العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

أوّل العلاقات مع النفط:

حسين العُوَيني والشبكة السعوديّة

فوّاز طرابلسي

كان لبنان أوّل بلدٍ عربيٍّ بلغه التوسّعُ السياسيّ والاقتصاديّ للمملكة العربيّة السعوديّة الناشئة باستثناء الجوار الخليجيّ المباشر. لم تُكتب قصّةُ بداية تلك العلاقة بعدُ أوجهها ومساراتها. أكتفي هنا بتقديم نبذةٍ مختصرةٍ لأبحاثي عن هذا الموضوع، وهي جزءٌ من بحثٍ أوسع عن طبقة رجال الأعمال اللبنانيّين وعلاقتهم بالسلطة السياسيّة، وقد صدر البعض منها في كتابي «الطبقات الاجتماعيّة والسلطة السياسيّة في لبنان»١.

يركّز هذا البحث٢ على ثلاثة أوجهٍ من العلاقات اللبنانيّة السعودية: ١) اختراق المصالح السعوديّة للاقتصاد الذي سوف يخدمها بما هو مركزُ استثمار، ووسيط مع السوق العالمي، ومصدّر يد عاملة وأدمغة، وموفّر خدمات تعليميّة وطبيّة وسواها. ٢) رواية قصة أبرز وكلاء هذا التغلغل في أيّامه الأولى، حسين العويني (١٩٠٠–١٩٧٠). ٣) متابعة نفوذ المملكة العربيّة السعوديّة على السياسة اللبنانيّة، داخليًّا وخارجيًّا، بين فترة الانتداب الفرنسيّ ونهاية العهد الاقتصاديّ الأوّل، ١٩٢٤–١٩٥٢.

جديرٌ بالذكر أنّ العلاقة اللبنانيّة السعوديّة في تلك الفترة لم تقتصر على العلاقة الاقتصاديّة، إنما تحوّلت العربيةُ السعوديّةُ إلى مرجعٍ رئيس للسياسات اللبنانية خصوصًا من خلال اللجوء المتزايد إليها للحماية من مشاريع الاتحاد والضمّ الهاشميّة. أما على الصعيد الداخليّ فقد أسهم النفوذُ السعودي إسهامًا كبيرًا في تدعيم موقع رئاسة مجلس الوزراء، المنصب المخصّص لمسلم سنّي، والأهم أنه أمّن وصولَ مواطنٍ سعوديّ إلى ذلك المنصب مطلعَ العهد الاستقلالي.

«التاجر السوريّ حسين العويني»

على عكس السائد، لم يكن رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الذي اغتيل عام 2005، أوّل مجنّسٍ سعوديّ يشغل منصب رئيس وزراء في لبنان. قبله بأربعة عقودٍ، شغَلَ حسين العويني ذلك المنصب ابتداءً من العام ١٩٥١، وهو المجنّس سعوديًّا كأمرٍ واقع، والممثّل الرسميّ للمصالح السعودية في لبنان، وواحد من أكبر أثرياء البلد، إن لم نقل الأوفر ثراءً في تلك الفترة.

والطريف أنّ الرجلين تشاركا في عددٍ كبيرٍ من النقاط المشتركة. كلاهما من خلفيّة اجتماعيّة متواضعة، شاركا لفترة قصيرة من شبابهما في النضال الوطني والقومي، ثم نجحا في إقامة علاقات وثيقة مميّزة مع الأسرة السعوديّة، الأمر الذي يفسّر ارتقاءهما السريع إلى الثروة والنفوذ. وقد مُنح كلاهما الجنسيّة السعوديّة، بناءً عليه، عُمّد الأول «حاجًّا» والثاني «شيخًا». وقد غزا كلاهما البرجوازيّة اللبنانيّة، ذات الأكثريّة المسيحيّة، من الخارج اعتمادًا على ثروةٍ متراكمة أساسًا من خلال الاغتراب، واستخدما تلك الثروة لتحصيل الجاه الاجتماعي عن طريق السلطة السياسيّة.

حسين العويني واحدٌ من أوائل المحظوظين العرب الذين قدّموا خدماتهم إلى آل سعود حتى قبل أن يستكمل هؤلاءِ سيطرتهم على الجزيرة العربية وقبل اكتشاف النفط فيها. ولد في بيروت وكان والده من تجّار «مال القبّان». توفي الأب باكرًا فنشأ حسين برعاية والدته منصورة شبيب العشيّ. اضطرّ حسين الفتى إلى قطع دراسته التي باشرها في مؤسّساتٍ مسيحيّة (مدرسة القديس يوسف والبطريركيّة) عند اندلاع الحرب العالمية الأولى وانخرط في النضال الوطنيّ من أجل الاستقلال والوحدة العربيّة.

في العام ١٩٢٠، أطلق نشوءُ دولة «لبنان الكبير» في ظلّ الانتداب الفرنسي موجةً من أعمال العنف في كافة أنحاء سورية ولبنان. في بيروت، اغتيل أسعد بك خورشيد، مدير الداخلية الموالي للانتداب. اتّهم الفرنسيّون سليم علي سلام، الوجيه البيروتيّ المناهض للانتداب، بتدبير الاغتيال، واتُّهم معه عددٌ من الشباب الوطني بينهم حسين العويني الذي حُكم عليه بشهرَي سجنٍ وخمسة أشهر إقامة جبريّة في اميون، بقضاء الكورة٣. عند خروجه من السجن عام ١٩٢١ سافر العويني إلى جدّة، في ما كان يُسمّى «سلطنة نجد» حيث عمل في معمل نسيجٍ يملكه الثريُّ اللبناني عارف النعماني.

