العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

قصّة قطار ريّاق

من «الأوتوليان» إلى متاحف أوروبا

لموقع ريّاق الجغرافيّ أهميّةٌ كبيرة كنقطة مواصلات، بالنسبة لسهل البقاع ولسورية الطبيعية. تقع في وسط البقاع، من حيث الارتفاع عن سطح البحر، ومن حيث الطولُ والعرضُ بين سلسلتَي جبال لبنان، الشرقيّة التي تفصلها عن الشام، والغربيّة التي تفصلها عن بيروت. والأهمّ قرب ريّاق من وادي «قنا» الذي يقع على لحف سلسلة الجبال الشرقيّة، ويربط بين البقاع وطريق يحفوفا وسرغايا في القلمون وصولاً إلى دمشق. وهو طريق مواصلات سهلة، تكثر فيه طواحين القمح وأشجار الجوز، ويُعتقد أنّه كان منطقةً سياحيّةً وحضاريّةً للعديد من الشعوب، كما يظهر من التسميات الشعبيّة التي يتناولها أهالي منطقة ريّاق والجوار «بستان المير»، و«مقام ستنا بلقيس» عدا عن الكهوف والمغاور المنتشرة فيه وقد أصبحت هدفًا للتنقيب العشوائيّ عن الموجودات الأثريّة منذ العهد العثماني، مرورًا بعهد الانتداب الفرنسيّ إلى يومنا هذا، من دون رقابةٍ فعليّة من الدولة. ويجري في محاذاة الوادي نهر «حالا»، الذي ينبع من بلدة يحفوفا، قرب الحدود السورية، ويكنّى باسمها، ويمرّ في بلدات ماسا والناصريّة والأشرفيّة وعلي النهري، مارًّا بريّاق حوش حالا ليصبّ في نهر الليطاني.

ريّاق بين التنافس البريطانيّ الفرنسيّ

كانت كلّ الأسباب اللوجستيّة مؤمّنةً لموقع ريّاق كي يؤدي دورًا مهمًّا في نشوء طريق مواصلات قبل الآلة البخاريّة وبعدها، هو «طريق الحرير». ظهر خطّ العربية التي تجرّها الخيول، والتي اشتهرت في الغرب والولايات المتحدة الاميركيّة خلال القرنين الثامن والتاسع عشر باسم Diligence. تُدرس الحمولةُ وقوّةُ الاحتمال عند الخيل، وتُبنى محطّات استراحة على الطرقات حيث يتمّ استبدال الخيول وتوفير راحة وجيزة للمسافرين قبل الانطلاق مجدّدًا. قلّصت هذه الطريقة المسيرَ بين بيروت ودمشق إلى يومٍ ونصف اليوم. وبُنيتْ محطّاتٌ في بْحمدون وعلى طريق ضهر البيدر وفي شتورة (مبنى بنك «سوسييتيه جنرال» حاليًّا) وريّاق ودمشق. وكان صاحب امتياز شركة الطريق هو الضابط السابق في الجيش الفرنسي الكونت إدمون دو پيرتوي Comte Edmond de Perthius، وهو بمثابة الراعي الأوّل للنقل المشترك في لبنان، ولا يزال ورثتُه حتّى اليوم يتقاضون عائداتٍ من مرفأ بيروت.

