دخل الاقتصاد اللبنانيُّ حاليًّا في مرحلة تفكّك. يُعزى هذا الإخفاقُ الكبير عادةً إلى سوء الإدارة خلال الثلاثين سنةً الأخيرة، مع أن تحليل الفترة بين ١٩٤٣ و١٩٩٠ يبيّن أنه لم يتحقّق شيءٌ تقريبًا لتدعيم البُنى التحتيّة للجمهوريّة اللبنانيّة وبناء اقتصاد معافى ومستدام، خلا الاستثناءَ الجزئيَّ لعهد فؤاد شهاب. فهل ينبغي الاستنتاج بأن الجذور العميقة للمشكلة تعود إلى العام ١٩٤٣؟
طوال فترة الانتداب الفرنسي، كان المهندس والاقتصادي ألبير نقّاش يصرّ على أهمّيّة توضيح سياسة البلد الاقتصادية ويشدّد على الضرورة المطلقة لتنمية الصناعة والزراعة. وقد نبّهت كتاباتُه الفاعلين السياسيّين على خطورة الاختلال بين هذين القطاعين من جهة وقطاعَي التجارة والمال، من جهة أخرى. ولم يوفّر جهدًا في تكرار القول إنّ تصحيح الوضع أمر ممكن كل الإمكان. في موقفه هذا، وضع نقاش نفسه في تضادٍّ مع ميشال شيحا1. وبعد مئة سنة، ها هي الكارثة التي تنبّأ بها نقّاش قد وقعت، ما يسمح بالاعتقاد أنّ العديد من جذور المشكلات الحاليّة يعود فعلاً إلى نشأة «لبنان الكبير».
الهدف من هذه المقالة دعم هذه الأطروحة بتقديم إنجازات وأفكار هذا الرجل الذي طواه النسيان بسرعة ولم يبقَ من آثار أعماله غيرُ سدّ القرعون وطريق في الأشرفيّة يحملان اسمه.
حياة غنيّة
ولد ألبير نقاش في بيت مري، عام ١٨٨٤ ابنًا لصناعيّ الحرير ألفونس نقاش. وفي العام ١٩٠٥ غادر إلى سويسرا لدراسة الهندسة في جامعة لوزان. بدأتْ إقامته السويسرية بالمشاركة في نشاطات مجموعة من أوائل القوميّين العرب. ولكن تلك المغامرة سرعان ما اختتمتْ بعد جريمة ارتكبها أحد أعضاء المجموعة.
في لوزان، التقى ألبير زينايدا لايبسون، المرأة التي سوف تصير زوجته: روسية من أوكرانيا، ملحدة متحدّرة من أصل يهوديّ، عاشت تلك المرأةُ اللامعة، ذات الشخصية المجرّبة، الفترة الأحلك ظلامًا من فترات العداء لليهود في روسيا القيصريّة. انتقلتْ زينايدا من دنيبروبيتروفسك إلى لوزان لكي تستطيع مواصلة دراستها الجامعية في الطبّ. تخرّج ألبير وزينا عام ١٩١١. كانت تجربة ألبير السويسرية الموجزة غنيّةً وهي تقدّم بعض المفاتيح لفهم التحليلات التي سوف ينشرها في ما بعد. أثّرت القطاعات الصناعية السويسرية والألمانية والروسية تأثيرًا قويًّا في نقّاش وقد أدرك مساهماتِها الأساسيّة في تطوّر تلك البلدان. إلى هذا، تعرّف من خلال زينايدا إلى مجموعتين من الروس شديدي الاندفاع وواعدين بانقلابات رئيسة، مجموعة من البلاشفة، ومن ضمنها ليف كامنييف2، ومجموعة من الصهيونيّين. وقد لعب اكتشاف هذين العالمين الجديدين دورًا هامًّا في تكوينه. وسوف يستبقي ألبير من تلك التجربة تقديرًا لأهمّيّة الاقتصاد السياسي، وحساسية واضحة تجاه القضايا المرتبطة بالعمال، إضافةً إلى لغةٍ مجبولة بالمصطلحات الشيوعيّة.
ما إن أنهى نقاش دروسه، حتى تسارعت الأحداث. حضر دورة تدريب في ألمانيا، توظّف بعدها في مصنع للمحرّكات في سان بطرسبرغ. ثم استدعتْه الحكومة التركية إلى مهمة «حسّاسة ومهمّة» قبل أن ترسله إلى لبنان بصفته كبير مهندسي دائرة الأشغال العامّة. منذ عودته إلى لبنان عام ١٩١٣ إلى العام ١٩١٨ كان منهمكًا جدًّا في دائرة الأشغال العامّة للمتصرفيّة وقد شغل فيها سبعة مناصبَ متنوّعة المسؤوليّات.
