في معظم أنحاء العالم العربيّ، وخصوصًا في المشرق، كلمة «عصفوريّة» تَعني الجنون، مصحّ أو مستشفى للمجانين، وعمومًا أصبحتْ كلمة «عصفوريّة» استعارة لمرضٍ نفسيٍّ، وسلوكٍ شاذٍّ أو انحراف. لكن قبل أن تأخذ كلمة عصفوريّة هذا المعنى التحقيريّ، كانت العصفوريّة مستشفى شَهِيراً لعب دورًا بارزًا في تطوير مفاهيم الأمراض النفسيّة وممارسة الطبّ النفسيّ ونشْر الحداثة.
كانت العصفوريّة مستشفى دوليًّا يتوافد إليه المرضى من جميع أنحاء الشرق الأوسط، من اللاذقيّة والموصل والإسكندريّة وحيفا والقدس وطهران وكذلك من جبل لبنان وبيروت، لدرجة أنّ إحدى المجلّات الطبّيّة الرائدة، المجلّة الطبية البريطانية(British Medical Journal) ، كانت تعتبر العصفوريّة «المؤسّسةَ الوحيدة من نوعها في الإمبراطوريّة العثمانيّة بين القاهرة والقسطنطينيّة، التي تنشر التأثيرات المحسِّنة للعلوم الطبّيّة الحديثة والحماسة الإنسانيّة، ليس فقط بين أولئك الذين يعيشون في جوارها، بل وأيضًا بين المسافرين الآتينَ من بلدانٍ بعيدة، على طول الطرق التجارية المؤدّية إلى دمشق وبغداد، وحتى على طول طريق الحجّ من دمشق إلى مكة». لكنْ مع مرور الزمن ومع ولادة دولٍ جديدة ونَصْب حدودٍ جديدةٍ بعد تفكّك الإمبراطوريّة العثمانيّة في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، فقدَت العصفوريّة تدريجيًّا هذه النوعيّةَ «الكوسموبوليتانيّة» لمرضاها.
حتى في بُنيتها المادّيّة كانت العصفوريّة عالميّةً، كان يأتيها الكتّان من أمستردام، ومضخّاتُ المياه من الولايات المتّحدة والأدوات الطبّيّة من لندن، والفوانيس من سويسرا. كلُّ اكتشافٍ جديد في الغرب سرعان ما يتمّ تبنّيه في العصفوريّة: العلاج المهنيّ، وعلاج غيبوبة الأنسولين والعلاج بالصدمات الكهربائيّة والجراحة الفصية المثيرة للجدال، والأدوية العقليّة والنفسيّة. خلال الحربين العالميّتين، عولجتْ في مستشفى العصفوريّة القوّاتُ الأجنبيّة من الكومنولث البريطاني وأفريقيا. في الواقع، كل جيشٍ احتلَّ لبنانَ في القرن العشرين احتلّ في مرحلةٍ ما مبانيَ العصفوريّة.
سمّي المستشفى على اسم المنطقة التي أقيم فيها في الحازميّة بجبل لبنان (وليس بالعكس كما يُفترض في الغالب) وهي معروفة بطائر الحسّون الذهبي واسم التلّة «تلّة العصافير». أسّس المستشفى العام 1896 ثيوفيلوس فالدماير، المُبشّر السويسريّ المنتمي إلى جماعة «الكويكرز» وقد اختار جبل لبنان لعدّة أسباب. أوّلاً، كانت تقع منطقة العصفوريّة بالقرب من طريق بيروت دمشق الذي يربط ساحل البحر الأبيض المتوسّط بسورية وحتى بالعراق، كما أشارت المجلّة الطبّيّة البريطانيّة. ثانيًا كانت على بعد بضعة كيلومترات فقط من بيروت، التي أصبحتْ في أواخر القرن التاسع عشر ميناءً حيويًّا ومصدرَ قلقٍ لعلماء الصحّة العامّة. لذلك كان من الطبيعيّ أن يختار فالدماير تلّة العصفوريّة ليحميَ المستشفى من مصادر الأوبئة مثل الكوليرا والتيفوئيد والطاعون التي كانت تجتاح المدنَ عبر طرق التجارة في البحر الأبيض المتوسّط. وأخيرًا، فجبل لبنان وَضَعَ المستشفى على هامش المدينة، التي كان يعتبرها المبشّرون عمومًا مصدرًا للخطيئة والمرض.
