هذه الورقة عبارة عن تحليلٍ تاريخيٍّ لتطوّر السياحة في عشرينيّات القرن العشرين، وهي تناقش كيف أنّ دعاة لبنان الكبير اعتبروا أنّ السياحة وسيلةٌ لضمان قابليّة مشروع بناء الدولة اللبنانيّة على البقاء والنموّ، وتحلّل جهود التنمية السياحيّة كما الحملات الدعائيّة للقطاع السياحيّ. تبني هذه الورقةُ نظريًّا على مفهوم بنيديكت أندرسون للدولة كمفهومٍ ثقافيّ، والشرح الموسّع لمانو غوسوامي عن الكيفيّة التي تشكّل بها ممارسات الدولة البنيويّة والخطابيّة أسس عمليات بناء الدول، وتجادل في أنّ دعاة «لبنان الكبير» استخدموا السياحة لترسيخ كيانٍ مقسّم استعماريًّا في دولةٍ قوميّة ناشئة، مع المحافظة على هرميّة قائمة1.
تتكوّن الورقةُ من أربعة أقسام، وتبدأ أولاً برسم خريطة مشهد اللاعبين في القطاع السياحيّ وداعميهم، وتناقش الدورَ المركزيّ للبرجوازيّة في الضغط من أجل تطوير القطاع السياحيّ من خلال انخراطهم في مؤسّسات الدولة الاستعماريّة، وارتباطاتهم بسلطات الانتداب والمبادرات المشتركة بين القطاعين العامّ والخاصّ. وتركّز على البرجوازيّة المحلّيّة في بيروت كما على المهاجرين الوافدين من القاهرة. ثانيًا، تتتبّع جهود التنمية السياحيّة من خلال شَقّ الطرقات وإنشاء المصايف، وبناء معالم سياحيّة في بيروت وحماية الآثار والمَعالم الطبيعيّة لإظهار أمثلةٍ عن كيف أن التنمية السياحيّة أسّستْ لتصوّر لبنان الكبير كوحدةٍ ناتجة من جهودٍ تنموية. ثالثًا، تحلّل الورقةُ كيف أنتج خطابُ الحملات الدعائيّة للسياحة رموزًا للهويّة الوطنيّة اللبنانيّة ونَشَرَ فكرة لبنان الكبير ككيانٍ سياسيّ. أخيرًا، تناقش الانتقادات الموجّهةَ للتنمية السياحيّة غير المتوازية والنقد الموجّه للخطاب القوميّ الذي تروّج له الدعاية السياسيّة.
الجهات الفاعلة في السياحة وداعموها
بعد الإعلان عن دولة لبنان الكبير في عام 1920، وضعتْ سلطات الانتداب الأسسَ المؤسّساتيّة لدولةٍ استعماريّة بانشاء عددٍ من الوزارات الموكّلة بتنسيق «الشؤون العامة» وهي وزارات: الداخليّة والشرطة، الماليّة، العدل، الأشغال العامّة، التوجيه العامّ والفنون، والاقتصاد، وتشمل أيضًا الزراعةَ والتجارة والصناعة، بالإضافة إلى وزارةٍ للصحّة والنظافة العامّة والمساعدة الطبّيّة2.
في البداية كانتْ هذه الوزاراتُ تُدار من قبَل موظّفي المفوّضية السامية، ثم تسلّمها تباعًا موظّفو الخدمة المدنيّة المحليّون في عامَي 1922 و1923، ولكنّها بقيتْ تحت رقابة مستشارين فرنسيّين لضمان السيطرة الاستعماريّة على سياسة الدولة3. وعَقدت السلطات الاستعماريّة الفرنسيّة، خلال جهودها لبناء الدولة، علاقاتٍ وثيقةً بالوجهاء المحلّيّين4. لم تلتقِ سلطات الانتداب اجتماعيًّا مع أعضاءَ من البرجوازيّة المحلّيّة بانتظامٍ فحسب، بل أشركوا البعضَ مباشرةً في المؤسّسات حديثة المنشأ للدولة الاستعماريّة كأعضاءَ منتخَبين في المجلس التمثيليّ والوزارات واللجان الاستشاريّة للوزارات5. وتعاون دعاةُ «لبنان الكبير» تحديدًا طوعيًّا مع السلطات الاستعماريّة، إمّا لاعتبارهم أنّ حكم الانتداب ضروريٌّ لضمان قيام لبنان الكبير ككيانٍ سياسيّ] في وجه مطالبة القوميّين العرب بأراضيه، أو لتفضيلهم الصريحِ للوصاية الفرنسيّة بدعوى وجود روابطَ ودّيّة مع فرنسا6. ورغم أنّ سلطات الانتداب كانتْ تسيطر فعليًّا على الدولة الاستعماريّة، إلّا أنّ الانخراط بمؤسّساتها كان يسمح بدرجةٍ ما بالمشاركة في العمليّة السياسيّة، فاستخدم أعضاء البرجوازيّة مواقَعهم في الحكومة كما علاقتهم مع سلطات الانتداب الفرنسيّ للضغط من أجل تنفيذ سياساتٍ معيّنة أو معارضتها. فمثلاً، على الرغم من محدوديّة القدرة السياسيّة للبرلمان الذي أنشئ عام 1922 وعدم تمثيله فعليًّا للسكان، إلا أنّه مع ذلك خدم كمنبرٍ لمناقشة سياسات الدولة الاستعماريّة والاعتراض على البعض منها أحيانًا7. وحتى في الوظائف الاستشاريّة، ضغَطَ أعضاء من البرجوازيّة المحلّيّة من أجل اعتماد سياساتٍ تنمويّةٍ محدّدة.
ما كان يهمّ أعضاء البرجوازيّة المحلّيّة بشكل خاصٍّ هو تطوير الاقتصاد والبُنى التحتيّة بعد الحرب وادّعى العديد منهم أنّ مشروع بناء الدولة اللبنانية الناشئة يحتاج إلى مشروعٍ اقتصاديّ خصوصًا في منطقة الجبل. ولعب القطاع السياحيّ دورًا بارزًا في هذه المَطالب التنمويّة ورأى كلٌّ من ألفرد سرسق (1870–1924) وجاك ثابت (1885–1956)، على سبيل المثال، أنّ السياحة جزءٌ أساسيٌّ من قيام الدولة القوميّة اللبنانيّة. بعد اقتناعه بفكرة لبنانَ الكبير، قدّم مالكُ الأراضي والفنادقِ الثريّ ألفرد سرسق تقريرًا للمفوّض السامي الفرنسيّ هنري غورو لحثّه على النظر في الاحتمالات الاقتصاديّة للقطاع السياحيّ في لبنان وسورية في عام 1921 8. عرّف سرسق السياحة على أنّها استغلالٌ للموارد الطبيعيّة للأرض ومَعالمها الفريدة، وجادل قي أنّ «مناخ لبنان الشبيه بالجنّة»، ومواردَه العذبة ومواقعه الجبليّة «المدهشة» تجعله ينافس بسهولةٍ سويسرا وشمالَ إيطاليا كوجهةٍ للاصطياف، بالإضافة إلى كونه جاذبًا للسيّاح من المنطقة لقربه الجغرافيّ ولمزايا اللغة والعادات الثقافيّة المشتركة9. كما حاجَجَ سرسق أنّ أراضيَ الدولة اللبنانيّة ليستْ مناسِبةً لتنميةٍ زراعيّة وصناعيّة على نطاقٍ واسع، لذا تشكّل السياحةُ الوسيلةَ المثلى لمعالجة الصعوبات الاقتصاديّة التي يواجهها لبنان وتخدمُ بالتالي كوسيلةٍ لمنع فشل مشروع بناء الدولة اللبنانيّة.