بطلبٍ من إسماعيل حقّي بك، آخر والٍ تركي لبيروت، وضع نقاش عام ١٩١٧ دراسةً هي دون شكٍّ أوّل دراسة تعتمد الإحصائيّات عن «الوضع الاقتصاديّ في جبل لبنان» وتتضمّن أوّل تشخيص لميزان المدفوعات الذي تبيّن أنه مختلّ سلبًا، ثم تحلل بالتفصيل أوضاع صناعة الحرير والطاقة الكهرمائية والريّ.
في تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩١٨، عيّنه الفرنسيون مديرًا لدائرة الأشغال العامّة وكانت سنواتُه الأولى منتجةً جدًّا فيها، إلى أن برزتْ مشكلات عديدة مع إدارة الانتداب كما مع المجلس البلديّ لبيروت ومجلس إدارة متصرفيّة جبل لبنان.
كانت مطوّلات رُخَص البناء نموذجًا معبّرًا عن الصعوبات التي واجهها. إزاء الفوضى السائدة في بناء المساكن، طلبَ من الحاكم إلزام الحصول على رخصة بناء لدى إدارته. أثار الإجراء موجةً من الاعتراضات بحيث ألغي الإلزام بحجّة أنّه يتعارض مع الحرّيّات الفرديّة!
على أن العقبات التي واجهها نقاش أقنعتْه باستحالة العمل داخل إدارة الانتداب فاستقال من منصبه في أواخر العام ١٩٢٢ وكرّس بعدها عدّة سنوات لإنشاء معمل قاديشا، أوّل معمل كهرمائيّ في لبنان، المشروع الذي تمّ بالتعاون الوثيق مع البطريرك عريضة، وما لبثتْ أن حذت حذوَه عدةُ معامل (معمل زحلة، معمل نهر أبو علي، إلخ).
خلال الثلاثينيّات والأربعينيّات تركّزت أعمال نقاش على الموارد المائيّة كما على عدّة محاولاتٍ لإطلاق مشاريع صناعيّة. انطلق مشروع إنتاج محليٍّ للملح العام ١٩٢٨ فاصطدم بمقاومة شرسة من المستورِدين الذين رفضوا زيادة الضرائب على الملح المستورد، ولن يحصل نقّاش أبدًا على دعم سلطات الانتداب لمشروعه فتخلّى عن المحاولة نهائيًّا عام ١٩٤١.
في العام ١٩٣٠ أطلق مشروعًا لاستخدام الطاقة الكهرمائيّة لنهر الليطاني من أجل إنتاج الأسمدة الكيميائية ولكن لم يفضِ المشروع إلى نتيجة بالرغم من تحليلٍ إيجابيٍّ جدًّا لمردوديّته. وبعد مغادرته مشروع قاديشا، أسّس نقّاش مصنعَ صابون في سن الفيل، إلا أن مواهبه التجاريّة لم تكن بمستوى التحدّي وفشل المصنع تجاريًّا.
خلال تلك الفترة من النشاط الكثيف، وجد نقّاش الوقتَ لاختراع محرّكٍ ذي استهلاكٍ منخفض للطاقة وحصل على براءات اختراع له من عدّة بلدان.
في الفترة بين ١٩٣٦ و١٩٤٦، كرّس ألبير نقاش جهوده بالدرجة الأولى لدراساتٍ عن استخدامات المياه وخصوصًا عن سَد الليطاني. على أنّ تكرار الحوادث في شرايين القلب أوهنتْه وتُوفي عام ١٩٥٤.
يمثّل ألبير نقّاش حالةً متفرّدة في لبنان خلال عهد الانتداب. هذا المندمج اندماجًا تامًّا في برجوازية بيروت المسيحيّة، قدّم في عام ١٩٣٦ مشروعًا سياسيًّا يدافع فيه عن حقّ العمّال في التنظيم النقابي. وهذا الملحد والليبرتاري، كان مساعدًا للبطريرك عريضة الطهراني. وهذا المخترع لمحرّك جديد، كان مقرّبًا من الشاعر الغنائي شارل قرم. وهو فوق كل هذا، معجب بالروائي والناقد الفرنسي أناتول فرانس وعاشق للجبل اللبناني. ومع أنه لم يكن إلا واحدًا من أوّل المهندسين في لبنان، فإن تحليله الاقتصادي عام ١٩١٧ يجعل منه الاقتصاديَّ الأول فيه. لقد كان نقاش إذًا أبرز تكنوقراطيّ، إن لم نقل إنه التكنوقراطيّ الوحيد.