بدأت علاقة العويني بالسعوديّين بفضل مواطنٍ لبنانيٍّ آخر. كان أمين الريحاني، الرحّالة والكاتب الأميركيّ اللبنانيّ، يزور الجزيرة العربيّة لإقناع الحكام العرب بالوحدة العربيّة، وكان مهتمًّا بنوعٍ خاصّ بالوساطة بين الشريف علي بن الحسين، ملك الحجاز، وعبد العزيز بن سعود، سلطان نجد، وكلاهما من أصدقائه. سكن الريحاني في منزل «التاجر السوري حسين العويني» بجدّة، وأوفده مبعوثًا عنه إلى ابن سعود الذي كانت القبائل المسلّحة التابعة له تحاصر المدينة، للوساطة بين علي بن الحسين وابن عبد العزيز. لم تثمر وساطة العويني في منع الصدام المسلّح بين الرجلين. غادر النعماني بعد أن سقطت جدّة بيد آل سعود عام ١٩٢٥. كان العويني يعمل في قطاع النسيج مع أسرة الخوجا دمشقيّة الأصل وتزوّج إحدى بناتها. في ذلك العام، أعلن عبد العزيز آل سعود نفسه ملكًا على الحجاز ثم ملكًا على المملكة العربية السعوديّة في العام ١٩٣٢ ٤.

سريعًا ما صار العويني عضوًا في الحلقة الضيّقة من التجّار والموظفين الحكوميّين والمستشارين السوريّين واللبنانيّين الذين يعملون لدى آل سعود. ومن أبرز هؤلاء نجيب صالحة، سكرتير وزير الماليّة السعودية، وفؤاد حمزة، مساعد وزير الخارجية، وعبد الله سليمان ويوسف ياسين، والأخير هو المستشار السوريّ الموثوق الذي عيّنَه الملك رئيسًا لتحرير جريدة «أم القرى»، ووزيرًا لخارجيّته لاحقًا. وقد تشارك العويني وياسين في شركةٍ كانت تمدّ الجيش السعودي بالبزّات العسكريّة.

جمع العويني ثروةً كبيرةً في العربيّة السعوديّة حيث عمل لعشرين عامًا. تدخّلت الحكومة السعوديّة لصالحه مع السلطات الفرنسيّة لرفع الحظر عن دخوله مناطق الانتداب الفرنسي فبدأ يمثّل المصالح الفرنسيّة في المملكة. في العام ١٩٣٠ صار الوكيل الحصري لـ«كولاس وميشيل» Collas et Michel صاحبة امتياز تشييد وخدمة المنارات في السلطنة العثمانيّة، وهي الشركة التي تزوّد ساحل البحر الأحمر بالكهرباء٥. بعد سنتين، تأسّست «شركة حسين العويني وشركاه» و«الشركة التجاريّة العربيّة» بالشراكة مع نجيب صالحة وإبراهيم شاكر، وهو رجل أعمال سعوديٌّ سوف يدخل في أعمالٍ تجاريّة مختلفة مع العويني في لبنان، كما سوف يتزوج ابنُه غسان ابنةَ العويني. تحوّلت «شركة حسين العويني وشركاه» إلى المستورد الأوّل للسيارات في العربيّة السعوديّة. كانت وكيلة السيارات الأميركيّة كرايزلر وباكارد وويلليس-جيبس. وكانت تتولّى أيضًا استيراد الشاحنات وموادّ البناء وأطر السيارات. أما «الشركة التجاريّة العربيّة» فتخصّصت في استيراد الأدوية وباتت المموّن الأساسيَّ لمستشفيات المملكة التي نشأت بسرعة في غير منطقة. وبما أنّ المملكة لم يكن لها تجهيزاتٌ مائيّة، تولّت شركتا العويني استيرادَ المياه في صهاريج تحملها شاحنات شركة «وايت» الأميركيّة.

في العام ١٩٣٤، حصل العويني وشاكر على امتياز تمثيل «البنك العقاريّ المصري» في المملكة، وحاز العويني منفردًا الوكالة البحريّة لشركتَي شحن سعوديّتين تتعاطيان نقلَ الحجّاج إلى مكة وقد أسّسهما الأمير فيصل بن عبد العزيز وأمراء من الأسرة المالكة. وتعاون العويني مع عبد الغني إدلبي، تاجر الأقمشة السوريّ واسع النفوذ المقيم في مانشستر إنكلترا، وصار ممثّله في جدّة. وقد مثّل إدلبي والعويني وشاكر الملكَ عبد العزيز في مفاوضاته مع شركات النفط عام ١٩٩٣ التي أفضت إلى منح السعودية أوّل امتياز نفط إلى شركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا»٦.

تجاوزتْ نشاطات العويني العربيّةَ السعوديّة. في العام ١٩٣٤ أسّس مصنعَ نسيجٍ في فلسطين بالشراكة مع حسن بحصلي، الثريّ اللبنانيّ وأحد مموّلي رياض الصلح. وفي العام ١٩٣٩، أسّس العويني في بيروت «شركة التجارة اللبنانية العربية» لتمثيل المصالح السعوديّة في لبنان وتوفير الخدمات للسعوديين الذين يزورون البلدَ لأغراض التجارة والسياحة والدراسة. في ذاك العام تزوّج من شفيقة جارودي في زواجٍ ثانٍ وصار يقضي وقته متنقّلاً بين جدّة وبيروت إلى أن استقرّ نهائيًّا في العاصمة اللبنانيّة عام ١٩٤٧.

أكثر من وكيل تجاري لابن سعود

عشيّة الاستقلال، كان العويني قد تكرّس بما هو رجل العربيّة السعوديّة في لبنان. يبدو أنّ الملك عبد العزيز عرض عليه الجنسيّة السعودية، فاعتذر عن قبولها وانزعج الملكُ من الرفض لكنّه سرعان ما اكتشف أنّ رفض العويني كان من قبيل الولاء لأنّه لا يريد يومًا التورّط في ولاءٍ مزدوج يضع مصالحَ لبنان في تعارضٍ مع مصالح المملكة بما يضعه في موقعٍ حرِج [كذا]. أمَر الملك بأن يكون له في المملكة الوضع والموقع نفسه كما لأيّ مواطن، فلا يدفع الضرائب ولا يحتاج إلى تأشيرات دخول ولا حتى إلى جواز سفر لزيارة المملكة.

