العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

دَور بيروت في الاقتصاد السياسي للانتداب الفرنسي: ١٩١٩–١٩٣٩

الهدفُ الأساسيُّ لهذه الورقة1 هو دراسة نموّ بيروتَ كمركزٍ تجاريٍّ وثقافيّ إقليميّ خلال حقبة الانتداب الفرنسيّ والبحثُ في بعض المفاهيم المتضاربة حول الآفاق الاقتصاديّة للمدينة في ظلّ التحوّلات الدراماتيكيّة في خريطة المشرق التي أحدَثَها التقسيمُ الفرنسيّ–البريطانيّ للأقاليم العربيّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة. تتضمّن الورقةُ ستّة أقسامٍ: أوّلًا، استعراضٌ ملخَّص للصعود المكّوكيّ لبيروتَ على مشهد موانئ شرق البحر الأبيض المتوسّط بين عامَي 1840 و1914. ثانيًا، وقفة مع عام 1919 لأهميّته الانتقاليّة، حيث قام محبّو فرنسا في لبنانَ بتحليل الآفاق الاقتصاديّة المستقبليّة للبنان الكبير. ثالثًا، مساهمة الانتداب الفرنسيّ في تحديث بيروتَ من خلال برامج تخطيطٍ عمرانيٍّ واستثماراتٍ في البُنى التحتيّة مصمَّمة لتحفيز القطاع الخدماتيّ وإظهار المدينة على أنّها النموذجُ الرائع للانتداب. رابعًا، التحدّي الذي شكّله بروزُ حيفا. خامسًا، المخاوف السياسيّة والاقتصاديّة لأهل الساحل، الذين كانوا يمثّلون المعارضة للانتداب وموقفهم من أهل الجبل، حلفاء فرنسا القدامى. وفي الختام، بعض الملاحظات حول أداء الانتداب وإرثه.

تشمل المراجعُ الرئيسيّة التي تم اعتمادُها النشراتِ الإحصائيّة للمفوضيّة السامية الفرنسيّة، سلسلةَ الدليل السوريّ لجدعون، الصحافة البيروتيّة، نشرات جمعيّتين للمصالح الفرنسيّة هما «اتحاد سورية الاقتصادي» و«جمعيّة التجّار والصناعيّين الفرنسيّين في المشرق»، نشراتِ بنك سورية ولبنان الكبير، وعددًا من المنشورات الصادرة عن مصالح اقتصاديّة لبنانيّة. كما أجريتْ بعض المقابلات (غير المكتملة حتى تاريخه) مع رجال أعمالٍ على معرفةٍ بفترة الانتداب.

صعود بيروت: 1840–1914

حتى العام 1825، لم يكن هناك ما يشير إلى أنّ بيروتَ سوف تصبح مدينةَ لبنان الأولى، إذ كانتْ مدينتا صيدا وطرابلس، على الأرجح، أهمّ منها لناحية عدد السكان وحجم الإعمار والإنتاج الحرَفيّ والتجارة. لكنْ خلال فترة جيلٍ واحد فقط، تخطّتْ بيروتُ غريمتَيها لتصبح الميناء الأوّلَ في الحوض الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط. ثم أصبحت المدينة في العام 1888 العاصمةَ الإداريّةَ لولاية عثمانيّةٍ جديدة تحمل اسمها وضمّتْ، إلى جانب مناطق الساحل اللبنانيّ، النصفَ الشماليَّ من فلسطين بما فيه مرفآ عكا وحيفا، و جزءًا هامًّا من الساحل والسهل السوري ومن ضمنه مرفأ اللاذقية. وأخيرًا، أصبحت بيروت عاصمة الجمهوريّة اللبنانيّة خلال العقد الأوّل من الانتداب الفرنسيّ.

لا تتّسع هذه الورقةُ لتغطية النموّ اللافت للمدينة بالشكل المناسب. لكن باختصار، ساهمتْ حملات إبراهيم باشا العسكريّة في سورية الجغرافيّة وتدخّلات قوى أوروبيّة متعدّدة للحدِّ من هذا التوسّع المصريّ في أواخر ثلاثينيّات القرن التاسع عشر بإنعاش الاقتصاد، وجذبتْ تدفّقات الأموال والبضائع والمستهلكين، إذ لعبت بيروتُ أدوارَ المعزل الصحّيّ والقاعدة العسكريّة والملجأ خلال عقد الاحتلال المصريّ. بعد هزيمة إبراهيم باشا وعودته إلى مصرَ في عام 1841، استغلّتْ طبقةُ التجّار وروّاد الأعمال المتنامية الأحداثَ والعواملَ المؤاتية لها بشكل كامل. من بين تلك الأحداث والعوامل، الثورةُ الصناعيّة وبروز القطنيات واردِ مانشستر، وتوسّع الملاحة البحريّة عبر البواخر، وازدياد الأمن على امتداد الساحل، وانتعاش صناعة الحرير جرّاء دخول تقنيّات فرنسيّةٍ حديثة ومستثمرين إليها، والتنافس الحادّ بين الإرساليّات الإنجيليّـة الأنكلوفونيّـة والإرساليّات الكاثوليكيّـة الفرنكوفونيّة.2

تركّز معظمُ الروايات عن بروز بيروتَ في القرن التاسع عشر على مُدخلاتٍ خارجيّة — غالبًا غربيّة — بينما تهمل أهمّيّةَ الثكنات العسكريّة وإنفاقها كمحفّزات نموّ. ونودّ أن نلفت الانتباهَ إلى أنّها عاملٌ متكرّر في ازدهار المدينة، وفي اضطراباتها أيضًا، في كلّ من القرنين التاسع عشر والعشرين. وقدّمت ليلى طرزي فوّاز أحبرًا تحليلًا أكثرَ دقّةً حول ارتقاء بيروت من خلال إظهار العلاقة بين الهجرة والتمدّن، وإعطاء اهتمامٍ متساوٍ إلى المحدّدات المحليّة والإقليميّة.3

في خمسينيّات القرن التاسع عشر، افتُتح فرعٌ للبنك العثماني في بيروت، وفي العام 1858 أنجزتْ طريقُ العربيّات بين بيروتَ ودمشقَ من قبَل شركةٍ فرنسيّة، وقد دشّنت الطريقُ المواصلاتِ السريعةَ مع الداخل. في العام نفسه، صدرتْ «حديقة الأخبار»، أوّل جريدةٍ في المدينة، وتلتْها خلال 20 عامًا دزّينةٌ من الصحف بالإضافة إلى عددٍ مماثلٍ من المجلّات التي شكّلتْ أعمدة النهضة الثقافيّة. وبذلك أصبحت المدينةُ المركزَ الفكريَّ والمعلوماتيَّ للبلاد ومرفأَ الداخل والمستودعَ الرئيس للبضائع والتيّارات السياسيّة.

شهدتْ بيروتُ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تغريبًا في نمط الحياة والعادات لدى طبقاتها الميسورة، وهي عمليّةُ تَحوّلٍ اجتماعيٍّ درستْها ندى صحناوي أخيرًا في أطروحتها «تغريب الحياة اليوميّة في بيروت 1860–1914».4 انتقل وجهاءُ التجّار المسيحيّون والمسلمون من أبناء عائلات سرسق وبسترس وطراد وبيهم والداعوق تدريجيًّا إلى الضواحي الناشئة حديثًا وسكنوا في «قصورٍ كبيرةٍ إيطاليّةِ الهوى مفروشةٍ ومزخرفةٍ بمعظمها على الطراز الأوروبيّ»، حسبما وصفها كمال صليبي.5 وقد شكّل ذلك الدافعَ الرئيسيَّ لإنشاء بيئة وحساسيةٍ لبيروتَ تتّسمان بغرائبيّةٍ مميّزة.6

في ذلك الوقت عاشت المدينةُ أيضًا توسّعًا بارزًا في الأعمال المصرفيّة والقروض والخدمات الملحقة بها في خدمة تحويلات المهاجرين وصناعة الحرير والاستيراد وتجارة الترانزيت الصاعدة والمضاربات في الأسهم والبورصة العالميّة والاستثمارات في العقارات وفي الأراضي الزراعيّة. كما حصل تدافُعٌ للحصول على الامتيازات في سكك الحديد والترامواي ومحطّات المياه وبناء الموانئ والمواصلات بين روّاد أعمالٍ محليّين وخارجيّين، وذلك بقيادة مستثمرين فرنسيّين.

في الملخّص، كانتْ بيروتُ عشيّةَ الحرب العالميّة الأولى بمينائها المبنيِّ حديثًا، وسكك الحديد التي تخدم الداخلَ السوريَّ وسوقِها المتوسِّع باستمرار، وشبكةِ العلاقات الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة المتطوّرة مع أوروبا وأميركا، عاصمةً فخورةً لولايةٍ مزدهرة تدير شؤون منافِساتها البحريّة الفلسطينيّة واللبنانية والسوريّة: حيفا وعكّا وصور وصيدا وطرابلس واللاذقيّة. وكان النفوذ الفرنسيُّ الاقتصاديّ أساسيًّا في ذلك، خصوصًا من حيث استثماراتُ البُنى التحتيّة والروابط بين مدينة ليون ومنتِجي الحرير المحليّين، كما في التعليم واللغة والرعاية السياسيّة. كانت بيروتُ في حينها بالنسبة إلى جزءٍ مؤثٍّر من نخبة تجّارها المغرّبين والطبقات الوسطى المهنيّة عثمانيّةً فقط من حيثُ إنّ مصرفَها عثمانيّ.