لم يكن ألبير نقّاش مثقفًا. وإذا كان عبّر عن آرائه بواسطة الكتابة (وغالبًا في جريدة «الأوريان») فلأنه واجه صعوباتٍ متعدّدة أجبرتْه على الابتعاد عن الفعل. وعندما كان يكتب، كان أسلوبه عقلانيًّا وتحليلاته مدعّمة بالأرقام. وعلى العكس من ميشال شيحا، كان يؤمن إيمانًا قويًّا بقيمة الإحصائيّات. ومع أنّ قلبه كان ملكًا للبنان بمجمله، إلا أنّ المشكلات التي شخّصها والطريقة التي حلّلها بها ميّزته عن مثقّفي جيله.
الطائفيّة
بعدما تلقّى رفض الكنيسة الكاثوليكية والحاخامين السويسريّين، لجأ ألبير وزينا إلى قس لوثريٍّ لتكريس علاقتهما. بوصولهما إلى لبنان، أدركا بسرعة أنّ زواجهما لن يلقى الاعتراف الرسميَّ وأن أولادهما سوف يُعتبرون أولادًا غير شرعيّين. ومع ذلك لم يكرس الزوجان وضعهما إلا بعد خمس عشرة سنة من ذلك. ونستطيع أن نخّمن أنهما كانا يأملان أن يشهدا تبنّي لبنانَ لدستورٍ علمانيّ.
وها هو ألبير يتعرّض للطائفيّة بطريقة غير مباشرة عام ١٩٢٩:
«المسألة بالغة الحساسيّة، ذلك أنّ الأمر لا يتعلّق بالثرثرة أو الخطابات، بل بما هو أصعب بكثير، بالاقتصاد السياسي. وبالتالي، فثمّة إمكانيّة لتعديل بُنيتنا الإداريّة والسياسيّة، التي يجب ألّا تهدف إلى التمثيل الطائفي، ما يعيدنا عدة قرون إلى الوراء، وما يحمل من عواقب وخيمة، وإنما يجب البحث عن تطوّر لبنانَ وتطوّر سورية نحو مستقبل يؤمّن لهما المزيد من الرفاه والمزيد من التقدّم».
ولنا منه هذه المعادلة البسيطة لكن المعبّرة: «للمعدة حاجات ليست طائفيّة».
داعية «لبنان الطبيعيّ»
في العام ١٩١٩، دافع نقاش عن إنشاء «لبنان طبيعي» (أي «لبنان الكبير») في مقابل «لبنان الإداري»، أي لبنان «متصرفية جبل لبنان» (١٨٦١–١٩١٥). ونقطة انطلاقه هي المسألة الاقتصاديّة، التي هي مسألة حاسمة، «ينبغي أن تشكّل قاعدة مطالبنا» إذ يستعيد «ميزان المدفوعات» لـ«لبنان الإداري»، الذي استخدمه في دراسته عام ١٩١٧، ليبيّن هشاشة توازنه وقابليّته لصدمات شبيهة بتلك التي تلقّاها خلال الحرب العالميّة مثبتًا بالأرقام عدم قدرة «لبنان الإداري» على البقاء.
«كائنًا ما كان مستقبل لبنان الإداريّ، فإن موارده الزراعيّة، حتى لو تطوّرتْ إلى أقصى حدّ، لن تكفيه وسوف يضطرّ للبحث عن تكملة الموارد الضروريّة ببقائه خارج أرضه».
ويواصل بالقول:
«كائنًا ما كان النظام الجديد الذي سوف ينشأ، فمن قبيل الإنصاف والعدالة أن لا يُختصر لبنان إلى تعبيرٍ إداريٍّ، وإنما أن يغطّي كيانًا سياسيًّا واقتصاديًّا قابلاً للبقاء، وأن يسدّ حاجاته وأن ينمو بحرّيّة (...) إنّ إنشاء لبنان طبيعيٍّ إجراءٌ عادل سياسيًّا، ويستجيب للماضٍي التاريخي»3. الواضح في أيّامنا هذه أنّ محاجّتَه ناقصة. ولمّا يجب أن تنطبق العدالة على الجميع، كان من العدل أيضًا أن يوافق على عمليّة الضمّ سكانُ الأراضي التي استوجب ضمَّها إلى «لبنان الطبيعيّ»، وهذا ما لم يحصل بأيّ حال...».