قرار جيوسياسيّ
ربما كانت الجيوسياسية أهمَّ شواغل فالدماير. لم ينسَ المبشّرون الغربيّون الاضطراباتِ الطائفيّة في أربعينيّات القرن التاسع عشر وستّينيّاته خصوصًا في جبل لبنان ودمشق. كتب فالدماير في ذلك الوقت، «يجب إنشاءُ هذه المؤسّسة في منطقةٍ صحّيّة في جبل لبنان، حيث نتمتّع بحكومةٍ مسيحيّة، وقوانين جيّدة، وحرّيّة عظيمة، والعديد من امتيازات أخرى». في الواقع، تسبّبت الاشتباكاتُ الطائفيّة عام 1840ــــــ1841 في تقسيم جبل لبنان إلى منطقتين ذاتَي حكمٍ ذاتيّ (قائمقاميّتين): واحدة تحت حكمٍ مارونيٍّ والأخرى تحت حكمٍ درزيّ. بعد عشرين عامًا، إثر المذابح التي وقعتْ في 1860ــــــ1861 في جبل لبنان، قرّرتْ سلسلةٌ من الاتفاقيّات الدوليّة بين القوى الأوروبيّة والإمبراطوريّة العثمانيّة) دمجَ القائمقاميّتين في ما سمّي متصرفيّة جبل لبنان يحكمُها حاكمٌ مسيحيّ عثمانيّ معيَّن من الباب العالي، وتتمتع بحكمٍ ذاتيٍّ شبه مستقلّ، ما جعلَها موقعًا مثاليًّا للعمل التبشيريّ. لهذا السبب بالتحديد اختار فالدماير العصفوريّة، ليس فقط للإمكانات العلاجية للمنطقة ولكن أيضًا لتأمين البقاء السياسيّ للمستشفى في بيئةٍ مهدِّدة ومعادية.
قبل تأسيس العصفوريّة عام 1896، كان هناك مستشفيان حديثان ومعروفان لمعالجة الجنون في الشرق: السليمانيّة في القسطنطينيّة، الذي أسَّسَه السلطان سليمان القانوني عام 1560 ومستشفى العباسيّة في القاهرة، الذي تأسّس تحت حكم محمد علي باشا عام 1880. وكان كلاهما في حالة من الانحطاط قبل استدعاء الأجنبيّ الإيطاليّ لويجي مونجيري لإصلاح السليمانية عام 1856، بينما انتقل مستشفى العباسيّة من حكم الخديويّة إلى الإدارة البريطانيّة عام 1884.
ولكنْ قبل أن تنتشرَ مصحّات المجانين المستورَدة من أوروبا في بلاد الشام، كانت هناك مؤسّسةٌ أقدم بكثير، هي «البيمارستان» (كلمة فارسيّة معناها «بيت المرضى»)، المؤسّسة التي كانتْ جزءًا لا يتجزّأ من النسيج الاجتماعيّ والحضَريّ الإسلاميّ في العصور الوسطى والمجتمعات العثمانيّة. لكنّ البيمارستان أيضًا مستمدٌّ من مؤسّسة بيزنطيّة تعرف بـxenodocheia في معناها الحرفي «سكن للغرباء»، وهي مستشفيات خيريّة لرعاية المرضى والفقراء ظهرتْ في ما هو اليومَ جنوب غرب إيران وتركيا، أي في المراكز السريانيّة في الإمبراطوريّة الساسانيّة.
على عكس الـxenodocheia، يضع البيمارستان حكمًا خاصًّا لرعاية المجانين، الذين يعالَجون بطرقٍ مختلفة: الحبس، التقييد بالسلاسل، ولكن أيضًا العلاج بالموسيقى ووصفات الجالينيك Galenic مثل الراحة، النظام الغذائي، الحمّامات، إراقة الدم والمسهّلات. نحو نهاية القرن التاسع عشر وانحدار الإمبراطوريّة العثمانيّة، بدأ البيمارستان بالتدهور تدريجيًّا. يجادل كتابي بأنّ تدهور البيمارستانات وليس الجذام، كما يدّعي ميشيل فوكو، هو ما مَكّنَ من ولادة مصحّات للمجانين وفيما بعد مستشفيات للأمراض العقليّة المستوردة من أوروبا على امتداد الشرق الأوسط.