أما قصة قطار ريّاق فقد أخذت بُعدًا سياسيًّا واقتصاديًّا بامتياز. كانت السلطنة العثمانية بحاجةٍ ماسّة إلى وسيلة نقل تربطها بالولايات العربيّة التابعة لها ولتحسين وسائل النقل وتطويرها. كان همّ الاستعمار الفرنسيّ بسطَ سيطرته على المنطقة عبر شركاته للنقل وربط مرفأ بيروت بمدينة دمشق في الداخل السوريّ. ونشب صراعٌ بين الفرنسيين والإنكليز بهذا الخصوص، إذ بذل الإنكليزُ المحاولة تلو الأخرى لربط دمشق بحيفا. ونجح الفرنسيون في مسعاهم، فأصبحت دمشق الأقرب إلى البحر المتوسط عبر مرفأ بيروت. ومن الأسباب الأخرى التي أسهمتْ بربط دمشق بمرفأ بيروت الدور المميّز لعائلة المطران في بعلبك بشخص يوسف بك المطران، والده حبيب بك المطران، الذي امتدّت إقطاعيّته من مدينة بعلبك حتى ريّاق وصولاً إلى بلدة المزيريب في حوران. وكان همُّ المطران إيصالَ محاصيل إقطاعيّته من القمح إلى دمشق، ولهذه الغاية أنشأ سكةَ حديدٍ بين المزيريب ودمشق عام ١٨٨٥. وبعد ذلك نجح مع عددٍ من العائلات البيروتية، ومنهم حسن بيهم، والكونت إدمون دو پيرتوي، باستقدام الشركة الفرنسيّة البلجيكية المسمّاة «هيئة سكك الحديدية العثمانية الاقتصاديّة بيروت دمشق – حوران». بدأ تنفيذ هذا الخط عام ١٨٩١ وافتُتح عام ١٨٩٥. وفي العام نفسه، تمّ تدشين محطة ريّاق في البقاع، وأنشئ مصنعٌ لقطع الغيار سُمّي «مشغل ريّاق» ATELIER DE RAYAK ويلفظ بالعامّيّة «الأوتوليان».

دُعي هذا الخط بالخطّ الضيّق. بُنيت المحطة من الحجر الأسود، الذي استُقدم من منطقة خَبَب بحوران، لأنه متوافرٌ بسهولة وموجود على سطح الأرض. أما الدور الألمانيُّ فاكتفى ببسْط سيطرته واكتشافاته للآثار وأهمّها بعلبك. ومن هنا الصورة الشائعة للملك غليوم الثاني ينتظر القطار عام ١٨٩٥ في محطة المعلّقة، قرب زحلة، للانتقال إلى قلعة بعلبك. كان ذلك لمجرّد الصدفة وليس احتفالاً بافتتاح الخط. وسبق أن رُبطت بيروت بدمشقَ بخطّ التلغراف عام ١٨٦٣. وتأثّر ميناء طرابلس اقتصاديًّا بافتتاح الخط الجديد، وتراجعتْ وارداتُه، ما دفَعَ العائلاتِ الطرابلسية وأهل الميناء إلى التعاون مع الدولة العثمانية، لتمويل وإنشاء خط سكة حديد وَصَلَ الميناءَ بحلب عام ١٩١١، وقد دُعي هذا الخطّ بالخطّ العريض، وما لبث أن وصل إلى ريّاق، مرورًا بحماة، ودُعي DHP. DAMAS- HAMA- PROLONGEMENT «خطّ سكة الحديد دمشق-حماة وامتداداتها»، ومدّ خط بين بغداد وحلب واسطنبول عام ١٩١٢.

ريّاق تدخل الحداثة

في محطة ريّاق، كانت البضاعة تُفرغ وتحمل ذهابًا وإيابًا من الخط العريض إلى الخط الضيّق. وأدّت المحطة إلى انتعاش اقتصاديّ لبلدة ريّاق حوش حالا، وأمْسَت من أهمّ البلدات في البقاع بعد زحلة، وازدهر سوقُها وظهرت معالمُ المدنيّةِ والعمرانِ فيها. وأسهم هذا السوق في ظهور الفنادق في عهدَي السلطنة العثمانيّة والانتداب الفرنسي، منها «فندق المحطة» أو «فندق الخوّام» في العام ١٩١١ الذي استقبل كبار المسؤولين من أمثال الملك فيصل الأول وجمال باشا والجنرال شارل ديغول ولورنس العرب. كما أسهم السوق بنشوء دُور للسينما، منها «سينما روكسي» التي شُيّدت عام ١٩٢٤، وهي بناءٌ من الخشب البغداديّ لصاحبها «كوكو» من الجالية الأرمنيّة. وكانت «الست ماتيلدا» أوّل موظّفة على شبّاك التذاكر في لبنان، وهي يهوديّة من ريّاق.