تبنّى سرسق في ندائه رؤيةً اقتصاديّة ليبراليّة إلى حدٍّ كبير، باعتباره القطاعَ السياحيَّ الخدميّ الواعد أكثر من سائر القطاعات الاقتصاديّة لمشروع بناء دولةٍ لبنانيّة. وكانت تربية دود القَزّ تنحدر منذ نهاية القرن التاسع عشر بعدما شكّلت القطاعَ الاقتصاديَّ الأبرزَ في جبل لبنان، الأمر الذي ساهم في إنتاج الظروف الاجتماعيّة الاقتصاديّة البائسة بعد الحرب. في ظلّ هذه الأجواء، استحصل آل سرسق على فندق عين صوفر الكبير في عام 1919 بالإضافة إلى فنادقَ أخرى.
وقدّم جاك ثابت حجّةً مشابهةً في سنيّ الانتداب الأولى. قضى ثابت، المولودُ لعائلةٍ بيروتيّة ثريّة، سنين الحرب العالميّة الأولى في مصرَ قبل عودته إلى الساحل المشرقيّ في أوائل العشرينيّات. وأصبح بعد عودته إلى بيروتَ من الأصوات المنادية بالتنمية السياحيّة واشترك في سنين الانتداب في لجانٍ استشاريّة متعدّدة لوزارات الدولة مختصّة بالشؤون السياحيّة. بينما كان ثابت مؤيّدًا صريحًا لسوريةَ ككيانٍ سياسيٍّ خلال الحرب العالميّة الأولى ونشر أشعارًا وكتبًا عن جغرافيتها وتاريخها تحوّل إلى داعمٍ كبيرٍ للمشروع القوميّ اللبنانيّ في حدوده الاستعماريّة مع بداية الانتداب الفرنسيّ. في عام 1924 نشر جاك ثابت أطروحةً يناقش فيها ما إذا كان وصف لبنان بسويسرا الشرق ملائمًا10. أجرى ثابت مقارنةً للمواصفات السياسيّة والاقتصاديّة والجغرافيّة بين لبنانَ وسويسرا واستنتج أنّه يمكن لسويسرا أن تكون النموذجَ المتّبعَ لبناء دولةٍ قوميّةٍ لبنانيّةٍ – لاسيّما في ما يخصّ تنمية القطاع السياحيّ. لكنه أقرّ بأنه لتطوير قطاعٍ سياحيٍّ شبيهٍ بالنموذج السويسريّ، على الدولة أن تطلق إصلاحاتٍ واسعةً في البُنى التحتيّة. شبّه ثابت لبنان بـ«أرضٍ بورٍ» يجب أن تتحوّل إلى «حديقة منمّقة»، وشرح الحاجةَ إلى تجميل المساحات الحضَريّة وحماية الآثار والمَعالم، بالإضافة إلى تحديث البُنية التحتيّة السياحيّة بما فيها الطرقاتُ وأماكنُ الإقامة. هذا وتحتاج العاصمة بيروت إلى تحديثٍ لتتماشى مع دَورها المتصوَّر بما هو «بوّابة الشرق»، كما تحتاج القرى إلى التجهيز بحدائقَ عامّة وأرصفة وكازينوهات11.
قطاع السياحة وقيام الدولة
يربط كلٌّ من جاك ثابت وألفريد سرسق مَطالبَه بتطوير القطاع السياحيّ بوضوحٍ بالمطالبة السياسيّة الرئيسيّة بقيام دولة، ويشبكان ذلك مع المفاهيم المعتمدة عن دور الدولة في مشروع بناء الدولة اللبنانيّة. فمثلاً، جادل سرسق في أنه إذا اتّخذت الدولة الإجراءات المناسبة، فإنّ توسيع القطاع السياحيّ قد يضمَن «الازدهار الوطنيّ»12. ولا يمكن تحقيقُ هذا إلّا بتطبيق ما سمّاه ممارساتٍ سياسيّة وحكوميّة ضروريّة وهي: تشجيع الاستثمارات من قبَل «رأسماليّين خارجيّين»، ودعم القطاع الفندقيّ على نطاقٍ أوسع، وضمان المعايير الأمنيّة والصحّيّة13. وحاجَجَ جاك ثابت بأنّه يقع على عاتق الدولة تفعيلُ الإصلاحات المطلوبة وصرّح بأنّه: «حان الوقت للدولة اللبنانيّة أن تعبُر من حالةٍ جنينيّةٍ إلى جسمٍ قابلٍ للحياة مُتكاملِ التنظيم، وعلى فرنسا التي حملت [الدولة] أن تكمل هذا المشروع»14. مستنتجًا ضرورةَ وجود الدولة لبناء وطن، أكّد ثابت أنّه إذا كان للوطن اللبنانيّ أن «ينجحَ» ويكسب «مكانًا في الشمس بين الأمم الأخرى» فمن الضروريّ تطويرُ جهاز دولة. وكانت مفاهيمُ سرسق وثابت المعتَمدة لدور الدولة مرتكزة على مفاهيمَ برجوازيّة محدَّدة عن الوجهة اللبنانيّة الحديثة، وبالتالي الوطن، كاشفين عن أسلوب تعاملٍ أبويٍّ مع سكّان الأرياف.
بدلاًمن الاعتماد على ممثّلين عن القرى، جادل ثابت في أنّ على أعضاء المدينة «الكفوئين» أن يقوموا بأعمال التحديث المطلوبة لتحسين الوجهات السياحيّة في الجبل. وبعد أن تقرّر الدولةُ معاييرَ النظافة والجَمال المطلوبة، سوف يكرّس أصحابُ المحلّات الصغيرة واللحامون والخبازون أنفسَهم لتحديث محلّاتهم فيساهمون بالتالي في «خَلق تحوّلٍ مبهجٍ في لبنان»15.
اعتبر كلٌّ من ثابت وسرسق أنّ الدعم الفرنسيَّ مهمٌّ لتطوير القطاع السياحيّ، وقدّم ألفرد سرسق تقريرَه شخصيًّا إلى المندوب السامي، كما ذكَرَ جاك ثابت الفرنسيّين مباشرةً في مناشداته. والمهمّ ذكرُه، في هذا السياق، أنّ سلطاتِ الانتدابِ الفرنسيّ كانت عمومًا داعمةً لجهود تطوير القطاع السياحيّ، لكنْ كانتْ أسبابها مختلفةً بعض الشيء. فلم تكن السياحة توفّر لهم إمكانيّة تفعيل سياسة إظهار القيمة الاستعماريّة فحسب، بل تمكّن الشركاتِ الفرنسيّة أيضًا من أن تستفيدَ من تطوير القطاع16. كما كان لسلطات الانتداب الفرنسيّ اهتمامٌ خاصٌّ في القطاع السياحيّ باعتباره أداةً دعائيّةً لعرض حَسَنات الإمبراطوريّة الفرنسيّة. وبذَلَ مكتبُ المفوّض السامي جهودًا خفيّةً لجذب السيّاح إلى بلاد الانتداب. استغرق الدعمُ الفرنسيّ الماليُّ والسياسيُّ لتطوير القطاع السياحيّ الجهدَ الأكبرَ من ممارسات الدولة الاستعماريّة. في عام 1923، أنشأ المفوّض السامي حينها ماكسيم ويغان لجنةً للسياحة والمنتجعات والتي نسّقتْ فعالياتِ التنمية المتعلّقة بالقطاع السياحيّ في الأراضي الخاضعة للانتداب. قادت اللجنةُ جهودَ شَقّ الطرقات ودَعَمت القطاع الفندقيَّ وأطلقتْ حملاتٍ ترويجيّةً لغاية أواخر العشرينيّات، كما ضمّتْ ممثّلينَ من كافّة المناطق الخاضعة للانتداب الفرنسيّ بالإضافة إلى أعضاء من البرجوازيّة المحلية مثل جورج ڤايسييه مالك جريدة La Syrie والعضو المؤسِّس في نادي السياحة في سورية ولبنان17.