بين السليمانيّة والعباسيّة والعصفوريّة
تميزت السليمانيّة والعباسيّة والعصفوريّة بنهجها الليبراليّ والتحديثي. بالإضافة إلى ذلك، كان مشجّعو ما يسمى بـ«العلاج الأخلاقيّ» وهو نهجٌ أكثر إنسانيّةً لإدارة الجنون، بدلاً من اللجوء إلى الأصفاد الجسدية، جميعًا من الأجانب. كان مونجيري طبيبًا إيطاليًا وفرانك ساندويث في العباسيّة طبيبًا بريطانيًا، وفالدماير مبشّرًا سويسريًا. ومع ذلك كانت هناك اختلافاتٌ بين المؤسّسات الثلاث. أوّلاً، كانت دوافعهم مختلفة. تقع السليمانيّة عند تقاُطع مسارَين متشابكين. الأوّل، المذكور أعلاه، هو التقليد القديم للمؤسّسات الخيريّة، والذي تم الحفاظ عليه بفضل رعاية الحكّام الأثرياء. المسار الثاني هو الجهد المركزيّ للدولة العثمانيّة في القرن التاسع عشر لضمان النظام العام، والذي تضمّن السيطرة على المحرومين وغير المرغوب فيهم. أمّا العباسيّة فكانت أيضًا جزءًا من الجهاز الاستعماريّ البريطانيّ الجديد في مصر الذي يهدف إلى احتواء النظام والسيطرة عليه. وعلى النقيض من ذلك، كانت العصفوريّة جزءًا من الحركات الإحيائيّة والألفيّة او الخَلاصيّة في أواخر القرن التاسع، والتي كانت في آنٍ واحد حضاريّةً وتبشيريّة وإنسانيّة. لكنّ العصفوريّة تميّزتْ أيضًا بتأييدٍ استثنائيٍّ وحماسيّ منذ تأسيسها من قبَل النخبة المثقّفة المحلّيّة وأعيان البلد.
في حالتَي السليمانيّة والعباسيّة، استهدف الإصلاحيّون ممارساتٍ ومعتقداتٍ في الإسلام كان يعتبرها المستعمِرون والأطبّاء الأجانب متحجّرة. في حالة العصفوريّة، استهدف المبشّرون البروتستانت المسيحيّين الشرقيّين لأنّهم كانوا يعتبرونهم جهَلَةً وغير عقلانيّين يحملون معتقداتٍ خرافيّة ومبتذلة، مثل إخوانهم المسلمين، فيذْكرون كيف يعامَلون بوحشيّة المجانين على افتراض أنّهم يمتلكهم الجنّ.
على عكس العباسيّة والسليمانيّة، وكلتاهما مؤسسة تديرها الدولة العثمانيّة، كانت العصفوريّة مستشفى خاصًّا يعتمد كليًّا على التبرّعات. وكما يوضّح الكتاب، فإنّ أحد أسباب زوال العصفوريّة هو السلوك غير المسؤول للدولة اللبنانيّة تجاه المرضى وسْط تراجعٍ في ما يمكن تسميته «الاقتصاد التبشيريّ» وظهور نوعٍ جديدٍ من اقتصادٍ جيوستراتيجيٍّ متأثّر بدولٍ ناشئة غنيّةٍ بالنفط، مثل المملكة العربيّة السعوديّة وإيران.