1919: مرحلةٌ انتقاليّة

في عام 1919 المفصليّ، حين تقرّرَ مصيرُ الأقاليم العربيّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة في فرساي وتم الانتقال من الحكم العثمانيِّ إلى الحكم الفرنسيّ في لبنانَ وسورية، كتب بعضُ المثقّفين اللبنانيّين المسيحيّين حول آفاقهم المستقبليّة من وجهة نظر الاقتصاد السياسيّ. حاجَجَ اللبنانيّون المحبّون لفرنسا، ومنهم بولس نجيم وألبير نقّاش وشارل قرم (محرّر «لا ريفو فينيسيين» La Revue Phénicienne) وميشال شيحا وإميل عرب وجاك وإبراهيم ثابت وجان دو فريج وفؤاد الخوري، بأنّ مستقبلهم الاقتصاديَّ يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على إنشاء لبنانَ موسّعٍ ضمن حدوده الطبيعيّة — «لبنان الكبير» (وهو مصطلحٌ أدخلوه هم عامَ 1919 على الأرجح)، وعلى ما يمكن وصْفُه باقتصادٍ خدماتيٍّ أهمُّ خصائصه التجارةُ والترانزيت والأعمالُ المصرفيّة والسياحة. استُحضر المثالُ السويسريُّ ويبدو أنّه كان مصدرَ إلهام.7

لاحَظَ ألبير نقّاش أنّه «لم تُعطَ المسألةُ الاقتصاديّةُ بالغةُ الأهميّة الاهتمامَ المطلوبَ، رغمَ أنّها يجب أن تشكّل أساسَ المطالب اللبنانيّة»، وأضاف: «مستقبل لبنانَ الاقتصاديّ مرتبطٌ بطريقةٍ لصيقةٍ بالاقتصاد السياسيّ المرسوم لـه».8 كان «التوازنُ الاقتصاديُّ» [ميزان المدفوعات] لمتصرّفيّة جبل لبنان يتمثّل في الأيّام العاديّة بهذه الصورة حسب نقّاش:

الدخل ملايين القروش النفقات ملايين القروش
تحويلات الذهب من المهاجرين 100 استيراد القمح 40
إنتاج الحرير 50 حبوب أخرى 40
إنتاج المنسوجات 20 استيراد المواشي 10
الدخل السياحي 20 موادّ بناء 10
الصناعة الزراعيّة 20 مأكولات 10
المنتوجات الزراعيّة 20 جلود 5
    خيوط نسيج 5
    ملبوسات 70
    نفقات أخرى 10
المجموع 230   200

إذًا، كان «التوازنُ الاقتصاديّ» يعتمد على ثلاثة عواملَ رئيسيّة، جميعُها خارجيّة: أوّلًا، تحويلات الذهب من الأميركيّتين من دون عوائق. ثانيًا، حرّيّة استيراد بيض دود القَزّ من فرنسا وإيطاليا وتصدير الحرير بكلّ أشكاله في المقابل. ثالثًا، استيراد القمح والحبوب الأخرى من الداخل السوريّ من دون قيود.9 وتشكّلُ أيُّ ضربةٍ خطيرةٍ لأيٍّ من هذه العوامل مقتلًا لاقتصاد «لبنان الصغير»، أي لمتصرفيّة جبل لبنان، وتؤدّي إلى مجاعةٍ كما حصَلَ في الحرب العالميّة الأولى. بينما يمكن لـ«لبنان الكبير» الممتدّ إلى حدوده الطبيعيّة أنْ يشكّلَ كيانًا اقتصاديًّا ووطنيًّا قابلًا للحياة. كما كانت البلاد تتوجّه نحو الصناعات الخفيفة رغم العراقيل العثمانيّة. وكانت الطاقةُ المائيّة متاحةً وبإمكان «لبنان الكبير» محاكاةُ سويسرا وإقليم بييدمونت [الإيطالي].10 في الشهر نفسَه والمجلّةِ نفسها، ساهم أمين مُشحْوَر بدراسةٍ تحت عنوان «مواردنا الزراعيّة والصناعيّة والتجاريّة والمعدنيّة» أشار فيها إلى أنّه «منذ بعض الوقت وبلدُنا يجذب انتباه الغرب».11 قدّر مشحورُ أنّ 90٪ من تجّار بيروتَ هم مستوردون: «إنّهم سماسرة، وممثّلو مصانع، ووكلاءُ شحن وتجّار جملة، يعملون على حسابهم الخاصّ أو يشحنون بضائعَ بالأمانة»12، في حين كان المصدّرون يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة. لكنْ ظلّت بيروتُ مركزَ الاستيراد الأساسيِّ لسورية وكانتْ تخدم المدنَ والمناطقَ بالنسَب الآتية: حلب وريفها 20 في المائة، فلسطين 15 في المائة، دمشق وحمص وحماة 35 في المائة، بيروت وجبل لبنان 30 في المائة.

شَعَر مشحور بأنّه لم يكن يوجد خطر المنافسة من أيٍّ من موانئ مدُن حوض شرق البحر المتوسّط، باستثناء مرفأ مدينة حيفا:

«إنّنا نتساءل ما إذا كان بعدَ تحقيق السلام ورسْم حدود سورية، سوف يحافظ مرفأُ بيروتَ على غلَبَته الداخليّة، أم أنّه، تحت وطأة منافسةِ حيفا، لن يكون المرفأَ الكبير لسورية، وإنّما مرفأ لبنانَ والبقاع وحدهما. يمكن للمستقبل أن يخبّئَ لنا مفاجآتٍ كريهة».13

كما ظهر النموذجُ السويسريُّ بوضوحٍ في مقال لفؤاد الخوري عن «القطاع الفندقيّ في لبنان». إذ أكّد أنّ الطبيعةَ والمناخَ هما الثروتان الحقيقيّتان للبلد، وأنّ مستقبل لبنانَ يعتمد على تطوير مصايف ومرافق ترانزيت لسكّان مدن سورية وفلسطين والأناضول ومصر وحتى أوروبا. لم يُنكر الخوري إمكانيّةَ إنجاز تقدّمٍ في الأعمال التجاريّة والصناعيّة والزراعيّة، لكنّه كان يظنّ أنّ العمليّة سوف تكون طويلةً وموْجعة وتتطلّب استثماراتٍ رأسماليّةً ضخمةً من أوروبا وأميركا كان يشكّك بأنّها ستصل.14 كان طرحُه محاكاةَ السويسريّين وأن يصبح لبنان «سويسرا الشرق»:

«إنّ الشعب السويسريَّ قد وَجَدَ إذًا في جباله ذاتِها مصدرَ أرباحٍ وفيرة، حيثُ المالُ الذي تنفقُه كلَّ سنةٍ جيوشُ الأجانب التي تزور سويسرا كل سنة وتمضي فيها بعضَ الوقت، أسهَمَ كثيرًا في رفْع قيمة ارضهم على الرغم من فقرها.

لنأملْ أنْ يتحقّقَ هذا الحلمُ في بلادنا قريبًا. فإنْ كنّا لسنا نملك رأس مال نقديًّا، فلدينا رأسُ مالٍ جماليٌّ ورأس مال مناخيٌّ فريدان في العالم. فلنجهدْ لإبرازهما وتثميرهما، فسوف نرى أنّ لبنانَ قد تحوّل قريبًا إلى سويسرا الشرق».15

وقد توسّعَ جاك ثابت في هذا الموضوع وعالجه بطريقةٍ أشملَ في كتابه «لجعل لبنان سويسرا الشرق».16 كما وصل ألبير نقاش إلى استنتاجاتٍ مشابهةٍ حول أهمّيّة السياحة والاصطياف في مقاله «قطاع السياحة في لبنان»، حيث أشار إلى المَعالم السياحيّة في مناطقَ عدّة. كان تجّار بيروت يفضّلون عاليه لقربها النسبي وسرعة المواصلات إلى المدينة، في حين كانتْ صوفرُ بفيلّاتها الأنيقة والفندق–الكازينو الكبير تجذب نوعًا آخرَ من الزبائن: العائلات المصريّة واللبنانيّة الثريّة، كبار ملّاك الأراضي السوريّين، والأثرياء المبتدئين الجالسين على طاولات الميسر: «يبدو أنّ غياب الغابات والمساحات الخضراء جرى التعويض عنه إيجابيًّا بواسطة السجادة الخضراء حيث ملكة الكُبّة أو فارس السباتي يستلقيان بحب».17 كانت المهمّة العاجلةُ بالنسبة لنقاش استكمال شبكة الطرقات في جبل لبنان، وخلق إحساسٍ بالنظام والمنفعة العامّة في البلديّات الريفيّة، وإنشاء خطة شاملة لتطوير السياحة والمصايف في البلد.18