مهما يكن، يصفه الجنرال إدوارد سبيرز، الوزير البريطانيّ في سورية ولبنان، بأنّه «الوكيل التجاري لابن سعود»٧. حقيقة الأمر أنّه كان أكثر من وكيلٍ تجاريّ، كان «سفير الأمر الواقع للأسرة المالكة السعوديّة والمصرفي تبعها»، على ما يروي كاتب سيرته٨. أراد ابن سعود أن يعيّنه سفيرًا متجوّلاً للمملكة في لبنان. غير أنّ الحكومة البريطانية نصحتْ ضدّ هذا التعيين، بناءً على تحذيرٍ من الجنرال سبيرز الذي شرح في مذكرة رسميّة أنه «شبه مؤكّد» أنّ العويني سوف يستخدم الحقيبة الدبلوماسيّة لـ«عمليّات تهريب»، مذكّرًا بأنّ العويني كان ممنوعًا من دخول المناطق الخاضعة للانتداب الفرنسي لذلك السبب وأنّ حكومة صاحبة الجلالة وافقت على رفع الحظر عنه إرضاءً للسعوديّين٩.

لم يصرّ السعوديّون، فكان على العويني أن يكتفي بموقع «الممثّل التجاري». علمًا بأنّ حالة أبحاثنا لم تسمح لنا بعد بأن نعيّن ما نوع التهريب الذي كان سبيرز يتّهمه به. هل هي نشاطات العويني في تجارة الأسلحة بالأموال السعوديّة من أجل المقاومين الفلسطينيّين، كما يدّعي كاتب سيرته روجيه جهشان١٠، أم نوع آخر من التهريب يتعلّق بتجارة الذهب، كما يوحي سبيرز؟

الواقع أنّ الأكثر إدرارًا للربح في نشاطات العويني التجاريّة كان ترانزيت الذهب من أوروبا إلى العربيّة السعوديّة عن طريق بيروت، حيث يصبّ في خزائن الأسرة المالكة. في تلك الفترة، كان ابن سعود يبدّل أموال النفط بسبائك الذهب، ومع أنّ سيرة العويني لا تأتي على ذكرها، إلا أنّها تردُ في تقرير عن ثروات طبقة رجال الأعمال اللبنانيّين الذي وضعه هارولد ماينور، المستشار التجاري الأميركيّ في بيروت١١. عقب الحرب العالميّة الثانية، تحوّلتْ بيروت إلى مخزنٍ دوليٍّ رئيس وسوق ترانزيت لتجارة الذهب (كان المركزان الآخران الكويت وطنجة). بلغتْ تلك التجارة ذروتها في العام ١٩٥١ ووصل حجم عمليّاتها إلى ١٠٠ مليون دولار، وقُدّر أنّ بيروت تتولّى ٢٠٪ على الأقلّ من تجارة العالم بالذهب، وقفَزَ حجم ما تتداوله من ٣٥٥ كيلو ذهب عام ١٩٤٦ إلى ٨٩ ألفًا و٢٩٣ كيلو عام ١٩٥١، ٧٥٪ منها مخصصة لتجارة الترانزيت. وبحسب تقديرات السفارة الأميركيّة ببيروت، بلغتْ أرباح التجارة ستة ملايين دولار سنويًّا، فيما لم يتجاوز إجماليّ عدد اللبنانيين العاملين فيها، على كافة المستويات، المائة شخص١٢. والواقع أنّ قبضة من أصحاب المصارف وأثرياء التجار كانوا يسيطرون على تلك التجارة ويحصدون أرباحها الطائلة وكان حسين العويني واحدًا منهم. ما نعرفه من ماينور أنّ العويني، بصفته رئيس مجلس إدارة بنك الهند الصينية Banque Indochine ذي رؤوس الأموال الفرنسية في العربيّة السعوديّة، كان مسؤولَ مبادلات الذهب بين فرع المصرف في جدّة وفرعه في بيروت. وهنا أيضًا لا ذكْرَ لهذا النشاط التجاري لعويني في سيرته التي كتبها جهشان.

العويني عضوًا في «الكونسورسيوم»

عندما عاد العويني إلى لبنان، تحوّل إلى واحدٍ من أبرز شخصيّاته الماليّة، لا يضاهيه نفوذًا، لا ثروة، إلاً رينيه بوسّون، مدير «بنك سورية ولبنان» الفرنسي، وهو المصرف الفرنسي الذي يُصدر العملة، ويدير أموال الدولة ويسيطر على التسليف والمبادلات التجاريّة بين لبنان وفرنسا. كان بوسّون يجسّد استمرار السيطرة الاقتصادية النيوكولونياليّة لفرنسا على سورية ولبنان. فصار العويني أحد أبرز معاونيه وشركائه.