عدد المرضى ونوعيّاتهم
علاوةً على ذلك، كان عدد المرضى في هذه المستشفيات الثلاثة مختلفًا بشكلٍ ملحوظ. في حين أن المرضى في العبّاسية كانوا مصابين بما يسمّى الجنون الإجراميّ، كان مرضى السليمانيّة خليطًا من المجانين الأغنياء والفقراء، منهم أشخاصٌ جلبتْهم الشرطة، وآخرون جلَبَهم أفراد عائلاتهم. على العكس من ذلك، كان المرضى في العصفوريّة في الغالب من الطبقة العاملة والطبقة المتوسّطة، على الرغم من أنه كان من المفترض أن يهتمّ المستشفى في المقام الأوّل بـ«أفقر الفقراء». كما تم إحضار المرضى على العموم على أيدي أفراد أسرهم بدلاً من السلطات المحلّيّة. أما المجانين جنائيًّا فلم يكونوا كثيرين. ومع ذلك، فإنّ تجريم تعاطي المخدّرات (الهيروين والكوكايين والحشيش) في الستينيّات ساهم في زيادةٍ حادّة في عدد نُزلاء العصفوريّة وإنشاء «وحدة للطبّ الشرعيّ» لإيوائهم وعلاجهم. ما لا يُعترَف به عادةً هو الدور الأساسيُّ الذي أدّتْه العصفوريّة في وقْف تجريم تعاطي المخدّرات وتطبيب الجنون الإجرامي. بدأ بعض المعلّقين أخيرًا في التنديد بغياب مَرافقَ للأمراض النفسيّة في السجون اللبنانيّة. يبدو أنّ قلّةً من الناس يتذكّرون الدور الذي لعبتْه العصفوريّة في إصلاح السجون خصوصًا في مشاركة المستشفى في الإصلاحات القانونيّة، في مختلف الاستشارات والعلاجات النفسيّة التي قدَّمها المستشفى مجانًا في سجون الدولة المختلفة، وفي الرعاية الطبيّة التي قدّمها المستشفى في منشأته العلاجيّة الخاصّة (حتى لو بدا هذا الأخير غيرَ ملائمٍ إذا استرجعْنا الماضي).
جادَلَ البعضُ بأنّ السلطات العثمانيّة استخدمتْ مستشفى العصفوريّة لتطهير شوارع بيروتَ من أفرادها غير المرغوب فيهم. في حين أن العثمانيّين أيّدوا المؤسّسة (كما فعَلَ معظم المثقّفين المحلّيّين وأعيانُها)، فإنّ الأدلّة التاريخيّة لا تدعم الادّعاء بأنّها استخدمت العصفوريّة كمستودعٍ للأشخاص غير المرغوب فيهم. في الواقع، لم يكن عدد المرضى الذين أرسلتْهم البلديّات كبيرًا، على سبيل المثال لم يمثّلوا سوى 15 بالمئة من جميع حالات القبول خلال الفترة 1930–1936. وبالفعل فإنّ غالبيّة حالات الدخول كانت «عاديّة» معظمهم من المرضى الخاصّين وبعض المرضى الفقراء المشمولين بالمستشفى أو الجمعيّات الخيريّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ عدد المرضى الخاصّين يتجاوز بشكل عام عدد المرضى المرتبطين بالحكومة (الذين يعتمدون على سياسة الرعاية الاجتماعيّة أو البلديّات أو الجيش أو وزارة العدل)، باستثناء فترتين رئيسيّتين قمتُ بتحليلهما بمزيدٍ من التفاصيل في الكتاب. بالطبع، كما توضّح حالة مي زيادة، لا يمكننا أن ننكرّ الوسائل القسريّة للعائلات (وليس للسلطات فقط) على المرضى، وبالفعل جوهر الجدل حول إدخال مي زيادة إلى المستشفى هو الاتّهام الموجه لخالها الذي كان حريصًا على إسكاتها ووضع يده على ميراثها.
جنون الهجرة
إلى جانِبِ ذَلِك، تميّزت العصفوريّة عن السليمانيّة والعباسيّة بأخلاقيّتها في رعاية المرضى حيث شدّدَت على طابَعها اللاطائفي (الذي أدرجَ حتى في دستورها) على الرغم من أنّ مؤسِّسها مبشّر مسيحيّ. في المقابل، كانت العباسيّة والسليمانيّة مؤسّساتٍ إسلاميّة. كما أبيّن في كتابي، كان لهذا الاختلاف تأثيرٌ كبير على المَسار الذي سلكه مجالُ الطبّ النفسيّ في لبنان بعد زوال العصفوريّة.