نَوادٍ وجمعيّات ومبادرات
في الوقت الذي لعبتْ فيه سلطاتُ الانتداب الفرنسيّة دورًا مهمًّا في تطوير القطاع السياحيّ، قامتْ أيضًا عدّة مبادراتٍ مشترَكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ لتحفيز تنمية القطاع في العشرينيّات. إحدى هذه المبادرات كانت «نادي السياحة في لبنان وسوريا»، الذي تأسّس عام 1921 وكان مرتبطًا بنادي السياحة الفرنسيّ ومصمَّمًا على غراره. إلى جانب ألفرد سرسق وجاك ثابت وجورج ڤايسييه، ضمّ النادي كلًّا من جان دو فريج (1874ــــــ1951) وشارل قرم (1894ــــــ1963) وميشال شيحا (1894ــــــ1954) وإميل قشّوع وجان بسترس والياس صبّاغ وحسن القاضي وعددًا من رجالات سلطات الانتداب. ما هو معروفٌ عن نادي السياحة قليلٌ نسبيًّا. وكان يضمّ عددًا من اللجان المهتمّة بالتنمية السياحيّة للمواقع والمَعالم والطرقات والنقل والقطاع الفندقيّ، بالإضافة إلى التشجير والبيئة، الأمر الذي يدلّ على اهتمام أعضائه بمهامّ متنوّعة.
في الآن ذاتِه، دفعتْ شعبيّة القطاع السياحيّ بعددٍ متنامٍ من روّاد الأعمال الخاصّة إلى دخول سوق الرحلات والإجازات التجاريّة. وكانتْ إحدى الشركات المتخصّصة في الترويج للسياحة في العشرينيّات هي «جمعيّة الاصطياف في جبل لبنان» والتي عُرفت باسمها باللغة الإنكليزية VML Tourist Company. دارتْ أعمال الشركة الرئيسيّة حول تنظيم رحلاتٍ سياحيّة، خصوصًا رحلاتِ الاصطياف. بالإضافة إلى تأمين الإقامة في منازلَ وشققٍ مفروشةٍ وفنادقَ لزبائنها المصطافين، كانت الشركة تنظّم رحلاتٍ لزيارة المعالم السياحيّة، وتروّج لعروضٍ تمكّن المسافرين المهتمّين بزيارة «مواقع ومعالم وصروح وآثار تاريخيّة» من الشروع في رحلاتٍ في المنطقة مع توفير أدلّاءَ سياحيّبن، تمتد من يومٍ واحدٍ إلى أسابيعَ عدّة18. وظّفت الشركة، التي كانت تعمل من شبكة مكاتب منتشرة في المنطقة، أكثرَ من أربعين وكيلاً سياحيًّا19 يعمل معظمهم في قرى وبلدات «لبنان الكبير»، حسب تسمية الشركة له في عام 1925. وقد فاخر دليلُ الأعمال «المؤشّر السوري» بأنّ الشركة التي يديرها حيدر معلوف وميشال قندلفت وألكسندر يارد وخرّيج الجامعة الأميركيّة في بيروت وديع السعد هي منظّمةٌ أسَّسَها «لبنانيّون»20، مع الإشارة إلى أنّهم كانوا جزءًا من جاليةٍ مهاجِرة في القاهرة21. يلقي الترابطُ بين شركة VML والمغتربين الضوءَ على انخراط المغتربين في مشروع بناء الدولة عمومًا. في حين أنّ الشركة تدير أعمالَها كشركةٍ خاصّة، كانت تصف نفسَها على أنّها تعمل للمصلحة العامّة، وأنّها تهدف إلى «المساهمة في تنمية لبنان اقتصاديًّا من خلال تطوير قطاع الاصطياف»22. من خلال ادّعائها أن الاصطياف في الجبال هو من أهمّ جوانب التنمية الاقتصاديّة للبنان، يرتّب جمالُه الطبيعيّ على «الشعب اللبناني» تحويلَه إلى مسعى مربح، انخرطت الشركة في الضغط من أجل بناء الطرقات وتطوير الفنادق واعتماد المعايير الصحّيّة وتدريب مقدّمي الخدمات في الفنادق23. وعلى غرار ثابت وسرسق، طالبت الشركة بالتدخّل الحكوميّ في القطاع السياحيّ «لنرى بلدنا يسير خطوةً خطوةً نحو التقدّم»24.
شبكة الطرقات السياحيّة
وكان من أهمّ أولويات دعاة السياحة بناء طرقاتٍ تسهّل تنقّل السيّاح بطريقة مريحة. ونظرًا للأهمّيّة المتزايدة للسيّارات بالنسبة للسياحة في ذلك الحين، تزامنتْ مطالبُ تسهيل الوصول مع مطالب توحيد أراضي لبنان الكبير من خلال شبكة طرقاتٍ مترابطة25. في عام 1924، ذكر تقريرٌ استشاريّ مقدَّم لوزارة الأشغال العامّة، أو صادرٌ عنها، الحاجةَ إلى خطّةٍ متماسكةٍ لإنشاء الطرقات داخلَ حدود لبنان الكبير تؤمّن هلى نحوٍ خاصّ الوصولَ إلى المواقع السياحيّة26. هذا وصرّح الحاكمُ الفرنسيّ للبنان الكبير ليون كايلا في عام 1925 بأنّ بناء الطرقات يشكّل وسيلةً مهمّة لـ«ترسيخ» الدولة الجديدة، محاججًا بأنّها مكوّنة من مجموعةٍ غيرِ متماسكةٍ إلى حدّ الخطر ويضرّ ضررًا كبيرًا بالسياحة27. وإذا فكرةُ إنشاء وزارة الأشغال العامّة «شبكةَ طرقات لبنانيّة» متماسكة تؤدّي إلى نشوء مفهومٍ معرفيٍّ جديد عن أراضي لبنان الكبير بما هو وحدةُ جهودٍ تنمويّة، كذلك برزت النظرة إلى الطرقات كوسيلةٍ لتوحيد البلد. رأى ممثلو الدولة أنّ إمكانيّة التنقّل بين المناطق مرادفٌ لترسيخ الأراضي المرسومة استعماريًّا للبنان الكبير كمساحةٍ مترابطة. على أنّ الاعتبارات بشأن أيّ طرقاتٍ يجب بناؤها وأيّ مناطقَ ينبغي ربطُها بعضُها ببعض لم تكن متساويةً على امتداد أراضي لبنان الكبير. حظيتْ بعض الأماكن والمناطق باهتمامٍ أكبر في جهود الدولة لشقّ الطرقات ولعبت السياحة دورًا رئيسيًّا في تلك الاعتبارات. لم ترصدْ وزارة الأشغال العامّة الأموال لإنشاء الطرقات السياحيّة فحسب، بل صرّح رئيس الحكومة بشارة الخوري مباشرة في عام 1927 بأنّ ميزانيّة الدولة تسمح فقط ببناء أو تحديث عددٍ محدودٍ من الطرقات، وأنّ الطرقات المفيدةَ للسياحة هي أهمّ من غيرها لكونها تعتبر شرايين البلاد28. فركّزت وزارة الأشغال العامّة بالتالي على الطرقات السياحيّة مثل الطريق البحرية التي تصل الناقورة (نقطة العبور إلى فلسطين) ببيروتَ والطرقات المؤدّية إلى مراكز الاصطياف في الجبل.