ويختم بالتعبير عن دعمه لانتدابٍ يشجّع على النموّ الاقتصاديّ:
«إن التكوين السياسيّ للبنان الطبيعي، وتطوّره المؤكّد، لكن التدريجي، نحو الاستقلال، وهو الامتياز الأبديّ للبنانيّين، برعاية قوّة حضاريّة أوروبيّة تحترم الاستقلال الاقتصاديّ، وتضمن الاحترام التام للحرّيّات الفرديّة (...) وتشجع على النموّ الاقتصاديّ، هي الرغبات التي تستجيب إلى أماني غالبيّة سكان لبنان الطبيعيّ».
أثارتْ لبنانيويّة ألبير نقاش بعض التعليقات خلال السنوات العشرين الأخيرة. اعتبر بعض المؤرّخين أنّ نشره مقالتين في «المجلة الفينيقيّة» La Revue Phénicienne التي يحرّرها شارل قرم، يدلّ على انتمائه إلى مجموعة «الفينيقيّين الشباب». الواقعُ مختلف. إنّه لا يشير البتّة إلى تلك المجموعة وحسب، بل إنّ مقاربته الديكارتيّة المغالية أيضًا ليست تتوافق مع الشطحات الغنائيّة لشارل قرم. إلى هذا، تُبيّن مقالاتُه، بلا أدنى لبس، أنّ نزعته القوميّة منفتحة كليًّا على بيئة لبنان الخارجيّة.
ناقدٌ للانتداب والسياسيّين والإدارة اللبنانيّة
يبدو أن ألبير نقاش آمن بصدقٍ في العام ١٩٢٠ بأنّ السلطاتِ الفرنسيّة سوف تحترم الانتداب الذي تلقّتْه في سان ريمو. سرعان ما خاب أملُه. وإذا كان استقال من وظيفته في نهاية المطاف، فلا شكّ لأنّ المفوّض السامي أراد أنْ يفرض عليه الاستعانة الإلزاميّةَ بـ«شركة المشاريع الفرنسيّة»4. في خطابٍ ألقاه بباريس بعد نحو عشرة أعوام كان لا يزال يتذمّر من الوضع ذاته:
«ينبغي أن تساعدونا (...) بكافة الوسائل التي بتصرّفكم لكي يكون للشركات اللبنانيّة والسوريّة في بلدها حقّ الوجود ذاته كالذي للشركات الأخرى. إنّ صكّ الانتداب قد تضمّن هذه المساواةَ، وإذا كنتُ أسمح لنفسي بأن أذكّركم به، فلأنّه يبدو أنّه ضروريٌّ مع الأسف».
وها هو ينتقد الانتدابَ علنًا، ولكن بخفَر، ابتداءً من نهاية العشرينيّات. ولكن تتفلّت منه هجمات مباشرة عندما كتب عام ١٩٣٦ أن «الخضوع لسلطة الانتداب كان مطلقًا وشاملاً» وأنه «منذ بعض سنوات يصعب علينا بالغ الصعوبة أن نتبيّن ما هي السياسة الاقتصاديّة العامّة للانتداب».
في العام ١٩٤١، وجّه ألبير نقاش رسالةً إلى الجنرال ديغول، يجدّد فيها نقده وهو يعبّر في الوقت ذاتِه عن رأيٍ مؤيِّدٍ لفرنسا «الحقيقية»:
«أعتقد في روحي وضميري أنّ الجهد الأوّل يجب أن ينصبّ على محو الأعمال المسيئة التي ارتُكبتْ خلال العقدين الماضيين ونزْع الحجاب الذي غطّى وجه فرنسا الحقيقي.
إنّ فرنسا التي تَعلّمْنا أن نحبّها لا يمكن ولا يجوز أن يكون لها في لبنان غير سياسةٍ صادقة وبنّاءة».
مهما قد يبدو ذلك مَدعاة استغراب، فإنّ انتقاداتِه هذه لم تمنعْه مرّةً من أن يحاول الحصول على دعم سلطات الانتداب لمشاريعه... على أنّ نقّاش أشدّ أذيّةً تجاه السياسيين والإدارة. هذه بعض المقتطفات:
«مجلس النواب منقسمٌ إلى عشيرتين: العشيرة المستأثِرة بقصعة الزبدة وتلك التي تريد أن نستأثر بها».