يُقال إنّه عندما فَتحت العصفوريّة أبوابّها عام 1900، بعد أربع سنواتٍ من التأخير بسبب الطاعون (من بين أمورٍ أخرى) التي جعلت من المستحيل على أوّل مديرٍ للمستشفى الوصولَ إلى بيروت، قدِم عددٌ كبير من المرضى إلى المستشفى. ويعدّد الطبيب السويسريّ أوتو وولف أسباب الدخول إلى مستشفى العصفوريّة على أنّها شملتْ: الاكتئابَ والبؤسَ والفقرَ والملاريا غير المعالَجة والخمولَ والتزاوج والعيش الفاضل (بين الأغنياء) والهجرة إلى الأميركيتين. وبالفعل، فإنّ إحدى خصائص مستشفى العصفوريّة هي تشخيص الجنون الناجم عن الهجرة. كانت الهجرة سببًا للجنون وبشكل أكثر تحديدًا، الجنون الناجم عن مصائب المهاجرين الذين عادوا إلى البلد مفلسين ويائسين. كان يُنظر إلى الهجرة كمصدرٍ ليس فقط لفساد الأخلاق بسبب التعرّض للغرور الدنيويّ، ولكن أيضًا كمصدرٍ للقلق الوجوديّ والانهيار العصبيّ وخيبة الأمل واليأس. القصّة هي قصة أحلامٍ أميركيّة فاشلة. وبالفعل، من بين الحالات الأولى التي تم قبولها في مستشفى العصفورية في أوائل القرن العشرين كانت لمهاجرين عادوا إلى البلاد مختلّين ومُفلسين. وأحــــــــــــــــــــــــــد أسباب الجنون التي شخّصَها الأطبّاء في ذلك الوقت كان الاغتراب الناتج من طريقة الحياة المعقّدة التي تعرّضوا لها في المهجر.
ميّ زيادة
في عام 1932، تم قبول مريضة مشهورة بسبب تشخيصها بـ«السَّوداوِيَّةُ الأَوبِيَّة» تلك المريضة كانت ميّ زيادة، النسويّة والروائيّة والشاعرة الشهيرة التي كانت تعقد صالونًا أدبيًا في القاهرة مرتبطًا بالنهضة العربيّة الحديثة. تسبّب دخولُها إلى المستشفى بأوّل احتجاجٍ عامٍّ ضدّ الاعتقال غير الطوعيّ في المشرق (وربما في الشرق الأوسط) وضدّ مستشفى العصفوريّة تحديدًا. قد يكون هناك مرضى مشهورون آخرون في مستشفى العصفوريّة، لكنّ حالة ميّ زيادة كانت بالتأكيد الأكثر انتشارًا والأكثر إثارةً للجدال. أحلّل في الكتاب عن كثب الفضيحةَ وأظهر من خلال قضيّة ميّ، كيف أنّ تاريخ الجنون والجنس عرضة لتفسيراتٍ وأساطيرَ مختلفة، وكذلك كيف أصبحت قراءة تاريخ الطبّ في الشرق الأوسط ضيّقة الأفق.
عندما حصل لبنان على استقلاله عام 1943 كان العالَم لا يزال في الحرب العالميّة الثانية. وكانت العصفوريّة على حافّة الإغلاق بسبب عددٍ من العوامل بما في ذلك التضخّم والضرائب الجديدة التي أدّتْ إلى زيادات كبيرةٍ في الرواتب والأجور، وانسحاب المرضى الجماعيّ الموجودين على حساب الحكومة (وقد أرسِلوا إلى دير الصليب، المستشفى المنافِس للعصفوريّة والأرخص بكثير)، وانخفاض عدد مرضى القطاع الخاصّ الذين كانوا يأتون سابقًا من الدول المجاورة خصوصًا من دول الخليج للبحث عن علاجٍ متخصّص. لكن نداءً طارئًا أطلقه فضلو حوراني (والد المؤرّخ ألبرت حوراني) عام ١٩٤٤، بروتستانتيٌّ من جنوب لبنان وهو عضوٌ نشِط في لجنة مستشفى العصفوريّة بلندن، نجح في جمع المبلغ المطلوب لإنقاذ المؤسّسة، وكانت أكبر التبرّعات من مواطنين محلّيّين.
خلال زيارته إلى وطنه (كان يعيش ويعمل في مانشستر)، ناشد فضلو حوراني أوّلَ رئيسٍ منتخب لجمهوريّة لبنان المستقلّة، بشارة الخوري، لدعم مستشفى العصفوريّة، فدعا الخوري الحوراني إلى قصره في بيروت ليعلن قرار الحكومة بالموافقة على طلبه. وروى الحوراني كيف تدفّقت الأموال المحلّيّة من جميع الطبقات والطوائف في أعقاب ندائه. تم جمع أكبر مبلغٍ من قبَل أصدقاء مستشفى العصفوريّة، وهي مجموعةٌ كانت تشمل شَخصيّات منهم ألبرت فرعون (القنصل اللبنانيّ في حيفا) وعمر الداعوق (رئيس بلديّة بيروت). وفي العام ذاته أطلق الحوراني نداءً باللغة العربيّة عبر الـ«بي بي سي» البريطانيّة التي جمعتْ أموالاً إضافيّةً من بريطانيا ومستعمراتها في غرب أفريقيا. يُشار إلى هذا الإنقاذ التاريخيّ في سجلّات المستشفى على أنّه لحظة من «الصحوة الوطنيّة» والمسؤوليّة المشتركة في بناء المؤسّسات والأمّة، الأولى في تاريخ المستشفى وربما في تاريخ البلاد.
