافيُّ السياسيّ الفرنسي البارز ألفريد فابرــــــ لوس بسخريةٍ حول كيف كان السيّد دو جوفنيل ينوي جلب الديمقراطيّة والسيادة إلى الشرق:

«ذاتَ يومٍ من عام 1926، استدعى [دو جوفنيل] أحد مساعديه وقال له: «سأرحل بعد شهر، أحتاج إلى دستورٍ قبل ذلك الحين». فأجابه مدير مكتبه بول سوشييه ضاحكًا: «ستحصل عليه في غضون أسبوع»... وكان سوشييه دائم المرح، يسير متأبّطًا دستور عام 1875 محاولًا تكييفه مع الذوق المحلي...من خلال تزيينه بكوفيّة»40.

يحتلّ بول سوشييه مكانةً بارزةً في قصّة الدستور اللبناني لعام 1926. بصفته مندوب المفوّض السامي دو جوفنيل، مُنح سوشييه ــــــ الباحثُ في القانون الدستوريّ والمسؤولُ الحكوميّ رفيعُ المستوى ــــــ إجازةً لمدّة ستة أشهرٍ من باريس لمساعدة دو جوفنيل على إكمال مهمّته في تسهيل وضع دستورٍ لبناني. مُدّدتْ هذه الإجازة مرّتين لاحقًا بناءً على طلب دو جوفنيل41. ويشتبهُ إدمون رباط ومسعود ضاهر ومؤرّخون بارزون آخرون في أنّ سوشييه هو المؤلّف الفعليّ للدستور42. وحجّة رباط هي الأكثر إقناعًا في هذا الصدد، وتتناسب مع سلسلةٍ من الأحداث المتتاليةِ التي كُلِّف فيها سوشييه بمساعدة لجنة صياغة الدستور في كتابته، والتي تخطّتْ بها فترةُ مكوثه في بيروتَ إلى جانب تلك اللجنة فترةَ خدمة دو جوفنيل فيها. وفي الجلسة الافتتاحيّة للمجلس، قال سوشييه في مداخلته من أجل إقرار مشروع الدستور:

«بالنسبة إلى حضوري بينكم، فهو يتمّ بموجب المادّة الأولى من شرعة الانتداب، الذي يفرض الالتزام بصياغة الدستور من قبَل السلطات المحليّة بالاتفاق مع سلطة الانتداب. آمل أن نتّفق على النصّ النهائيّ [للدستور] كما اتفقنا مع لجنة [الصياغة] على هذه المسوّدة»43.

وإذ يدلّ هذا الاقتباسُ على سلطة سوشييه ومدى تأثيره على لجنة الصياغة خلال كتابتها وتقديمها مسوّدتها للدستور، إلّا أنّه لا يحسم الأمر. ومع ذلك، تبقى لدى المؤرّخة الكثير من الشكوك الإضافية وهي تقلّب محاضر المداولات. وكما يشير رباط، ينبغي البحثُ عن الدليل الذي يحسم هذا الجدلَ في التقرير المفصّل لشبل دموس، المقرِّر الرسمي للجنة الصياغة. من المفترض أنّ هذا التقرير قد وُزّع على المجلس التمثيليّ خلال جلسته الأولى في 19 أيار/ مايو 1926 وأضيفتْ نسخةٌ منه إلى محضر الاجتماع. لكنّ الغريب أنه لا يمكن العثور على التقرير في أيٍّ من المحاضر الرسميّة لجلسات المداولات الثماني44. علّقَ رئيس لبنان السابق ألفرد نقاش في محاضرةٍ ألقاها في الندوة اللبنانية قائلًا: «الدستور هو تنظيم السيادة»45. بينما يبقى لغزُ مَن صاغ دستور عام 1926 قائمًا، فمن الواضح عدمُ احترام السلطات الفرنسيّة إطلاقًا لمفهوم السيادة كما تمنحها وتنظّمها الدساتير الوطنيّة. وزاد الطينَ بِلّةً عدمُ الاعتراف بأعضاء المجلس الذين عارضوا المشروع أو بالمتظاهرين في الشوارع.

وضع النائب السنّي عمر الداعوق والنائب الشيعيّ صبحي حيدر في الجلسة الافتتاحيّة للمداولات الدستوريّة مناورات دو جوفنيل الماكرة في نصابها بشكلٍ مُقنع. قرأ الداعوق بصوتٍ عالٍ إعلانًا وَقّع عليه هو وحيدر وثلاثة نواب سنّة آخرين أكّدوا فيه رفضهم الشديدَ للمادّة الأولى من الدستور والتي حدّدَتْ حدود لبنان وألغتْ بذلك آمال الوحدة مع سورية. وأضاف صبحي حيدر:

«أودّ أن أضيف، إلى ما قاله للتوّ زميلي السيّد الداعوق، أنّه من أجل تجنّب أيِّ ضررٍ على سكان الأراضي التي تم ضَمُّها وإلى أن ينتهيَ هذا الضمّ، سوف نشارك في مناقشة الدستور مع الحفاظ على موقفنا الاحتجاجيّ»46.

كما اتّضح أعلاه، تمكّنت السلطاتُ الفرنسيّة، تحت ستار منْح السيادة الوطنيّة، من تفكيك معارضة الانتداب عسكريًّا من خلال قمعها العنيفِ للثورة السورية الكبرى، ودحضتْ جميع المطالبات الشعبيّة بالوحدة مع سورية قانونيًّا من خلال اعتماد الدستور اللبناني لعام 1926.

