العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

بولس نجيم ومثال «لبنان الكبير»

(١٩٠٨-١٩١٩)

نفتتح هذا القسم عن «الأوائل» في ملفّ المئويّة بهذه الدراسة المستفيضة لمروان بحيري عن بولس نجيم أحد أبرز دعاة «لبنان الكبير»، الذي يستحقّ أن يُعرف أكثر بكثيرٍ مما هو معروف الآن.

مروان بحيري مؤرّخٌ مميّز من مؤرّخي الجيل الجديد في لبنان والمنطقة. درس في الجامعة الاميركيّة ببيروت ودرّس فيها. عمل باحثًا في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» ببيروت ثم أسّس «مركز الدراسات اللبنانية» في جامعة أوكسفورد قبل أن يقطع الموتُ الباكر حياة زاخرةً بالبحث والإنتاج. يمكن تقسيم نتاجه إلى ثلاثة محاور: ١) اهتمام خاصّ بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي اللبناني بما فيه تفحّص حقبتي القطع والانتقال في ١٨٤٠ــــــ١٨٦٠ و١٩١٤ــــــ١٩٢٠، وله دراسة مميّزة عن عامّية كسروان ١٨٥٨ مستلهَمة من كتابة نجيم عنها، ٢) دراسات خاصّة في الصهيونيّة والقضية الفلسطينيّة، ٣) أبحاث في التاريخ الكولونياليّ للمنطقة، بما فيها بحثٌ مبكر في الاستشراق وتركيز خاصّ على السياسات والاستراتيجيّات الأميركيّة في المنطقة واقتصاديّات النفط.

•••

في السنوات الهادئة التي سبقت الحرب العالميّة الأولى وفي بيئة سياسيّةٍ مُنذرةٍ بالسوء شهدها العقد الأخير من الإمبراطوريّة العثمانيّة، صدر كتاب في باريس للكاتب لـ م. جوپلان عنوانه «المسألة اللبنانية: دراسة في التاريخ الدبلوماسي والقانون الدولي (١٩٠٨)».1 كان عملًا ضخمًا يحتوي على ٥٥٠ صفحة ويتّسم بعلامات ونوعيّة رسالة دكتوراه. بدأ جوپلان بعرضٍ واسع للتطوّرات التاريخية في سورية ولبنان منذ البدايات التاريخيّة الباكرة وصولًا إلى حملات محمد علي، ويشغل هذا العرض حوالي 40٪ من العمل. بعد ذلك يضيّق الكاتب النطاقَ من خلال تركيز اهتمامه على الشؤون الداخلية العاصفة في جبل لبنان من عام 1841 حتى عشيّة ثورة تركيا الفتاة، مع التركيز على تداخل الوفاق الأوروبي مع المسألة اللبنانية.

في تحليله للتاريخ المتقلّب لمتصرّفية جبل لبنان، يقترح الكاتب إصلاحاتٍ واسعة بما فيها زيادة هامش الاستقلاليّة بعيدًا عن الإمبراطوريّة العثمانيّة وإنشاء مؤسّسات أكثر ديمقراطيّة وحلّ راديكاليّ لأراضي الوقف الديني، وفوق كل ذلك، ضمّ أراضٍ على الحدود الشماليّة والشرقيّة والجنوبيّة بالإضافة إلى مدينة بيروت، وبذلك تكون مساحة المتصرّفية أكثرَ من تضاعفتْ. نُظِر إلى المشروع كإعادة تكوينٍ للبنان العصر الذهبي­— لبنان فخر الدين والأمير بشير ضمن حدوده الطبيعيّة كما رُسمتْ عامَي 1861 و1863 في خرائط البعثة العسكريّة الفرنسيّة إلى سورية. وكان على هذه التغييرات الواسعة أن تتمّ برعاية القوى الأوروبيّة العظمى مع دور خاصٍّ محفوظ لفرنسا. كما ذهب الكاتب بعيدًا في إبراز عناوين الاستقلاليّة وخصوصيّة تجربة لبنان التاريخيّة. وكانت لهجتُه الوحدويّة، مدعومةً بحجج الاكتفاء الذاتيّ الاقتصاديّ، لا لبْس فيها.

أوّل ذكر لـ«لبنان الكبير»

تم الكشف عن هويّة جوپلان بعد إحدى عشرة سنة. في آب/ أغسطس ١٩١٩، نشرتْ مجلة بيروتيّة مهمّة على الرغم من أنّها لم تعمّر طويلاً، «لا روڤو فينيسيين»، مقالًا بعنوان «المسألة اللبنانيّة: دراسة في الاقتصاد السياسيّ والإحصاء الوصفي»، كشَفَ فيها الكاتب بولس أو پول نجيم أن جوپلان لم يكن إلّا هو نفسه، وأنّ الاسم المستعار م. جوپلان كان إعادة ترتيبٍ لحروف اسمه: پول نجيم2. مرّةً أخرى، وكما في عام ١٩٠٨، دعا الكاتب لإحياء «لبنان العصر الذهبيّ»، لكنّه سمّاه هذه المرّة «لبنان الكبير» تحديدًا وذكر المصطلح مرّتين في المقال، مستخدمًا في المرّتين الخطَّ المائل لإبرازه. ولعلّ هذه المقالةَ الموقّعة في جونية بتاريخ 10 تموز/يوليو ١٩١٩ تشكّل، مع مقالة ألبير نقّاش «مستقبلنا الاقتصادي»، والتي نُشرت أيضًا في «لا روڤو فينيسيين» (تموز/يوليو ١٩١٩)، أوّل ذِكر موثّق وعلني لـ«لبنان الكبير»3. فمثلًا، لا يبدو أنّ المصطلح استخدمتْه قبل سبعة أشهرٍ أوّلُ بعثةٍ لبنانيّة إلى [مؤتمر الصلح في] باريس — أو على الأقلّ لم تأتِ على ذكره في بياناتها الرسميّة. وإذا نظرنا إلى مثالٍ لاحق، لم يُستخدم المصطلح في المراسلة المهمّة من كليمنصو إلى البطريرك الماروني الياس الحويك بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر ١٩١٩.4

لا شكّ في أنّ نجيم كوّنَ أفكاره على وقْع الأحداث بالغة الأهمّيّة لصيف 1919 عندما غادر وفدٌ بقيادة البطريرك الماروني جونية في 15 تموز/يوليو، على متن بارجةٍ حربية فرنسيّة، إلى روما والفاتيكان أوّلاً ثم إلى باريس ومؤتمر السلام في فرساي — وفي الوقت التي كانتْ فيه مهمّة تقصّي الحقائق الأميركيّة المرسَلة من الرئيس [وودرو] ويلسون، لجنة كينغ–كراين، تحاول تقييم الرغبات السياسيّة للمجتمعات المختلفة في سورية ولبنان وفلسطين. وكان يوجد سببٌ آخرُ يدعو إلى القلق في دوائر الموارنة والملكيّين الكاثوليكيّين هو طموح «المؤتمر السوري العام» الساعي إلى استقلال سورية الطبيعيّة كلّها «بقيادة الأمير فيصل ملكًا في ملكيّةٍ دستوريّةٍ مدنيّة وديمقراطيّة».5

بين العملَين المذكورَين سابقًا، ساهم نجيم أيضًا بفصول عن تاريخ لبنان في كتاب إسماعيل حقّي «لبنان: مباحث علمية واجتماعية»، غطّى الفترة الممتدّة بين الفتْح العربيّ وعام ١٩١٤، بينما ساهم الأب لويس شيخو بفصولٍ عن الحقَب السابقة. تحت ضغوط ومخاطر تعسّف النظام العسكريّ التركيّ زمنَ الحرب، أنهى نجيم سرديّته آملاً بانتهاء الحرب العالميّة الأولى سريعًا وعودة الازدهار إلى لبنان «في ظل جلالة السلطان محمد رشاد».6 في عمله الثالث، كان نجيم حذرًا في تعامله مع عناوين الاستقلاليّة والخصوصيّة ومع الإنجازات الوطنيّة لأبطاله. ليستْ هذه الفصولُ ذاتَ أهمّيّةٍ كبرى فيما يخصّ الدراسة، غير أنّها تُظهر نجيم وكأنّه تراجَعَ عن تحليله الراديكاليّ والتقدميّ والمثير للأفكار عن ثورة الفلّاحين في كسروان عام 1858 والذي كتب عنها في «المسألة اللبنانية» عام ١٩٠٨.7

الأهداف الرئيسة لهذه الدراسة هي النظرُ في المساهمات الفكريّة لهذا العضو الموهوب في الطبقة الوسطى المحترفة الصاعدة، ولفهمه للمحطّات المهمّة في التاريخ اللبنانيّ وكيف أنّها حدّدتْ رؤيته وبرنامجه السياسيّ الوطنيّ. وتشمل: الأصول التاريخيّة لسورية ولبنان، ودور فخر الدين والأمير بشير في تكوين ما رآه نجيم على أنّه كيانٌ سياسيٌّ لبنانيٌّ متميّز وعابر لحدود الجماعات، وخيبات المتصرّفية وطموحاتها، وطبيعة الإصلاحات وضرورتها الملحّة في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والمناطقيّة. وأخيرًا، مقارنة مفهومه للبنان الكبير مع صيَغٍ أخرى تقدَّمَ بها موارنة وملكيّون كاثوليك في الفترة المذكورة، بين عامي 1908 و1919.

