سليمان كنعان نموذجٌ عن شخصيّات الطبقة الوسطى الصاعدة التي تكوّنتْ خلال المتصرّفيّة وخاضت التمثيل السياسيَّ من خلال «مجلس الإدارة». عارض الحكمَ العثمانيَّ كما عارض الانتدابَ الفرنسيَّ وتعرّض للسَّجن والنفي في الحالتين.
وُلد سليمان كنعان في جزّين عام ١٨٥٦ ودرس في مدرسة «مار يوسف» وزاول فيها التعليم قبل أن يتبّناه خالُه المحامي ويلقّنَه أصول القانون فبدأ في ممارسة المحاماة1.
تميّز بدوره في فضّ النزاعات على الأرض. تولّى الوكالة القانونيّة عن علي جنبلاط في البرامية في نزاعاتهم مع «شركائهم»2 السابقين من فلّاحي جزّين ومُزارعيها. وجزين إقطاعة سابقة لآل جنبلاط كانت مسرحًا لنزاعاتٍ عنيفةٍ على الأرض بين الأهالي والمشايخ انفجرت في الاقتتال الأهليّ عام ١٨٦٠.
وكان كنعان يشتري الأراضيَ ويبيعُها للفلّاحين والمزارعين وقد ترسملوا، من خلال الاغتراب خصوصًا، «محتفظًا بقسمٍ منها لحسابه الخاصّ» (كرم، ٢٩) وجنى بذلك «ثروةً طائلة». ولم يقتصر لعب كنعان هذا الدورَ على آل جنبلاط، بل تولّى الوكالةَ في نزاعاتٍ على ملكيّة الأرض بين فلّاحي جزين وآل فرعون وأبو شقرا، وفي نزاعاتٍ مماثلةٍ في مناطقَ عدّة من جبل لبنان.
دخل كنعان العمل السياسيَّ مواليًا للحزبيّة الجنبلاطيّة، وكان واسعَ العلاقات مع الأسَر السياسيّة من الجنوب إلى الشمال مرورًا بصيدا وبيروت وطرابلس. وانتُخب عضوًا في مجلس إدارة المتصرفيّة عن جزين. وتميّز دورُه في المجلس بنزعته الاستقلاليّة والحرص على المصالح الشعبيّة. عارض فرضَ رسمٍ سُمّي «قرش التَمغة» على المعاملات الحكوميّة وحضّ على مقاومته، وقد اعتُقل بسبب نشاطه ولم يطلَق سراحُه إلّا بعد تدخّلٍ من المطران بطرس البستاني. عند دخول السلطنة العثمانيّة الحرب، عام ١٩١٥، عارض كنعان وزملاؤه في «مجلس الإدارة» دخولَ القوّات العثمانيّة أراضي المتصرفيّة.
بسبب علاقته بالقناصل وخصوصًا بجورج بيكو، قنصل فرنسا في لبنان، اتُّهم كنعان بالخيانة فمثَل أمام المجلس العرفيّ ونُفي مع مجموعةٍ من معارضي السلطنة إلى الأناضول حيث أُسكنوا في بيوتٍ للأرمن من ضحايا المجزرة والتهجير. توسّط صديقه شكيب أرسلان لدى الصدر الأعظم الذي أذِن لكنعان بالسكن في العاصمة إسطنبول، وهناك تعرّف إلى فارس الخوري ومصطفى حيدر وشكيب أرسلان وأنشأ شركة تجاريةً وفتح مطعمًا بالشراكة معهم.
عند مجيء بعثة كينغ كراين إلى المنطقة عام ١٩١٩، تحرّك كنعان داعيًا للحماية الفرنسيّة. لكنّه سرعان ما نَفَرَ من تدخّلات الإدارة الفرنسيّة على حساب صلاحيّات «مجلس الإدارة»، وانحاز للاستقلال وأسهَم في إصدار بيان «مجلس الإدارة» الشهير في ١٠ تموز/ يوليو ١٩٢٠ الذي يدعو إلى الاستقلال المطلق لجبل لبنان، وحَياده السياسيّ، وتوسعة حدوده بعودة المناطق «المسلوخة» منه بالتفاهم مع الحكومة السوريّة. صدَرَ البيان فيما تحرّك وفدٌ من سبعة أعضاء (من أصل ١١) من مجلس الإدارة إلى دمشق للتفاهم مع الحكومة العربيّة حول العلاقة بين البلدين وتكملة الرحلة إلى مؤتمر الصلح للمطالبة باستقلال لبنان. ترأس الوفدَ سعدالله حويّك، نائب رئيس المجلس وشقيق البطريرك الياس حويّك. ولعب رياض الصلح وسعيد البستاني، قائد الدرك اللبناني المستقيل احتجاجًا على هيمنة العسكر الفرنسيّ، دورَ الوساطة مع دمشق، وتولّى التاجر البيروتيُّ عارف النعماني تمويل الرحلة3.