«الإهمال، فقدان المثال، الانتهازيّة، نظام ضريبيّ فاحش، إدارة ثقيلة الوطأة جدًّا، مخالفات من كل نوع، المناورات السياسيّة، والمصلحة العامّة ملقاة في الزاوية (...) هذه هي مجموعة الوقائع التي أسهمتْ في التذمر الشامل إلى أبعد حدّ».
«إنّ حشو الإدارة قد تفاقَمَ إلى درجة أنّ لبنان مهدّد بأن يختنق (..) لم يُبذل أيّ جهدٍ من أجل إعادة تنظيم الإدارة اللبنانيّة على أسسٍ سليمة (...) إنّ إعادة هيكلة هذه الإدارة تفرض نفسها بإلحاح».
«مطلعَ الانتداب جرى توظيف أشخاصٍ لسببٍ أوحد هو أنّهم يشنّون حملةً ضدّ الانتداب. وها هم يقبضون الآن معاشات تقاعد. في ما بعد، أخضِع التوظيف لا للضرورات الإدارية وإنما لحاجات السياسة الانتخابيّة...».
استقلال لبنان
كان ألبير نقّاش على الدوام مؤيّدًا لاستقلال لبنان. إلّا أنّه أدرك في العام ١٩١٩، أو بعده بقليل، أنّ العمل من أجل الاستقلال يستوجب تدعيم الاقتصاد. لاحقًا، دقّقَ فكْرته في صيَغٍ صادمة:
«لكي ينال البلدُ استقلاله ويحافظ عليه، يترتّب عليه أن تكون له أوّلاً وسيلةُ الدفاع عنه. لذا وجب أن تكون صناعته متطوّرة وأن تكون له حياة اقتصاديّة طبيعيّة. لن نصنع استقلالنا بواسطة مجلس نواب وإنّما بإنتاج هيدرو أوكسيد الصودا والكلور».5
خاب أملُه في وطنه أيّما خيبة، بَلْور فكرةً عن الاستقلال أقلُّ ما يقال عنها أنّها تداني الكفر. فيما كان الاستقلال يبدو ضروريًّا في أعين أكثريّة اللبنانيّين في محيطه، قدّر أن لبنان لم يكن جاهزًا بعد للاستقلال. وكان ذلك في العام ١٩٤٢.
«إنّ منح لبنان، في الوضع الحاليّ، حكومةً ذات قاعدة طائفيّة أو حكومة من الأثرياء الديماغوجيّين، لا يقوده إلى التقدّم والاستقلال، وإنّما إلى التأخّر والعبوديّة وربما إلى خَرابه السياسي.
«لا يمكن تصوّر استقلال لبنان إلّا إذا ارتبط بقوّة صديقةٍ قويّة أو بمجموعة دول تقود خطواتُه الأولى وتساعده بصدقٍ لينشئ لنفسه جيشًا، ويرتقيَ في المواطنة، وينمّي اقتصاده السياسيّ والاجتماعيّ كما إنتاجه».
لا ينبغي خسارة نقطة ماء واحدة في البحر
عندما كان نقّاش على رأس دائرة «الدراسات والأبحاث» في العام ١٩١٣، وضع «برنامجًا واسعًا للكهربة الشاملة»6 وبدأ يفكّر في استخدامات المياه. خلال عمله في إدارة الأشغال العامّة، أطلق مشاريعَ حول هذا الموضوع لكنّه لم ينجح في إقناع المفوضيّة السامية بها. وإذا ملحمةُ المصانع الكهرمائيّة دفعتْه إلى تعميق تفكيره في هذا الموضوع. فاقترَح علنًا عام ١٩٣٣ مشروع تخطيطٍ عامٍّ للمياه يهدف إلى توزيع الحصص وفق كل استخدامٍ متوقَّعٍ للمياه، للرّيّ، لمياه الشفة، أو للطاقة الكهرمائيّة، ورسَمَ إطارًا وطنيًّا متساوقًا للأشغال المطلوب تنفيذُها7. ولم تثِر مبادرتُه أيَّ اهتمامٍ من أيّ جهة.
في نهاية الثلاثينيّات ركّز نقّاش على سدّ الليطاني وحدّد المقاربة التقنيّة الأكثر ملاءمةً له نظرًا إلى صعوبات الجوار الجيولوجي .