في منتصف السبعينيّات انفجرتْ حربٌ أهليّة في لبنان دفعت البلاد في دوّامة عنفٍ جهنّمي استمرّتْ لمدّة خمسة عشر عامًا (رسميًا على الأقلّ). خلال تلك السنين الصعبة، راكَمَ مستشفى العصفوريّة ديونًا هائلة. ومن سخرية القدَر أنّ المليشيات المسيحيّة التي شاركتْ في الحرب الأهليّة أصبحتْ مصدر الكثير من المعاناة والعنف والرعب للمرضى والموظفين على حدٍّ سواء. قبل بضعة أشهرٍ من غزو الجيش الإسرائيلي للبنان عام 1982، أغلقت العصفوريّة أبوابَها خوفًا من الإفلاس.
يركّز كتابي على سيرة هذا المستشفى الشهير، منذ تأسيسه عام 1896 حتى إغلاقه عام 1982. أحاول فهم كيف استطاع المستشفى البقاءَ على قيد الحياة لفترةٍ طويلة على الرغم من عدم الاستقرار في المنطقة وتفكّك الإمبراطوريّة العثمانيّة ومجاعة الحرب العالميّة الأولى وصولاً إلى الحرب العالميّة الثانية والحروب الأهليّة (1958 و1975) والنزاعات الإسرائيليّة العربيّة. فلو اقتصرتْ هذه الدراسةُ على فترةٍ أقصر، كما فعلتْ دراساتٌ قليلة أخرى، مع التركيز على حلقةٍ رئيسيّة واحدة ما أسمّيه «المرحلة التبشيريّة» للمستشفى، والتي تبدأ عام 1896 وتنتهي بوفاة المؤسّس عام 1915، لكانت استنتاجاتُ الكتاب غير مكتملة، إنْ لم تكن مضلّلة.
يعتمد الكتاب بالتالي على نهج «الأمد الطويل»، على ما يسمّيه المؤرّخُ الفرنسيّ فرناند بروديل، لبحث التاريخ المؤسسيّ للطبّ النفسيّ في لبنان الحديث. في الوقت نفسه يحاولُ أن يعكس من منظور التاريخ المحلّيّ تاريخًا عالميًا للطبّ النفسيّ. فإنّ الآثار تتجاوز السياقّ المحدّد لهذا المجتمع اللبنانيّ التعدّدي. يستخدم الكتابُ تاريخَ الطبّ النفسي باعتباره «أداة أخذ العيّنات» كما يسمّيه المؤرّخ الأميركي تشارلز روزنبرغ لإلقاء الضوء على الأسئلة المتعلّقة بالحداثة والتطبيب والسياسة الاجتماعيّة. وبذلك تصبح العصفوريّة نافذةً على أسئلة السياسة الاجتماعيّة المتعلّقة بالتبعيّة أو الخضوع إلى أشكالٍ معيَّنة من حكم النفس، والرعاية الاجتماعيّة، وتعريفات الانحراف، وعلاقة البعثات الدينيّة بالإمبرياليّة، وعلاقة الخبرة والسلطة الطبّيّة بالدين. يهدف الكتابُ إلى المساهمة في التأريخ الذي يهتمّ بالقضايا الأوسع نطاقًا والمتعلّقة بإنتاج المعرفة العلميّة في عالَمٍ متّصلٍ عالميًا وفي العمليّات الأساسيّة للقيَم والافتراضات والمعايير الاجتماعيّة وكذلك تلك الممارسات المؤسسيّة. على وجه التحديد يبحث الكتابُ في عمليّات بناء الدولة والأسئلة المتعلّقة بتأثير الحرب على الصحّة والبُنى التحتيّة الصحّيّة وهو الجانب المفقود، أو أنّه يعالَج بشكلٍ عامٍّ فقط في التاريخ المؤسّسي للطبّ النفسيّ. وبشكلٍ أعمّ، يستخدم الكتابُ «سيرةً» مؤسِّسة لتحقيق العمليّات التاريخيّة (الاستمراريّة والتغيير)، والتشكيك في سياسات الذاكرة وأخلاقيّاتها.