أمّا بالنسبة لمستقبل بيروت، فقد دعا إبراهيم ثابت السلطاتِ الفرنسيّة، في مقال بعنوان «مستقبل بيروت»، إلى توسيع مرفئها وتحسين شبكة سكك الحديد فيها مع «المحافظة على المدينة كمحطّةٍ مركزيّة لكافّة الخطوط الداخليّة»، والتخلّي عن خُطط تطوير مرفأ طرابلس. شعَرَ ثابت بأنّ هذه الخطوةَ زادتْ ضرورتُها بالنسبة إلى الفرنسيّين لكَون بيروت تشكّل مركز العمل الفرنسيّ في سورية.19

لعلّ بولس نجيم كان أوضحَ المدافعينَ عن أطروحة «لبنان الكبير» بين مجموعة المثقّفين الناطقين بالفرنسيّة ومحبّي فرنسا الكبيرة من مهنيّي الطبقات الوسطى الذين طرحوا مستقبل لبنانَ السياسيّ والاقتصاديّ على صفحات «لا ريفو فينيسيين» في عام 1919.20 أكّد نجيم في «المسألة اللبنانية: دراسة في الاقتصاد السياسي والإحصاء الوصفي»، أنّ توسيعَ لبنانَ المتصرّفية إلى حدوده الطبيعيّة يشكّل أولويّةً أهمَّ من طبيعة النظام أو نوع الحكومة التي سوف تُفرَض على البلد. حاجَجَ نجيم بأنّ فرصَ استمرار لبنان الصغير مشكوكٌ بها، مستنتجًا ذلك من بيانات ألبير نقّاش الإحصائيّة وتحليله للتوازن الاقتصاديّ في لبنان. بينما رأى أن «لبنان الطبيعي» (الذي يضمّ المدنَ الساحليّةَ وسهلَ البقاع وسلسلةَ جبال لبنان الشرقيّة وجنوب لبنان) يشكّل كيانًا اقتصاديًّا ووطنيًّا قابلًا للحياة.21 ذلك يعني طبعًا إضافةَ نحو 150 ألف سنّيّ و100 ألف شيعيّ إلى عدد سكّان متصرّفيّة جبل لبنان، ممّا يعني أنّ الموارنة سوف يشكّلون نحو ثلث مجموع السكان البالغِ 900 ألف نسمة. لكنْ بعكسِ العديد من أبناء طائفته، لم يرَ نجيم أيَّ مدعاةٍ للقلق في ذلك، إذ كان يعتقد أنّ اللبنانيّين «واعون بشكل كافٍ لإنشاء نظامٍ ديمقراطيّ» وتشكيل كلٍّ عضويِّ «موحّد حول ماضٍ مجيدٍ وعادات مشترَكة وتاريخٍ وطنيٍّ وانتماء الجميع إلى نفس العرق».22

إذا نظرنا إليها بأثرٍ رجعيٍّ، تتّسقُ النظراتُ العامّة لهؤلاء المثقفين إلى حدٍّ كبير مع المفاهيم والسياسات الاقتصاديّة للانتداب الفرنسيّ كما كانت تتطوّر في حينها. لكنْ لم تكن هذه الرؤية العامّة، التي تركّز على «لبنان الكبير» المستقلّ عن سورية برعايةٍ فرنسيّة وتوجّه نحو السياحة والاقتصاد الخدماتيّ، مطابقةً لرأي القوميّين العرب أو القوميّين السوريّين أو المسلمين الداعمين لفيصل والذين كانوا لا يقلّون تأثيرًا، ويتمثلون في مجلس بيروت البلديّ وفي الحلف السياسيّ المعروف بـ«مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة» الذي أراد الحفاظَ على الروابط الاقتصاديّة والعائليّة الوثيقة مع مدن الداخل وعلى الوحدة السياسيّة لسورية.

تحديث بيروت

في المنظور الجيواستراتيجيّ والجيو–اقتصادي، ارتأى الفرنسيّون محورَين متوازيَين لمناطق الانتداب ومحيطِها: 1) في الشمال المحور العابر لأرمينيا (اذا استعملنا مصطلحَ وأطروحة دوشاتيل الذي ينطلق من إسكندرون ويخدم حلب والموصل وجنوب تركيا (ديار بكر وإقليم المناجم في أرغانة)، وأرمينيا، وشمال بلاد فارس وتبريز وأذربيجان؛ 2) في الجنوب المحور العابر للصحراء الذي ينطلق من بيروتَ ويخدم سورية وفلسطين والعراق وجنوب فارس والجزيرة العربية.23 بالإضافة إلى هذا الدور الإقليميّ، كانتْ بيروتُ المركزَ العامَّ للانتداب الفرنسي، ولقيت اهتمامًا كبيرًا من الإدارة لكوْنها اختيرت لتكون نموذجًا للإنجازات والمهمّة الحضاريّة الفرنسيّة.

لم تهدر الإدارةُ الفرنسيّةُ الكثير من الوقت في تنفيذ برنامج متسارعٍ للإغاثة وإعادة الإعمار، حيث تأثّرتْ بشدّة بالخسائر المادّيّة والبشريّة التي تسبّبت بها الحرب العالميّةُ الأولى. وبمجرّد رحيل الأتراك، رفعتْ أنقاضَ الحرب من الميناء والتي يعود بعضُها إلى الحرب الإيطاليّة–التركيّة عام 1912، كما بدأت عمليّات تجريف حوض المرفأ بمساعدة المعدّات الثقيلة المستأجَرة من شركة قناة السويس.24 واستقدمتْ إمدادات الطوارئ لإطعام السكان الذين أهلكت المجاعةُ حوالي ثلثهم.25 كذلك جُهّزت عياداتٌ صحّيّة للمرضى، حيث أشارتْ إحصائيّات المفوّض السامي إلى أنّ 10 آلاف طفل أُدخلوا إلى مستشفيات بيروتَ في غضون 12 شهرًا، كما تلقّى 138 ألفَ بالغٍ رعايةً مركزة في عيادات الطوارئ. تضاعَفَ عدد المستشفيات ثلاث مرّات في فترةٍ قصيرة في العامين اللذين تبعا الوجود الفرنسيّ.26 وكانت المساهمة الفرنسيّة في استعادة الثقة في السوق على نفس القدْر من الأهمّيّة، إذ تم في الواقع تنظيم معرضٍ دوليٍّ ناجح في بيروت في عام 1921.27 لا يمكن التقليلُ من قيمة هذا الجهد الفرنسيّ المبكر في جميع المجالات المذكورة أعلاه، وقد كان التأثير على الرأي العام اللبنانيّ إيجابيًّا، وعلى الرغم من الجدل السياسيّ وخيبة الأمل لدى البعض، بدأ الانتداب بخطوةٍ مبشّرة.

بعد ذلك، تناولت الإدارة الفرنسيّةُ بندًا ذا أولويّة عاليةٍ في سياستها الاقتصاديّة: تحديث بيروت. أُنشئ حيٌّ أنيق مجاورٌ للمرفأ، تحدّه 3 جادّات رئيسيّة شُقّت حديثًا (فوش وأللنبي وويغان)، ليتكوّن منها المركزُ التجاريّ الجديد. ونشأ حيٌّ ثانٍ إلى جانبه على شكل النجمة المألوف، شمل بعضَ المواقع التراثية ومبنى البرلمان الذي يشغل ساحة النجمة الرئيسية. كتب المدير المنتدب في بيروت بوبون، والذي ساهم كثيرًا في تجميل وتحديث العاصمة، مقالين مهمين بعنوان «تحديث بيروت» في «نشرة الوحدة الاقتصادية السورية» في عامي 1928 و1929، أشار فيهما إلى الازدهار الواسع في العقارات والناتج عن هذا التخطيط العمراني (تضاعفت أسعارُها ضعفين وقرابة ثلاثة أضعاف خلال خمس سنوات)، وذلك قبل ذكر مداخيل بلدية بيروت ورسومها التي تزايدت بشكل كبير.28