•••

الطبقة الوسطى الصاعدة والأثر الفرنسي

وُلد بولس نجيم عام 1880 في جونية قضاء كسروان لعائلةٍ كانتْ قد أنجبتْ عددًا من المطارنة للكنيسة المارونيّة.8 أتمَّ دراساتِه في مدرسة عينطورة المرموقة. كان والده فارسُ نجيم عضوًا بارزًا في مهنة الطبّ ويَذكر أحدُ مراجع ما قبل العام 1914 أنّه كان عميد أطبّاء جبل لبنان، يتمتّع باحترامٍ واسعٍ بين الناس نظرًا لمهنته وصفاته الإنسانيّة9. كان فارس بين المجموعات الأوائل من التلاميذ اللبنانيّين الذين درسوا في كلّيّة الطبّ في القاهرة (قرابة عام 1860) التي ضمّت العديدَ من الموارنة، تمامًا كما كانت المجموعة التي دخلَت الكليّة عام 1868. وفقًا للدكتور شاكر الخوري الذي تخرّج هو أيضًا من كلّيّة القاهرة، كان الخديوي يحجز بانتظامٍ عشرَ منَحٍ في الطبّ للطلّاب الوافدين من سورية ولبنان.10 حتى تاريخِه، لا توجد دراسةٌ شاملة عن خرّيجي لبنان الأوائل هؤلاء. ولقد سبقوا طبعًا الجيلَ الأوّل من الأطبّاء الذين تخرّجوا من كليّة سورية البروتستانتيّة (والتي أصبحتْ لاحقًا الجامعة الأميركيّة في بيروت) وجامعة القدّيس يوسف اليسوعيّة.

بحلول الربع الثالث من القرن التاسع عشر، أصبح مهنيّو الطبقة الوسطى ظاهرين بكثرة، في المدن الساحليّة كما في البلدات الأكثر ازدهارًا في جبل لبنان، وكانت تصرّفاتُ هذه الطبقة متوقّعة: ابن من ابنَي الدكتور فارس نجيم اقتفى خطى والده ودرَسَ الطب في فرنسا، وافتتح عيادةً في جونية، بينما حصل بولس على دكتوراه في القانون وأخرى في العلوم السياسيّة من كليّة الحقوق في باريس واتّجه نحو السياسة. وكان البعدُ الفرنسيّ متوقّعًا عند جيل الأبناء هو أيضًا.

إنّ الأثر الفرنسيّ الذي كان شائعًا على صعيد الامتيازات الاقتصاديّة والتعليم واللغة ونمَط الحياة بين النخبة والطبقة المتوسّطة العليا، تسرّب أيضًا إلى سياسات ولاية بيروت ومتصرّفيّة جبل لبنان وأصبح واقعًا خصوصًا في العقود الأخيرة قبل الحرب العالميّة الأولى. ففي الأشهر الأولى من العام ١٩١٣، مثلًا، ناقشَت صحافةُ بيروتَ تداعيات تأكيد ريمون پوانكاريه أنّ فرنسا انتزعتْ من بريطانيا الاعترافَ بأن سورية ولبنان منطقةٌ ذاتُ اهتمامٍ خاصٍّ لفرنسا. وفي الوقت نفسه، تابعت «اللجنة اللبنانيّة» في باريس تحريضَها على الإصلاحات والتوسّع الجغرافيّ تحت رعايةٍ فرنسيّة. في منتصف العام، شاركتْ «لجنة بيروت الإصلاحيّة»، وهي من الجمعيّات السياسيّة المرموقة والأكثر تطوّرًا في بيروت، في «المؤتمر العربي» في باريس (وليس في اسطمبول أو روما أو برلين أو جنيف أو لندن). وفي نهاية العام، احتلّت زيارة للأسطول الفرنسي، والتي حظيتْ بتغطيةٍ إعلاميّةٍ واسعة، عناوين الصحف العريضة ووفّرت الفرصة لبعض شعراء الزجل المحليّين لإلقاء أبياتٍ رنّانة على شرف البحريّة الفرنسيّة. ثم إنّ اللبنانيّين أصيبوا بحمّى الطيران وكانتْ هذه الحمّى فرنسيّة. على أنّ رحلة دوكور ورو في طائرة «العصفور الأزرق»، والتي حظيتْ بتغطيةٍ إعلاميّة واسعة، لم تصلْ إلى بيروت. تحطّمت الطائرة شمال حلب. ولكن، بعد أسابيع من ذلك، في 27 كانون الأول/ديسمبر 1913 تحديدًا، حطّتْ طائرة ڤيدرين من طراز «بليريوت»، التي يبلغ طولُ جناحها عشرة أمتار، في مدرجٍ خُصّص لها قرب الكرنتينا، شرق بيروت.11 بعدها بثلاثة أيّامٍ حطّ طيّارٌ فرنسيّ آخر، بونييه، على رمال بئر حسن غرب بيروت هذه المرّة. في الوقت ذاتِه، وصلتْ فرقةٌ مسرحيّة فرنسيّة، هي فرقة مدام جان رولي وغاستون بوبوسك، إلى بيروت وافتتحتْ برنامجَها بمسرحيّة «الأرجوحة» لموريس دوناي، بينما كانتْ سينما غومون، المتخصّصة بعرْض الأفلام الفرنسيّة، تتناوب على عرض أفلامٍ بين «غرق التيتانيك» و«مناورات الجيش العثماني» و«كو ڤاديس؟ (إلى أين؟)» ولعلّ الفيلم الأخير كان الأكثر ملاءمةً لتلك الفترة. بينما تخصّصت السينما الأخرى في المدينة، «سيرك ريبيرا الكبير»، في عرض أفلام شركة فيتاغراف والأفلام الأميركيّة بطبيعة الحال.

أمّا على الصعيد الاقتصاديّ، فقد شهدتْ نهاية عام 1913 حملةً للخارجيّة الفرنسيّة الحازمة لكسْر احتكار بريطانيا لاستكشاف النفط في سورية الذي تملكه شركة بوكسال. في 22 ديسمبر/كانون الأوّل 1913، أكّد السير إدوارد غراي [وزير الخارجية البريطانيّ] للحكومة الفرنسيّة أنّ بريطانيا لا تسعى للحصول إلّا على امتيازٍ واحد للنفط في سورية وأنّ «أيّ محاولة للحصول على احتكارٍ لهذه المادّة ليست مطروحةً أبدًا».12 وبين الثقل الفظّ لمسألة النفط أو خفّة إثارة الطيران، بدأ النفوذ الفرنسيّ في سورية ولبنان عام 1913 يسودُ دون أيّ منازع. في الواقع، ومن منطلق اقتصاديٍّ بحْت، يمكن القول إنّ الانتدابَ في سورية ولبنان وفلسطين كان قد بدأ فعليًّا بحلول عام 1912.

بعد عودته من فرنسا قرابة عام 1908، شارك بولس نجيم في الحياة السياسيّة في قضاء كسروان في آخر أيّام المتصرّفية. يقول يوسف الحكيم، أحد أهمّ المرجعيّات التاريخيّة لتلك الفترة، إنّ الصراع على النفوذ في كسروان كان «بين حزب مشايخ آل الخازن والجبهة الشعبيّة بقيادة حبيب البيطار وجورج زوين وبولس نجيم ونعّوم باخوس».13 كانت القضايا غالبًا تتعلّق بشؤونٍ أبرشيّة، لكنّها شملتْ أيضًا، على مستوًى أعلى، تنافسًا حادًّا على الوظائف المُربحة في [مجلس] الإدارة في ظلّ متصرّفٍ يملك سلطةً مطلقة في تعيين موظّفي الإدارة العامّة وصرْفهم، بمن فيهم السبعة قائمقامين والسبعة والأربعون مديرًا. ويجدر الذكر أنّ نجيم كان يعارض علنًا السياسة العثمانيّة الرسميّة التي فرضتْ قيودًا على ملاحة البواخر في موانئ جبل لبنان مثل مرفأ جونية. في تشرين الثاني/نوفمبر 1909، انضمّ إلى بشارة قزّي وسجعان عريج في توقيع عريضةٍ اعتراضيّة وُزّعت على مستوى واسع بعنوان «لبنان وموانئه».14

كانت هناك محفّزاتٌ اقتصاديّة أخرى للطبقة الوسطى اللبنانيّة الصاعدة. توافرت فرصٌ جديدة في الهجمة على الامتيازات التي كانت تشمل سكك الحديد ومرافقَ الميناء والرّيّ والطاقة الكهرومائيّة التي جَذَبت الاهتمام الماليَّ الفرنسيّ وروّادَ الأعمال المحليّين عند مطلع القرن. من الأمثلة عن هذا التوجُّه خطّ سكّة الحديد بين بيروت والمعاملتْين والتي تضمن خياراتِ التوسُّع شمالًا أو جنوبًا والذي كان مموّلًا بشراكةٍ بين الأخوين خضرا من صربا في قضاء كسروان ومجموعة من الشركات والمصارف الفرنسيّة. وشكّل عاملُ المضاربات في هذه النشاطات، وتوسُّع المديونيّة، والوعودِ بعائداتٍ كبيرة ووظائفَ جديدة، أرضيّةً مثاليّةً للتّداخل مع لعبة المحسوبيّات السياسيّة.