رُصِفت طرقات البلدة الرئيسة بالحجارة، ودخلت المياهُ إلى المنازل بواسطة الجاذبيّة من يحفوفا. وبالترافق مع نشوء خط سكّة الحديد، ظهر سوق إضافيّ لتجّار الجملة بالقرب من المحطة دُعي بالـSUBSTANCE، لتبادل البضاعات المستوردة والمحلية، خصوصًا المواشي من تركيا وسورية، ودُعي محليًّا «سوق الجمعة». كان الأهالي ينتظرون هذه الحمولةَ بفارغ الصبر، حيث يتبارون بحَلْب الغنم والبقر وتوزيع حليبها من دون مقابل، وهذا يُريح القطعان التي ستواصل انتقالها إلى جهاتها المحدّدة لاحقًا وصولاً إلى فلسطين. أما قطعان الجِمال فتأتي السّوقَ من جهات حمص، وقد شوهد آخر قطيع منها في العام ١٩٦٠. كذلك ظهرت الملاهي و«لعبة البليار» والبارات وبيوت الدعارة. كان هناك معملان لحلّ الشرانق [كارخانة]. وظهرت «البوظة» على يد خليل الكرّ، الملقّب بالزبداني، يؤتى لها بالثلج طوال أشهُرَ الصيف بالقطار من ضَهر البيدر، وظهرت وجبة الفلافل على يد إبراهيم باني، الملقّب بالحموي. وأخيرًا وُصلت ريّاق بالتيار الكهربائيّ لمدة ٢٤/٢٤ بالترافق مع مدينة زحلة.

أما مصنع قطع الغيار، أي «الأوتوليان» كما كان يُسمّى محليًّا، فقد أدى منذ الأربعينيّات دورًا رائدًا في حياة البلدة. وكان يضمّ أكثر من عشرة أقسام، من صَهر المعادن إلى تصليح الساعات البخارية. فوفد إليه العمّال من المناطق اللبنانية كلّها، ومن الداخل السوريّ، ما زاد على عائلات البلدة شهرة الشامي والحلبي والزبداني والحموي والسرغاني، وجعل منهم باقة ورد محزومة بنقابةٍ عمّالية قلّ نظيرها.

وفي العام ١٩٤٦، نشأت «نقابة موظّفي وعمّال السكة الحديدية» التي سوف تؤدي دورًا مميّزًا في التحركات والإضرابات العمّاليّة والشعبيّة في الستينيّات والسبعينيّات على وجه الخصوص. وقد تعدّى نشاطُ النقابة لبنان إلى المجال العربيّ، حيث انتسبت النقابة إلى «الاتحاد الدولي لعمّال النقل العرب»، وحضرت المؤتمر التأسيسيَّ في القاهرة خلال العام نفسه. وأسهمت النقابة في تنمية وعي اجتماعيٍّ جديد وروح التعاون والتضامن داخل البلدة. وعرف من النقابيّين السادة: جورج هليط، خيرالله خيرالله، شكري الدهان، أنيس سغبيني، كرم شمعون، جوزف هليط، محسن مهدي، أسعد صليبي، علي طالب، خليل أبو دية، جورج باروكي، زكي فقيه وحسين مبارك.

ويمكن القول إنّ طبيعة أهالي قضاء زحلة، الذين شكّلوا أكثرية هذا التجمّع العمّالي، تتقبّل الآخر ببساطةٍ وطيبة. لقد توارث الناسُ عاداتِهم وتقاليدَهم الجميلة، وملجؤهم المهمّ والتاريخيّ مدينة زحلة التي حكمتْ نفسها بنفسها بين عامَي ١٨٥٨ و١٨٥٩، وكانت أوّل جمهورية ديمقراطيّة في الشرق، ولها علَمُها الخاصّ ونشيدُها الخاصّ. وأهمّ ما يمكن قولَه، إذا كان ثمّة عيشٌ مشتركٌ في قضاء زحلة، فهو عائدٌ إلى تلك المرحلة التاريخيّة الذهبيّة.