تنمية الجبل: إنشاء مراكز الاصطياف
ارتكزتْ جهود بناء الطرقات على تأمين الوصول إلى ما تمّ اعتباره وجْهاتٍ سياحيّة، كما أصبحتْ مراكز الاصطياف في الجبل نفسها مركز اهتمامٍ للجهود التنمويّة. وعلى الرغم من أنّ تطوّر الاصطياف في المناطق الجبليّة يعود إلى القرن التاسع عشر، إلا أنّه مع بداية حقبة الانتداب، سعى دعاة السياحة بشكلٍ متزايدٍ نحو تنظيمه بشكل احترافيٍّ والترويج لجاذبيّة الاصطياف كعلامةٍ مميّزة للبنان. في عام 1922 بدأ أعضاء من البرلمان وسم بعض المصايف مثل عاليه وعين صوفر بالحالات الخاصّة، لا يمكن معاملتها مثل البلدات الأخرى نظرًا لأهمّيّتها بالنسبة للقطاع السياحيّ29. وفي أواسط العشرينيّات، أصدرت الدولة فئةً مستجدّةً صنّفت بموجبها قرى في منطقة الجبل رسميًّا كمراكز اصطيافٍ وأوفدتْ وزارة الاقتصاد موظّفيها إلى البلدات لتقييم مدى استحقاقها لهذا التصنيف30. وبين عامَي 1926 و1929، صنّفت الدولة البلداتِ التاليةَ كمراكز اصطياف: عبيه، فالوغا، شويت، القليعات، عاريا، حمّانا، بيت الدين، دير القمر، بحنّس، روم، الخنشارة، الكْفور، بحمدون المحطّة، وعَيناب وتقع جميعُها في محافظة جبل لبنان31. كان لهذا التصنيف دلالةٌ سياسيّة وماليّةٌ كبرى بالنسبة لتلك لبلدات، إذ خصّصتْ لها الدولة الاستعماريّة حصّةً إضافيّة من المال العامّ لتحديثها كوجهاتٍ سياحيّة، بما في ذلك الاعتمادات لبناء الحدائق العامّة والأرصفة وتأمين الكهرباء والمياه للمنازل، بالإضافة إلى تشييد الفنادق، بحيث اعتُمد النموذجُ الأوروبيّ للمصايف وتحديدًا السويسريّ منها. كان الهدفُ المعلن لدعاة السياحة هو تحديث مراكز الاصطياف بطريقة تتماشى مع ما كانوا يعتبرونه رغبات طبقة الرفاه تحديدًا الطبقات الوسطى الميسورة والطبقات الغنيّة من كل المنطقة32. وبذلك تصير الجهود السياسيّة للتحديث قائمةً على تصوّرٍ برجوازيٍّ محدّد لما يعتبر «حديثًا». فمثلاً، أخذ توفير الكهرباء بُعدًا مركزيّا في تحديث مراكز الاصطياف، فعلى الرغم من أنّ محطّات الكهرباء عائدةٌ لما قبل حقبة الانتداب33، لم يبدأ توصيل الكهرباء إلى مراكز الاصطياف إلّا في عام 1926 34. بينما كان يوجد عددٌ من الشركات التي تولد الكهرباء (معظمها سيطرتْ عليه شركاتٌ قابضة فرنسيّة بحلول الثلاثينيّات)، قدّمت الدولة الاستعماريّة امتيازاتٍ لتوفير الكهرباء على المستوى المحلّي35. على امتداد حقبة الانتداب، كان البرلمانُ يتسلّم طلباتٍ من بلداتٍ من أجل تزويدها بالتيّار الكهربائيّ. في منحها لهذه الامتيازات ركّزت الدولةُ تحديدًا على تزويد مراكز الاصطياف بالكهرباء بحجّة أنَّ توفّر الكهرباء أمر مفصليّ للسياحة36. وبذلك شكّلتْ مراكز الاصطياف في منتصف الثلاثينيّات الجزءَ الأكبر من الأماكن المزوّدة بالتغذية الكهربائيّة خارج المناطق الحضَريّة، وذلك وفقًا لدراسةٍ أجراها البروفيسور في الجامعة الأميركيّة باسم فارس، وكانت الفنادق وبيوتُ الاصطياف الخاصّة أبرزَ مستهلكي الكهرباء في تلك المصايف. وكان التزوّد بالطاقة الكهربائيّة مهمًّا خصوصًا لتوفير وسائل الراحة الحديثة في الفنادق: المياه الساخنة والإنارة. والفنادق هي «قلاع البرجوازيّة»، وفقاً لهانز ماغنوس إنتسنزبرغر، وتشكّل معاييرُها قلقًا مستمرًّا لدعاة السياحة37. في حين كان داعمو القطاع السياحيّ يسعَون دومًا لزيادة أماكن الإقامة في مراكز الاصطياف، كانوا أيضًا يدعون إلى تدريب موظّفي القطاع على نحوٍ لائقٍ والسيطرة على معايير النظافة بمنح الرخَص فقط للفنادق المجهّزة بأدواتٍ صحّيّةٍ «حديثة»38. كان دعاة السياحة حسّاسين لاسيّما تجاه انتقادات السيّاح لأماكن إقامتهم، خصوصًا لأنّ النظرة إلى لبنان كوجهةٍ سياحيّةٍ كانت مرتبطةً بسمعة وطنٍ اسمُه لبنان، ولذلك بدأ «نادي السياحة» Touring Club أعماله باكرًا وبدأ بتوزيع شهاداتِ تميّز الفنادق الجيّدة ابتداءً من عام 1924 39. كذلك شجّعت الدولة الاستعماريّة بناءَ الفنادق من بمنحِ الإعفاءات الضريبيّة والامتيازات40. وقد ادّعتْ هيئةُ السياحة، المؤسَّسة عام 1923، أنّ بناء ثلاثة فنادقَ جديدة في كلٍّ من عاليه وجزّين وبشرّي يعود بالدرجة الأولى إلى جهودها في تأمين الإعفاءات الضريبيّة على موادّ البناء، وتأمين وسائل راحةٍ حديثة مثل المياه الساخنة41. ووفقاً لإحدى الروايات المعاصرة، شهدتْ مراكز الاصطياف نموًّا في ما صنّفتْه جريدة «البشير» «مساكن حديثة»، التي ارتفع عددها من 670 عام 1925، إلى 3500 في أوائل الثلاثينيّات42.