خلال زيارةٍ عائليّة إلى القدس عام ١٩٤٠، قدّم نقّاش مشروعه إلى إسحق فيلنشوك، كبير مهندسي «مؤسّسة مياه فلسطين» وعرَضَ عليه الصعوبات الفنّيّة التي تحدّ من إمكانات استخدام مياه الليطاني، فاقترح عليه فيلنشوك تحويلَ المياه غير المستعمَلة نحو فلسطين. رأى نقاش ذلك على أنّه اقتراحٌ سياسيّ، فاقترح مناقشةَ الأمر مع مسؤولين سياسيّين. حصلت زيارة إلى بيروت، لكن اقتراح فيلنشوك لم يؤدِّ إلى أي نتيجةٍ بالطبع.
سوف يواصل ألبير نقّاش العمل على المياه إلى حين وفاته. في العام ١٩٤٦ نشر في «الأوريان» وصفًا مفصّلاً ومدعمًا بالأرقام للعناصر الأساسية لمخطّطه. وعندما أدرك الحدود المفروضة عليه بسبب وضعه الصحيّ، سلّم راية التخطيط إلى موريس الجميّل عام ١٩٥١ وقد تبنّت الحكومة اللبنانيّة «مخطّط الجميّل نقاش» في ١٩ آب/ أغسطس وأوحت بأنّها لن تجيز مؤقتًا المشاريع الفرديّة قبل رسم مخطط تنفيذٍ شامل. فما أن يقَرّ ذاك المخطط حتى يصير بالإمكان إطلاق تنفيذ المشاريع الفرديّة. على الرغم من ذلك، لم تكن قد مضتْ أيّام معدودة على اعتماد المخطط رسميًّا، حتى منحت الحكومة امتيازًا فرديًّا إلى جورج معاصري.
بدأ العمل في سدّ الليطاني خلال عهد كميل شمعون ولم يعتمد المخطط التنفيذيّ الذي وضعه ألبير نقاش فلم تؤدِّ محاولات بناء السدّ إلّا إلى إخفاقات. استؤنف العمل عام ١٩٦٠ في عهد فؤاد شهاب وقد عُيّن هنري نقاش، ابن ألبير نقّاش، رئيسًا لـ«المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني» الذي استعاد مخطط أبيه وأنجز بناء السدّ على بحيرة القرعون الذي عمّد «سدّ ألبير نقاش».
الاستقلال الاقتصادي أوّلاً
«الاستقلال الاقتصاديّ للبلد يعتمد على استقلال طاقة الدفع لديه»
«التحرر الاقتصادي يتحكّم بالتحرّر السياسي»
باتتْ هاتان المقولتان من قبيل البدهيّات في أيّامنا هذه، لكنّهما لم تكوناه في الثلاثينيّات من القرن الماضي. إنّهما تدلّان، ضمن دلالاتٍ أخرى، على أنّ نقّاش كان يحمل مقاربةً لتحقيق استقلال لبنان تضمن نتيجةً مستدامة، بالمقارنة مع استقلالٍ وهميٍّ ومضطرب لا يخدم إلّا تأمينَ هيمنة أصحاب المصارف وكبار التجّار.
والحال أنّ ألبير نقّاش لم ينفكّ يصرّ طوال حياته على أهمّيّة تنمية الاقتصاد الذي كان يرتبط عنده ارتباطًا وثيقًا بتنمية الصناعة والزراعة. والحال أنّ هذا الموضوع يتكرّر في كتاباته من العام ١٩١٧ إلى ١٩٤٦. وتلخّص المقتطفاتُ الآتية الأهمّيّة التي يوليها للتنمية الاقتصاديّة وتنمية الصناعة والزراعة خصوصًا:
«من المخجل أن نظلّ مستعبَدين لوقت أطول للخارج بالنسبة لصناعاتٍ ننتج موادّها الأوليّة عندنا.
«لقد أكّدنا على الدوام أنّ استقلال البلد لا يكون بوجود رئيس جمهوريّةٍ ومجلس نوّابٍ وجيش من الموظّفين. كل المقالات التي نشرتُها طوال السنوات العشر الأخيرة في الصحافة اللبنانيّة والأجنبيّة تلتقي عند بيان أنّ الاستقلال الاقتصاديّ الشامل، ورفع المستوى الأخلاقيّ والاجتماعيّ للسكان يقعان في أساس كل استقلالٍ سياسيّ.
«من أجل أن ينال البلدُ استقلالَه ويحافظ عليه، عليه أن يوفّر وسيلةً الدفاع عن الاستقلال في المقام الأوّل. لذا وجب أن تكون صناعته متطوّرةً وأن يتمتّع بحياةٍ اقتصاديّةٍ طبيعيّة.