الموظّف في إدارة المتصرفيّة

في أوائل عام 1913، بادر المتصرّفُ المعيَّن حديثًا أوهانّس قيومجيان بمراجعةٍ شاملة للإدارة وعيّن بولس نجيم رئيسًا للقلَم الأجنبيّ من ضمن سلسلةٍ من التعيينات، وهو إجراءٌ لقيَ ترحيبًا واسعًا. علّقت جريدةٌ داعمةٌ لفرنسا في حينها بأنّ «تعيين نجيم استُقبل برضا في لبنان كإشارةٍ إلى نيّة الحكومة من الآن فصاعدًا اختيار المواهب الشابّة القادرة على بَثّ نبضٍ جديد وتقدّمي في إدارةٍ مترهّلة».15

نُفيَ نجيم خلال الحرب العالميّة الأولى من قبَل جمال باشا، وعيّن في منصب المدّعي العامّ في محكمة الاستئناف خلال الانتداب الفرنسيّ وتُوفّي في فرنسا في عام 1931.

بأيّ معنًى كان بولس نجيم ممثلًا للنخبة المثقّفة الصاعدة؟ طرح هيربرت پاسان فكرةً تقول إنّ المجتمعاتِ التي تدْخل في «دورة التحديث، يجب عليها في وقتٍ ما أن تخرقَ في ثلاثة مجالات: الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ واللغة والصحافة». وقد تتزامن الخروقاتُ كما حصل في الصين خلال حركة 4 أيار/مايو 1919، حين حصلت «ذروةٌ متزامنة في الأفكار الأدبيّة والفلسفيّة والسياسيّة، تسعى للتحرّر من قيود التحرّر المنقوص لثورة عام 1911»، حسب تعبير پاسان.16 حصل شيءٌ مشابِهٌ في الولايات العربيّة من الإمبراطوريّة العثمانيّة إثر ثورة تركيا الفتاة في عام 1908، غير أنّ الخرق الصحفيّ واللغويّ سبق الإصلاحَ السياسيَّ والاجتماعيّ بحوالى العقد من الزمن. وبالفعل، لعبتْ قنوات التواصل الحديثة مثل الكتب والصحف والمجلّات الدوريّة أدوارًا مفصليّةً في تفكيك النظام التقليديّ في الشرق العربيّ، وهي أدوارٌ تستحقّ التعمّق في دراستها.

في وصْفه المشهدَ الثقافيّ في العقد السابق على الحرب العالميّة الأولى، يستشعر خيرالله خيرالله هذا الاختمار:

«بيروت، حيث وفْرة من الشباب اللبناني المتعلّم، هي العاصمة الثقافيّة لسوريا. في كنَفها تختمر أفكارٌ ومشاعرُ بالكاد نستطيع أن نتعرّف على أنفسنا فيها. وبالكاد نصدّق مدى جرأة النظريّات الاجتماعيّة والأدبيّة التي تنمو فيها. ولقد حفزت تلك الجرأةُ المجتمعَ الشرقيّ القديم على الأقلّ وأطلقتْ تيّارًا قويا يدفعه إلى الأمام».17

طبعًا يجب عدم المبالغة في تقدير أثر قَنَوات الاتّصال الجديدة، إذ إنّ الضغوط الاقتصاديّة والديمغرافيّة، مثل تلك الموجودة في جبل لبنان عام 1858، وحتى قبل ذلك في بيروت وصيدا وطرابلس، شكّلتْ عواملَ تفكيكٍ قويّةً هي أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، ثبت أنّ التعبيرَ عن القضايا التي تُعتبر حيويّةً، ونشْرها، مفيد للمحافظة على وتيرة الانهيار وتحقيق بالتغيير. وفي هذه اللحظة تحديدًا وَجدت النخبة المثقّفة رسالتَها، وأصبحتْ مع الوقت مؤسَّسة بحدّ ذاتها.

طرحت النخبة المثقفّة المارونيّة في جبل لبنان (أو ولاية بيروت) والتي تعلّمت على يد الفرنسيّين — وبولس نجيم واحدٌ منها — الأسئلة الأساسيّة ذاتَها تقريبًا التي طرحتْها النخَب المسلمةُ الصاعدة في المدن والممثلَّة بعبد الغني العريسي مثلًا، وأظهرت القدرةَ النقديّةَ ذاتَها. قد تكون الأسئلة هي ذاتها، لكن غالباً ما اختلفت الإجابات. شملت الأسئلةُ المطروحة: من نحن؟ أين تقع الملامة؟ مَن هم أصدقاؤنا؟ ما العمل؟ لكنّ التباين بين إجابات نجيم والعريسي لافتٌ فعلًا.18

نظرةٌ في تاريخ لبنان

تكشف الجمل الأولى من كتاب «المسألة اللبنانية» لبولس نجيم (الصادر في عام 1908) بوضوحٍ الخطوطَ العريضةَ لرؤيته التاريخيّة. هدفُه المعلَن كان «اقتفاء آثار تاريخ هذه الأرض اللبنانيّة الصغيرة، هذا الوطن الصغير، الذي لعبَ رغم ذلك ولا يزال يلعب دورًا كبيرًا في الشرق»19. فهو رآه مركزًا لحضارةٍ متطوّرة في الماضي القديم. وعلى الرغم من ضمّه إلى إمبراطوريّةٍ في الحقبة العثمانيّة، نجَحَ في الحفاظ على درجةٍ عاليةٍ من الاستقلاليّة نظرًا لعوامل الموقع الجغرافيّ والظروف التاريخيّة. ضمْن سوريا، طوّر لبنانُ «شخصيّته المميّزةَ على الصعيد الدينيّ كما على الصعيدَين السياسيّ والاقتصاديّ»20. باختصار، رأى نجيم أنّ تاريخ لبنان يتجاوز الإطار السوريَّ وله تداعياتٌ أوسع. خلال القرن التاسع عشر، شغَلَ لبنانُ اهتمامًا خاصًّا عند الدبلوماسيّين الأوروبيّين، مع انتهاء تدخّل محمد علي في عام 1840، «أصبحت المسألةُ اللبنانيّة مسألةً دوليّة، بفضل مطالبة اللبنانيّين لأنفسهم بأوسع استقلاليّةٍ ممكنة».21 في هذا السياق، لعبتْ فرنسا دورًا خاصًا بسبب تاريخها القديم في العلاقات الدينيّة واللغويّة والتعليميّة والسياسيّة والاقتصاديّة مع الساحل والجبل.

هذه باختصار هي الحجّةُ. في التفاصيل، بدأ نجيم بتهيئة المشهد الجغرافيّ لسورية ولبنان، مظهرًا في العمليّة انحيازًا واضحًا للحتميّة الجغرافيّة. يظهر تأثير إليزيه ريكلو عليه من خلال تكرار الاستشهاد به. كتب نجيم: «حدّدتْ واقعتان جغرافيّتان تاريخ سوريا وإثنيّتها: الأولى هي تكوينها كحزامٍ ضيّق محشورٍ بين البحر المتوسّط والصحراء، والثانية هي طبيعتها الجبليّة»22. وصَف المنطقةَ بأكملها كتقاطُعِ أمَم، ومركز مواصلات، والطريقِ الأرضيِّ الوحيد بين آسيا وأفريقيا، وأقصر الطرق بين البحر المتوسّط والمحيط الهنديّ، والملتقى الطبيعيّ بين الشرق والغرب. لكن الطبيعة الجبليّةَ للأرض شكّلتْ أيضًا عاملَ انقسام: إذ دأبتْ على تفريق المكوّنات المختلفة من السكّان. كل ما رآه نجيم من خلال سياق التطوّر التاريخيّ كان دولًا صغيرةً متصارعة دائمًا، وتشكّل بالتالي فريسةً سهلةً للغزاة الأجانب. لكن في هذه النقطة، يطرح نجيم بُعدًا اجتماعيًّا داروينيًّا في حجّته. إذ كانت المكوّناتُ الأقوى من بين الشعوب السوريّة المختلفة تنسحب إلى حصونها الأرضيّة — خصوصًا في سلسلتَي جبال لبنان الشرقيّة والغربيّة وجبل الشيخ — حيث تساعدها العواملُ الجغرافيّة الملائمة على الحفاظ على استقلاليّتها وتطويرها، لاسيّما في فترات انكماش السلطة المركزيّة.