ولادة اقتصاد الترفيه
إلى جانب بناء «الفنادق الحديثة»، كانت المصايف مجهّزةً بمجموعةٍ من مراكز الترفيه، مثل الكازينوهات ودُور السينما والحانات. وكان توافر تلك المراكز يحتلّ حيّزًا مركزيًّا في توصيف مراكز الاصطياف في الدلائل السياحيّة المطبوعة43. وقد اعتبر دعاةُ السياحة أنّ ألعابَ الميْسر تحديدًا هي رغبةٌ مهمّةٌ من رغبات السيّاح. في عام 1925، كتب إميل قشّوع، المهندسُ المقيم في بيروت والعضو في «نادي السياحة»، مقالاً في صحيفة «الأوريان» يدعو فيه إلى ضرورة بناء الكازينوهات لأولئك «الذين يملكون القدرةَ على خسارة المال»، مع حظر المَيْسر على الذين لا يمكن اعتبارُهم «ميسورين» في نظرةٍ أبويّةٍ نحو مَن يعتبرهم من ذوي الدخل المحدود في المجتمع44. أما بالنسبة إلى مواقع تلك الألعاب، مثل المقاهي، فقد اتخذت الدولة الاستعمارية تجاهها مقاربة تقييدية. منعت ألعاب الميسر في الأماكن العامة عام 1922، ما أدّى إلى الإغلاق القسريِّ للعديد من المقاهي لممارستها المقامرةَ غير الشرعيّة45، لكنْ استُثنيتْ مراكز الاصطياف من المنع. في عام 1927، سمح البرلمان اللبنانيّ بألعاب الميسر في مراكز الاصطياف الرئيسة، بينما بقيتْ ممنوعةً في أماكنَ أخرى46. وبالتالي، حظيتْ مراكزُ الاصطياف قانونيًّا وماليًّا بموقعٍ سياسيٍّ متفرّدٍ يشير إلى رمزيّةٍ معيّنة. ارتكزتْ تنميتُها على فكرةٍ تقول إنّها أماكنُ رئيسةٌ تمثّل مساحاتٍ لوجهةٍ وبالتالي لوطنٍ اسمُه لبنان وأصبحت مشاريع تطوير البُنى التحتيّة مثل إيصال خطوط الكهرباء خطواتٍ يُحتفى بها في مشروع بناء الوطن. وهكذا تدّعي روايةٌ من عام 1928، أنّ جزّين «تحوّلت بالكامل» عندما أصبحتْ مركزَ اصطياف47.
العاصمة والمعالم السياحيّة
لم يكن طموح التنمية السياحيّة والتحديث مقتصرًا على مراكز الاصطياف، بل شمل بيروت أيضًا. للسياح الوافدين عبر البحر، كانت بيروت محطةً مهمّة بما هي أحدُ أهمّ المرافئ على الساحل الشرقيّ للبحر المتوسّط.
خضعتْ بيروت لمجموعةٍ من التحوّلات الحضريّة خلال عهد الانتداب حيث سعت السلطات لاستخدام المدينة من اجل إبراز حَسَنات الإمبراطوريّة، وكل ذلك من خلال ارتباطٍ لصيقٍ مع القطاع السياحيّ48. في عام 1926، أكّد الحاكم الفرنسي لـ«لبنان الكبير» ليون كايلا ضرورة التدخّل الحكوميّ لتحديث بيروت لأغراضٍ سياحيّة، وقال «من أجل جذب الأجانب أنت بحاجةٍ إلى مدينةٍ جميلة، تحتاج إلى جادّاتٍ واسعة ومَتاجرَ وصَرْفٍ صحّيٍّ وأرصفة... كل هذه الأسئلة تثار في التخطيط الحضَريّ الذي تجنّبناه حتى اليوم»49. كما حاجج البرلمانيّون بأنّ مظهرَ العاصمة يخصّ جميع اللبنانيّين: «يجب على كل لبنانيٍّ في أيّ مكانٍ أن يهتمّ بعاصمة لبنان وأن يسعى جاهدًا لجعْلها واحدةً من أكثر المراكز جاذبيّةً في شرق البحر المتوسّط»50. وقد تداخلَ تعزيز جاذبيّة بيروتَ السياحيّة مع الحاجة المتصوَّرة لبناء معالم سياحيّة «جديرةٍ بعاصمة» والترويج لها.
وكان أحد المشاريع الرائدة لداعمي القطاع السياحيّ هو بناء ميدانٍ لسباق الخيل شرق المدينة، وصوّرَه المساهمون فيه بشكل مستمرّ على أن له رمزيّةً وطنيّة. أنشئ ميدان سباق الخيل من خلال شراكةٍ بين القطاعَين العامّ والخاصّ ومساهمةٍ استثماريّةٍ من أعضاء البرجوازيّة البيروتيّة، من أمثال ألفرد سرسق وحسن القاضي والياس صباغ وجان بسترس (وجميعهم أعضاء في «نادي السياحة»)، وعمر الداعوق ومؤسّسات الدولة51. روّج داعمو القطاع السياحيّ لنشاطات مَيدان سباق الخيل، الذي شُيّد عام 1922، على أنّها عواملُ جذبٍ سياحيّة طوال عهد الانتداب. وكانت هذه النشاطات تشمل سباقاتٍ أسبوعيّةً واستعراضَ خيول52. وكانت النشاطات التي يروَّج لها على أنّها تخصّ المجتمع الراقي، خصوصًا سباقات الخيل، تجذب أعدادًا كبيرة من المشاهدين. وكان الكثير من الخيول مملوكًا من عددٍ من المساهمينَ أنفسهم، لكنّها كانت مملوكةً أيضًا من أصحاب الخيل في المنطقة53. كما تُظهر الصور، كان يمكن للحضور شراءُ بطاقة وقوف أو أن يجلسوا في المنصّة الرئيسيّة، والمراهنة على نتائج السباقات54. في مراسَلاتهم مع دولة الاستعمار، وفي سياق طلَب إعفاءاتٍ ضريبيّةٍ مثلاً، أبرزَ المساهمون أهمّيّة ميدان سباق الخيل بالنسبة إلى بيروت كعاصمة، وللوطن على وجه العموم. ادّعَوا أنّ سباقات الخيل مؤسّسة «ذات نفعٍ عامّ» أنشئتْ في روحٍ من «الوطنيّة الخالصة» وهي مؤسّسة عَزّزتْ من جاذبيّة بيروتَ كعاصمة عصريّةٍ وفي الوقت ذاته أمّنت الوظائف لأعدادٍ كبيرةٍ من العمّال55.
