العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

الاقتصاد والطوائف في نشوء «لبنان الكبير»

يسعى هذا البحثُ إلى إعادة الاعتبار لدور الاقتصاد السياسيّ في نشوء دولة «لبنان الكبير» في أيلول/ سبتمبر ١٩٢٠. دَرج الحديث عن ذلك الحدث بالتركيز على تلبية رغبات المسيحيّين والمَوارنة خصوصًا لبناء وطنٍ قوميٍّ لهم في إطار تقسيم سورية على أساسٍ طائفيّ وفقًا لاتفاق سايكس ــــــ بيكو.

أنطلقُ في ما يلي من أنّ ما جرى كنايةٌ عن عمليّةٍ استعماريّةٍ متكاملةٍ لا تقتصر على تقاسُم السيطرة والنفوذ بين قوّتين استعماريّتين وإنما تضمَن لكلٍّ منهما التوسّعَ الجغرافيّ وحمايةَ مواقع ومرافئ وخطوط سكك حديد والسيطرة على مواردَ وتنمية الاستثمارات ومنْع الخصم من الاستحواذ عليها. وقد تداخلت العوامل الاقتصاديّة في استعمار سورية مع توسّل حماية الأقليّات الدينيّة كمبرّرٍ لنَيل الانتداب على الولايات العربية من السلطنة العثمانيّة، وانتصر هذا المبرّرُ في مؤتمر الصلح بباريس عام ١٩١٩ على مبدأ الرئيس الأميركي وودرو ولسن في تقرير المصير وحتى على إمكان استطلاع آراء السكان. وبُعيد فرْض أنظمة الانتداب، انقلبت الطوائف والمجموعات الإثنيّة إلى مرتكزاتٍ للتجزئة والسيطرة وإضعاف المقاومات الشعبيّة.

محور هذا البحث هو متابعةُ الجدل بين هذين العاملين في إنتاج «لبنان الكبير». ففي الحصيلة لم تكن ولادة «لبنان الكبير» أقلّ طبيعية، ولا أقلّ اصطناعًا، من ولادة سائر كيانات المشرق العربي التي تعرّضتْ جميعًا إلى عمليّة فرزٍ وضَمٍّ للأقضية والولايات العثمانيّة السابقة، بناءً على إعلان بلفور ١٩١٧ ومقرّرات مؤتمر سان ريمو ١٩٢٠ والمؤتمر الكولونيالي البريطاني ١٩٢١ فلم تُبقِ كبيرَ أثرٍ لاتفاق سايكس ــــــ بيكو الأصلي عام ١٩١٦.

التصوّرات والمحاولات الأولى

بدأ الاهتمام الفرنسيّ الجادّ باستعمار سورية في عهد نابليون الثالث (١٨٥٢ــــــ١٨٧٠). بعد فترةٍ وجيزةٍ من وصوله إلى السلطة، أطلق الإمبراطورُ سراحَ الأمير عبد القادر الجزائري، قائد المقاومة الجزائريّة المأسورَ في فرنسا، وسمح له بالمغادرة للاستقرار في دمشق. في العام ١٨٥٨، صدر في باريس منشورٌ بعنوان «عبد القادر إمبراطورًا على العرب» يطرح مشروع «المملكة العربية» التي تشمل الولايات العربية من السلطنة العثمانيّة برئاسة الأمير. وتلازم الإفصاحُ عن ذلك المشروع مع المطالبة بشَقّ قناة السويس بناءً على مشروعٍ أعدّه المهندس الفرنسي فردينان دُلسِبس. ولشدّة شغف نابليون الثالث باستعمار سورية، ألّف نشيدًا عنوانه «في الطريق إلى سورية» لحّنتْه والدتُه ويدغم فيه ذكرياتِ الحروب الصليبيّة مع المطامع الكولونيالية الحديثة، إذ يروي قصةَ مقاتلٍ في الحروب الصليبيّة، وقد استُعيد لهذا الغرض اسمُ سورية الطبيعيّة بما فيها فلسطين.