في المحكمة حصر كنعان المسؤوليّةَ عن الوفد بشخصه وأعلن أنّه هو مَن اقترض المال، رافضًا ذكر اسم الممّول. في ١٩ تموز/ يوليو ١٩٢٠، صدر الحكم على أعضاء الوفد بين ٦ و١٠ سنوات سجنٍ مع غراماتٍ ماليّةٍ والنفي إلى كورسيكا. وقد انضمّ عارف النعماني إليهم بعد أن انكشف أمره. مكث المنفيّون في الجزيرة إلى ١٧ أيار/ مايو ١٩٢١ عندما أذِن وزيرُ الخارجية الجديد آريستيد بريان بنقلهم إلى باريس. وبعد ثلاثة أشهر، أرسل الجنرال غورو، المفوّض الساميّ في سورية ولبنان، رسولاً للمنفيّين يدعوهم إلى تقديم الاعتذار عن فعلتهم مقابل إطلاق سراحهم. وافق المنفيّون باستثناء كنعان وأرسلان والنعماني. ويبدو أنّ كنعان ما لبث أن خرج من باريس بواسطة حيلة، إذ أشاع أنه دخل البلاد خلسةً فوُشي به إلى الشرطة التي طردتْه (كرم، ٨٦ ٨٧).
اتخذ كنعان جنيف مركزًا لنشاطه ضدّ الانتداب ومن أجل استقلال لبنان تحت الرعاية الدوليّة. و«لبنان» سليمان كنعان سوف يبقى هو جبل لبنان، في حدوده زمن المتصرّفية. بعث بمذكّرة إلى الجمعيّة الوطنيّة ومجلس الشيوخ الفرنسييَن يدعو فيها إلى قيام «حكومة ديمقراطيّة جمهوريّة» فيه، مستقلّة جمركيًّا، تتمتّع بجيشٍ من المتطوّعين، ويُخيَّر السكانُ الذين ضُمّوا إلى جبل لبنان وفق نظام الانتداب (أي سكان أقضية عكار والبقاع وبعلبك وحاصبيّا ومدن الساحل) بين الانفصال أو البقاء متمتّعين بكامل حقوق المواطنة. عارضت المذكرة تقسيمَ سورية إلى ولايات ودعتْ إلى إعادة توحيدها (كرم، ٩٢-93). وفي تلك الفترة أيضًا زار كنعان إيطاليا وألمانيا برفقة رياض الصلح للغرض نفسه. وبعث بمذكرة إلى وزير خارجيّة الولايات المتحدة تشارلز هيوز، باسم «الحكومة اللبنانية» بصفته نائبًا في «الهيئة التمثيليّة الوحيدة المنتخَبة من الشعب اللبناني» طالب فيها الحكومةَ الأميركيّة بعدم الاعتراف بمقرّرات مؤتمر «سان ريمو» بالنسبة للبنان لأنّ نظام الانتداب لا ينطبق عليه «لأنّ أرضه لم تكن واقعةً تحت الاحتلال».
على أنّ أبلغ تعبيرٍ عن موقف كنعان ورد في مذكرةٍ لمؤتمر للسلام في الولايات المتحدة الأميركيّة أكد فيها أنّ اللبنانيّين حازوا القدرة على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم خلال نصف قرنٍ في ظلّ المتصرّفيّة فيستحقّون ممارسة حقهم في تقرير المصير، حسب مبدأ الرئيس ولسن. وأعلن أن حماية دولة أجنبيّة للمسيحيين تضرّ بمصالحهم:
«نريد أن نعيشَ بسلامٍ مع جيراننا. لكنّنا لا نستطيع أن نأمل ذلك طالما توجد قوّةٌ أجنبيّة في سورية، فإن أكثريّة المسلمين سوف يحمّلون الأقليّة المسيحيّةَ المسؤوليّةَ عن وجودها. وهكذا فالذين يجيئون لحمايتنا لا يفعلون غير إثارة عداوة جيراننا علينا. إنّنا بالتأكيد أوفر أمنًا معهم، كما تُبرهن تجربة الماضي، ممّا نحن في ظل الحماية الأوروبية». (طرابلسي،٢٠١١، ص ١٤١-142)4.
عاد كنعان إلى لبنان في العام ١٩٢٤ بعد أن أصدر المفوّضُ الجديد ويغان عفوًا عنه. لم يوفَّق في لعب أيّ دورٍ سياسيٍّ مع أنّه كان قريبًا من إميل إده، رجل فرنسا الأوّل في البلاد. انحازتْ سلطات الانتداب إلى شقيقه سامي الذي انتُخب نائبًا عن جزين عام ١٩٢٩.
تُوفي سليمان كنعان في ٢٥ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٣٢.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.