كذلك بُذلتْ جهودٌ كبيرةٌ في بناء الساحات العامّة والحدائق وتوسيع الشوارع وتعبيد الطرق القديمة والجديدة. ووُضِع مخطّط لمتحفٍ وطنيّ. ولتتويج هذا النشاط العمراني الذي أحدَث تحوّلًا في بيروت، آنشئتْ شبكةٌ شاملة من الصرف الصحّي، وحلّت المعدّات الآليّة التي يزيد مجموعُها على 40 مَحَلَّ بغال مُكاريّي البلديّة، كما زيد الإمدادُ بالطاقة الكهربائيّة وإنارة الشوارع.29 أخيرًا، تأسّسَ راديو الشرق (أوريون) كمركز اتصالاتٍ حديثٍ مجهّزٍ بأجهزة إرسال قويّة في خلدة وأجهزة استقبالٍ في رأس بيروت، ورُبطتْ بذلك العاصمةَ بباريس ونيويورك، ما جعل الكابل البريطانيَّ عبْر مصر بائدًا. في الواقع، زعمتْ «نشرة الوحدة الاقتصاديّة السورية» أنّ بيروت قد أصبحتْ مركز اتصالٍ لأماكنَ بعيدةٍ مثل بلاد فارس، كما كان الطلبُ على خدمات راديو الشرق من فلسطين مرتفعًا دومًا. إلى ذلك، خَطّط المفوّض السامي في السنوات الأولى من الانتداب أيضًا لتحويل بيروت إلى مركز «إشعاعٍ للفكر الفرنسيّ في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وفيّةً للُغتِنا، ومراعيةً لجميع مظاهر ثقافتنا».30 استجابتْ عاصمة لبنانَ بسرعةٍ كبيرة لهذه الموجة من الاستثمار في البُنى التحتيّة والتحديث، كما تشير الجداول الثلاثةُ الآتية عن النموّ31 وزيادة عدد السكان32 والنشاط العمراني.33

  (1889) 1923 1928
فنادق (15) 35 62
مطاعم (6) 21 32
مقاهٍ   21 26
وكالات سفر   6 10
محلات بيع أغراض السفر   6 11
وكالات إعلانات   2 7
وكالات تخليص جمركي   14 24
شركات تأمين   26 45
مصارف   24 52
بيوت صيرفة وتسليف   20 43
محامون (12) 86 111
سماسرة عقارات   17 21
أطباء (31) 164 239
معماريون - مهندسون   13 57
تجار المانيفاتورة   210 324
تجار وكالات   164 194
مطابع (13) 23 27
دور سينما   6 10

مؤشرات مختلفة عن نمو بيروت، 1923- 1928

  تعداد 1921 تعداد 1932
سنّة 32,884 51,906
شيعة 3,274 11,379
دروز 1,522 4,225
موارنة 17,763 28,995
روم أرثوذكس 12,672 19,993
روم كاثوليك 4,256 8,397
بروتستانت 544 3,684
أرمن غريغوريون - 18,604
أرمن كاثوليك - 4,385
سريان أرثوذكس - 1,745
سريان كاثوليك - 2,169
يهود وآخرون 4,907 6,000
  77,822 161,482

عدد سكّان بيروت

وهكذا يكون عدد سكان بيروت قد تضاعف خلال الأحد عشر عامًا بين تعدادَي عامَي 1921 و1932، إذ ارتفع عدد السنّة والموارنة والروم الأثوذكس بنسبة تزيد قليلًا عن 50٪، بينما تضاعف عددُ الشيعة أكثر من ثلاثة أضعاف وعدد الدروز قرابة الثلاثة أضعاف. ووفد أيضًا 28 ألف وافدٍ جديدٍ من الأرمن (غريغوريون وكاثوليك وبروتستانت) والسريان (أرثوذوكس وكاثوليك).

  غرفة - غرفتان 3 - 4 غرف بيت كامل
1929 541 246 334
1930 614 768 315
1931 679 341 466

تراخيص البناء الممنوحة، 1929- 1931

وقد حظيَتْ قطاعاتٌ أخرى بالاهتمام. ففي الصناعة والزراعة، مُنح الحرير اعتبارًا خاصًّا وكانت هناك نهضةٌ واعدة قبل أن تطرأ التطوّرات السلبيّة في سوق الحرير العالميّ والمنافسة من الحرير الاصطناعي والتغيرات في الذوق، والتي أدّت إلى انهيار تربية دودة القزّ في لبنان التي كان ينشط فيها المسيحيّون (وجبل لبنان) بشكل خاص. هدفت السياسة الرسميّة، بنجاحٍ متباين، إلى تشجيع تكوين فئةٍ من صغار ومتوسّطي مالكي الأرض الذين قد يكونون موالين للانتداب من خلال إجراءاتٍ مثل إنشاء السجلّ العقاريّ والقروض الزراعيّة. تمكّن السجل العقاريُّ تحت إدارة ك. دورافور القديرة من مسح الأراضي وترسيمِ حدودها وحَلّ خلافات الملكيّة وتسجيل العقارات بالطريقة المناسبة.34 لكنّ هذه المبادرة، التي حظيتْ بإشادةٍ واسعة، نجحتْ على نحوٍ أفضل في المناطق القريبة من العاصمة مقارنةً بالمناطق النائية مثل عكار في شمال لبنان. واقترح مايكل غلسنان أنّ هذه الإصلاحات عملت بشكلٍ مناقِضٍ لهدفها وساهمتْ في تعزيز الإقطاعيّة في عكار:

«عندما أجرى الفرنسيّون مسحًا عقاريًّا من أجل عقلنة ملكيّة الأراضي (من وجهة نظرهم)، وتنظيم الملكيّة الخاصّة للأراضي، والمساعدة على خَلق فلّاحين مستقلّين مالكين للأرض كمحرّكٍ للتغيير والتقدّم في القطاع الزراعيّ، كان الإقطاعيّون هم مَن استفادوا في الواقع. تمّ بالفعل تجزيء الملكيّات والحقوق المشاعيّة وغالبًا ما استحصل عليها البكَوات، وبالتالي تم توسيع وتعزيز الملكيّات الكبيرة (أو اللاتيفونديا إذا اعتمدنا المصطلح المستخدم من قبل المسؤولين الفرنسيّين) بدلًا من تقسيمها إلى وحداتٍ أصغرَ كما كان مقصودًا».35

أمّا في قطاع السياحة فزوّدت «جمعيّةُ فنادق المشرق الكبرى»، التابعة لـ«بنك سورية ولبنان الكبير»، بيروت عام 1932 بفندق «سان جورج» المرموق، والذي مثّل رمزًا ساطعًا عن اهتمام الانتداب الفرنسي بتعزيز البُنية التحتيّة.

تحدّي حيفا

مع نهاية العقد الأوّل من الانتداب، وقع محْور بيروت العابر للصحراء تحت الضغط وتعرّض مستقبلُ المدينة كمرفأً للشرق للخطر بسبب التطوّرات في فلسطين، وتحديدًا بسبب التهديد المزدوج الذي شكّلتْه مدينة حيفا، أوّلًا كمرفأ حديثٍ مجهّز بمرافقَ أفضل وثانيًا كمصبٍّ لخطوط أنابيب شركة نفط العراق الآتية من حقول النفط في كركوك والموصل.

إضافةً إلى ذلك، كان التطوّر الصناعيّ في فلسطين يسير بوتيرةٍ أسرع بكثير منه في لبنان. ورأى المعلّقون في بيروت أنّه نشَبَ صراع كبير بين المنطقتين الاقتصاديّتين المتنافستين اللتين تسيطر عليهما قوّتا الانتداب المتنافستان، سورية ولبنان من جهة وفلسطين والأردن والعراق من الجهة الأخرى. وكما قال أحد الكتّاب، «بات حلمُ بيروت الجميل أن تكون المرفأ المهمَّ الوحيدَ في المنطقة بأسرها، وأن تضحي سريعًا مرفأ الترانزيت لبلاد ما بين النهرين وبلاد فارس وأفغانستان وحتى الهند، على وشك الانهيار»٣٧. كان يُنظر إلى حيفا على نطاقٍ واسع في بيروت على أنّها تهديدٌ هائل لكون حجم مرفئها يقارب ضعف حجم مرفأ بيروت بالإضافة إلى احتمال تحسين المواصلات مع العراق من خلال خَطّ سكة حديد يُتوقّع بناؤه. أشار أحد الكتّاب إلى أنّ الصراع بين قوّتَي الانتداب قد تحوّل من السياسة إلى الاقتصاد، وأنّ البريطانيّين قد أطلقوا حملةً صحفيّة واسعة في العراق تهدف إلى تقويض مكانة بيروت البارزة من خلال ادّعاءات بأن المحور العابر للصحراء عبر دمشق غيرُ آمن٣٨.

نُشرت لكرم ملحم كرم افتتاحيّةٌ في «العاصفة» (1934) بعنوان «بيروت تموت!» وَضع فيها الملامة مباشرةً على اتفاقيّة سايكس–بيكو لأنها قسّمتْ إقليمًا موحّدًا كانت تشغل فيه بيروتُ موقعًا مميزًا في التجارة والأعمال. بحسب كرم، بدا الانتداب البريطانيُّ أكثر إدراكًا وحسمًا في الأمور الاقتصاديّة من نظيره الفرنسي. ومن نتائج اتفاقيّة سايكس–بيكو الكارثيّة أنّ «بريطانيا شيّدت ميناءً حديثًا في حيفا لمحاربة بيروت، بينما كانت فرنسا تتفرّج فقط٣٩. كانت سياسة بريطانيا تعزيز الدفاع عن مصالحها طويلة الأمد، بينما ترضى فرنسا بالتركيز على الآنيّ والمؤقّت٤٠.