سنحتْ للإمبراطور فرصةٌ مؤاتية لوضْع موطئ قدمٍ في سورية عندما نجح في الاستحصال على إجازةٍ أوروبية، رغم ممانعة بريطانيّة قويّة، للتدخّل العسكريّ في المنطقة عقب حرب ١٨٦٠ الأهليّة والمجازر بحقّ المسيحيّين في جبل لبنان ودمشق. في ١٦ آب/ أغسطس من ذلك العام أنزلتْ سفنٌ حربيّةٌ فرنسيّة نحو ٦ آلاف جنديٍّ بحريّ فرنسيّ في بيروتَ بقيادة شارل هنري دو بوفور دوتبول، أحد قدامى جنرالات حرب الجزائر وسجّان الأمير عبد القادر فترةَ الأسر. استبقَت إسطنبولُ الحملةَ الفرنسيةَ فأوفدتْ وزيرَ خارجيّتها فؤاد باشا الذي عاقَبَ العسكريّين العثمانيّين والوجهاءَ السوريّين المتّهمين بالتحريض على مجزرة دمشق، وتمكّن من احتواء حركة القوّات الفرنسيّة وحَصْرها بمناطقَ محدودة من جبل لبنان، فاقتصر عملُها على تقديم المساعدات للضحايا وإعادة عاملات وعمّال حلّالات ومغازل الحرير إلى العمل، حسب توصية أصحابها الفرنسيّين وغرفتَي تجارة ليون ومارسيليا. وفي تقليدٍ لحملة عمّه نابليون الأوّل على مصر، وما رافقها من اكتشافٍ للحضارة الفرعونيّة، أوفد نابليون الثالث المستشرقَ إرنست رنان لاكتشاف الحضارة الفينيقيّة، ما أرسى الأساسَ لتأصيل الكيانيّة اللبنانيّة على ذلك الماضي العريق. وأخيرًا ليس آخرًا، ضمّت الحملةُ العسكريّة الفرنسيّة مفرزةَ طوبغرافيا كلّفَها الامبراطورُ رسمَ خريطةٍ للساحل تخدم في احتلال الداخل السوري عبْر جبل لبنان.

لم تغادر القوّاتُ الفرنسيّة المنطقةَ إلّا بعد قيام متصرفيّة جبل لبنان عام ١٨٦١ بناءً على تسويةٍ بين فرنسا والسلطنة، تراجع نابليون في سبيلها عن مشروع المملكة العربيّة، علمًا أنّ عبد القادر الجزائري رفَضَ أيّ دورٍ له فيها، كما عن الإمارة المسيحيّة على جبل لبنان، التي كان يسعى إليها يوسف كرم بدعمٍ من القنصل الفرنسي في بيروت الكونت بنتيفوغلو. وقضى بروتوكول العام ١٨٦١، وتعديلُه العام ١٨٦٤، الذي أقرّتْه الدولُ السبعُ المعنيّة بالأزمة اللبنانيّة إعادةَ توحيد قائم مقاميّتي جبل لبنان في متصرفيّةٍ تتمتّع بقدْرٍ من الحكم الذاتيّ يديرها حاكمٌ عثمانيّ مسيحيّ (غير عربيّ تختاره إسطنبول وتوافق عليه الدولُ الاوروبيّة الستّ) يعاونه مجلس إدارةٍ منتخَب من ١٢ عضوًا موزعين على أساسٍ طائفيٍّ بأكثريّةٍ مسيحيّة. وسوف يؤسِّس هذا التدبيرُ لنظام التمثيل السياسيّ الطائفيّ ــــــ المذهبيّ في لبنان المستمرّ إلى يومنا هذا.

مرفأ بيروت ومحور بيروت ــــــ دمشق

يمكن النظرُ إلى تطوّر مرفأ بيروت وتكوّن محور بيروت ــــــ دمشق للتجارة الدوليّة بين المنطقة وأوروبا على أنّه العمود الفقريّ الذي سوف يُبنى عليه مشروعُ فرنسا لاستعمار سورية. نما دورُ مرفأ بيروتَ في الوقت الذي كانتْ دمشق تستحوذ فيه على نصيبٍ متزايدٍ من تجارة الحبوب والقطن ومن مستورَدات آسيا. في العام ١٨٥٨، شقّتْ شركةٌ فرنسيّة طريقًا للعربات اختصر الرحلةَ بين المدينتين. وسوف تبني الشركةُ ذاتُها خطَّ «سكة حديد حماه ــــــ دمشق وتمديداتها» الذي بدأ العمل به عام ١٨٩٤. وفي العام ١٨٨٠ باشرت شركة «ميساجري ماريتيم» الفرنسيّة للنقل البحريّ أعمالَ تطوير وتحديث مرفأ بيروت. وفي العام ١٨٨٨ نالت «الشركة العثمانية لمرفأ بيروت وأرصفتَه ومخازنَه» (رأسمالها ٥ ملايين فرنك فرنسي) امتيازَ استثمار المرفأ لمهلةٍ تنتهي في العام ١٩٤٧.