أبدى نجيم، بشكلٍ أساسيّ، إعجابًا كبيرًا بإنجازات الفينيقيّين، رغم أنّه لم يكتبْ عنهم أكثرَ من صفحتين من أصل صفحات الكتاب الـ 550. كما أظهر ما يمكن أن يُسمّى عدم الاكتراث بالحقبة الإغريقيّة الرومانيّة إذ يذكرها في فقرةٍ واحدة فقط. كما أظهر عداوةً واضحةً نحو البيزنطيّين، وحمّلهمْ مسؤوليّة دمار سورية الطبيعيّة. في الواقع، كل ما رآه في الحقبة البيزنطيّة كان الفسادَ الإداريّ، وموظّفين عامّين قساةً، وغياب العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وضرائبَ باهظة، وهرطقةً وملاحقات، ومنظوماتٍ دينيّة تملك امتيازاتٍ اقتصاديّةً كبيرة ولا تساهم في الحياة الاقتصاديّة العامّة للمنطقة إلّا بالقليل23. نتيجة ذلك، لم تكن الدولةُ البيزنطيّة في موقعٍ يتيح لها إيقافَ الزحف العربيّ، خصوصًا أنّ السكّان السوريّين لم يندمجوا فعلًا مع الحضارة الهيلّينيّة. بقوا دومًا ساميّين، كما قال نجيم، وتعاملوا مع البيزنطيّين كغرباء بينما تعاملوا مع العرب كأخوةٍ من العِرق نفسِه. هذا وكتب نجيم: «رحّب معظم السوريّين فرِحين بوصول العرب ودحْر المضطهِدين البيزنطيّين».24

في الواقع، عبّر الكاتبُ عن نظرةٍ إيجابيّةٍ نحو الفتْح العربيّ، إذ رآه انتقامًا للمبدأ السامي على تسعة قرونٍ من السيطرة الهيلينيّة، وعودةً لسورية إلى مسارها التاريخيّ الصحيح: «أصبح بإمكان حضارةٍ ساميّةٍ متجذّرة بعمقٍ في المعالم الجغرافيّة والعرقيّة للأرض والوريث الحقيقيّ لحضارة الشرق القديمة أن تنموَ منذ ذلك الحين فصاعدًا»25. وختم قائلًا: «مع العرب أصبحت سورية من جديدٍ مركز الساميّة ومهْد الحضارة العربيّة أو الإسلامية»26. في الواقع، خلال حكم الأمويّين أصبحت المنطقة مركزَ العالم المتحضّر: «الأمويّون هم الذين بنَوا الحضارة المسلمةَ أو العربيّة، الأجمل في القرون الوسطى المتأخّرة. وبالتأكيد كانتْ إمبراطوريّتُهم العربيّة–السوريّة الدولةَ الأرقى حضارةً والأوفر ازدهارًا منذ القرنين السابع والثامن. وكانت سوريا حقًّا مركزَ العالم المتحضّر».27

بالإضافة إلى ذلك شكّل وصول العرب نقطةَ بداية للتجربة المارونية: «في هذه الحقبة، من دون شك، وُضع الأساسُ التاريخيّ لقومٍ لعب في المستقبل دورًا اساسيًّا في لبنان وفي سوريا وهو قوم الموارنة... منذ بداية الفتح العربيّ بدأ لبنان يلعب دورًا خاصًّا داخل سورية سوف نعرض له بمجمله».28 وتحدّث نجيم عن أصول المسلمين التنوخيّين والقرامطة الشيعة والدروز في ما يخصُّ التاريخَ اللبنانيّ. وقد استخدم مراجعَ متنوّعةً لكنّها أساسيّة، منها: ديركس، الدويهي، يوسف الدبس، عازار، الشدياق، ابن يحيى، تشرشل، لامينس، دو ساسي، غايز، جودت باشا، دي غوخ، ابن خلدون، الطبري، والواقدي.

في تاريخ الإمارة

لا تهدف هذه الورقةُ إلى البحث في تقييم نجيم للتطوّرات التاريخيّة زمنَ العباسيّين والفاطميّين والسلاجقة والصليبيّين إلّا للتنويه بثلاثةٍ من تفسيراته المميّزة. الأولى، وفيما يخصُّ السلاجقة الذين جلَبوا إلى سوريةَ تنظيمًا عسكريًّا إقطاعيًّا، إذ تبنّى الموارنةُ بعدها «هذا التنظيمَ العسكريَّ، الذي هو تنظيم الأمّة المسلّحة مع تراتبيّةٍ من السادة الإقطاعيّين مكوّنة من مقدَّمين وأمراء ومشايخ».29 الثانية، أصبحت سورية زمن الصليبيّين الملتقى الطبيعيَّ للغرب والشرق «حيث أخذ الفرسان اللاتينيّون» معهم بذورَ حضارةٍ جديدة خرجتْ إلى الشمس في عصر النهضة.30 الثالثة، أنشأ الصليبيّون روابطَ غيرَ قابلةٍ للحلّ بين الإفرنج ومسيحيّي سورية، وخصوصًا الموارنة. منذ تلك الفترة، أصبح الموارنة «فرنسيّي المشرق» ومناصري فرنسا المسيحيّة في سوريا.31

احتفظ نجيم لفخرالدين والأمير بشير بمعاملةٍ خاصّة، فتقديس الأمير المعنيّ الذي يظهر في دراساتٍ تاريخيّة لاحقة (مثلًا عند ميشال شبلي أو عادل إسماعيل) حاضر بقوّةٍ عند نجيم أيضًا. بالنسبة له، لم يكن فخرالدين منظِّمًا لمؤسّسةٍ عسكريّة فعّالةٍ فحسْب، بل كان قبل أيّ شيءٍ آخَرَ ملكًا ينشيء دولةً سيّدة من خلال جمع جماعاتٍ مختلفة في وحدةٍ متناغمة. كما رآى إليه أميرًا متنوّرًا متلهّفًا لإنعاش الاقتصاد و«كولبيريًّا سابقًا لكولبير» يبحث عن الاكتفاء الذاتيّ والحمائيّة وتنظيم الاقتصاد وتطوير واسعٍ للبُنى التحتيّة بمساعدة خبراء أوروبيّين وتكنولوجيا أوروبيّة.32 باختصار، هنا اقتباسٌ من نجيم:

«صنع فخرالدين دولة قويّة ومحكمة التنظيم مركزُها [جيل] لبنان... تخطّت كونها إقليمًا تركيًّا وأصبحتْ دولة تعيش بحياتها الذاتية، دولة تشبه البلدان المتحضّرة في أوروبا الغربية أكثر منها ولايات الباب العالي. عاشت روعة النهضةَ [الإيطاليّة] بفضل قيادة مستبدّ متنوّر».33

على أنّ نجيم يعترف بأخطاء فخرالدين، لكونه لم يعرف الاعتدالَ وكان متسرّعًا كثيرًا. كما يلحظ نزعةً نحو القمع الاقتصاديّ في نهاية مسيرته. لكنْ رغم ذلك كان حكْم نجيم على فخرالدين واضحًا:

«هكذا توفّي الأمير الألمع الذي حكَمَ الجبل قطعًا. كان يتمتّع بعبقريّةٍ لا تُنكَر. ترك معالمَ لا تفنى: أوّلها الازدهار الاقتصاديّ لبيروت ولبنان، ما وضعهما في المرتبة الأولى بين بلدان المشرق، ثم إنّه أسّس وحدةَ لبنانَ السياسيّة، أسّسَ دولةً لبنانيّة قادرةً على أن تلعب دورًا كبيرًا في سوريا وفي الشرق كلّه، دولة مزدهرةً جذبتْ له اهتمام أوروبا الراعية. لا شكّ في أنّه فشل، لكنّه دلّ اللبنانيّين، دروزًا وموارنةً، على الطريق الذي هو طريق الدفاع عن الاستقلال، وقد دعّم تلك الوحدةَ بواسطة تقاليد حكمه المجيدة، واضعًا إيّاها في الصفّ الأوّل بين الشعوب السوريّة. منذ ذلك الحين، بات جليًّا أنّ خلاص سوريا واستقلالها لا يمكن أن يأتيا إلّا من لبنان».34

أما بالنسبة إلى الأمير بشير المثير للجدل، فقد ركّز نجيم على سياساته التي وسَمَها بالحياد المحسوب بين الولاة الأتراك للولايات السوريّة بهدف الحفاظ على توازن القوى بين دمشقَ وعكّا. داخليًّا، عمل بشير جاهدًا على إضعاف الشيوخ الأقوياء والنظام الإقطاعيّ وتعزيز قبضته على الجبل والساحل، خصوصًا فيما يخصّ السيطرةَ الاقتصاديّةَ والمركزيّةَ الإداريّة. ورأى نجيم أنّ بشيرًا يملك عبقريّةً خاصّة في التقيّة، فهو قادرٌ على تقديم نفسه بعباءاتٍ دينيّةٍ مختلفةٍ بما يتلاءم مع جماعاته متعددةِ الأديان. ولا يطرح نجيم احتمال أن تكون هذه روايةً خرافيّة ويفترض أنّ المسلمين والمسيحيّين والدروز اللبنانيّين كانوا مخدوعين بحيلة بشير.