وفي ريّاق، تمّ نقل تشغيل القطار من الفحم الحجري إلى المازوت بهمّة العامل الفنّيّ شحادة معكرون (أبو محمد). منذ العام 1895، كان يتمّ استيرادُ الفحم الحجريّ من روسيا. ولكن حين توقّف استيرادُه من هناك لأسباب سياسيّة، بسبب الحرب العالميّة الأولى عام ١٩١٤، قطعت السلطاتُ التركيّة الأشجار الحرجيّة، وجُرّدت الجبال في سلسلة جبال لبنان الشرقية من أشجارها، وقُطعت أشجار التوت التي كان يتمّ الاعتماد عليها في تربية دود القز في ريّاق التي كانت تابعة لإقطاعية آل المطران، وحوش حالا التابعة لإقطاعية أبي اللمع بوكيلها من آل القنطار. وقد شكّل هذا كارثةً بيئيّة لا تعوَّض على البلدة ومحيطها، وعلى الثروة الحرجيّة في جبال السلسلة الشرقية للبقاع. ويجدر القول إنّ زراعة التوت دخلتْ إلى البلاد السوريّة في العصر الرابع الميلادي، حتى أنّ ولاية بيروت كانت تحتوي على ٩١٧ ألف شجرة توت تشْغل ٤٥٠٠ هكتارٍ من الأرض. واستُبدلت زراعة التوت في البلدة بزراعة الكرمة والحبوب، أما جبال السلسلة الشرقية فما زالتْ جرداءَ حتى اليوم. وليست هذه الذهنيّة غريبةً في تدمير مقوّمات الطبيعة، ويجب ألّا ننسى تعدّيات الظلّام قبل الحرب العالميّة الأولى ومتعهّدي الحَطب لإدارة الخطوط الحديدية، الذين كانوا يقطعون الأشجارَ اليابسةَ والطريّة المُثمِرة وغير المثمرة. وقد حاولتْ بلدة مشغرة إنتاج الفحم الحجريّ فلم توفَّق لأنه كان عالي الرطوبة، فكانوا يضطرّون إلى تنشيفه واستعماله مجدّدًا.

أما قسم الطبابة في البلدة فساهم بوفود أول طبيبٍ إليها تعاقدتْ معه إدارةُ السكة الحديد الفرنسيّة ابتداءً من عام ١٩٢٦، يطبّب العاملين وعائلاتِهم لقاء راتبٍ شهريٍّ، وهو الدكتور جان نيكوليان اللّبناني الأرمنيّ. ومن ضمن مهمّته التنقّلُ بين القرى المحيطة ممتطيًا فرَسَه لمعالجة المرضى. وأُنشئتْ أيضًا صيدليّة خاصة تابعة لمصلحة سكة الحديد توزّع الأدوية مجانًا.