الاستئثار بالآثار والمَشاهد الطبيعية
ما بعد تطوير مراكز الاصطياف وبيروت، تطلّب بناءُ وجهةٍ سياحيّة اسمُها لبنانُ التركيز على جهودٍ مضاعفة لحماية مَعالمه الطبيعيّة وما اعتُبر أنّه آثارٌ تاريخيّة. قاد دعاةُ السياحة وممثّلو دولة الاستعمار على حدٍّ سواء الجهودَ لحماية هذه المَعالم بحجّة أنّها تشكّل مصلحةً وطنيّة. بُنيت الفكرة الأساسيّة المحرّكة لجهود الحماية على مفهومٍ يقول إنّ المناظر الطبيعيّة والآثار التاريخيّة تشكل «كنوزًا وطنيّة» أي أنّها مزايا طبيعيّة فريدة وبقايا ماضٍ مشترك تُلهم أجيالاً مقبلةً بالولاء للوطن. وجادل دعاة السياحة بالتالي بأنّ الآثار والمناظرَ الطبيعيّة يجب أن تصنّفَ كرموزٍ وطنيّة وأن يتمّ التصرّف معها على هذا الأساس. عبّرت جهود حماية الآثار عن نفسها في الجهود القانونيّة للحماية وكذلك في الجهود المبذولة لتعزيز إمكانيّة الوصول إلى تلك المعالم. منذ بداية العشرينيّات، عبّر دعاة السياحة عن أسفهم على الحالة المزرية لبعلبكّ وحثّوا الدولة على الاستثمار في حمايتها56. وقد شكّلت بعلبك لدعاة لبنانَ الكبير، مثل ميشال شيحا، مَعلمًا هامًّا من مَعالم المدى اللبنانيّ والهويّة اللبنانيّة، إذ زعموا أنّها تشكل البرهان على الدعائم القديمة للوطن اللبنانيّ57. وكذلك اعتُبر قصر بيت الدين كنزًا وطنيًّا يحتاج إلى تمويلٍ لحمايته. بدايةً، كان القصر يستخدَم كسجن، لكنْ قرّرَ برلمان الجمهوريّة اللبنانيّة في عام 1927 تخصيص أموالٍ للحفاظ على قصر بيت الدين نظرًا لقيمته التاريخيّة.
الحملات الدعاوية
إلى جانب تطوّير البُنى التحتيّة، شملتْ جهود تحفيز السياحة حملاتٍ ترويجيّة سعتْ إلى إظهار مَحاسن وجهةٍ تدعى لبنان، تتجسّد خصوصًا في جمالها الطبيعيّ وأهميّتها التاريخيّة المزعومة.
وصلت الحملات الترويجيّة السياحيّة الى جمهورٍ واسع جدًّا ونَعَتَها المراقبون المعاصرون غالبًا بالدعاية السياسيّة، مشيرين إلى الأهميّة السياسيّة للحملات الترويجيّة السياحيّة بما هي قضيّةٌ رمزيّة وطنيّة وروحٌ وطنيّة58. وعمومًا، ساهمت الأهمّيّة الاقتصاديّة النامية للقطاع السياحيّ في التعبير عن السياحة بعباراتٍ «وطنيّة» على نحوٍ متزايد. فمثلاً، طرحت شركة VML قضاء العطلة في لبنان كعملٍ وطنيّ للمواطنين المصريّين، نظرًا للترابط الاقتصاديّ بين البلدين، بالإضافة إلى مساهمتهم الإضافيّة في الاقتصاد القوميّ المصريّ عندما يعودون منتعشين من العطلة ليصبحوا أكثر فاعليّةً في عملهم. بعد مديح السياحة كجزء أساسيٍّ من الحياة القوميّة الحديثة والفاعليّة وأيضًا لأهمّيّتها الاقتصاديّة، باتتْ مسألة اختيار الوجهة السياحيّة مسألةً وطنيّة، واعتبر دعاة السياحة أنّ الترويج لوجهةٍ محدّدة بشكل إيجابيّ من خلال الحملات الترويجيّة إنّما هو بالتأكيد جزءٌ من الدعاية الوطنيّة. وعلى الرغم من أنّ دعاة السياحة والمراقبين المعاصرين اعتبروا الحملات السياحيّة بمثابة دعايةٍ وطنيّة، بقي هناك توتّرٌ أساسيٌّ حول صحّة ادعاءات ما يروّج له. فعلى سبيل المثال، أقرّت شركة VML بعد عناءٍ بأن منشوراتِها السياحيّة لم تكن مجرّد دعايةٍ سياسيّة، بل كانت تستند إلى دراساتٍ مناخيّة وأثريّة وصحيّة ذات أسسٍ علميّةٍ عن «الأراضي الفينيقيّة القديمة»59. إن تصوير الحملات السياحيّة على أنّها دعايةٌ سياسيّة وادّعاء صحّة ما تروّج له في الوقت ذاته، يلخّص التناقضّ الأساسيّ في عمليّة البناء الوطنيّ بين افتراض وطنٍ سابق يرتكز على حقيقةٍ تاريخيّة، والاعتراف في الوقت ذاته بضرورة بناء هذا الوطن فعليًّا من خلال الدعاية السياسيّة60.
من حيث المحتوى، تمحوَرَت الحملات السياحيّة إلى حدٍّ كبير حول موضوعَين رئيسَين: الاصطياف في الجبل وزيارة المعالم التاريخيّة. منذ عشرينيّات القرن الماضي، صاغت الحملاتُ السياحيّة مقولة «لبنان سويسرا الشرق» (أو «المشرق» أحيانًا) والتي تستدعي اعتبار المنطقة الجبليّة السمةَ المميِّزة للبنان ووجْهته السياحيّة وبالتالي إرساء المقارنة مع الوجهة الأوروبية الشهيرة في حينها. كانت سويسرا تتمتّع بسمعةٍ جعلتْها مكّة سياحيّة منذ القرن التاسع عشر وكانت وجهةً مشهورة بين السيّاح الباحثين عن إقامةٍ للتعافي في محيطٍ جبليّ61. ورافق هذا الشعارَ انتشارُ مراكز الاصطياف في الجبل. تروّج المنشوراتُ السياحيّة الصادرة في حينها لقرى مثل عاليه وبحمدون وضهور الشوير وعين صوفر لما تقدّمُه من بيئةٍ طبيعيّة وأنشطة التسلية مثل التنزّه على أرصفتها وتحت أشجار الصنوبر ورحلات السيّارة للاستمتاع بالمناظر الخلابة62. وأبرزتْ أغلفة الأدلّة السياحيّة مناظرَ جبليّةً مخضّرة تطلّ على البحر المتوسّط، بينما قدّم الشِعرُ لبنانَ كوجهةٍ سياحيّةٍ مكوّنة من وديانَ وشلّالاتٍ وغابات63. كان المبدأ المتّبَع في كل ذلك هو الفكرة القائلة بأنّ السائح الحديث يسعى إلى مناخٍ مريح وطبيعة جبليّةٍ كمحيطٍ للتعافي. على سبيل المثال، كان يروّج لبحمدون في الأدلّة على أنّها «محاطة بكروم العنب، وهي مكان مثاليٌّ للأشخاص الذين يبحثون عن الاسترخاء والراحة بعد فترةٍ شاقّة من العمل»64. شَغَلت الطبيعة جزءًا مهمًّا في الصورة البرجوازيّة منذ القرن التاسع عشر باعتبارها النقيضَ الحقيقيَّ للحياة الحديثة، مساهِمةً بذلك في تشكيل نظرة ثقافيّةٍ برجوازيّة محدَّدة65. كان يُعتبر أنّ الجبل يوفّر هذا المحيطَ للسائح، الأمر الذي جعله المحور الرئيسيَّ للحملات الدعاويّة، واستمرّ ذلك حتى الثلاثينيّات، عندما سعى دعاة السياحة بشكلٍ متزايد إلى تطوير الخطّ الساحليّ والشواطئ بالإضافة إلى منتجعات التزلّج. على سبيل المثال، كان شعار VML يعرض صورةً رومانسيّة لمناظرَ جبليّة مع أشعّة شمسٍ وقرية وشجرة أرز66. في الوقت ذاته، كانت الأدلّة السياحيّة تعلن أنّ مراكز الاصطياف تقدّم الأنشطة الترفيهيّةَ التي توفّر منافعَ المجتمع الراقي واحتفالاتِه.