وعبّر أمين أبو عزالدين عن حيفا بوجهة نظرٍ مشابهة إلى حدٍّ كبير، لكن بأقلّ حدّيّة وأكثر شموليّة، خلال سلسلةٍ من ثلاث مقالات نُشرتْ في مجلة «المعرض الأسبوعي» (أوائل العام 1935) حملتْ عنوان «الطرق البرّيّة للنقل التجاري والمواصلات في الشرق الأدنى». مرّةً جديدة، تمّ التركيز على الحرب الاقتصاديّة بين قوّتَي الانتداب، كما على الأهمّيّة الاستراتيجيّة لميناء النفط والسكك الحديدية المتوقّعة إلى العراق بالنسبة للإمبراطوريّة البريطانيّة، والتي تشكّل طريقًا ثانيًا إلى الهند، كما رآه أبو عزالدين. قدّر أبو عزالدين أنّه لا يزال لبيروتَ وزنُها في طريق الترانزيت المغري إلى العراق وإيران، ولكنها سوف تواجه ضغوطًا متزايدةً في المستقبل، ليس فقط من حيفا، بل أيضًا من مرفأ مرسين المنوي توسيعُه والذي كان يبدو وكأنّه أولويّةً قصوى في الخطط التركيّة لمواجهة صعود حيفا٤١. وكما سبق وفعل في ما يتعلّق بخَطّ الأنابيب العراقي، أطلق رئيس غرفة تجارة بيروت عمر الداعوق حملةً قويّة لحماية صلة المدينة التجاريّة بالداخل السوري، والمحور العابر للصحراء، ولتوسيع وتحديث مرافق مرفأ بيروت استجابةً للتحدّي المتزايد القادم من حيفا. وطالَبَ الداعوق المفوضيّةَ السامية في أوائل عام 1933 باتخاذ إجراءاتٍ فعّالة:

«بيروت مهدَّدة من ميناء حيفا الحديث والكبير. كما تقرَّرَ إنشاء خط سكة حديد يربط حيفا ببغداد. تركيّا من جانبها عازمةٌ على كسب الحركة التجاريّة مع بلاد فارس. بينما الاقتصاد اللبنانيّ آخذٌ في الانحدار حيث تأثّرتْ تجارة إعادة التصدير سلبًا بسبب الرسوم الجمركيّة المفروضة حديثًا، وتَراجَعَ الإنتاج الزراعيُّ وتهدّدتْ تجارة الترانزيت بشكل خطير. المسكّنات مثلُ بناء مستودعاتٍ إضافيّةٍ وتوقيع الاتفاقيّات التجاريّة هي بلا تأثير. فكلٌّ من العراق وبلاد فارس يبحث عن منفَذٍ على البحر الأبيض المتوسّط، وحركة عبور الصحراء تتزايد»٤٢.

في الختام، حثّ عمر الداعوق على التحويل الفوريّ لمرفأ بيروت إلى ميناءٍ حرٍّ أو على الأقلّ إنشاء منطقةٍ حرّة، وهي إجراءات كانت تدعمها المصالحُ الاقتصاديّة الفرنسيّة بقيادة شركة مرفأ بيروت. وشملتْ مقترحاتٌ أخرى إنشاءَ سكّة حديد تربط طرابلس بالحدود الفلسطينيّة في الناقورة وخفْضَ الرسوم الجمركيّة. استجابتْ سلطاتُ الانتداب من خلال إنشاء منطقةٍ حرّةٍ شاملة، تضمّنتْ إمكانيّة السماح بوجود أشكالٍ معيَّنة من الإنتاج الصناعيّ في داخلها.

بناءً على مسحٍ أوّليّ، يبدو أنّ التهديدَ المزدوج الذي شكّلتْه حيفا كميناءٍ حديث ومحطةِ خطِّ أنابيب نفط (بالإضافة إلى رَدّ الفعل في الإسكندريّة ومَرسين) كان موضوعًا متكرّرًا في الصحافة في بيروت. كان هناك إجماعٌ واسعٌ حول هذه القضايا، تَردّدَ صداه لدى المصالح الفرنسيّة واللبنانيّة كما لدى المفوضيّة السامية: قارِنوا مثلًا وجهات نظر عمر الداعوق، ونشرة «الوحدة الاقتصاديّة السوريّة»، وكرم ملحم كرم، وأمين أبو عزالدين. منذ حوالي عام 1929 وصعودًا، وجد المفوّضون السامون، وبالأخصّ هنري بونصو وكونت دامين دو مارتيل، أنّ من المفيد التركيزُ على المسائل الاقتصاديّة، ليس فقط نتيجةَ الانكماش العالميّ المتعمّق، بل كترياقٍ للسياسة. عام 1929 أعلن بونصو أنّه يريد قبل كل شيء أن يكون مفوّضًا ساميًا اقتصاديًّا٤٣. وأثنى الرئيس بشارة الخوري في مذكراته على سعي دو مارتيل النشِط إلى تنمية البنية التحتيّة، بما في ذلك بناء الحوض الثاني للمرفأ وبناء مطار بيروت٤٤. وقد يكون من المثير للاهتمام أنّ التحدّي الذي مثّلتْه حيفا كان بمثابة حافزٍ لتقارب المصالح الاقتصاديّة الفرنسيّة واللبنانيّة، ولا سيّما تلك الخاصة بجماعة التجّار المسلمين في بيروت، وذلك خلال فترةٍ مضطرِبة من التباعد السياسيّ والخيبات.

معارضة أهل الساحل ومناطق احتكاك أخرى

ذُكر أعلاه أنّ مصالح المسيحيّين المناصرين لفرنسا ومفكريهم، عبّرت مبكرًا عن نظرتها إلى الاقتصاد السياسيّ المستقبليّ للبنان الكبير في مناقشات عام 1919 المنشورة في «لا ريفو فينيسيين»، وأنّ نظراءهم من المسلمين المناهضين لفرنسا والقوميّين العرب (أو المناصرين لفيصل) ذوي النفوذ المتساوي، لم يشاركوهم رؤيتهم الاقتصاديّة التي تركّز على الخدمات ونموذج السياحة السويسريّ. بعد ذلك بحوالي 12 شهرًا، في كانون الثاني/ يناير عام 1921، نشأ حزب «الترقّي» حاملًا شعار «في سبيل لبنان، مع فرنسا»، وضمّ لجنةً إداريّة من 15 شخصًا مكوّنةً من الشخصيّات المسيحيّة الآتية، وذلك وفقًا لـ«بريد الشرق»: المركيز جان دو فريج، مالك أراض (رئيس)؛ نعوم باخوس، محام (نائب رئيس)؛ إميل إده، محام (أمين سر)؛ إميل قشّوع، مدير بنك سورية (أمين صندوق)؛ إميل عرب، طبيب؛ سليم أصفر، مالك أراض؛ ميشال شيحا، مصرفي؛ شكري قرداحي، محام؛ بشارة الخوري، محام؛ ألبير نقاش، محام؛ ألفونس زينية، محام.

بالإضافة إلى قائمة الأسماء هذه، ذكر الرئيس بشارة الخوري في مذكراته اسمَ يوسف الجميّل٤٥. أعلنت نقطتان من برنامج الحزب المكوّن من ثلاث نقاط عن «الحفاظ على الاستقلال السياسيّ للبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسيّ» و«الدفاع عن التقاليد الوطنيّة والحرّيّات الدينيّة». لكنّ النقطة الثالثة برمّتها مثيرة للجدل، إذ طرحت «التمثيلَ الانتخابيّ وفقًا لنظام يحدّد لاحقًا، وبنية منظّمة تأخذ بعين الاعتبار عوامل الكفاءة والجدارة»٤٦. في ظل انتداب يكافح من أجل تثبيت سيطرته، تمنح هذه النقطة الثالثة الطوائفَ المسيحيّةَ المتعلّمة على يد الفرنسيّين اليدَ العليا في التنظيم السياسيّ للبلد. كانت تداعياتُ هذه النقطة واضحة: إذ يمكن أن تُمنَع القوى المعارِضةُ للانتداب والمتمركزة إلى حدٍّ كبير في المجتمع الحضَريّ المسلم من المشاركة على أساس الجدارة.

كان المسلمون مجتمعين حول مؤسّسات يعود تاريخها إلى فترة ولاية بيروت، مثل «جمعية المقاصد» و«غرفة بيروت للتجارة» و«مجلس بلدية بيروت» و«لجنة إصلاح بيروت»، (والأخيرة منبرٌ أنشئ لمناصرة حقوق العرب في الدولة العثمانية)، ولكنْ أيضًا حول تكويناتٍ سياسيّةٍ جديدة مثل المؤتمر السوري ومؤتمر الساحل وجمعية الشباب المسلم والمؤتمر الإسلامي الوطني. وكانت القياداتُ تأتي بمعظمها من العائلات السنّيّة الحضريّة البارزة: بيهم والداعوق وسلام ويافي (عن بيروت)، وكرامي والأحدب والجسر (عن طرابلس)، والصلح والبزري (عن صيدا). لكنّ انضمام عددٍ مؤثّرٍ من قيادات الشيعة والروم الأرثوذكس إلى مؤتمر الساحل منذ نشأته لم يقلَّ أهمّيّةً في تطوّر التعدّديّة السياسيّة في لبنان.