لكن بشيرًا لم يتمكّن من البقاء حياديًّا إلى الأبد. بحلول عام 1831، «أجبرتْه الظروف على التخلّي عن الحياد والاختيار بين تركيا ومصر»35 على ما يقول نجيم، وأدّى ذلك إلى نهايته ونهاية العهد الشهابيّ. لكنّ تجربة بشير احتوت العديدَ من عوامل الإيجابيّة بالنسبة لنجيم: 1.) أعاد التحالفُ بين محمد علي وبشير الزخم لتيّار مركزيّة السلطة، 2.) رغم التوتّرات الباكرة بين الدروز والموارنة، والتي أطلقها عن قصْد كلٌّ من بشير ومحمد علي، تخطّت الجماعتان خلافاتهما والعداوات ووقّعتا على اتفاقيّة دير القمر عام 1840، 3.) وحّدَت المعركةُ الأخيرة ضدّ محمد علي جميعَ الجماعات في جبهةٍ واحدة، وساهمتْ في تكوين نوعٍ من الوحدة، 4.) أحضر البريطانيّون كمّيّات كبيرةً من الذهب والغذاء والأسلحة والذخائر لدعم الثورة على المصريّين، 5.) وأخيرًا، لم تَعد المسألة السوريّة، وخصوصًا ببُعدها اللبنانيّ، شأنًا عثمانيًّا، إذ أصبحتْ مدوّلةً36 ــــــ وقد رحّبَ نجيم بهذا التطوّر. لكنْ بدعمها لمحمد علي، خسرتْ فرنسا بعض النفوذ، فاستولتْ قوى الوفاق الأوروبيّ بقيادة إنكلترا على دورها كوسيطٍ بين الدولة العثمانيّة والجماعات المسيحيّة.

باختصار، على امتداد العهد المعنيّ وفي أوائل العهد الشهابيّ، لاحَظَ نجيم انكماش السياسة المرتكزةِ إلى الدين لصالح سياسة الإمارة، وتعديل النظام الإقطاعيّ، ونشوء طبقةٍ من الوجهاء تتخطّى مصلحتُهم الاقتصاديّةُ انتماءاتِهم الطائفيّة. وبالتالي أصبح الانشطار في لبنان قيسيًّا–يمنيًّا أكثر منه درزيًّا–مارونيا. عدا عن ذلك، كان لكل الطوائف مصلحةٌ مشتركة في إبعاد العثمانيّين والدفاع عن استقلاليّةٍ هشّة. في هذا السياق انبثق كيانٌ سياسيٌّ على قاعدة «حركة تحرّر واستقلال عن العثمانيّين»37.

كانت المتصرّفية محطّةً مفصليّة أخرى في تجربة لبنان التاريخيّة. في معرض تقييمها الإجماليّ، حلّل نجيم بتأنٍّ نتائجَها الإيجابيّة كما الآمال الخائبة قبل الخوض في برنامجها للإصلاح السياسيّ والاقتصادي. كانت النتائج الإيجابيّة عديدة. أوّلًا، «انتزاع جبل لبنان من تحت السيطرة المباشرِة للباب العالي ووضْعه مباشرةً تحت الوصاية المشتركة لـ«القوى» [الأوروبيّة] والتي كان ممثّلوها يشاركون فعليًّا في تسمية المتصرّف]38. كانت استقلاليّة لبنان تتزايد وتوفّر نموذجًا للأقاليم الأخرى في سوريا. ثانيًا، أصبح السلام الداخليُّ واقعًا وبدأ نسيان أحداث عام 1860 تدريجيًّا. ثالثًا، رغم كل أنواع الصعوبات، كانت الحياةُ الوطنيّة والسياسيّة — كما هي الحالة في غرب أوروبا — تركّز على القضايا السياسيّة والاقتصاديّة وصيغتْ برامجُ لا تراعي الانتماءاتِ المذهبيّة. باختصار، ادّعى نجيم وجود «تطوّر مستمرٍّ للديمقراطيّة في لبنان»39. رابعًا، كان هناك تقدّمٌ بسيط في التنمية الاقتصاديّة، لكنّه كان في البُنى التحتيّة أكثرَ ممّا هو في التجارة.

غير أنّ الآمالَ الخائبةَ كانتْ أيضًا عديدة. بدايةً، يقول نجيم إنّ تسوية عام ١٨٦١ شَوِّهت الجبل كإقليم. وما زاد الأمرَ استعصاءً على الفهم أنّ إعادة التنظيم الإقليميّة هذه تمّتْ على يد القوى الأوروبيّة ذاتها التي ساهمتْ في هندسة الوحدة الإيطاليّة والوحدة الألمانيّة40. إضافة إلى ذلك، كانت سياسة منْح المتصرّف سلطاتٍ مطلقة خطوةً رجعيّة، وفي كل الأحوال، كان اختيار صاحب هذا المنصب من قبَل أهالي المنطقة. وإلى هذا، تمّ تكريس الطائفيّة رسميًّا. أخيرًا خسر الجبلُ حوالى ثلث سكّانه في فترة الثلاثين سنةً بين 1870 و1900 لمصلحة الأميركيّتين الشماليّة والجنوبيّة ومصر.

أين وقعت المَلامة وماذا كان يمكن فعلُه؟ بدايةً، رأى نجيم أنّ اللبنانيّين هم الأكثر نشاطًا وإنتاجيّةً بين الشعوب السوريّة، وأصحاب الدور الطليعيّ في تحقيق الوحدة القوميّة والتقدّم لسوريا. وهم «وحْدهم القادرون على لعب الدور الذي لعبتْه [مملكة] پييدمونت في إيطاليا. إنّ اللبنانيّين هم پييدمونتيّو سوريا. فلتَسمحْ لهم القوى بأن يلعبوا الدورَ الذي لعبه البييدمونتيون على الأقلّ»41، بالتالي والواضح، إذًا، أنّ نجيم في عام ١٩٠٨، تصوّرَ لبنان ضمن إطارٍ قوميٍّ سوريّ، يلعب داخله دورًا طليعيًّا. أمّا مقارنتُه بإقليم پيدمونت فلافتةٌ ومبتَكرة من حيث الطوبوغرافيا [طبيعتُه الجبليّة] والدين وأهميّة اقتصاد الحرير. لكنّ تحقيقَ ذلك كان يتطلّب إعادة لبنان الطبيعي و«استرجاع» — والتعبير لنجيم — طرابلس وعكّار والبقاع ومرجعيون ومنطقة الحولة في الجليل وصيدا وبيروت طبعًا.

تأميم أملاك الوقف

وكانت الحاجة للحدّ من تدفّق المهاجرين إلى الأميركيّتين على المستوى ذاته من الأهمّيّة. هنا اقترح نجيم إجراءً راديكاليًّا ومثيرًا للجدل إلى أبعد حدّ، وأصرّ على أنّه الحلّ الوحيد لمشكلة الهجرة، وهو: الاستيلاء على أملاك الوقف، أي الأراضي غير القابلة للتصرّف التي بحوزة الكنسية والأديرة42. يقول إنه لم يكن يريد لذلك أن يظهر «كاجراءٍ من التعصّب ضدّ الاكليريوس»43، بل أراده أن يُرى من منظور المصلحة العامّة. وأصرّ على أنّ للمؤسّسة الكنسيّة تأثيرًا كارثيًّا على الاقتصاد لأنّ سياستها كانتْ تنحصر في الاستحواذ على المزيد والمزيد من أملاك الوقْف، تُترك بعدها بلا إنتاجٍ ويُحرَم منها الفلّاحون المتعطّشون إلى الأرض. كيف نمضي قدمًا؟ هناك حاجةٌ لحلٍّ جذريٍّ وهو مصادرة الأملاك الكبيرة للرهبانيّات والأديرة من دون تعويض، «وإقرار قانونٍ يمنعها من الاستحواذ على المزيد من الأراضي»44. إضافة إلى ذلك، اقترح نجيم أن تخضع المؤسّسةُ الكنسيّة القويّة لقانون الضرائب ذاتِه الذي يخضع له سائرُ الاهالي. ويجب التذكير هنا أنّ نجيم كان يكتب ذلك في فرنسا في ظلّ التشريع المناهض للإكليريوس في الجمهوريّة الثالثة، والواضح تأثّره العميق بذلك التيّار.