«يبدو لنا أنّ من الوهْم أن نطالب باستقلالٍ سياسيّ دون أن نستطيع إنتاج إبرة، بندقيّة، رشّاش (...) وأن لا نتّخذ أيّ أجزاء للتمهيد لمثل هذا الإنتاج».
ثم إنّ الوجه المثيرَ في أفكاره أنّه يكيّفها باستمرارٍ مع الوقائع المحلّيّة. أن يدرك، في موضوع التصنيع، مثلاً، أنّ لبنان ليس يملك مروحةً غنيّة من الموادّ الأوليّة، فيكتب:
«إن الافتقار إلى المعادن والفحم ليس عقبةً أمام التنمية الصناعيّة عندنا، كما يقال. وعلى عكس بعض التأكيدات، فإن التنمية الاقتصاديّة للبلد ليست تقتصر على وجود المعادن أو المحروقات لكنّها بالتأكيد مرهونة بدرجة تطوّر الثقافة التقنيّة لسكانه، ونشاطهم، ودرجة تطوّرهم الحضاريّ».
على الرغم من جهوده هذه، اصطدم بالكثير من المقاومة المعادية للتصنيع من قبَل سياسيّين، ووزارة المالية وميشال شيحا. ويشهد هذا المقتطفُ من العام ١٩٣٦ على مدى يأسه واستشرافه في آن.
«إنّ الشعب اللبنانيّ كان معدًّا بحكم الطبيعة لأنْ يحتلّ موقع الطليعة في التنمية الصناعيّة بين بلدان اللغة العربية. وها هو قد خسر هذا الموقعَ أمام التنمية المدهشة في فلسطين».
برنامج التجديد الوطنيّ والاجتماعيّ
في تدخّله الواضح الوحيد في السياسة، يختم نقّاش تقييمَه للانتداب عام ١٩٣٦ ببرنامج من أجل «التجديد الوطنيّ والاجتماعي» وهذه أبرز بنوده الاجتماعيّة والاقتصاديّة:
- الإصلاح الشامل لنظام التكليف الضريبي. الاعتماد الفوريّ للضريبة التصاعديّة على الدخل والإرث والربح. تخفيف الأعباء الضريبيّة المفروضة على العمّال والفلّاحين وتوزيعها على الطبقات المالكة والمحقّقة للأرباح (...)
- التعليم الابتدائي الإلزامي. وضْع تشريعٍ وقواعدَ للتعليم بكافة مستوياته. إنشاء نظام تعليمٍ وطنيٍّ إلزاميّ يشجّع على المواطنة وعلى خلق مثالٍ وطنيٍّ لبنانيّ.
- قانون العمل. حماية العامل والطفولة والكهولة وضمانات إلزاميّة ضدّ كل مَخاطر العمل. ضمانات اجتماعيّة.
- إنشاء جهازٍ مركزيٍّ للدفاع عن العمل. تنظيم نقابات العمّال والمنتجين.
- سَنّ تشريعٍ يحدّد موجبات مؤسّسات التسليف، والشركات المساهمة، والمؤسّسات المصرفيّة (...) بهدف حماية الادّخار وتحديد الأرباح أو الرسوم الحكوميّة في ما بعد. قمع التهرّب الضريبيّ.
القسم الاقتصاديّ
- تحقيق الاستقلال الجمركيّ الكامل، عْقد معاهدة بين سورية ولبنان بهدف تشريعٍ ضريبيٍّ يأخذ بالاعتبار مصلحة البلد العامّة وحدها (...)
- دراسة وتطبيق كل الإجراءات الآيلة إلى تنمية المنشآت الزراعيّة والصناعيّة والتجاريّة والمصرفيّة والسياحيّة، وعمومًا كل منشأة تسهم في تنمية الاقتصاد الوطنيّ.
- إنشاء مصرفٍ للتسليف الزراعيّ والصناعي بغرض التشجيع على تنمية هذين القطاعين.
- التشجيع على تأسيس شركات مساهمة ترمي إلى إنشاء منشآتٍ زراعيّة وتجاريّة وصناعيّة ومصرفيّة وعمومًا كل منشأة مفيدة لنموّ البلد الاقتصاديّ.
- اتخاذ إجراءاتٍ لتشجيع عودة كافة النشاطات اللبنانيّة الموزّعة عبر العالم إلى لبنان.