سريعًا، سبق مرفأُ بيروت مرافئَ طرابلس وصيدا وعكا، وأحبطت المصالحُ الفرنسيّة والمحليّة المرتبطةُ بشركة المرفأ مشروعَ تطوير ميناء جونيه ليخدم متصرفيّة جبل لبنان. وبناءً على التطوّر المتسارع للمدينة ومرفئها، أعلنتْ بيروت عاصمة لولاية عثمانيّة سُمّيت على اسمها، تمتدّ على طول ساحل شرقيّ المتوسّط من إسكندرون شمالًا إلى عكا وحَيفا جنوبًا، وتحوّلت المدينة إلى أحد أبرز مراكز التحديث المُدني العثمانيّ في عهد «التنظيمات».

شكّل دور بيروت هذا منطلقًا لتخيّلٍ قوميٍّ لوحدة سورية. وإذا كان بطرس البستاني أبرزَ روّاد «سورية الطبيعيّة» وأوّل مكتشفي أهمّيّة بيروت ودورها التجاري، إلّا أن تخيّلَ اقتصاد سياسيٍّ متكاملٍ للمنطقة يعود إلى ابنه الصحافيّ والروائيّ سليم الذي رأى إلى سورية على أنّها «منطقة وسيطة» تحتلّ موقع القلب من السلطنة العثمانية، محْورُها بيروت التي تلعب دور صلة الوصل بين شرق وغرب، تصدّر المحاصيلَ الزراعيّة المحليّة وتستورد السلع المصنوعة. في مقال بعنوان «مركزنا» (١٨٧٢) قدّمَ البستاني وصفًا لعمليّة تبادلٍ كولونياليٍّ نموذجيّة لخّصها بقوله إنّ «مغناطيس المحصولات في هذا العصر هو ثروة الغرب وصناعته المتقَنة»، واستطرد مادحًا بحماسةٍ الدورَ التجاريّ الوسيطَ المستجدّ على حساب العمل اليدويّ والإنتاج الزراعي: «أصبحنا ونِعْمَ الصباح كالبَطن من الإنسان يعيش بتَعَبِ اليديَن والرجليَن وهو محمولٌ مكرّم». (بستاني، ١٨٣ــــــ١٨٦).

لم تخلُ مفاوضات سايكس ــــــ بيكو من نزاعٍ على موانئ البحر الأبيض المتوسّط كما على خطوط سكك الحديد والأراضي. بحصيلته كان مرفآ إسكندرون وبيروت من نصيب فرنسا ومرفآ عكا وحيفا من نصيب بريطانيا. وسوف يتحوّل المرفأ الأخير إلى مُنافسٍ جادٍّ لمرفأ بيروت حتى أنّه سوف يتفوّق عليه في أواسط الثلاثينيّات من القرن الماضي. ولم تنتهِ المنافسة بين بيروتَ وحيفا حتى بعدَ قيام دولة إسرائيل وتطبيق المقاطعة العربيّة الاقتصاديّة عليها وقد تجدّدتْ مع اتفاقات التطبيع بين الإمارات العربيّة المتحدة وإسرائيل.

استثمارات، موارد، تبادلٌ غير متكافئ

في ظلّ وجود الجيش البريطاني في سورية وإعلان قيام حكومةٍ عربيّة فيها منذ العام ١٩١٨، شنّت الأوساطُ الاقتصاديّةُ الفرنسية حملةَ دعايةٍ وضغط على الحكومة من أجل البرهنة على أنْ تستحقّ ان تحتلّها فرنسا لما تحويه من مواردَ وأسواقٍ ومجالات استثمار واعدة.

مطلع العام ١٩١٩ انعقد «المؤتمر الفرنسي حول سورية» بدعوةٍ من غرفتَي التجارة والصناعة في ليون ومارسيليا طالب بـ«سورية تامّة»، بما فيها فلسطين، وأكدت قراراتُه موقعَ فرنسا الغالب في تجارة سورية وأهمّيّةَ استثماراتها الماليّة فيها، وقد أنشئ لتلك الغاية «بنك سورية» برأسمالٍ قدرُه ١٠ ملايين فرنك فرنسيّ.1

في الزراعة شدّدَ المؤتمر على أهمية المزروعات النقديّة، خصوصًا الحرير والقطن والتبغ. وطالب باستعادة مرفأ إسكندرون وإنشاء شبكة سكة حديد تعبُر سورية أفقيًّا من طرابلس إلى بغداد وتربط تجارةَ فارسَ وبعض الهند بالبحر الأبيض المتوسّط وفرنسا لتنافس سكة حديد برلين ــــــ بغداد ذات رؤوس الأموال الألمانيّة ــــــ البريطانيّة والتصدّي لمدّ خطوطها إلى مرفأ حيفا على المتوسّط. وكَلّف المؤتمر بعثةً علميّةً باستقصاء أحوال سورية الاقتصاديّة زارتْ سورية بين أيار/ مايو وأيلول/ سبتمبر من ذلك العام برئاسة پول هوڤلان (١٨٧٣ــــــ١٩٢٤) أستاذ تاريخ القانون في جامعة ليون. وصدر تقريرُ البعثة بعنوانٍ معبّر «ما قيمة سورية؟» Que Vaut la Syrie?.