بقوّة المال، شقّ العويني طريقه في الأوليغارشية ذاتِ الأكثريّة المسيحيّة. صار المسلمَ الوحيدَ ضمن «زمرة الرئيس» على قولة ماينور، والتي ضمت شقيقه فؤاد الخوري، وابنه خليل، ودزينةً من الأسَر المصاهرة١٣. وقد تحلّقتْ حولها دائرةٌ أوسع تضمّ نحو ثلاثين أسرةً يتشكّل منها «الكونسورسيوم» حسب التسمية التي أطلقها الصحافيّ إسكندر الرياشي وتبنّتْها أوساط المعارضة١٤. من حيث الانتماءُ الدينيّ، كان أفراد الكونسورسيوم يتكوّنون من ٢٤ أسرةً مسيحيّة (٩ موارنة، ٧ روم كاثوليك، أربع روم أرثوذكس، وواحدة لكلّ من اللاتين والبروتستانت والأرمن) وستة مسلمين (أربع أسر سنّيّة وواحدة شيعيّة وواحدة درزيّة). وكانت الأسر المسيحيّة تتزاوج في ما بينها من أجل الحفاظ على الثروات والأملاك أو لزيادة هذه وتلك أو لتعزيز الشراكة التجاريّة في ما بينها. ففي جيلٍ واحد، كانت عشرٌ من أسر الأوليغارشيّة متصاهرة في ما بينها (فرعون، شيحا، خوري، حداد، فريج، عريضة، بسترس، عسيلي، ضومط).

أما مصادر رأس مال الأوليغارشية فثلاثة: ١) اقتصاد الحرير وتجارة الاستيراد خلال المتصرفيّة (منطقة الحكم الذاتي في جبل لبنان، ١٨٦١–١٩١٥)، ٢) أرباح الحرب (بين ١٩٤٠ و١٩٤٤ أنفقتْ قوّات الحلفاء ٧٦ مليون جنيه إسترليني في سورية ولبنان)، ٣) أموال الاغتراب من أفريقيا والأميركيّتين والبلدان العربيّة المنتجة للنفط (العراق والعربيّة السعوديّة خصوصًا).

أمّا السيطرة الاحتكاريّة التي كانت تمارسها تلك الأسرُ على أبرز محاور اقتصاد البلد فمدهشة، خصوصًا إذا ما قارنّاها بالادّعاءات الليبراليّة لما سُمّي «جمهورية التجّار» التي يفترض أنّها قائمة على «الاقتصاد الحرّ». في الماليّة، كانت تلك الأسرُ تملك المصارف المحلّيّة أو المختلطة، وعلى رأسها «بنك سورية ولبنان»؛ وأكبر شركات التأمين، «الاتحاد الوطني» Union Nationale التي كانت شراكةً بين أعضاء من الكونسورسيوم ورأس المال الفرنسي.

وكان أصحاب المصالح المذكورة أعلاه مستوردي المنتجات الغربية أو وكلاءَ الشركات الأجنبيّة، ويسيطرون على أكبر حصة من سوق الغذاء والأسلحة والذخائر والأدوية والآلات الزراعيّة والصناعيّة والمشروبات، والمنتجات الطبّيّة والصيدليّة وموادّ البناء والأجهزة الكهربائيّة والهاتفيّة والقرطاسيّة والمعادن والقهوة والسيّارات وقطع الغيار، وغيرها. بين الخمسين وكالةً التي تمثّل الشركات الأميركيّة، كان آل كتّانة يستأثرون بنصفها، فيما تتوزّع أسَر فتّال وفرعون وصحناوي على الباقي. وكانتْ أسر الكونسورسيوم رائدةً في السياحة، تملك أكبرَ وأفخم فنادق بيروت (فندقي سان جورج وبريستول)، وفي مراكز الاصطياف بحمدون وصوفر، كما في مراكز التزلّج على الثلج في فاريّا والأرز. في قطاع الخدمات، كانت أسر الكونسورسيوم تتشارك مع المصالح الفرنسيّة وتسيطر على مختلف الشركات صاحبة الامتيازات والخدمات العامّة: مرفأ بيروت، شركات المياه في بيروت، وقاديشا والنهر البارد، وإدارة حصر التبغ والتنباك، إلخ.

وكان الكونسورسيوم يسيطر أيضًا على أكبر شركات المقاولات في سوريــــــــــــــــــــــــــــــة ولبنــــــــــــــــــــــــــــــــان، «لا ريجي دي تراڤو» (la Régie des travaux) كما على أكبر شركة مقاولات في الشرق الأوسط، شركة «كات» C.A.T. لإميل البستاني وشركاه. وكانت شركتا النقل الجوّي الرئيستان، «شركة الطيران اللبنانيّة» Air Liban (التي أسّسها العويني نفسه عام ١٩٤٥) و«طيران الشرق الأوسط» Middle East Airlines (وقد اندمجت الشركتان عام ١٩٦٣) وكانت أكبر شركة للنقل البرّي مملوكةً لآل كتانة، الأعضاء في الأوليغارشيّة. في الصناعة، كانت الأوليغارشيّة تسيطر على الشركات الصناعيّة الأساسيّة في مجال الكهرباء والإسمنت والنسيج والبيرة وأعواد الكبريت والآلات والأدوية الزراعية والزيت النباتي والدهان والزيوت، إلخ. أخيرًا، كانت جميع الأسر المذكورة ذات ملكيّات عقاريّة واسعة في المدينة والريف.

وقُدّرت ثروةُ ١٥ أسرة من تلك الأسر بـ٢٤٥ مليون ليرة لبنانيّة، أي تسعة أضعاف موازنة الدولة في العام ١٩٤٤ وأكثر من ٤٠٪ من الدخل الأهلي للعام ١٩٤٨. وكان قسمٌ كبير من تلك الثروات مودعًا أو مستثمرًا خارج البلد. وكانت ثروة العويني الشخصيّة تقدّر بـ١٥ مليون دولار.