وقد صِيغ هذا البرنامجُ الملتزم يسارًا قبل سنتين من انعقاد «المؤتمر الوطنيّ والديمقراطي» الذي نُظّم بمبادرةٍ من الحزب الشيوعي اللبناني.
مئويّة مهدورة، مستقبل مشوّش
من دون نموٍّ للصناعة والزراعة سوف يكون استقلال لبنان وهميًّا، هذه هي رسالة ألبير نقّاش. وحتى لو أنّ التاريخ صادق كليًّا على فكرته، فإنها لم تصل إلى مرحلة ترجمتها إلى أفعال بعد.
أصرّ خلال قرابة أربعين عامًا، على أهمّيّة الاستخدام الأمثل للمياه، وإذا استثنينا بناء سدّ القرعون، لم يتحقّق أيُّ تقدّم في هذا المجال أو يكدْ. والأسوأ من ذلك، أنّ لبنان قد تبنّى منذ قليل شرعةً للمياه «تدعم الخصخصة الواسعة لهذا المورد الطبيعي، وتكرّس غلبة المصالح الفرديّة والشخصية على الخير العام»8.
لو أنصت القوم لكلمات ألبير نقّاش هل كان بالإمكان ولادة لبنان آخر؟ ان ثقل الإرث الكولونيالي لفرنسا وأهمية مصالحها المالية وسواها، تؤكد أنّ القوى المعنية قد تجاوزت بكثير الأهمية التي كان يمكن لأفكاره أن تكتسبها. في المقابل، هل هو منافٍ للواقعية التفكير بأنه لو أنصت لبنان لمقترحاته كان بإمكانه أن يدير شؤون نفاياته وتوزيع الكهرباء بطريقة أفضل ومنع انهيار اقتصاده؟
مهما يكن من أمر، فإن تحذيرات ألبير نقّاش لم تفد بشيء ولم تكن أكثر من صرخات في الصحراء.
واليوم علينا التسليم ببداهة درامية: لقد خسرنا قرنًا من الزمن بأكمله! بناء على التجربة الحاسمة إلى هذه الدرجة، ونظرًا إلى كثافة المشاكل المتراكمة منذ مئة سنة وتنوّعها وتَجذّرها، وتداخُلها الاستثنائيّ، يصعب التصوّر كيف سوف ينهض لبنان من كبْوته.
- 1. ميشال شيحا (١٨٩١–١٩٥٤) مصرفيٌّ وصحافيّ ومفكّر. أبرز بناة «جمهوريّة التجّار» والنظام الطوائفي في العهد الاستقلالي. أبرز مساهمٍ في صياغة دستور العام ١٩٢٦ والمدافع العنيد عن الاقتصاد الحر، المبنيّ على المال والتجارة والخدمات، وعُرف عنه عداؤه الصريح والقويّ للصناعة والتصنيع. [التحرير]
- 2. ليف كامنييف (١٨٨٣–١٩٣٦) قائد في الحزب البلشفيّ الروسي، أبرز مساعدي لينين مع غريغوري زينوفييف، عضو أوّل مكتب سياسي، وأوّل رئيس للدولة السوفياتية عام ١٩١٧ ورئيس «مجلس مفوضي الشعب» خلال مرض لينين عام ١٩٢٤. قضى في حملات التصفية التي شنّها ستالين ضدّ معارضيه عام ١٩٣٦. [التحرير]
- 3. لقد تبيّن الآن أن انشاء لبنان الكبير لم يكن يستجيب للماضي التاريخي.
- 4. بناءً على ما قاله روبير دُ كي، كان المفوّض السامي ملزمًا بموجب عقد بتوفير عدد معيّن من المشاريع لتلك الشركة.
- 5. هيدرو أوكسيد الصودا له استخدامات متنوّعة في الصناعة، منها في صناعة الورق والصابون، والكلور يستخدم لتنقية المياه [التحرير].
- 6. لم ينجَز إلّا في سنوات الستين من القرن الماضي.
- 7. تطلّبتْ هذه المهمة معرفةً كاملة بجغرافيا الجبال وطبقاتها. ولمّا كانت شبكة الطرقات لا تزال بدائيّة، ذهب على ظهور الحمير لاكتشاف الزوايا الأبعد من البلد فبات خبيرًا في هذه المجالات.
- 8. انظر بهذا الصدد مقابلة البروفسور رولان رياشي المنشورة في «الأوريان-لوجور» في الأوّل من آذار/ مارس ٢٠١٩.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.