بيروت «الحديثة الصاخبة»
إلى جانب فضائل الطبيعة والتعافي الذي يوّفره الاصطياف، شكّلت الاحتفالات وما يسمّي الأنشطة الترفيهيّة للمجتمع الراقي، السمةَ المميّزة الثانية لمراكز الاصطياف، التي كانت تستضيف بانتظامٍ الاحتفاليّات ومسابقاتِ الجمال. وأدرجت الأدلّة السياحيّة لائحة الكازينوهات ودُور السينما والبارات، وتوافُر «أفضل مسرحيّات الكوميديا المصريّة» والمسلسلات ومسارح المنوّعات في مراكز الاصطياف67. وقد روّجتْ تلك الأدلّةُ لعين صوفر، على سبيل المثال، على أنّها مُلتقى «الأرستقراطيّة».
وفي حين كان التركيز الرئيسيُّ ينصبّ على مراكز الاصطياف، ظهرتْ بيروت على أنّها «مدينةٌ حديثة وصاخبة»، «يسهل الوصول إليها» من المصايف، حيث يمكن للسائح أن ينطلق في سيّارته بسهولةٍ للقيام بجميع «المشتريات» الضروريّة في الأسواق68. وصُوّر مفهومُ الاصطياف على أنّه نشاطٌ للمجتمع الراقي وممارسة مخصوصةٌ للطبقات الوسطى والعالية. وبالفعل استند مفهوم الانتماء إلى البرجوازيّ، إلى حدٍّ كبير على ممارسة السياحة. وكذلك الأمر، كان للتركيز على الجبل رمزيّتُه الوطنيّة هو أيضًا: إذ إنّ فكرة الجبل كانت لبَّ الوجهة المسمّاة لبنان. وكان ذلك تأكيدًا على أنّ الوجهة المسمّاة لبنان متجذّرة في السمات الطبيعيّة للجبل ومُتاحةً للسائح ليجرّبها69.
إلى جانب الطبيعة والفضائل الطبيعيّة، ركّزت الحملات الترويجيّة السياحيّة على ما اعتُبِر مواقعَ وآثارًا «تاريخيّة» بما هي معالمُ سياحيّة. شكّل التاريخ أرضيّةً خلافيّة طوال فترة الانتداب وما بعدها، وتنقّلَ مرشدو السياحة في العشرينيّات بين رواياتٍ مختلفة أطّرتْ ما كانوا يعتبرونه «موقعاً تاريخيًّا»70. الأكيد أنّ معظم الحملات الترويجيّة السياحيّة لم تقدّم «سرديّات تاريخيّة» شاملة، بل أطّرت الآثار بطرقٍ معيّنة. كانت الرحلات السياحيّة عادةً، كما كان يروّج لها في العشرينيّات، تغطّي كلّ المناطق الخاضعة لحكم الانتداب الفرنسي. ابتكر «الكتاب السياحيّ» لشركة VML الصادر عام 1924، والموجّه لتلبية احتياجات زوّار المَعالم السياحيّة الذين يبحثون عن رُزَمٍ سياحيّة، برامجَ شاملة لهؤلاء السيّاح. لكنّهم من خلال ذلك كانوا يحتفلون بمشروع بناء الدولة الجديد. وجاء في دليلهم عام 1924 ما يلي: «بعد انتصار الحلفاء في الحرب الكبرى، وُضعت سوريا ولبنان تحت النفوذ الفرنسي. تم توسعة لبنان وتحويله إلى ما يقال إنه دولة مستقلة عاصمتها بيروت. وتُعرف الآن هذه الدولة باسم «لبنان الكبير»»71. كما صوّر الكتيّب السياحيُّ الذي نشرتْه الدولة الاستعماريّة عام 1925 الحرب العالميّة الأولى على أنّها شكّلتْ قطيعةً في المساحات السياسيّة والثقافيّة، مشيرةً إلى بيت الدين على أنّها «عاصمة لبنان القديمة»، في مقابل بيروت «عاصمة لبنان الكبير»72. وفي حين قُدّمت بيروتُ كمدينةٍ صاخبة ذات تراثٍ رومانيٍّ، تم الإعلان عن دمشق، «مدينة الأمويّين» على أنّها الوجهةُ المثاليّة لزيارة «البازارات الشرقيّة» و«المساجد» و«الكروم الجميلة»73، مدينة «صامتة وتحلم، تحلم دائمًا بأمزجةٍ متعدّدة، دائمة الحلم(...) وتحتفظ ببصمتها وحضارتها الشرقيّتين»74. على الرغم من أنّ الحملاتِ الترويجيّة السياحيّة غالبًا ما كانت تولي أهمّيّةً أكبر في الترويج لدمشقَ كمدينة ذات تقاليد إسلاميّة، إلّا أنّها لم تمثّل لبنان بالضرورة كدولة «مسيحيّة»، إذ تضمّن دليل عام 1927 مثلاً صورةً لدير القمر يظهر فيها مسجدٌ75.
فلّاح الجبل وبدويّ البقاع
بينما بقي هنالك تمييز معرفيّ بين لبنان ولبنان الكبير حتى منتصف العشرينيّات، تبنّت الحملات الترويجيّةُ السياحيّة مفهوم الذاتيّة اللبنانيّة. على سبيل المثال، نشرتْ VML في أحد كتيّباتها السياحيّة مشهدًا لفلّاحين وحمار يحمل حطبًا وتبْنًا عبر منطقةٍ جبليّة، وكُتب تحتها «عمّال لبنانيّون عائدون إلى منزلهم»76. طُبعت هذه الصورةُ إلى جانب صوَرٍ تروّج لجولات على ظهور الخيل إلى الأرز وبلدة بشرّي، بينما وضعت مقابلها رسومات لـ«بدويّة وبدويّ من البقاع» إلى جانب رسوماتٍ لآثارٍ وقلاع77. كما أبرزتْ شركة VML في حملاتها السياحيّة في العشرينيّات رموزًا منمّقةً للبنان: شجرة الأرز والقرية الجبليّة على ضفّة البحر المتوسط مقابل مصر الممثلة بأبي الهول والأهرامات78. كما يصوّر ظهرُ غلاف كتيّبٍ آخَر خريطةً لحوض البحر المتوسّط يمتدّ من مصرَ إلى شمال لبنان79. وطُبعت الطرقُ البحريّة وخطوط السكك الحديديّة على الخريطة، في حين أنّ التصوير الخرائطيّ للأراضي المطلّة على البحر المتوسّط عزّزَ النظرة الجغرافيّة لبلاد الشام، جرى التمييز بين «سوريا» و«لبنان» و«فلسطين» و«مصر» بواسطة حدودٍ رُسمتْ بعناية على مساحة الخريطة. في أسفل الخريطة، ثلاثة نقوشٍ صغيرة، أبو الهول والأهرامات، وسفينة وقطار يتحرّكان، بالإضافة إلى شجرة أرز. تمثّلتْ مصر بالأهرامات، ورمزت شجرة الأرز إلى لبنان. لكن من حيث التعريف المكانيّ، ظلّ مفهوم لبنان متمحورًا حول الجبل.