كانت درجة اندماج العويني السريع في الكونسورسيوم مدهشة حقًّا. شملت استثماراتُه قطاعاتِ الاقتصاد الأساسيّة في ذلك الوقت. عقَدَ شراكةً وثيقةً مع أبرز رجالات الكونسورسيوم. أسّس مع ميخائيل صحناوي شركة استثمارٍ ماليّ، (شركة تمويل واستثمار شركات الأعمال) Société de financement et d’exploitation des enterprise ومع صحناوي وخطار شركة نقل «الشركة العامّة للنقل» Compagnie Genérale des Transports وبالشراكة مع شركائه في العربية السعودية، صالحة وشاكر، استثمر في معمل نسيج «شركة الغزل والنسيج»، Société de Filature et de tissage. وفي العام ١٩٤٧، أسّس العويني مع شركاءَ لبنانيّين ورجال أعمالٍ مصريّين شركة «تاكر» Tucker لشحن السيارات إلى مصر، وكان، بالشراكة مع إبراهيم سعد، وكيلَ سيارات «فيات» في لبنان. هذا وأسّس العويني شركةَ نقل بحريّ لنقل الحجّاج بين لبنان ومصر وجدّة. وأنشأ في العام ١٩٥١ مع المغترب اللبنانيّ جورج معلوف وآل شاكر «بنك لبنان والمهجر» (المعروف حاليًّا باسم بلوم (BLOM. وفي العام ١٩٦٦ تشارك العويني مع رجل الأعمال جورج بشارة كرم ورئيس مجلس إدارة الميدل إيست نجيب علم الدين لإنشاء «الشركة اللبنانيّة لتوزيع المحروقات» Société libanaise de distribution des carburants ما سمح لشركة النفط الأصليّة التي يملكها العويني «شركة النفط اللبنانية ليبكو» Lebanese Petroleum company (LEPCO) (تأسّست عام ١٩٥١) بتزويد الأسطول الجوّيّ التجاري في لبنان بالمحروقات١٥. إلى هذا، كان العويني يملك، بالشراكة مع يوسف سالم وجان فتّال وألفرد كتّانة، وكالة كبريات شركات التأمين الفرنسي «أونيون ناسيونال» التي كانت تحتكر التأمين للشركات ذات الامتياز مثل شركة مرفأ بيروت و«لا ريجي دي ترافو» وشركة الطيران اللبنانية وغيرها١٦.

من الكونسورسيوم إلى السياسة

خلال عهد بشارة الخوري (١٩٤٣–١٩٥٢) برز نفوذ الكونسورسيوم بوضوحٍ في السلطة السياسيّة، إذ كان المجلس النيابيُّ يضمّ ١٣ نائبًا من أعضائه واحتلّ خمسةٌ منهم حقائب وزاريّة والعويني منصبَ رئيس للوزراء. وقد فُرِض معظم نواب الكونسورسيوم فرضًا من الخارج على الناخبين في الدوائر الانتخابيّة، في البقاع والجنوب خصوصًا، حيث ابتدعوا تقليد تمويل رجال الأعمال للوائح زعماء الإقطاع السياسيّ. أمّا من حيث الاندماجُ بين السلطة الاقتصاديّة والسلطة السياسيّة، فكان ٣٦ نائبًا (بينهم ٢٦ مسيحيًّا) خلال عهد بشارة الخوري يملكون ٢٣٠ من كبريات شركات البلد، أو كانوا مساهمين فيها١٧. وقد انتُخب العويني نفسُه نائبًا عن بيروت في ٢٥ أيار/مايو ١٩٤٧، وهي الانتخابات المزوّرة الشهيرة بانتخابات «أيار الأسود»، نظرًا للدور الذي لعبه المالُ والنفوذ السلطويّ في تأمين أغلبيةٍ برلمانيّةٍ تنفّذ رغبة بشارة الخوري في تجديد ولايته. وقد تحقّق له ذلك بعد سنتين. زادت الانتخابات المزوّرةُ والتجديدُ لولاية الخوري من حدّة المعارضة، بقيادة كميل شمعون وكمال جنبلاط، التي اتهمت العهدَ بالفساد والإثراء غير المشروع. وقد صوّت العويني مع التعديل الدستوري الذي أجاز الولايةَ الثانية للرئيس١٨.

شهِدَ العام ١٩٤٨ بدايةَ مهمّات العويني الوزاريّة. عُيّن وزيرًا للماليّة في وزارة سامي الصلح الجديدة. وفي ٢٤ شباط/ فبراير، خلف الصلحَ على رأس حكومةٍ ثلاثيّة «حياديّة» ضَمّتْه إلى وزيرين آخَرين هما إدوار نون وبولس فياض للإشراف على انتخاباتٍ نيابيّةٍ جديدة وسَنّ قانون انتخاب جديد. زاد القانونُ عدد مقاعد البرلمان من ٥٥ إلى ٧٧، ٤٢ مسيحيًّا و٣٥ مسلمًا. اعتُبرت الانتخاباتُ عادلةً على أنّ البلد كان منقسمًا بحدّة بين مُوالين ومعارضين. وعاد العويني إلى ترؤّس الوزارة، بين ١٤ شباط/ فبراير و٧ حزيران/ يونيو ١٩٥١، وكانت فترةً حرجةً للحياة الاقتصاديّة والسياسيّة اللبنانيّة ولمكانة لبنان في السياسات الإقليميّة والدوليّة، وقد طغت عليها نكبةُ فلسطين العام ١٩٤٨ وقيام دولة إسرائيل.

على صعيدٍ آخر، شارك العويني في حكومة سامي الصلح وترأس حكومتين على خلفيّة أحداثٍ بالغة الأهميّة: تحرير المبادلات والخلافات مع سورية بشأن الجمارك والاتحاد الماليّ بين البلدين وإدارة «المصالح المشتركة» التي تسلّمها البلدان من الانتداب الفرنسي. وسوف يكون العويني شريكًا ومساهمًا في القرارات والإجراءات الاقتصاديّة الكبرى التي أدّت إلى نشوء وتدعيم «جمهوريّة التجّار» ذات الوجهة التجاريّة الماليّة والخدماتيّة. بما هو وزير ماليّة، كان مسؤولاً مباشرةً عن تحرير المبادلات وعن تطبيق نظريّة ميشال شيحا عن التغطية الذهبيّة للّيرة اللبنانية (٢٤ أيار/مايو ١٩٤٩) وهذا ما يعطي دورَه في تجارة الذهب، المفصّل أعلاه، بُعدًا إضافيًّا إذ لم يقتصر الأمرُ على تجارة ترانزيت الذهب إلى السعودية، بل شمل أيضًا استيرادَ الذهب وبَيعَه للدولة اللبنانية.