فيما دُرست سياساتُ المسلمين السنّة بوَفْرةٍ، لم يكرَّس الاهتمامُ نفسه لفكرهم الاقتصاديّ وتجربتهم في ظلّ العثمانيّين أو الانتداب. فمن النادر إيجاد أمثلةٍ عن التعبير الذاتيّ المباشِر، كما هو موجود على سبيل المثال في «لا ريفو فينيسيين» للنخَب الفكريّة والسياسيّة بين المسيحيّين المناصرين لفرنسا، وكل ما هو متاحٌ مجزّأ. قد تكون المعارضةُ النشِطة للمفكرين والسياسيّين السنّة البارزين للانتداب الفرنسيّ لَعبت دورًا في تقييد تعبيرهم، إذْ وَضعتْهم تحت التهديد المستمرّ بالسجن أو المنفى أو الانتقام الاقتصاديّ — وهنا تُستذكر أمثلةُ رياض الصلح وسليم علي سلام وصلاح بيهم وسليم طيارة وحسن القاضي٤٧. أشار أحدُ الشخصيّات السنّيّة التي قابلتُها حول هذا الموضوع، إلى أنّ المشاكلَ الملحّة التي تثير اهتمامَ المجتمع السنّي كانت المشاكل السياسيّة والأيديولوجيّة. لم تكن الوحدةُ الاقتصاديّة لسورية مطروحةً، بل التقطيع السياسيّ والجغرافيّ لأوصالها. كما أشار إلى أنّه لم يكن مفتونًا بالنماذج الاجتماعيّة والاقتصاديّة الغربيّة كما كان بعضُ زملائه المسيحيّين في ثلاثينيّات القرن العشرين.

شكّلت المجتمعاتُ الحضَريّة المسلمة أكبر تجمّعٍ في «أهل الساحل» في مقابل «أهل الجبل»، وقد استُخدم المصطلحان تكرارًا في أدبيّات فترة الانتداب. قدّم مسلمو أهل الساحل، منذ ثمانينيّات القرن التاسع عشر، القيادات السياسيّةَ والإداريّة لولاية بيروت: وهي تجربةٌ عزيزةٌ عليهم، ويفتخرون أيضًا بأنّهم ساعدوا في إنشاء، «أيديولوجيّة المدينة» المتميّزة بدرجةٍ من الانفتاح نحو الخارج والتعايش الداخليّ إلى جانب نخبة التجّار المسيحيّين (وأغلبهم من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك). تمّتْ دراسة هذه الظاهرة بتعمّق كبيرٍ في مقال ألبرتْ حوراني «أيديولوجيّات الجبل وأيديولوجيّات المدينة»٤٨. يمكن العثورُ على تعبيرٍ عن هذه الروحيّة في إحدى المقابلات التي أجراها مع مهندسٍ سنّيٍّ كلٌّ من كلود دوبار وسليم نصر في دراستهما الرائدة للطبقات الاجتماعيّة في لبنان:

«نحن سكانُ الساحل، هؤلاء لا يهاجرون. إنّهم أكثر انفتاحًا. بدلًا من أن يحاربوا الحضاراتِ التي وفَدتْ إليها، فتحنا لها أبوابَنا. إنّ سكان الجبل، المتحصّنين في قراهم وقلاعهم هم المتعصّبون وهم الذين يهاجرون. قد يبدو ما أقوله لك غريبًا، إنه ثمرة تجربتي وتفكيري، أنا متزوج من مسيحيّة من الجبل. ثمّة فارقٌ كبير في العقليّة. ومع ذلك فإنّ أسْرتها ليست تبعد أكثر من ١٥ــــــ٢٠ كيلومترًا عن بيروت. كلما تبتعدُ يزدادُ الأمر حدّة»٤٩.

كان ولاءُ مسلمي الساحل، المدعومين من حلفائهم المسيحيّين، للقوميّين العرب والأمير فيصل في معارضة الانتداب الفرنسيّ. وكان تركيزُهم على وحدة سوريةَ وسيادتِها واستقلالِها وخصوصيّاتها الثقافيّة ووحدة أراضيها، بما فيها لبنان وفلسطين وكيليكيا، وإنْ كان مع الاحتفاظ بموقعٍ خاصٍّ لجبل لبنان. تاريخيًّا، كانوا ينظرون إلى الجبل كعقبةٍ مادّيّة وربما نفسيّة، كشيءٍ يعبُرونه على عجّلٍ في طريقهم إلى البقاع ودمشق والداخل السوريّ ومراكز الإسلام. ولكنْ بعد عام 1936، تحوّلَ السعي نحو الوحدة السياسيّة السوريّة تدريجيًّا إلى اعترافٍ على مَضَض بواقع الجمهوريّة اللبنانيّة، لكنّ فكرة الاتحاد الاقتصاديّ مع سورية استمرّتْ حتى خمسينيّات القرن العشرين.

كما ذُكر سابقًا، كان المنتدى المنتظمُ الذي أطلق عليه اسم «مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة» (حاصبيّا وراشيا وبعلبك وعكار) من أهمّ تعبيرات النشاط السياسيّ الإسلاميّ في بيروت، يجتمع برئاسة سليم علي سلام. تحتوي مَحاضرُ اجتماع عام 1933 وقائمةُ الشكاوى المقدَّمة إلى سلطات الانتداب على نظرةٍ قيّمةٍ حول التصوّرات الاقتصاديّة للمسلمين اللبنانيّين: أوّلًا، أنّ تقطيع أوصال سورية والتوسُّع الدائم في الميزانيّة الإداريّة والموظفين قد ألقى بعبءٍ ثقيلٍ على كلا البلدين. ثانيًا، «في حين ساهم أهل الساحل (كما سمّتْهم المذكّرة) بنسبة 82٪ من عائدات الخزينة، أنفق 80٪ من إيرادات الخزينة ذاتها في جبل لبنان على الرواتب وبناء الطرق والترويج السياحيّ ومساعدة البلديّات والمدارس والمستشفيات»٥٠. وثالثًا، سُجّل أنّ «أبناء لبنانَ القديم»، (أي سكان متصرّفيّة جبل لبنان)، شغلوا المناصبَ العليا في الإدارة في مخالفةٍ للبند الدستوريّ الخاصّ الذي ينصّ على التوزيع النسبيّ للمناصب بين مختلف الطوائف. رابعًا، ألقيَ اللومُ على سلطات الانتداب لفشلها في التعامل مع الضِّيق الاقتصاديّ المستمرّ. وأخيرًا، نصّت المذكّرةُ على أنّ السيطرةَ الفرنسيّةَ على الاقتصاد، ولاسيّما على التعرفات الجمركيّة، مضرّة جدًّا بازدهار البلاد، ووجّهت الدعوة للانتداب إلى إيقاف دعم الشركات الأجنبيّة.

ظهرتْ نبرةُ خطابٍ مشابهةٌ بعد عقد من الزمان في سياق الاجتماع بين رياض الصلح وجيفري فرلونغ، وهو مسؤولٌ كبيرٌ في وزارة الخارجيّة البريطانيّة. طلَبَ القياديُّ المسلم نقلَ وجهة نظره إلى الجنرال إدوارد سبيرز على أنّها تمثّل نظرة جماعته:

«اشتكى (رياض الصلح) من أنّ المسلمين الذين يشكّلون ما يقارب نصف سكان لبنانَ ما زالوا يعانون منذ 20 عامًا من ممارسات التمييز الممنهَج ضدّهم من قبَل سلطات الانتداب التي كانت سياستُها عبارةً عن دعم المسيحيّين واعتبار المسلمين أعداءَ محتملين. كما كان هناك تفضيلٌ إلى حدٍّ كبيرٍ للمسيحيّين في المجال التعليميّ. لم يكنْ لدى الجماعات المسيحيّة عددٌ أكبر بكثيرٍ من المدارس الخاصّة من المسلمين فحسب، بل كان لديها أيضًا أحقّيّة الوصول إلى العديد من المدارس المدعومة من الفرنسيّين. وبالتالي كان مستوى التعليم الأوروبيّ والثقافة الأوروبيّة أعلى بكثيرٍ منه بين المسيحيّين، ونتَجَ من ذلك أنّ نسبةً أكبرَ بكثيرٍ من المسيحيّين يتحدّثون الفرنسيّة جيّدًا ويمكنهم التواصل الاجتماعيّ مع المسؤولين الأجانب. لذلك شغلتْ وجهة نظر المسيحيّين مكانةً أكبر بكثيرٍ من مكانة وجهة نظر المسلمين لدى سلطات الاحتلال. علاوةً على ذلك، كان عدد المسلمين الذين يشغلون مناصبَ حكوميّةً أقلَّ بكثيرٍ من عدد المسيحيّين، وبالتالي شعَرَ المجتمعُ المسلمُ بالاستياء وبأنّهم يتلقّون معاملةً غير عادلة»٥١.