واللافت في حملات الترويج السياحيّة في العشرينيّات هو التمييز المستمرّ في التسميات وفي المساحات المتخَّيلة، بين «لبنان» و «لبنان الكبير». اكتسب «لبنان الكبير» ككيانٍ سياسيٍّ وكقاعدةٍ جغرافيّة لبناء دولةٍ قوميّة زخمًا متناميًا في العشرينيّات، حتى أنّ أحد الكتيّبات السياحيّة طبع تعريف سلطات الانتداب الفرنسيّ حول حدود الدولة على أنّها حدودٌ «طبيعيّة»٨٠. ومع ذلك بقيَت المساحات المتخيَّلة متداخلة إلى حدٍّ كبير في العشرينيّات. تمّ تصوّر «لبنان الكبير» على أنّه كيانٌ سياسيّ، بينما كان لبنان يعني في كثيرٍ من الأحيان الجبلَ فقط. وبقيتْ سورية محصورةً فيما كان يعتبر سورية التاريخيّة. أمّا الجغرافيا السياحيّة المرسومة في الكتيّبات السياحيّة فكانتْ تُسمّى «سورية الفرنسيّة»٨١. ولم تقتصر الإشارة إلى بيروت على أنّها تقع في سورية في الإعلانات المنشورة في الكتيّبات السياحيّة فحسب، بل استمرّتْ بعض الخرائط في إبراز سورية كمساحةٍ واحدة٨٢. كذلك الأمر، كانت آثار بعلبكّ تعتبر أحيانًا «أهمّ وأعظمَ ما في سورية من آثار»٨٣. وظهرت الفنادق بصَورٍ تحمل عناوينَ من نوع «فندق كازينو عين صوفر، جبل لبنان، سورية»٨٤. بعبارةٍ أخرى، وفّرتْ حملات الترويج السياحيّة في العشرينيّات نافذةً على كيفيّة تصوّر المكان في حينها. في حين استوعبتْ حملاتُ الترويج السياحيّة التركيباتِ السياسيّة الجديدة التي استَولدها الحكمُ الاستعماريّ، إلّا أنّ التصوّرات الاجتماعيّة المكانيّة للقرن التاسع عشر ظلّت «تصدح بصوتٍ عالٍ»٨٥. كرّرت الكتيّبات السياحيّة مفهوم سورية كمدًى ثقافيٍّ في التخييل التاريخيّ، إلّا أنّه تم تغيير حدوده للتماشى مع حدود الانتداب الفرنسيّ، أي باستثناء فلسطين. ولعلّ أفضلَ تصويرٍ لتعدّد المساحات المتداخلة الثقافيّة والسياسيّة يتمثّل في التمييز بين «لبنان الكبير» كبُنية سياسيّة و«لبنان» كمساحةٍ ثقافيّة متخيّلة. إذ بقي هناك فرقٌ بين ما سمّاه مانو غوسوامي «فضاء الدولة الاستعماريّة» وتصوّر «الفضاء القوميّ»٨٦.
من الناحية المكانيّة، تركّزت حملات التنمية السياحيّة والترويج للسياحة إلى حدٍّ كبير في الجبل وفي بيروت. كانت معظم مراكز الاصطياف موجودةً في جبل لبنان، بينما لم يكن أيٌّ منها في جبل عامل أو عكّار، وهو الأمر الذي انتقده سكان الجنوب وممثّلوهم. على سبيل المثال، تساءل النائب يوسف الزين في عام 1927، قائلاً إنّ جنوب لبنان من حيث الطبيعةُ والمناخُ جميلٌ مثله مثل مناطق لبنان «القديم»، قاصدًا جبل لبنان. وجادل بأنّ المعاملة غير المتكافئة للحكومة، والتي حفَزَت التنمية السياحيّة في جبل لبنان وتجاهلتْها في الجنوب، تتعارض مع التوزيع العادل للموارد ومبدأ المساواة في الوطنيّة بشكل أوسع، كما هو منصوصٌ عليه في الدستور. استفادتْ بعض المناطق فقط من تطوير البنية التحتيّة ومن المنافع الاقتصاديّة لمشاريع التنمية السياحيّة، بينما تم تهميش الجنوب في الحملات الترويجيّة، وحُرم من الطرقات، ولم يكن بالإمكان الوصولُ إلى آثاره التاريخيّة إلّا على ظهر الخَيل٨٧. كانت الانتقادات للاستنسابيّة في التنمية السياحيّة تَجول في أذهان ممثّلي تلك المناطق التي تمّ تجاهُلها على نحوٍ كبير في جهود تطوير البنية التحتيّة.
خاتمة
ناقشتْ هذه الورقةُ كيف أنّ السياحة خدمت كوسيلةٍ لترسيخ مساحةٍ محدَّدة استعماريًّا بما هي مساحةٌ وطنيّة ناشئة. وقد جادلتْ بأنّ مشاريعَ الدولة في البنية التحتيّة مثل بناء الطرق، وتحديث مراكز الاصطياف وبيروت، وحماية الآثار، قد شكّلتْ جزءًا لا يتجزّأ من إنتاج الفضاء الوطنيّ، حيث إنّ «أساليب التخصيص المكانيّ تضمّنتْ بناء وتشغيل شبكةٍ ضخمة من وسائط النقل (...) وهياكل دمجتْ ورسمتْ معالمها لتكوّن (...) سلطة دولة موحّدة»٨٨. قدّمت الحملاتُ الترويجيّة السياحيّة بدورها وجهةً تسمّى لبنان ككيان محدّدٍ جغرافيًّا وذي جذورٍ تاريخيّة، وعملتْ كأدوات دعايةٍ سياسيّة لنشر السرديّة الوطنيّة لوكلاء مشروع بناء وطنٍ لبنانيٍّ داخل حدود «لبنان الكبير». على الرغم من أنّه كان هناك تمييزٌ معرفيّ واضحٌ في العشرينايّت بين «لبنان الكبير» ولبنان، إلا أنّ الحملاتِ الترويجيّة السياحيّة أطلقتْ «لبنان الكبير» كمشروعٍ سياسيٍّ ضدّ الادّعاءات المعارِضة له، مثل مطالبات القوميّين العرب، على سبيل المثال. وعلى الرغم من أنّ دعاة السياحة كانوا يهدفون إلى ترسيخ لبنان الكبير كمساحةٍ سياسيّة، إلّا أنّ التركيز الرئيسيّ للتنمية السياحيّة تمحوَرَ حول تعزيز الجبل كوجهةٍ سياحيّة ودمجه مع بيروت. وكانت هذه العمليّة مليئةً بالتفاوت البنيويّ٨٩. ويمكن نَسْبُ ذلك بثقةٍ إلى التصوّرات المخصوصة لما هو لبنان. وتوضّح الجهود التنمويّة كيف تركّز مفهوم الوطن اللبناني إلى حدٍّ كبير على الدمج بين المدينة والجبل، وتهميش المناطق الأخرى «الملحَقة» وقد استمرّ عدم المساواة هذا إلى ما بعد عشرينيّات القرن الماضي بكثير.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.