هذا كل شيء عن المسألة كما كانتْ تُرى في عام 1908. وإذا كان هناك بعض الغموض أو الالتباس حول مصطلحات سورية أو لبنان، فهذا أمرٌ طبيعي. يلاحَظ الالتباسُ ذاتُه في موسوعة «تأريخ سوريا» للمطران يوسف الدبس، والتي تمثّل أفضل مؤلَّفٍ في التأريخ المارونيّ، كما في كتاب La Syrie للكاتب خيرالله خيرالله الصادر في عام 1912، والذي يمثّل التوجّهَ العلمانيّ45. عند هذا المفصل، وعلى الرغم من التشديد الواضح على مواضيع الخصوصيّة والعلاقة الخاصّة بفرنسا، رأى نجيم إلى اللبنانيّين كطليعة الأمّة السورية المستقبلية: أيْ صيغة بيدمونت الإيطاليّة، إن شئنا استخدام القياس َالذي استخدَمَه. بكلماتٍ أخرى، لم يكن نجيم ليختلفَ كثيرًا، في تلك المرحلة، عن «اللجنة السورية» في باريس بقيادة جورج سمنه وشكري غانم.

المسألة اللبنانيّة في العام ١٩١٩

تصعب المبالغة في أهمّيّة العام 1919. لم يكن الحلفاء في فرساي بتقدّمون في محاولتهم للوصول إلى اتفاقٍ حول سوريا. يصف مصدرٌ أميركيّ، ويكهام ستيد، الجوَّ المشحونَ في مفاوضات آذار/مارس 1919 كما يلي: «ناقشت اللقاءاتُ المسألةَ السوريّة والاتّفاقاتِ الفرنسيّة البريطانيّة بخصوصها، كما المعاهدات السرّيّة عمومًا، وكانت النتيجة أنّ الارتباك أصبح أكثر ارتباكًا. خرج الرئيس ويلسون من الاجتماع وهو يشتم الجميع وكلّ شيء، قائلًا إنّه لم يفعلْ شيئًا إلّا الكلامَ على مدى 48 ساعةً وبدأ ينتابه القرفُ من المسألة بأسرها»46. بعد ذلك بقليل، في شهر نيسان/أبريل، التقى كليمنصو الأميرَ فيصلَ وحاولا تقريب وجهات نظرهما. اعترفتْ مسوّدة المقترح الفرنسي، والتي سُحبتْ في الواقع عندما رفضت الحكومة الفرنسيّة مسوّدة جواب فيصل، «بحقّ سورية بالاستقلال بشكل فدراليّةِ مناطق حكم ذاتيّ محليّة تعكس تقاليدَ ورغبات السكان»47. قد تكون بعض هذه المعلومات تسرّبتْ إلى مجموعات الضغط اللبنانيّة في باريس والدوائر الفرنسيّة في بيروت. على أيّ حال، ووفقًا لغونتو–بيرون، الذي أتمّ دراسةً مفصّلة عن عامَي 1918–1919 في كتابه «كيف استقرّت فرنسا في سوريا»، انزعج الموارنة والملكيّون الكاثوليك من خطاب جورج بيكو في دمشق في كانون الثاني/يناير من العام 1919، الذي أشار فيه إلى علاقةٍ وثيقة بين فرنسا وفيصل.48 وفي نيسان، مع وصول فيصل إلى بيروت من فرنسا على متن بارجة حربيّةٍ فرنسيّة، ارتفع منسوب القلق أكثر عند أولئك الذين يفضّلون رؤية لبنانَ مستقلًّا تحت وصايةٍ فرنسيّة. وعندما كُشف عن زيارةٍ لهيئةٍ أميركيّةٍ إلى الشرق الأدنى للتأكد من رغبات الشعب هناك، احتشد داعمو فرنسا بفاعليّةٍ لضمان إيصال صوتهم.

كيف رأى نجيم «المسألة اللبنانية» في عام 1919؟

يبدأ مقاله بأنّ «الأمّة اللبنانيّة [بأحرف كبيرة] غيورة في حماية استقلالها»49، وأنّها لَقَلِقةٌ على سيادتها الوطنيّة تطالب لنفسها بوجودٍ سياسيٍّ حرّ ومستقلّ يناسب وضعها الجغرافيَّ وماضيَها التاريخيّ. بالنسبة لنجيم، كان ذلك يعني فعليًّا إعادة تكوين «لبنان العصر الذهبيّ: لبنان الكبير»50. وحثّ نجيم على أنّ ضمّ الأراضي التي تم تحديدُها من قَبل أهمُّ من طبيعة النظام أو من شكل الحكومة التي سوف تحكم البلد. قد يكون ذلك مفاجئًا عند أوّلِ نظرة، ولكن الأسباب كانت واضحة: إنّ لبنان الصغير، أي لبنان المتصرّفية المحدود، ضعيفٌ اقتصاديًّا ولن يمكنه أن يعيش على مخزون شهرين من القمح الذي ينتجه. وإذ يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تحليل ألبير نقاش الرؤيويّ عن مستقبل لبنانَ الاقتصاديّ، يشرح نجيم أنّه في الأوقات العاديّة يعتمد التوازن الاقتصاديُّ للبلد على ثلاثة عوامل رئيسيّة، جميعها عواملُ خارجيّة. العامل الأوّل هو تحويل الذهب من المهاجرين اللبنانيّين في الأميركيّتين من دون عوائقَ والذي يمثّل مئة مليون قرشٍ سنويًّا. العامل الثاني هو حرّية استيراد بيض دُود القزّ من فرنسا وإيطاليا وتوريد الحرير بكلّ أشكاله في المقابل. العامل الثالث هو استيراد القمح والحبوب الأخرى من دون عوائقَ من الداخل بمعدّل تكلفةٍ يبلغ 80 مليون قرشِ سنويًّا.51 وسوف يسبّب أيُّ اضطرابٍ جدّيٍّ توقُّف اقتصاد «لبنان الأصغر» تمامًا ويؤدّي إلى مجاعةٍ كما حصل خلال الحرب العالميّة الأولى. من جهةٍ أخرى، سوف يشكّل لبنانُ الأكبرُ، وفقًا لحدود خرائط هيئة الأركان الفرنسيّة في عامَي 1861 و1863، وحدةً اقتصاديّةً ووطنيّة قابلةً للحياة. وفقًا للّوائح الإحصائيّة التي عرَضَها، كان يعني ذلك إضافةَ حوالى 150 ألف سنّيّ و90 ألف شيعيّ إلى عدد سكّان لبنان المتصرّفية. باختصار، سوف يشكّل الموارنةُ 275 ألفًا من مجمل عدد السكان البالغ 850 ألفًا. ولا يظهر أنّ نجيم وجد أيَّ سببٍ للذعر من هذا المشهد، بل رأى أن اللبنانيّين «جاهزون لنظامٍ ديمقراطيٍّ متحرّرٍ من أيّ انتماءاتٍ خارجيّة».52 إلى ذلك هو يؤمن بأنّ اللبنانيّين يشكلون كلًّا متكاملًا، وكيانًا وطنيًّا، «موحّدًا بماضٍ مجيد وتقاليدَ مشتركة، وتاريخٍ وطنيٍّ، وانتماء جميع سكّانه ابناء عرقٍ واحد».53

لكن توجد ملاحظةٌ محيّرة في مقالة عام 1919 هذه: لم ينادِ نجيم، الذي يعيش في ظل إدارةٍ عسكريّةٍ فرنسيّة، بانتدابٍ فرنسيٍّ كما فعَلَ الكثيرون من النخبة المثقّفة الفرنكوفيليّة على صفحات الجريدة ذاتِها وفي أماكنَ أخرى. ما تفسيرُ ذلك؟ هل كان لدى نجيم شعورٌ بأنّ بلده سوف يستبدل بذلك متصرّفًا بمتصرّف: جورج بيكو بدلًا من مظفّر باشا؟ هل كشفتْ له أيّامُ دراسته في باريس حقيقةَ الإدارة الاستعماريّة الفرنسيّة؟ هل كان سياسيًّا محنّكًا لدرجةِ أنّه يعرف أن عددًا من الأشياء قد يظهر بعد طوفان عام 1919 ومن الحكمة إبقاءُ الانفتاح على أكبر عددٍ من الخيارات؟ لكنّ هذا غير مفاجئٍ عندما نتذكّر أنّ أوّل بعثةٍ لبنانيّةٍ إلى ڤرساي في كانون الثاني/يناير 1919، قبلت أن يكون أحد الخيارات هو «استقلال [لبنان] داخليّ ضمن سوريا كبرى تحت النفوذ الفرنسي»54. أيًّا كانت الإجابات، هناك شيء واضح: رفض نجيم فكرة المقاطعة الصغيرة لمجتمعه وكان يتصوّر لبنانَ ديمقراطيًّا، قابلًا للعيش اقتصاديًّا، ومتعدّد المذاهب. الفرق الرئيسيّ بين كتاباته عامَي 1908 و1919 هو انكماش البعد السوريّ بحيث اختفى نموذج بيدمونت.