بقي هذا الشعورُ بالظلم البنيويُّ والمؤسّسيّ متجذرًا في الوعي الإسلامي. بعد مرور عشر سنوات على رسالة رياض الصلح إلى إدوارد سبيرز، تلا الشيخ شفيق يموت عام 1953 من على منبر المسجد العمريِّ الكبير في بيروت بيانًا حاسمًا باسم مجموعةٍ من الجمعيّات الإسلاميّة السنيّة والشيعيّة مجتمعةً ضمن المؤتمر الدائم للمنظّمات الإسلاميّة في لبنان. دعت النقاطُ الـ13 لهذا البيان إلى إصلاحاتٍ ومبادراتٍ عاجلةٍ ومتنوّعة، منها تعدادٌ لسكان لبنان، ودراسةٌ إحصائيّة لتوزيع المناصب الحكوميّة حسب الطوائف، وإنهاءُ حملة دائرة السياحة التي تسعى إلى تقديم لبنان للسيّاح على أنّه دولةٌ مسيحيّة حصرًا، وتحقيق وحدة اقتصاديّةٍ بين لبنان وسورية٥٢. وفي نفس وقت صدور البيان، لخّص منشور الدكتور مصطفى الخالدي المثيرُ الجدل والذي حمل عنوان «لبنان المسلم اليوم»، الشكاوى الأساسيّة لمجتمعه في هجومٍ حادٍّ على الهيمنة المارونيّة٥٣.

أخيرًا، وكما صرّح أحد المثقّفين السنّة الذين قابلتُهم، كان هناك بالإضافة إلى الشعور بالظلم، مرارةٌ في موقف التجّار المسلمين وسياسيّي المدن وعلماء الدين نحو الطاقة المحتدمة والأداء المتطوّر لرجال الأعمال المسيحيّين المنخرطين في المجالات التنافسيّة الشرسة التي تمثّلها التجارة الدوليّة والماليّة وقطاعُ الخدمات والتعليم الحديث.

تغذية فرانكشتاين

من المؤكد أنّ تعابير أهل الساحل وأهل الجبل هدفتْ إلى تمثيل التوجّهات بدلًا من التنميط. كانت الجغرافيا راجحةً لكنّها لم تكن حصريّة. على سبيل المثال، ارتبط ساحلا جونيه وجبيل بأيديولوجيّة الجبل أكثر ارتباطهما بأيديولوجيّة المدينة. كما انخرط شيعةُ جبل عامل بعمقٍ في سياسات مؤتمر الساحل، وتمرّدوا بالسلاح ضدّ الانتداب في مناسباتٍ عدّة. في الانقسام بين أهل الجبل وأهل الساحل، يشكّل جبل عامل حالةً خاصّة (ومهملة)، تستحقّ المزيدَ من البحث والتحليل الأكاديميَّين. لكنّ إحدى المساهَمات الأخيرة لطريف الخالدي حدّدتْ بعض آفاق جبل عامل الاجتماعيّة والفكريّة وتصوّراته الذاتيّة، وحملتْ عنوان «الشيخ أحمد عارف الزين والعرفان»٥٤.

بالعودة إلى أمثلةٍ أكثرَ تقليديّةً، شمَلَ أهلُ الجبل ثلاث مجموعاتٍ رئيسة وفقًا للولاء والانتماء الدينيّ والاقتصاد السياسيّ: قوميّي لبنان الكبير وقوميّي لبنانَ الصغير والقوميّين الدروز. كان ولاء قوميّي لبنانَ الكبير، كما ذُكر سابقًا، إلى لبنانَ موسّعٍ يعرَّف بحدودٍ طبيعيّة (تشمل الجليل الأعلى)، وتنمية تاريخيّة مسيحيّة بنبرةٍ علمانيّة، وتَوجّهٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ عامّ نحو الغرب. وبقوا، مع بعض الاستثناءات المهمّة، أكثرَ المؤيّدين حماسةً للانتداب الفرنسيّ بين عامَي 1919 و1939. في المقلب الآخر، آمن قوميّو لبنانَ الصغير بكيانٍ جغرافيٍّ أصغر، يضمن التفوّقَ الديموغرافيَّ والسياسيَّ والاقتصاديَّ المارونيّ. هم شعبويّون في التعبير والتقاليد، وظلّوا مشكّكين في التأثير العقائديّ للفاتيكان وفي سياسة الجمهوريّة الثالثة الفرنسيّة التي دمجتْ عددًا كبيرًا من المسلمين السنّة والشيعة في كيانٍ لبنانيٍّ موسّع. وعانتْ حظوظُهم السياسيّة من انحدارٍ مستمرٍّ منذ عام 1926. لم تتمّ دراسةُ القوميّين الدروز في ما يخصّ حقبة الانتداب بشكل كافٍ، ولذلك ليس من السهل تقييمُهم. هم شديدو الولاء لتقاليدهم الدينيّة وتنظيمهم الاجتماعيّ وتراتبيّة سلطتهم، كما أنّهم في تراجُعٍ ديموغرافيّ واقتصاديٍّ مقارنةً بالمجتمعات الأخرى، ولكنّهم مع ذلك أظهروا مهارةً وتصميمًا كبيرَين في الحفاظ على المبادرة السياسيّة. المثيرُ للاهتمام هو دعم بعض قادتهم الأقوياء للانتداب.

على العموم، كان الانتداب الفرنسيُّ موضع انتقاداتٍ شديدة، وغالبًا غير مبرّرة. لكنّه على الرغم من ذلك، قدّم مساهمةً مميّزةً في السياسة والحياة الوطنيّة اللبنانيّة من خلال توفير مسرحٍ خاضعٍ للمراقبة في بيروت للتقارب بين أهل الجبل وأهل الساحل، والذي أدّى إلى درجةٍ ما إلى «بيرتة» اللبنانيّين القدامى و«لبننة» البيارتة (أو «سحلنة» الجبل و«جبلنة» الساحل). من خلال هذه العمليّة، التي ساعدتْ على تمهيد الطريق أمام ميثاق الوفاق الوطنيّ في عام 1943، نصّبَ الموارنةُ أنفسَهم متحدّثين باسم الطوائف المسيحيّة ونصّب السنّةُ أنفسَهم متحدّثين باسم الطوائف الإسلاميّة. لكنْ من الواضح أنّ ظاهرة رُهاب هيمنة الآخر البدائيّة والمتبادَلة استمرّت. فاستمرّ المسلمون في النظر إلى أيّام ولاية بيروتَ ببعض الحنين، لكونها مهْدَ العثمانيّة الليبراليّة والقوميّة العربيّة. إذ كانتْ بيروتُ في حينها عاصمةً بحريّةً وتجاريّةً وحضَريّة لولاية الساحل العامرة، تمنحهم الأكثريّةَ الكبرى من الوظائف المربحة في المجالس البيروقراطيّة والبلديّة المتزايدة، وتبقي على مَرتبتهم ونظرتهم الذاتيّة ومكانتهم الاجتماعيّة العالية تجاه المجتمعات الأخرى. من ناحية أخرى، فضّل الانتدابُ أبناء «لبنان القديم»، أي منافسيهم في الجبل، والذين يَبدون الآن وكأنّهم يتفوّقون في المدينة كوافدينَ جُددٍ نسبيًّا. من جانبهم، كان يخشى الموارنةُ أن يغزوَ ملاذَهم سكانٌ مسلمون وأيديولوجيّات قوميّةٌ عربيّة.

هناك ملاحظةٌ أخرى تتعلّق بأداء الانتداب وإرثه. على الرغم من معارضة المسيحيّين والمسلمين لسياسات الانتداب بشأن احتكار التبغ، وتنظيم العملة بعد الانخفاض المتكرّر في قيمة الفرنك الفرنسيّ والضرائب والتعريفات، والتحيّز الواضح لصالح الشركات الفرنسيّة والموظّفين الفرنسيّين في لبنانَ، كان الأداءُ الاقتصاديُّ للانتداب أكثر تقبّلًا (ولاقى اعتراضًا أقلَّ عمومًا) من سياساته القاسية والتي غالبًا لم تراع الحساسيّات. حصد الانتدابُ دعمًا متزايدًا في مجموعةٍ واسعة من مصالح الطبقة الوسطى المتوسّعة والوجهاء السياسيّين التقليديّين في كل طائفة جرّاءَ تعزيز دور بيروت كمركزٍ تجاريٍّ وثقافيّ، ومن خلال توسيع نطاق التعليم الثانويّ والمهَنيّ والجامعيّ، واعتماد سياسة التحديث. ومع ذلك، أدّتْ هذه الظاهرةُ أيضًا، وللمفارقة، إلى زيادة التوقّعات المستقبليّة التي لا يمكن تحقيقُها إلّا في ظلّ الاستقلال الوطنيّ: وبالتالي عملتْ هذه السياساتُ ضدّ الانتداب على المدى الطويل (وبمساعدة بريطانية خلال الحرب العالميّة الثانية).