أخيرًا وليس آخرًا، كان العويني، بما هو رئيسُ وزراءٍ ووزيرُ مالية، عضوًا فاعلاً في المفاوضات العسيرة والعاصفة مع نظرائه السوريّين التي أفضتْ إلى انفصال الوحدة الماليّة بين البلدين عام ١٩٤٨ وإلى القطيعة الاقتصاديّة والجمركيّة الكاملة بينهما عام ١٩٥٠.

لبنان في المدار السعوديّ

ما إن حاز لبنان وسورية استقلالهما، حتى واجه البلَدان مشكلتين جدّيتين في السياسة الإقليميّة والدوليّة. جاءت أبرزُ التحدّيات الإقليميّة من جهة مشاريع التوحيد الهاشميّة، مشروع ملك الأردن، عبد الله لوحدة بلدان «سورية الكبرى»، ومشروع نوري السعيد، رئيس وزراء العراق، لوحدة بلدان «الهلال الخصيب». كانت حكومتا الاستقلال في سورية ولبنان مختلفتين حول أمور عديدة لكنّهما متّفقتان على رفض مشروعَي التوحيد الهاشميّين. بذلا المساعيَ لإقناع العربية السعودية بحضور اجتماعات الجامعة العربيّة في الإسكندريّة خلال عامَي ١٩٤٤ و١٩٤٥ تحت عنوان تحقيق اتحاد فيدراليّ عربي. كانت نيّة السعوديّين مقاطعةَ الاجتماعات لمعارضتهم المشاريعَ الهاشميّة، فكُلّف العويني بمهمّة دقيقة لإقناعهم بالحضور لمجابهة النفوذ الهاشميّ. وافق الملك عبد العزيز. وهكذا وُلدتْ «جامعة الدول العربيّة» ووضِع مشروع الاتحاد العربي على الرفّ وكسب لبنان مكسبًا إضافيًّا هو اعتراف جميع الأعضاء، بما فيها سورية، باستقلاله وسيادته. أحبِط مشروعا التوحيد الهاشميّان، لكنّ المعارضة السورية واللبنانية سوف يكون لها أبلغُ الأثر السلبيّ على علاقاتهما ببريطانيا التي رعت استقلالَهما. فعلى الرغم من أنّ بريطانيا دعمت استقلال لبنان، ظلّ عهد بشارة الخوري مرتبطًا اقتصاديًّا بفرنسا وسياسيًّا بالعربية السعودية فيما هو مستجيبٌ لنموّ دور ونفوذ الولايات المتحدة في المنطقة.

ولم يقتصر الأمرُ على الاقتصاد. اختلفت الدولتان المستقلّتان حديثًا مع البريطانيين أيضًا عندما رفضتا «معاهدة الدفاع المشترك عن البحر الأبيض المتوسّط» ضد الشيوعية الذي أطلقتْه الولايات المتحدة وبريطانيا (ومعهما فرنسا وتركيا) عام ١٩٥٠. دُعيت الدول المشرقيّةُ المتوسطيّة الثلاث مصر وسورية ولبنان للانضمام إلى الحلف. فاشترطتْ مصرُ الإقفالَ المسْبق للقواعد البريطانيّة على أرضها. رُفض الشرط، فطالبت مصرُ رسميًّا بانسحاب القوّات البريطانيّة من مصر بعد أن ألغتْ المعاهدة البريطانية المصرية لعام ١٩٣٦ من طرفٍ واحد. بالإضافة إلى ذلك، بادرت مصر إلى صياغة نَصّ «معاهدة الدفاع العربي المشترك» التي وُقّعت في ١٣ نيسان/ أبريل ١٩٥٠ من قبَل جميع البلدان الأعضاء في الجامعة العربية، بما في ذلك الأردن والعراق، ولو على مضض. ووجهت الجامعةُ العربية مذكّرةً إلى الدول الأوروبية تطالب فيها بالأسلحة وبتدعيم دفاعاتها في وجه إسرائيل. ردّت الولاياتُ المتّحدة وبريطانيا وفرنسا على المذكرة في «البيان الثلاثي» الذي شدّدَ على أولويّة الدفاع عن المنطقة ضدّ الشيوعيّة، وانتقد سباقَ التسلّح العربي الإسرائيليّ، وأعلن تكريسَ حدود الشرق الأوسط بما فيها خطوطُ اتفاقيّات الهدنة العربيّة الإسرائيليّة لعام ١٩٤٩. في جوابها المشترك، في حزيران/ يونيو ١٩٥١، وافقتْ دول الجامعة العربية على ما ورد في «البيان الثلاثي» عن معارضة اللجوء إلى العنف لحلّ مشكلات المنطقة أو تعديل خطوط الهدنة. لكنّها أصرّت على الطابع الدفاعيّ للتسلّح العربيّ ورفضتْ كل الضغوط الرامية إلى فرض الأمر الواقع أو المفاوضات مع إسرائيل، وكرّرت مطلبَها بتطبيق مقرّرات الأمم المتحدة بشأن عودة اللاجئين والتعويض عن ممتلكاتهم وتدويل القدس. واختتمت الجامعة العربيّة مذكّرتها بتأكيد حرص دول المنطقة على سيادتها واستقلالها.