خلال عهد الانتداب، قامت السلطات الفرنسية بتوزيع الفحم الحجري على عمّال سكة الحديد كمنَحٍ شهريّة، ومن أراد زيادةً نالها بأسعارٍ زهيدة، فتحوّلت التدفئة في البلدة من مواقد الحطب إلى «صوبيات» الفحم الحجري. وقد أثّر هذا التحوّل اجتماعيًّا، فخفّت نسبة الوفيّات بين الأطفال الرُضَّع الذين كانوا يتجمّدون من شدة البرد في ريّاق. وظهر المثل القائل: «ريّاق بالصيف حريق وبالشتا غريق». وفي هذا العهد نشطت المؤسّسات التربويّة الخاصّة: «مدارس الأنطونيّة» و«مار روكز» و«العائلة المقدّسة» و«القدّيسة حنّة» التابعة لـ«الآباء البيض» في القدس بفلسطين ومدرسة «الياس يوسف معكرون» وغيرها. وقامت السلطات الفرنسيّة قبل رحيلها بتمليك الأرض والمباني لكلّ من إرساليّتَي «العائلة المقدّسة» و«الآباء البيض». وفي الستينيّات، نشأت «مدرسة المعهد» و«مدرسة المقاصد»، ولم يدخل التعليمُ الرسميّ البلدةَ إلا في السبعينيّات. وتحتضن ريّاق اليوم عشراتِ المؤسّسات التربويّة والمهنيّة، وأصبحت مركزًا تعليميًّا مهمًّا خارج مدينة زحلة. من هنا نستطيع القول إنّ نسبة المثقّفين فيها هي الأعلى بين بلدات البقاع. كما نشطت الحركة الثقافيّة والرياضيّة، ونشأ فيها أوّل فريقٍ لبنانيٍّ فرنسيٍّ لكرة القدم في لبنان ودُعي بفريق «النادي الرياضي البقاعي» عام ١٩٢٨. وكان يتبارى مع الفرق الرياضيّة في دمشق وبيروت وحمص، وكانت رحلاته مجّانًا في القطار، وهو امتدادٌ لـ«نادي شباب ريّاق» حاليًّا. ومن الشخصيّات التي زارت النادي وملعب القديسة حنّة: فيصل، ملك العراق، والجنرال ديغول، ولاحقًا حسين، ملك الأردن. وظهرتْ دُور السينما الحديثة، ومنها: «سينما روكسي» و«سينما أنستي» اليوناني و«سينما سلوفي» للسيّد فؤاد خيرالله و«سينما دنيا» (سابا وأرصوني)، و«سينما ريفولي شبابي» و«سينما بيبلوس معكرون».

أمّا وسائل النقل داخل ريّاق فكانت الخيل وعرباتها والطنابر، ثم السيّارات وأوّلها نوع «ستروين» موديل ١٩١٨، والدرّاجات الهوائيّة. وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر كل يوم، عندما تعلن صفارة «الأوتوليان» التوقّف عن العمل، كان أجمل منظرٍ يستهوي أهالي البلدة خروج جموع الشغّيلة بالمئات راكبين الدرّاجات الهوائيّة إلى المنازل باللباس الموحّد الكحْليّ والطواقي الفرنسيّة. أما حي «السعيدة»، وكان معروفًا بـRue de Bonjour، الملاصق لـ«الأوتوليان»، فلم يسكنْه أهالي البلدة إلا بعد خروج الجيش الفرنسيّ من لبنان، خوفًا من تعدّيات «الفرقة الأجنبيّة» من مغاربة وجزائريّين وسنغاليّين على النساء. وعند اقتراب القطار من المحطّة يبدأ بتفريغ الماء الساخن، استعدادًا لإيقافه في مرأبه، حيث كان السائق يُنذر أهالي الحيّ بالصفير ثلاث مرّات متتالية، فتهرع النسوة، حاملاتٍ الأوعية لتعبئتها بالماء الساخن، وأخذها إلى البيوت للاستحمام والغسيل والجلي، وسط جوٍّ عامرٍ من الفرح.

بعد إعلان «لبنان الكبير» عام ١٩٢٠، طوّرت السلطات الفرنسيّةُ خطوطَ سكك الحديد. أنشأت الترومواي الكهربائيّ في بيروت وربطتْ محطّتَي بيروت بطرابلس عام ١٩٤١ لضروراتٍ عسكريّة، لأنّ خط سكة الحديد لم يكن موصولاً بين المدينتين. وفي عهد الرئيس فؤاد شهاب (١٩٥٨–١٩٦٦) أنشئتْ «مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك لبيروت وتوابعها» وأوكل إليها خطٌّ عريض، هو خط الناقورة طرابلس الحدود السوريّة، وخطٌّ جبليٌّ ضيّقٌ هو خط بيروت رياق الحدود السورية، وخطٌّ عريضٌ آخر هو خط رياق القْصير الحدود السورية.