خاتمة

حاولتُ في هذا المقال تتبّعَ السياسات والمواقف السياسيّة الفرنسيّة تجاه صياغة الدستور وفكرة السيادة المحليّة. كما يكشف الأرشيف، كانت الطائفيّةُ والعسكرة جزءًا من «عدّة الشغل» الإمبرياليّة لسياسات فرنسا المتّبعة للحفاظ على سلطتها، وقد استخدمها كلٌّ من اليمين واليسار حسب الحاجة. بدت الإدارة الفرنسيّة كأنّها تتأرجح بين ضرورات نشر مُثلها الجمهوريّة من جهة، والحفاظ على هيمنتها من جهةٍ ثانية، فلجأتْ إلى الأدوات الطائفيّة إذا تطلّب السعيُ وراء الهيمنة ذلك. كما يبدو واضحًا أنّ مفهوم القوّة الإمبرياليّة للسيطرة كان مرتبطًا دائمًا بممارسات استعماريّة. وبين هذه الممارسات، فإنّ أدوات الإخضاع الأكثر فاعليّة والأقل إثارةً للجدل لم يكن الجيش بل التلاعب بوسائل أخرى. وكانت المناوراتُ الماكرة في السياسة والإثارة الطائفية غيرَ معلنة، تمامًا مثل مناوراتها وراء الكواليس لإلغاء المادّة الأولى من ميثاق الانتداب حول «موافقة السكان الأصليّين» على النظام الأساسيّ.

أصبح من الشائع في السنوات الأخيرة إظهارُ التباينات في الإمبراطورية. وفي هذه الروايات، تطفو إلى السطح الاختلافاتُ الأيديولوجيّة بين اليسار واليمين في الحاضرة الفرنسيّة. هدفتْ هذه الدراسةُ إلى تسليط الضوء على الطبقات المختلفة للاتفاق والاختلاف ضمن الإدارة الفرنسيّة بدلًا من التركيز المعتاد على الثنائيّة الأيديولوجيّة السياسيّة بين اليسار واليمين. يساعدنا تجاوزُ هذا الإطار الأيديولوجيّ على فهم العديد من المكوّنات الأخرى للعقل الاستعماري. وفي حين أحدثتْ مفاهيمُ السياسيّين الفرنسيّين المختلفة عن العالم شرخًا عميقًا في مشروعهم الإمبريالي، إلا أنّهم كانوا يتشاركون الآراء حول مفهوم الهيمنة و«الفكر العقلاني الحديث» والإقطاعيّة البالية في بلدان الجنوب العالمي. كما هو واضحٌ في هذه السرديّة لعمليّة صياغة الدستور، وحّد الغرور الفوقيّ طيفًا واسعًا من الأيديولوجيّات السياسيّة بشكل أسرع بكثير من قدرة المفاهيم المجرّدة لمناهضة الإمبريالية والعدالة الاجتماعية على خلق شقوقٍ في نظام الانتداب. وبالتالي، فإن الشكل الذي اتخذه لبنانُ الوليد في نهاية عمليّة المشاورات الدستوريّة هذه، كان في الوقت نفسه أكثر تعقيدًا وأكثر نمطيّةً ممّا يجري تصويره في الغالب.

المراجع الأرشيفية

  • – أرشيف وزارة الشؤون الخارجيّة في باريس (MAE).
  • – أرشيف عصبة الأمم في جنيف (SDN).
  • – أرشيف الندوة اللبنانيّة.

Bibliography - Secondary sources

  • – ضاهر، مسعود، تاريخ لبنان الاجتماعي١٩١٤ــــــ١٩٢،
    بيروت، دار الفارابي، ٢٠١٥.
  • – صليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، بيروت، ١٩٩١.
  • – Coblentz, Paul. Le Silence de Sarrail.
    Paris: Bussière, 1930.
  • – Fabre-Luce, Alfred. Deuil Au Levant.
    Paris: Fayard, 1950.
  • – Farha, Mark. “Secularism in a Sectarian Society? THe Divisive Drafting of the 1926 Lebanese Constitution.” In Constitution Writing, Religion and Democracy, 101–30. Cambridge UK: Cambridge University Press, 2017.
  • – Fournier, Pierre. “Le Mandat à l’épreuve Des Passions Francaises: L’affaire Sarrail (1925).” In France, Syrie et Liban 1918-1946: Les Ambiguités et Les Dynamiques de La Relation Mandataire. Damascus: Presses de l’Ifpo, Institut français d’études arabes de Damas, 2002.
  • – Hokayem, Antoine. La Genèse de La Constitution Libanaise de 1926. Antelias, Liban: les Editions Universitaires du Liban, 1996.
  • – Majzoub, Mohamed. Le Liban et L\Orient Arabe. Aix-en-Provence: La Pensée Universitaire, 1956.
  • – Naccache, Alfred. “Le Problème Constitutionel Au Liban.” Beirut, 1947.
  • – Rabbath, Edmond. La Formation Historique Du Liban Politique et Constitutionnel. Beyrouth: Libraririe Orientale, 1986.
  • – Rabbath, Edmond. La Constitution Libanaise: Origines, Textes et Commentaires. Beirut, Lebanon: Libraririe Orientale, 1982.
  • – Rabbath, Edmond. “L’insurrection Syrienne de 1925-1927.” Revue Historique 2,
    no. 267 (1982): 405–47.
  • – Zamir, Meir. The Formation of Modern Lebanon. New York: Cornell Paperbacks, 1988.
العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠
لبنان بين يسار ويمين المفوّضين السامين

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.