قاوم لبنانُ الرسميُّ ضغوطَ بريطانيا لضمّه إلى الأحلاف المعادية للشيوعية لعدّة سنوات. خلال زيارة الرئيس الخوري إلى أنقرة عام ١٩٤٩، عرضتْ عليه الحكومة التركية اتفاقيّةَ صداقة ثنائيّة بين البلدين. رفض الخوري العرضَ بتهذيبٍ خصوصًا أنّ العلاقات السوريّة التركيّة كانت متوتّرة جدًّا في تلك الفترة. في العام نفسه، كرّر الخوري والصلح رفضهما عرضًا بريطانيًّا متجدّدًا لانضمام لبنان إلى «معاهدة الدفاع المشترك عن البحر الأبيض المتوسّط» وقد اتّفق الزعيمان على أنّ لبنان سوف يكون آخرَ بلدٍ ينضمّ إلى أيّ معاهدة عسكريّة أجنبيّة. في أسوأ الأحوال، كان الخوري والصلح على استعدادٍ لمعاهدة دفاعٍ ثنائيّة مع أي دولة أوروبية ولكن ليس لأيّ معاهدةٍ عسكريّة جمعيّة. في صيف ذلك العام، أمضى الصلح شهورًا طويلةً في فرنسا في محاولةٍ لإقناع الحكومة الفرنسيّة بتوقيع معاهدةٍ ثنائيّةٍ للدفاع عن لبنان، ولكن دون طائل.

في الخلاف البريطانيّ المصريّ، انحاز لبنانُ الرسميُّ إلى مصر، وانضمّ إلى «معاهدة الدفاع العربي المشترك» ووقّع على البيان المشترك ردًّا على «البيان الثلاثي» ولكن ليس بدون تردّد. فقد رأى الخوري أنّ الموقف المصريَّ حادٌّ أكثر من اللزوم [نحن لا نزال في العهد الملكي!]. ولم تكن مصرُ متساوقةً في مواقفها مع العربية السعوديّة، إذ كان السعوديّون قد عدّلوا موقفهم من موضوع الأحلاف العسكريّة، فأعلنوا أنه في حال الحرب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، سوف تنضمّ المملكة إلى الولايات المتحدة [كذا!]. من جهة ثانية، فالحكومة اللبنانيّة، غير الراغبة في تلبية الطلب البريطاني، لم تكن مستعدّة لإغضاب الأميركيّين. وإنّه لذو دلالةٍ أنّه يوم ٢٤شباط/ فبراير ١٩٥١ كان حسين العويني، بصفته رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة، هو الذي وقّع اتفاق «النقطة الرابعة» مع الحكومة الأميركيّة والذي تتعهّد فيه بحماية البلدان التي تهدّدها الشيوعيّة١٩.

قضية الـ«تابلاين»

إنّ قضيّة أنبوب نفط «التابلاين» Tapline في العام ١٩٤٩ هي إحدى العلامات البارزة على مدى تغلغل النفوذ السعوديّ في الطبقة الحاكمة اللبنانيّة. في تلك السنة، أطلقت شركة «أرامكو» ARAMCO السعوديّة مشروع بناء أنبوب نفطٍ من ١٧٥٠ كيلومترًا عبر العربيّة السعوديّة وسورية ولبنان لتوصيل النفط السعوديّ إلى مصفاة ومرفأ على البحر الأبيض المتوسّط في الزهراني جنوب صيدا. كان مشروعًا طموحًا وليس بدون مترتّبات اقتصاديّة وجيو سياسيّة. فوصول النفط السعودي إلى المتوسّط يكسر احتكار تصدير النفط العراقيّ إلى المتوسّط الذي تتمتّع به شركة نفط العراق IPC منذ العام ١٩٣٤ عن طريق مرفأ طرابلس اللبنانيّ وبانياس السوريّ. وتَقرّر أن تتولّى شركة «تابلاين» Tapline التابعة لـ«أرامكو» بناءَ أنبوب النفط بالتعاون مع شركة «بِكتل» الأميركيّة Bechtel، واحدة من أكبر شركات المقاولة والإنشاءات العالميّة.

لم يكن تمثيل المصالح السعوديّة في ذلك المشروع يقتصر على وكيلها التجاريّ الرسميّ حسين العويني؛ كانتْ تستطيع الاعتمادَ أيضًا على حبيب أبي شهلا، رئيس مجلس النواب، الذي كان محامي شركة الـ«تابلاين» أيضًا. في ٢٨ كانون الثاني/ يناير ١٩٤٩ وقّعت الحكومتان السوريّة واللبنانيّة اتفاقًا قبِلتا بموجبه العرضَ الذي قدّمته شركة «تابلاين» لرسوم مرور الأنبوب عبر سوريّة ولبنان على أن تكون مناصفةً بين البلدين. صادَقَ البرلمان اللبنانيّ على الاتفاق، ورفَضَه البرلمان السوريّ على اعتبار أنّ الرسوم المدفوعةَ للخزينة السوريّة غيرُ كافيةٍ مع إشارة الطرف السوريّ إلى أنّ الأنبوب يمرّ داخل الأراضي السوريّة بمسافةٍ أكبرَ بكثيرٍ من تلك التي يمرّ بها داخل الأراضي اللبنانية. ويتذكّر السياسيّ السوري المخضْرم أكرم الحوراني، وكان رئيسَ مجلس النواب السوريّ حينها، أنّ حبيب أبو شهلا اتّصل به لإقناعه بتمرير الاتفاق في البرلمان السوري، حتى أنه حاول رشوته٢٠.