على الرغم من الأدلّة الواضحة لتحديد موقع ظهور الطبّ النفسيّ في تركيا العثمانيّة الذي هو في مصر، وكما يجادل هذا الكتابُ في لبنانَ الحديث، يدّعي «الأرشيف الصهيونيّ المركزيّ» أنّ الطبّ النفسيّ الحديثَ في الشرق الأوسط وُلد في فلسطين العثمانيّة بتأسيس «عزرات ناشيم» («مساعدة النساء»). ومع ذلك، فعلى الرغم من أن عزرات ناشيم (التي تأسّستْ عام 1895) كانت معاصرة للعصفوريّة، فإنّ مسارها التاريخيّ يجعلها أقربَ إلى مستشفى نفسيٍّ آخر، هو مستشفى دير الصليب الذي تأسّس عام 1919. فمثلُه مثل عزرات ناشيم، التي كانت في الأصل ملجأً للنساء اليهوديّات المستضعَفات والفقيرات، كان دير الصليب في الأصل ملجأً للكهَنة المسنّين. بعد ذلك بكثير في عشرينيّات القرن العشرين، بالنسبة لعزرات ناشيم، وفي الخمسينيّات بالنسبة لدير الصليب تَمّ تحويل هذين المستشفيين إلى مستشفيَين متخصّصين في رعاية الاضطرابات النفسيّة وإدارتها.
وهكذا، بينما تميل الدراسات الحاليّة إلى التركيز إمّا على تركيا أو على مصر، يقترح كتابي روايةً أكثر اختراقاً وأكثر ديناميكيّة، تأخذ في الاعتبار التطوّرات في الولايات العثمانيّة الأخرى ذات الصلة، مثل جبل لبنان وبيروت، في إطارٍ عالميٍّ أكثرَ ملاءمةً بسبب تطوّراتٍ حصلتْ في الغرب وترجمة المعرفة من الغرب إلى الشرق والسمات الفريدة لهذا الأخير.
يشارك تاريخ العصفوريّة العديدَ من المميّزات مع تواريخ مستشفيات الأمراض النفسيّة الأخرى سواءٌ في أوروبا وأميركا الشماليّة أو حتى السياقات غير الغربيّة، في الديناميكيّات المتوترّة بين التأثيرات الدينيّة والعلمانيّة في إدارة حالاتٍ جديدةٍ للجنون، في هيمنة الأنماط الأوروبيّة لإدارة الجنون على أنها متفوّقة على مناهجَ شرقيّة غير علميّة، في ارتقاء العلاج الأخلاقي، وفي العديد من الأمراض العقليّة ومظاهر الحداثة، من الهستيريا إلى عُصاب الحرب. ومع ذلك، هناك أيضًا مميّزات محدّدة. إحداها تمثّل الخطاب النفسيّ، وبشكلٍ أكثر تحديدًا، الطريقة التي اعتُبر فيها الفقرُ والجنون الدينيّ والهجرة أسبابًا رئيسة للجنون في أوائل القرن العشرين، أسبابا حلّتْ محلَّها لاحقًا أسبابٌ أخرى مثل صدمة الحرب أو تعاطي المخدّرات في الخمسينيّات والستينيّات، وهي فترةٌ اتّسمتْ في لبنان بالنموّ الاقتصاديّ والازدهار على نطاقٍ واسع. سمةٌ مميِّزة أخرى هي هيمنة المرضى الذكور التي تعكس الروح الأبويّة التي تحكم رعاية أولئك الذين يُعتبرون مجانين، من يحصل على العلاج يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على قرار الأسرة.
لكنّ ما يجعل قصة العصفوريّة فريدةً هي سياسة وتأثير الثقافة الطائفيّة على أخلاقيّات الرعاية والبُنية التحتيّة الصحّيّة. هذا أيضًا توضيحٌ وثيق الصلة بكيفيّة تأثير سياقٍ معيّنٍ على مسارات الصحّة والسلوك.