أين تقع أفكار نجيم في الطيف الواسع لفكر النخب المثقفة عند الموارنة والملكيّين الكاثوليك حول مستقبل لبنان؟ على الجهة المناصرة للقومية العربية من الطيف، لا يتشارك نجيم في الكثير مع التوجّه الذي يمثّله برنامج نجيب عازوري لرابطة الأمم العربيّة عدا عن العامل الفرنكوفيلي والإصرار على استقلاليّة لبنان. كان عازوري قد أكّد أنه: «من دجلة إلى برزخ السويس، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى بحر عُمان، لا توجد إلا أمّةٌ واحدة، الأمة العربية، تتكلّم اللغةَ ذاتَها وتملك العادات التاريخيّة ذاتها، وتدرس الأدب ذاته، ويفتخر كلّ فردٍ من هذه الكتلة العرقيّة بكونه مواطنًا في الوطن العربي».55

لكنّه لا يقع أيضًا على الجهة المقابلة للطّيف، والتي يمكن تسميتُها جهة «لبنان الإفرنجي»، إذ لا يشارك فرديناند تيان الذي رأى لبنان في عام 1917 بما هو «محميّة نموذجها محميّة الصليبيّين الفرانكيّة» يحكمها أميرٌ وراثيٌّ مارونيّ يتولّى الشؤون المحلّيّة «تاركًا الشؤونَ الخارجيّة في يد الحاكم الفرنسيّ العامّ في دمشق»56. لزيادة المسألة تعقيدًا، هذا الحاكمُ الفرنسيّ سيخدم في بيروت بصفة «المقيم الفرنسيّ العامّ لدى أمير لبنان». هنا يضيف تيّان: «هذا يعني أنّه يمكن استعمار سورية على غرار استعمار الجزائر لكن بشرط ألّا يُفرَض إلّا نظامُ حمايةٍ على جبل لبنان»57 فتكون الفرنسية هي اللغة الرسميّة للإمارة، ويجري تقاسم وظائف الفئة الأولى في الإدارة المحليّة مع الفرنسيّين «على أسسٍ أخويّة».

كما أنّ رؤية نجيم لم تتناسبْ، وخصوصًا بعد عام 1919، مع الرؤية التي عبّر عنها مُناصرو التكامل السوريّ أمثال ندره مطران، أو التي عبّر عنها شكري غانم وجورج سمنه اللذان دَعوَا إلى عضويّة لبنان في كونفدراليّةٍ أو فدراليّةٍّ سوريّةٍ كبرى، حيث تلعب فرنسا دور المرشد في نظامٍ انتدابيّ، بعد إخراج فيصلَ منها.

قرأ ندره مطران تاريخَه بشكلٍ مختلف كثيرًا عن بولس نجيم، فكتب في عام 1916: «لبنان هو جزء أساسي من سورية، من منظور التاريخ والتركيبة الإثنية والتجارة، ولا يوجد شيء يميّزه عن سورية»58. وكان مطران منتقدًا للّعبة «النفسيّة السياسيّة» السائدة الساعية إلى نسج خرافاتٍ وأساطيرَ عن المسألة اللبنانيّة. قال، «بدايةً، لم يكن لبنان مستقلاًّ إطلاقًا»59 وإنّ الاستقلاليّة التي كان يتمتّع بها قبل عام 1860 «كانتْ وهميّة ولا تختلف عن الاستقلاليّة التي كانت تتمتّع بها كلُّ الأقاليم السوريّة تقريبًا».60

أمّا بالنسبة لجورج سمنه، فهو حاجَجَ في عامَي 1919 و1920 بأنّ «لبنان يمكنه الانضمام بسهولة إلى كونفدراليّة سوريّةٍ من دون أن يخسر حقوقه أو امتيازاتِه»61 وحذّر من أنّ: «الاستقلاليّة اللبنانيّة لا معنى لها خارج إطار سوريا الكبرى، حتى بضمِّ بيروتَ والبقاع، سوف يكون الجبل المعزول عن جسمه السوري… محكومًا بحياةٍ عاديّةٍ ومتقلّبة، حياة بلا مستقبل»62.

أخيرًا، لم يُظهر نجيم أيَّ تعاطفٍ مع التوجّه الفيصليّ المتمثّل بإسكندر عمّون أو سعدالله حويك. بقي مثالُه من عام 1908 حتى عام 1919 «لبنان العصر الذهبيّ» وقد تحوّل إلى «لبنان الكبير». وما ميّزه هو استخدامُه الحريصُ للجغرافيا السياسيّة والاقتصاد من أجل دعم رؤيته وبرنامجه القوميّ الليبراليّ، مع حساسيّةٍ لكلٍّ من التركيبة التعدّديّة للمجتمع اللبنانيّ والدور القياديّ لجماعته فيه.