اعتُبرت ريّاق في الخمسينيّات والستينيّات هِبة سكّة الحديد كما اعتُبرت مصر هبة النيل. لم يدُمْ هذا النعيمُ طويلاً. اشتعلت الحرب الأهليّة عام ١٩٧٥ وكان أولى ضحاياها القطار «تران رياق». وهنا الطامّة الكبرى. انهار لبنانُ وانهار كل شيء، وتوقّف قلب رياق. انهار السوق وبدأ التصحّر ولا يزال. كانت آخر رحلةٍ لقطار ريّاق إلى بيروت عام ١٩٧٥، وإلى يحفوفا عام ١٩٧٦، وبين بيروت وشكّا عام ١٩٩٤. وبدأ الغزو المحلّيّ والشقيق، سُرقت المعامل والمخارط، واقتُلعت خطوطُ الحديد وسُرقت، ووقعت التعدّيات على أملاك سكّة الحديد ولا تزال.

والمهزلة الكبرى أنّه عندما قرّر المسؤولون بيعَ ما تبقّى من آليّاتٍ وحاويات إلى دول المنشأ، بلجيكا وألمانيا وفرنسا، «باعوها بالكيلو». وتبيّن لاحقًا أنّها ستباع كموادَّ أثريّة إلى تلك الدول لتضعها في متاحفها أو لإعادة تشغيلها في مناطق سياحيّة تتناسب مع طبيعتها التاريخيّة. وبين الأعوام ١٩٩٥ و٢٠١٣، نشأت عدّة جمعيّاتٍ لمقاومة هذا المخطّط التصحّريّ وإنقاذ ما تبقّى من آثار قطار ريّاق وإفشال المخطّطات المشبوهة. وأهمّ هذه الجمعيّات جمعيّة «تران تران» التي أطلقها شباب بلدة ريّاق من أجل حثّ الدولة على إعادة تسيير القطار، وقد انتشرت الجمعيّةُ في لبنان وانتسب إليها الآلاف. كما نظّمتْ معارضُ صوَر فوتوغرافيّة في أبنية المحطّات الأثريّة، وتمّ التواصل مع الدول المهتمّة بالمساعدة لتحويل تلك المحطات إلى مواقعَ أثريّة. وتمّ البحث في إعادة تشغيل القطار بين ريّاق ويحفوفا لأغراضٍ سياحيّة واقتصاديّة. وقد تعهّدت الدولتان السورية واللبنانية بإعادة تأهيل هذا الخط، ورُصدت له الأموال وصُرفت، ولكن حتّى اليوم لم ينجَز هذا الخطّ، إنّما تمّ الاكتفاء بوضع الحجر الأساس في محطة ريّاق بهمّة رئيس مجلس التعاون الاقتصادي المشترك نصري الخوري وعلى أنغام النشيدين السوري واللبناني.

المراجع

  • – محمد رفيق بك ومحمد بهجت بك، «ولاية بيروت»، ١٨٨٧.
  • – إسماعيل حقي بك، «لبنان مباحث علمية واجتماعية»، ١٨٩٨.
  • – يوسف سمعان المَر، «العرق بداية الشغف»، ٢٠١٩.
  • – أرشيف نادي الشباب، رياق.
  • – أرشيف جمعية «تران تران»، رياق.
  • – مقابلات: د. خير المُر، د. ملحم شاوول، د. علي شكري،
    د. حبيب خليل رياشي، الياس بطرس المعلوف، ديب حسين عقيل، ناصيف يوسف غريافي، نقولا يوسف معكرون، أسعد النمرود، ميشال الشامي، خليل إبراهيم دموس، موسى ندره جدعون الشامي، محمد أسعد المذبوح، سمعان يوسف المر، إميل جورج أبو زيد، ايزابيل هلّيط، إيلي جورج عقيص.
العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠
من «الأوتوليان» إلى متاحف أوروبا

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.