منذ تأسيسها، فتحت العصفوريّةُ أبوابَها لجميع الأديان والطوائف. وجد اليهود والمسلمون والمسيحيّون من بغداد إلى الإسكندريّة والصحاري العربيّة مأوى في سفوح جبل لبنان. لقد فسّر بعضُ المؤرّخين هذا الانفتاحَ العلنيَّ غير الطائفيّ على أنه مجرّد جهد «علاقات عامّة» أو غطرسة من جانب المبشّرين لإظهار مدى كون الطائفيّة المتأصّلة في الشرق غير حضاريّة. ولكن ، كما أوضّح في الكتاب، هذه الادّعاءات تتجاهل تحوّل العصفوريّة على مرّ السنين. بينما بقيَت السمتان الثابتتان للمستشفى شعاُر هما «اللامذهبيّة» و«اللاطائفيّة»، تغيّرتْ أهميّة هذه المصطلحات مع مرور الوقت، من سياسة الإدماج في أعقاب المجازر الطائفيّة في القرن التاسع عشر إلى نموذجٍ للتعايش خلال حربٍ أهليّة وقد تآكلتْ فيها قواعدُ التسامح والتضامن على المستوى الوطنيّ.
على الرغم من بُنيتها الفوقيّة البريطانيّة، كانت اللجنة التنفيذيّة للعصفوريّة في بيروت تتألف من شخصيّات لبنانيّة بارزة من خلفيّات دينيّة مختلفة. تدريجيًّا، بدأت النخبة الطبّيّة المحلّيّة الجديدة في استعمار الهياكل الإداريّة للمستشفى، وبلغتْ ذروتَها في صعود أنترانيك مانوكيان بما هو أوّل مديرٍ طبيّ لبناني للمستشفى في الخمسينيّات، وتولّت لجنة بيروت شؤون المستشفى بعد أن أدارتْها لجنة لندن لفترة طويلة. واللافت أنّ العصفوريّة من المؤسّسات القليلة جدًا التي أمكن أن يعيش فيها أشخاصٌ من طوائفَ مختلفة يعملون معًا خلال ذروة الحرب الأهليّة في السبعينيّات. بقي المستشفى مخلصًا لعقيدته اللاطائفيّة حتى إغلاقه الرسمي عام 1982، على الرغم من الضغط الهائل خلال الحرب الأهليّة للتخلّي عن هذه الميزة المميزة. ليس من قبيل المبالغة أن نقول إنّ الطابع التعدّديَّ للمستشفى هو الذي جعله هدفًا للعنف خلال الحرب الأهليّة.
وكما يوضّح الكتاب، فعلى عكس حالة معظم مستشفيات الأمراض النفسيّة في أوروبا وأميركا الشماليّة، لم يكن سقوط مُسْتَشْفى العصفوريّة نتيجةً لعمليّة إلغاء المؤسّسات (التي أدّتْ إلى إنهاء مستشفيات الأمراض النفسية الكبيرة في الغرب) بعد حركةٍ معاديةٍ للطبّ النفسيّ في الستينيّات. فالعصفوريّة ضحيّةٌ من ضحايا الحرب الأهليّة وتغيير الاقتصاد في المنطقة الناتج عن تحوّلات مختلفة في المصالح الجيوسياسيّة. لكنّ إغلاق العصفورية خلال الحرب الأهليّة شكّلَ ما أسمّيه ولادة «تطييف الرعاية الصحّيّة»، والرعاية الصحية النفسيّة على وجه الخصوص. فقد سمح إغلاق مستشفى غير طائفيٍّ بازدهار مؤسّستين أخريين تم تأسيسهما لتلبية احتياجات طائفتين، مسيحيّة (دير الصليب) ومسلمة (دار العجزة الإسلامية). علاوة على ذلك، فإنّ جهود المحكمة الدينيّة الإنجيليّة في لبنان بعد النهاية الرسميّة للحرب الأهليّة عام 1990 لاستعادة العصفوريّة كوقْفٍ إنجيليّ وبالتالي كإرثٍ أو ملكيّةٍ بروتستانتيّة كانت نتيجةً طبيعيّة لظهور سياسات للصحّة وللرعاية الاجتماعية رُسمتْ على أسسٍ طائفيّة في جوٍّ من ضعف الدولة وانهيارها في نهاية المطاف في السبعينيّات.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.