  • 1. فصل من كتاب Intellectual Life in the Arab East, 1882-1939, edited by Marwa Buheiry (Beirut: American University of Beirtu, 1979), pp. 62-83. M. Jouplain, La Question du Liban: étude d’histoire diplomatique et de droit international, 2nd. Edition (Jounieh: Fouad Biban et Cie., 1961
  • 2. Paul Noujaim, “La Question du Liban: étude de politique économique et de statistique descriptive», La Revue Phénicienne, August 1919, pp. 66-81. بالنسبة لسنة ١٩١٩ الحاسمة، المساهمون الآخرون في مواضيع اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة في هذه المجلة الثمينة وغير المستخدَمة كثيرًا هم شارل قرم، البير نقاش، جان جلخ، جوزيف جميّل، اميل عرب، اوغست اديب، شكري غانم، ميشال شيحا، عندالله خير، فيليب دُ طرزي، هكتور خلاط، يوسف الخازن، عزيز زبّال، إبراهيم ثابت، والياس حريق.
  • 3. راجع مقالة ألبير نقّاش في مكانٍ آخر من هذا العدد.
  • 4. 4 انظر نص الرسالة في : Zeine N. Zeine, The Struggle for Arab Independence (Beirut: Khayat’s, 1960) pp. 263-4. في كتابها الثمين والصادر أخيرًا، Daoud Ammoun et la creation de l’Etat libanais, ( p. 73 Paris : Klinckieck, 1978) تستشهد لين لوهياك بمقاطعَ من رسالةٍ شخصيّة من داوود عمّون إلى زوجته بتاريخ ١٢ كانون الأول/ديسمبر ١٩١٨، يستخدم فيها هذا السياسيُّ اللبنانيّ مصطلح «لبنان الكبير». «إنكِ تعرفين برنامجي من أجل «لبنان الكبير» وقد اقنعتُ الجميع بتبنّيه، بما في ذلك الحكومة الفرنسيّة. وقد تبنّاه أيضًا مجلس الإدارة الذي صوّت بالإجماع، بمن فيه الدروز والمسلمون، على إرسال وفدٍ... إلى باريس للدفاع عن هذا المشروع في مؤتمر الصلح بباريس. وقد كنت عضوًا في ذلك الوفد برتبة «مندوب أوّل»». ولعلّ من الجدير بالملاحظة أنّ برنامج النقاط الأربع الذي صوّت عليه مجلس إدارة جبل لبنان في ٩ كانون الأول/ديسمبر ١٩١٨ لم يرِدْ في اسم «لبنان الكبير».
  • 5. Harry N. Howard, The King-Crane Commission (Beirut: Khayat’s, 1963), p. 120.
  • 6. لبنان: مباحث علمية واجتماعية، تحرير إسماعيل حقّي، الطبعة الثانية (بيروت: الجامعة اللبنانية، ١٩٦١) الجزء الأوّل، ص ٣٦٤.
  • 7. إنّ واحدة من أبرز مساهمات نجيم المميّزة في التأريخ للنزاع في لبنان هو تفسيره الثاقب للصراع المدنيّ في جبل لبنان، ١٨٥٨ــــــ١٨٦٠ الذي رآى إليه بما هو ثورةٌ اجتماعيّة وصراع طبقيّ. انتقدَ ممثّلي القوى الأوروبيّة في إسطنبول وسورية لتصويرهم النزاعَ بما هو دينيّ بالكامل تقريبًا، فيما «السبب الأوّل... أنّه كان نزاعًا اجتماعيًّا بين أسيادٍ وفلّاحين. لم يكن هناك صراعٌ بين طائفتين دينيّتين معادية الواحدةُ منهما للأخرى. لم يتدخّل الدين في هذا النزاع إلّا لاحقًا»، La Question du Liban, pp. 282, 288, 543.
  • 8. منصور الحتّوني، نبذة تاريخية في المقاطعة الكسروانية، الطبعة الثانية، (بيروت: يوسف إبراهيم يزبك، ١٩٥٦) ص ٢٨، ١٤٦. يذكر الحتّوني في ما يذكر يوسف إرميا نجيم.
  • 9. Le Réveil, 691 (21 October, 1913)
  • 10. شاكر الخوري، كتاب تحفة الراغب (بيروت ١٨٧٩)، ص ٣–٤. ضمّ أوّل مجموعة من الأطبّاء الذين درسوا في مصر، ابتداءً من العام ١٨٣٧، إبراهيم نجار من دير القمر، غالب خوري من بعقلين، يوسف جلخ، ويوسف مرهج لطيف... وإن بعض تصوّرات تلك الطبقة الوسطى الجديدة تستحقّ الذكر. فبولس نجيم مثلًا يرى أنّ ثمة صراعَ مصالح اقتصاديّة وانتخابيّة في جبل لبنان بين البلدة التي تزداد أهمّيّتها وتطوّر البُنى التحتيّة فيها من جهة والمزرعة المتواضعة. وثمّة تمييز آخر هو أنّ البلدة غالبًا ما تكون على الشاطئ، أو على مقربةٍ منه، فيما المزرعةُ معلّقة عاليًا في الجبال ومعاديةٌ للتغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وللإصلاح السياسيّ. انظر .La Question du Liban, p. 480
  • 11. عنبرة سلام الخالدي، جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين (بيروت: دار النهار، ١٩٧٨) ص ٤٨. انظر أيضًا، لحد خاطر، عهد المتصرّفية في لبنان، ١٨٦١–١٩١٨ (بيروت: الجامعة اللبنانيّة، ١٩٦٧) ص. ١٩٦.
  • 12. William Shorrock, French Imperialism in the Middle East (Madison: University of Wisconsin, 1976) pp. 134-35. من أجل تحليلٍ للأهمّية الاستراتيجيّة والاقتصاديّة لاتّفاقاتٍ حول خطوط سكك الحديد في سورية (العام ١٩١٠) بين بريطانيا وفرنسا بما هي عوامل في تقاسم النفوذ، انظر: Rashid Khalidy, British Policy Towards Syria and Palestine (London: Ithaca Press), 1980) p.113. وقد استنكر نجيم على الدوام تقلّص النفوذ الاقتصاديّ الفرنسي ونموّ النفوذ الالمانيّ في المنطقة. لكنّه كان يؤمن بأنّ في استطاعة فرنسا أن تستعيد موقع الصدارة الذي كان لها بسرعة. «إنّ هيبة فرنسا المعنويّة لا تزال كبيرةً في لبنان وفي عموم سورية. إنّها اللغة الفرنسيّة التي يتعلّمها شباب لبنان، إنّها المدارس الفرنسيّة التي يرتادونها لتلقّي العلم. إنّها الجامعة الفرنسيّة في بيروت حيث يدرسون الطبّ. وإنّها فرنسا التي يقصدون لإتمام دراستهم. إنّهم يريدون أن يكونوا «فرنسيّي المشرق» وإنّهم سوف يظلّون كذلك على الدوام. وعلى فرنسا أنْ تدعمهم وأن تبذل المزيدَ من النشاط الاقتصاديّ في سوريا. وبفضل مشاعر التعاطف العارمة التي يبديها السوريّون، واللبنانيّون خصوصًا، سوف تستعيد مكانتها الأولى بين القوى التجاريّة». انظر: .La Question du Liban, p. 501
  • 13. يوسف الحكيم، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان (بيروت: المطبعة الكاثوليكيّة، ١٩٦٤) ص ٤٤، ٥٢. انظر أيضًا، لحد خاطر، عهد المتصرفيّة في لبنان، ص ١٨١–٨٤.
  • 14. وجيه كوثراني، الاتجاهات الاجتماعية االسياسية في جبل لبنان (بيروت: معهد الإنماء العربي، ١٩٧٨) ص ٢٢٩. إنّ كتاب كوثراني هذا ومعه كتابُه الآخر بلاد الشام (بيروت: معهد الانماء العربي، ١٩٨٠) يشكلان مرجعين ثمينين لدراسة النفوذ السياسيّ والاقتصاديّ الفرنسيّ في لبنان وسورية خلال فترة ١٨٦٠ــــــ١٩٢٠، ومثلهما كتاب جون سپانيولو France and Ottoman Lebanon 1861-1914 (Oxford: Ithaca Press, 1977)
  • 15. Le Réveil, 491 (25 February 1913).
  • 16. Herbert Passin, «Writer and Journalist in the Traditional Society» in Communications and political development, edited by Lucian Pye (Princeton: Princeton University Press, 1963), p. 82. See alo, Samir Khalaf, Persistence and change in 19th-Century Lebanon: A Sociological Essay (Beirut: American University of Beirut, 1979), p. 118.
  • 17. K.T. Khairallah, La Syrie (Paris, F. Lerouz, 1912), p. 112.
  • 18. Rashid Khalidy, “`Abb al-Ghani al-`Uraiso and Al-Mufid. The Press and Arab Nationalism Before 1914”, in Intellectual Life in the Arab East, 1890-1939, edited by Marwan Buheiry (Beirut, American University of Beirut, 1981), pp. 38-61.
  • 19. Jouplain, La Question du Liban, p.ix
  • 20. ibid. p. x
  • 21. ibid. إنّه لغريبٌ حقًّا أنّ بولس نجيم لم يحظَ بالاهتمام الذي يستحقّه. الاستثناءات البارزان هما A.H. Hourani, “Historians of Lebanon” in Historians of the Middle East, edited by Berbard Lewis and James Holt (London: Ocford University Press, 1962) و Kamal Salibi, The Modern History of Lebanon (London: Weidenfiled and Nocolson, 1965) pp. 118-19. في إحدى المناسبات، يستخدم نجيم مصطلح“Self-government” «حكم ذاتي» لتوضيح نمط الاستقلاليّة التي يفكّر بها بالنسبة لجبل لبنان في العام ١٩٠٨ ( La Question du Liban, p. 531)
  • 22. Jouplain, La Question du Liban, p.1.
  • 23. ibid., pp 4,7.
  • 24. ibid., p. 7.
  • 25. ibid., p. 9.
  • 26. ibid., p. 10.
  • 27. ibid., p. 20.
  • 28. ibid., p. 12يدخل نجيم حكمًا في سجالاتٍ مع مؤلّفين آخرين بصدد الموارنة. إنّه يختلف مع العديد من تأكيدات ر.ب. عازار (ص ٣٦) ويميّز بين المرَدة والموارنة (ص ٤٢)
  • 29. ibid., p. 536.
  • 30. ibid., p. 537.
  • 31. ibid.
  • 32. ibid., p.110.
  • 33. ibid., p.111.
  • 34. ibid., p.116.
  • 35. ibid., p.168.
  • 36. ibid.
  • 37. ibid., 167.
  • 38. المقصود القوى الأوروبيّة التي تدخّلت في «حوادث الستّين» وضعتْ نظام المتصرّفيّة: بريطانيا، النمسا، روسيا، بروسيا، فرنسا والسلطنة العثمانيّة [التحرير].
  • 39. Jouplain, op.cit., p. 544.
  • 40. ibid., p. 531.
  • 41. ibid., p. 530. مملكة بييدمونت هي التي قادت الوحدة القوميّة الإيطاليّة.
  • 42. ibid., p.526.
  • 43. ibid., p. 527.
  • 44. ibid., p. 527.
  • 45. ibid., pp. 139-40.
  • 46. Zeine, The Struggle for Arab Independence, p. 79.
  • 47. ibid., p. 81.
  • 48. R. de Gontaut-Biron, Comment la France s’est installée en Syrie, 1918-1919 (Paris, Plon, 1922), p. 233.
  • 49. Jouplain, La Question du Liban, p. 66.
  • 50. ibid.
  • 51. ibid., p.75
  • 52. ibid., p. 77
  • 53. ibid., p.75.
  • 54. George Samna, La Syrie (Paris: Bossards, 1920) pp. 231-32.
  • 55. Negib Azoury, Le Réveil de la nation arabe (Paris : Lon, 1905), p. 164.
  • 56. Ferdinand Tyan, France et Liban: défense des intérets francais en Syrie (Paris: Perrin et Cie., 1917) p. 78.
  • 57. ibid., p. 77.
  • 58. Nadra Moutran, La Syrie de demain (Paris: Plon, 1917), p. 97.
  • 59. Ibid., p.98.
  • 60. ibid.
  • 61. Samna, La Syrie, p. 232
  • 62. ibid.
العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠
(١٩٠٨-١٩١٩)

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.