مهما يكنْ من أمر، ارتبطتْ قضيّة الـ«تابلاين» بحدثٍ أساسيٍّ وقع في سورية هو الانقلاب العسكريّ الذي قام به حسني الزعيم، رئيس أركان الجيش السوريّ في ٣٠ آذار/ مارس ١٩٤٩. الذائع والموثّق عن ذلك الانقلاب أنّه تمّ بتنسيق مع وكالة الاستخبارات الأميركية الـ«سي. آي. إي»٢١. برّر الزعيم استيلاءه على السلطة باسم القضاء على الحكّام الفاسدين عديمي الكفاءة المسؤولين عن نكبة فلسطين عام ١٩٤٨. لم يحكم لأكثرَ من أربعة أشهر ونصف الشهر. وكان ذلك كافيًا لينجزَ هدفين من أهداف الولايات المتحدة الأميركيّة: توقيع اتفاقيّة الهدنة مع إسرائيل والتصديق بمرسومٍ تنفيذيٍّ على الاتفاقيّة مع الـ«تابلاين»، ذلك أنّه قد حلّ البرلمان.

في بداية عهده، أعطى الزعيمُ الانطباعَ بأنّه استولى على الحكم ليحقّق وحدة سورية والعراق. أثار ذلك قلقَ الحليفيَن المصريّ والسعوديّ فحاولا تخريب المشروع من خلال المال السعوديّ. كان يكفي أن تمنح العربيّةُ السعوديّة قرضًا لسورية بستّة ملايين دولار لكي يهرع الزعيمُ إلى القاهرة ويناديَ بوحدةٍ مصريّةٍ سوريّةٍ سعوديّة٢٢. أفاد لبنانُ من الكرم السعوديّ بطريقةٍ أخرى. كان حسني الزعيم قد شجّع أنطون سعادة على أن يعلن «ثورته» لإسقاط عهد بشارة الخوري وتحقيق الوحدة بين سورية ولبنان. لجأ سعادة إلى دمشقَ بعد فشل محاولته. وكان رياض الصلح قد طلب من السعوديّين ممارسةَ الضغط على الزعيم ليسلّم سعادة. فاستجاب وسلّم سعادة إلى مبعوثٍ أمنيٍّ لبنانيّ نقلَهَ إلى بيروتَ حيث مثُلَ أمام محكمةٍ عسكريّةٍ صوَريّة حكمتْ عليه بالإعدام. وقد اغتالتْ رياضَ الصلح على مجموعةٌ مسلّحة من الحزب السوري الاجتماعي في مطار الأردن عام ١٩٥١ وهو في طريق عودته إلى بيروتَ من زيارةٍ رسميّةٍ للملك عبد الله، الذي سوف يُغتال بدوره على يد شابٍّ فلسطينيٍّ في القدس في العام نفسه. وسقط بشارة الخوري بدوره عندما أجبر على الاستقالة تحت الضغط الشعبيّ بإضرابٍ سياسيٍّ واسع النطاق نظّمتْه المعارضة. امتنع العويني عن اتّخاذ موقفٍ في ذلك النزاع، وكان آخر سياسيٍّ لجأ إليه بشارة الخوري لتأليف حكومة، لكنّه اعتذر عن قبول التكليف فرضخ الخوري لمشيئة الشارع واستقال.

مهما يكن من أمر، فإنّ رفْض بشارة الخوري مشاريعَ الأحلاف العسكريّة كانت له صلة وثيقةٌ بسقوطه عام ١٩٥٢ وانتخاب كميل شمعون خلفًا له، وهو المعروف بعلاقاته الوثيقة مع البريطانيّين.

وبهذا انتهى هذا الفصل الافتتاحيّ في العلاقات السعوديّة اللبنانيّة.

 

المراجع الإنكليزيّة:

  • – American Embassy, Beirut, to the Department of State, Washington, despatch No. 515, ‘Beirut as a Gold Market’, March 6, 1953, Foreign Service of the United States of America (FSOUSA), unclassified.
  • – American Embassy, Beirut, to the Department of State, Washington, ‘The Political Control Exercised by the Commercial Class in Lebanon’, Foreign Service Of the United States of America (FSOUSA), dispatch no. 372, 21 January 1952, by Harold B. Minor.
  • – American Embassy, Beirut, to the Department of State, Washington, Lane to Department of State: Memorandum of an interview with Prime Minister of Lebanon prepared by the Commercial attache, no. 1048, secret, Beirut, 17 December 1945.
  • – Gehchan, Roger, Hussein Aoueini: un demi-siècle d’histoire du Liban et du Moyen-Orient (1920-19710), Beyrouth: Editions FMA, 2000.
  • – Lande, Paul, ‘A King and a Concession’,
    Saudi Aramco World, May/June 1984,
    vol. 35, no. 3, pp. 4-9.
  • – Stegner, Wallace, ‘Discovery! The Story of Aramco Then’, Saudi Aramco World, March-April 969, vol. 20, no.2, pp. 10-21.
  • – Traboulsi, Fawwaz, A History of Modern Lebanon, London, Pluto Press, 2007.
  • – Vitalis, Robert, Americas Kingdom: Mythmaking on the Saudi Oil Frontier, Stanford: Stanford University Press, 2007.

 

المراجع العربية

الحلاق، حسن، من مذكرات سليم علي سلام ١٨٦
٨-١٩٣٨، بيروت، ١٩٨٢.

الحوراني، أكرم، «من مذكرات أكرم الحوراني»،
الشرق الأوسط، ١٦ تموز/ يوليو، ١٩٩٧.

الخوري، بشارة، مجموعة خطب، أيلول/ سبتمبر
١٩٤٣- كانون الأوّل ١٩٥١، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٨٣.

الخوري، بشارة، حقائق لبنانية، في ثلاثة أجزاء، بيروت، الطبعة الثانية ١٩٨٣.

الريحاني، أمين، ملوك العرب، الطبعة الثانية ١٩٥٤.

الريحاني، أمين، تاريخ نجد الحديث،
الطبعة الثانية، ١٩٥٤.

طرابلسي، فواز، الطبقات الاجتماعيّة والسلطة
في لبنان، بيروت، ٢٠١٦.

العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠
حسين العُوَيني والشبكة السعوديّة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.