أخيراً، أشار شارل عيساوي٥٥ إلى أنّ الشرق الأوسطَ مُفرطٌ في التحضّر، وينطبق ذلك بالتأكيد على بيروت. بتفضيلها المناطقَ الحضَريّة وإهمال الريف النائي وسكانه الزراعيّين، ساهمتْ سلطاتُ الانتداب في تعجيل الهجرة الجماعيّة إلى مدينةٍ غيرِ مستعدّةٍ لاستقبال المهاجرين، وبالتالي التسبّب بالمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة المصاحِبة لهذه الهجرة. وفي حين ازدهرتْ بيروتُ عمومًا في قطاعات التجارة والعقارات والاتصالات والتعليم والخدمات عامّةً، وإن كان بشكل غير متساوٍ، لم تلقَ باقي البلاد سوى القليل من الاهتمام وكان ذلك على مضض. أو كما قال المؤرّخ البريطانيّ روجر أوين، «من خلال فصل لبنانَ الكبير عن محيطه الطبيعيّ، لم يؤكد الفرنسيّون الهيمنةَ الماليّةَ والتجاريّة لبيروت على الجبل فحسب، بل عزّزوا أيضًا نمطًا من النشاط الاقتصاديّ حيث تصبح الزراعة والصناعة أكثرَ فأكثرَ في مرتبةٍ أدنى من مرتبة الأعمال المصرفيّة والتجارة»٥٦.

إذا نظرْنا بمفعولٍ رجعيٍّ إلى تلك الفترة، ربما كان الثمنُ المدفوعُ على المستوى الوطنيّ لتحديث بيروتَ والترويج لها على أنّها النموذجُ الرائعُ للانتداب الفرنسيّ باهظًا جدًّا. ومع ذلك، في الحين الذي يمكن فيه إلقاءُ بعض اللوم على سلطة الانتداب لدورها في إنجاب وحشٍ بحريّ (أو فرانكشتاين ساحليٍّ صغير، Young Frankenstein-sur-mer)، ومن المحزن أيضًا أنّ اللبنانيّين في أعقاب الاستقلال لم يمانعوا كثيرًا في تغذيَته وتنميَته.

  • 1. من النسخة الإنكليزيّة المطبوعة للورقة المعروضة في مؤتمر «الشرق الأوسط في فترة ما بين الحربَين»، والذي أقيم في معهد التاريخ الأوروبي في باد هومبورغ في آب/ أغسطس 1984. بينما كان يتمّ تداول هذا المجلّد، نُشرت نسخةٌ أخرى من هذه الدراسة من قِبل «مركز الدراسات اللبنانية» ضمن سلسلة أوراق عن لبنان، الجزء الرابع (مطبعة أكسفورد، 1988).
  • 2. شارل عيساوي، «التجارة البريطانية وصعود بيروت، 1830–1860» في «المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط»، العدد الثامن، (1977)، ص 92- 93؛ دومينيك شيفالييه، «مجتمع جبل لبنان خلال الثورة الصناعيّة في أوروبا» (باريس: بول غوتنر، 1971)، ص 182–184، روجر أوين، «الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي، 1800–1914»، (لندن: ميثوين، 1981)، ص 165–167.
  • 3. ليلى طرزي فوّاز، «تجّار ومهاجرون في بيروت القرن التاسع عشر» (كامبردج، ماساشوستس، مطبعة جامعة هارفارد، 1983) ص 2- 4.
  • 4. ندى صحناوي، «تغريب الحياة اليوميّة في بيروت 1860–1914»، أطروحة ماجستير فنون، جامعة باريس، 1981.
  • 5. كمال صليبي، «تاريخ لبنان الحديث»، (لندن، وايدنفلد ونيكولسون، 1965) ص 142.
  • 6. مروان بحيري، «باروكيّة بيروت 1850–1914»، محاضرة قُدّمت في سلسلة «حدود المعرفة» في الجامعة الأميركيّة في بيروت، تشرين الثاني/ نوفمبر 1983، مستنسَخة.
  • 7. «لا ريفو فينيسيين»، تحرير شارل قرم، تموز/ يونيو إلى كانون الأوّل/ ديسمبر 1919.
  • 8. ألبير نقاش، «مستقبلنا السياسي»، «لا ريفو فينيسيين»، تموز 1919، ص 2.
  • 9. المرجع نفسه، ص 4.
  • 10. المرجع نفسه، ص6.
  • 11. أمين مشحور، «مواردنا الزراعيّة والصناعيّة والتجاريّة والمعدنيّة»، «لا ريفو فينيسين»، تموز/ يوليو 1919 ، ص 21.
  • 12. المرجع نفسه، ص. 24.
  • 13. المرجع نفسه، ص ٢٤.
  • 14. فؤاد الخوري، «القطاع الفندقي في لبنان»، «لا ريفو فينيسيين»، تموز/ يوليو 1919 ، ص 27.
  • 15. المرجع نفسه، ص 39.
  • 16. جاك ثابت، «لجعل لبنان سويسرا الشرق: عرض الظروف السياسية والاقتصادية والسياحية للبلدين»، (باريس، مطبعة راملو، 1924).
  • 17. ألبير نقاش، «القطاع السياحي في لبنان»، «لا ريفو فينيسيين»، كانون الأوّل/ ديسمبر 1919، ص 209.
  • 18. المرجع نفسه، ص 213.
  • 19. إبراهيم ثابت، «مستقبل بيروت»،» لا ريفو فينيسيين»، كانون الأول/ ديسمبر 1919، ص 253
  • 20. بولس نجيم، «المسألة اللبنانية: دراسة في الاقتصاد السياسي والإحصاء الوصفي»، «لا ريفو فينيسيين»، آب/ أغسطس 1919، ص 66–81
  • 21. مروان بحيري، «بولس نجيم ومثال لبنان الكبير: 1908 - 1919» في «الحياة الفكرية في الشرق العربي: 1890-1939»، تحرير مروان بحيري، (بيروت: الجامعة الأميركية في بيروت، 1981)، ص 80.
  • 22. بولس نجيم، «مسألة لبنان»، ص 75.
  • 23. دوشاتيل، «طريق دولية عظمى: مستقبل الاسكندرون»، «نشرة الوحدة الاقتصادية السورية»، العدد السابع (1928)، ص 97–99.
  • 24. «المفوّضية السامية للجمهوريّة الفرنسية في سورية ولبنان، سورية ولبنان في عام 1922» (باريس: إميل لاروز، 1922)، ص 127–128.
  • 25. المرجع نفسه، ص 4.
  • 26. المرجع نفسه، ص 5.
  • 27. «المفوضية السامية للجمهورية الفرنسية في سورية ولبنان، سورية ولبنان في عام 1921: معرض بيروت» (باريس: إميل لاروز، 1922)، ص 1ــــــ3.
  • 28. بوبون، «تحديث بيروت»، «نشرة الوحدة الاقتصادية السورية»، العدد 9، (1930)، ص 10ــــــ.11
  • 29. المرجع نفسه.
  • 30. «مركز TSF بيروت»، «نشرة الوحدة الاقتصادية السورية»، العدد 9، (1930)، ص 10ــــــ11.
  • 31. مؤشرات عام 1889 هي من أمين خوري، «الجامعة، أو دليل بيروت» (بيروت: المطبعة الأدبية)، ص 46ــــــ63، عاما 1923 و1928 من الياس وجرجي جدعون، «الدليل السوري» (بيروت: مطبعة جدعون 1923 و 1928).
  • 32. لا تشمل الإحصائيّات عديد العسكريّين الأجانب أو المقيمين المدنيّين الأجانب أو الزوّار. إحصائيّات تعداد 1921 هي كما وردتْ لدى جدعون في «الدليل السوري»، 1923، ص 184؛ إحصائيّات تعداد 1932 هي كما وردت في «نشرة الوحدة الاقتصاديّة السوريّة»، العدد 11، (1932)، ص 162.
  • 33. «نشرة الوحدة الاقتصاديّة السوريّة»، العدد 11، (1932)، ص 238.
  • 34. ك. دورافور، «السجل العقاري وتحسين وضع الأراضي في المشرق تحت الانتداب الفرنسي»، «نشرة الوحدة الاقتصادية السوريّة»، العدد 7، (1928)، ص 103-108، س. ه. لونغريغ، «سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي» (لندن: مطبعة جامعة أكسفورد، 1958)، ص 280.
  • 35. مايكل غلسنان، «إقطاع حديث؟ الأرض والعمال في شمال لبنان، 1858-1950» في حيازة الأراضي والتحول الاجتماعي في الشرق الأوسط، تحرير طريف الخالدي، (بيروت: الجامعة الأميركية في بيروت، 1984)، ص 450.
العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.