لم تختلفْ توصياتُ التقرير كثيرًا عن مقرّرات المؤتمر. إلى أولويّة المنتجات التصديريّة، أضافت توصيةً بأنْ تصير سورية مصدّرةً للقمح. ودعا التقريرُ إلى تطوير الزراعة بتوسيع التسليف العقاريّ والزراعيّ وتجزئة الملكيّات الزراعيّة الكبيرة وتمليكِ أراضي المشاعات للفلّاحين. وحاجج التقريرُ صراحةً ضدّ التصنيع في سورية وبأيّ حجةٍ استشراقيّة!! قال: إن «فردية السوريّين» تشجّع على امتهانهم التجارةَ لا الصناعة!

في باب المواصلات، يأسف التقرير لخسارة مرفأ حيفا الواقع في أراضي الانتداب البريطاني وهو المرفأُ الذي يصدّر قمح حوران إلى أوروبا. غيرَ أنّ التقرير يعلّل بالبديل الجاهز: محور إسكندرون ــــــ حلب الذي رشحته لأن يكون المنطقة المركزية للنمو الاقتصادي في سورية، مبشّرًا بأن «المستقبل يبتسم لحلب» (Huvelin، 52-53). في المقابل، يعترف التقرير بأنّ مرفأ بيروت نما بسرعةٍ ونمَتْ معه المدينةُ بعد فتح طريق بيروت ــــــ دمشق، لكنّه لا يتوقّع له أنْ يصير الثغرَ الكبيرَ لسورية على المتوسّط لاقتصار زبائنه على البقاع وغوطة دمشق. من جهةٍ أخرى، أكد التقرير أنّ موقع سورية الجغرافيّ يخوّلها لعبَ دَور صلة وصلٍ في التجارة الدوليّة بين أوروبا والداخل العربيّ والآسيويّ، بدءًا من بلاد فارس، وقد شهدتْ تلك الفترةُ إنتاجَ الصورة النمطيّة عن سورية بما هي «ملتقى القارّات الثلاث» و«صلة الوصل بين شرقٍ وغرب». وفي الخلاصة يتلو هوڤلان فعلَ إيمانٍ بأنّ سوريةَ سوف تنتهج نهجًا «ليبراليًّا جدًّا... أقرب إلى الاقتصاد الحرّ منه إلى الحماية».

اقتصاد الحرير

القاعدة الثالثة لاهتمام فرنسا بلبنان هي بلا شكٍّ اقتصادُ الحرير الذي تعيش عليه أكثريةُ سكان جبل لبنان، والذي تَرافق تطوّرُه مع انطلاق موجةٍ واسعةٍ من الهجرة في الربع الأخير من القرن التاسعِ عشر سببُها تسليعُ الاقتصاد وفشلُ الثورات الفلاحيّة في استملاك الفلّاحين الأراضيَ التي يزرعونها.

٩٠ ٪ من حرير سورية، وجبل لبنان خصوصًا، يذهب إلى ليون، ومن ليون يستورد المُزارعُ بذارَه (بيض دود القزّ). ولمّا كان حرير سورية يشكّل نسبةً ضئيلةً من مستوردات ليون، كان باستطاعة تُجّارها فرضُ الأسعار التي تناسبهم للحرير اللبنانيّ (Chevalier,289) وكانت أبرزُ الحلّالات والمغازل الحديثة مملوكةً مباشَرةً من فرنسيّين، ومثيلاتها المحلّيّة تعمل في معظمها بتمويلٍ من رؤوس الأموال الفرنسيّة تقترضُه من المصارف الفرنسيّة في بيروتَ التي تتولّى بدورها تحويل أموال المغتربين.

ويقدّم دومينيك شوفالييه وصفًا دقيقًا للعلاقة المتبادَلة بين المصالح الاقتصاديّة الاستعماريّة والتبشير الدينيّ والتعليم واللغة:

«... لم تكن المصالحُ الاقتصاديّةُ متماهيةً مع مصالحَ تبشيريّة دينيّة ذاتِ الأهداف الأبعد منها، لكنْ توازيها في الثمانينيّات [من القرن التاسع عشر] حيث الواحدةُ منهما تعزّز الأخرى ولا يمكن إلّا إعطاءُ وزنٍ لكلٍّ منهما. وَجَد صناعيّو ليون للحرير في بيروتَ نخبةً تجاريةً تلقّتْ تعليمًا فرنسيًّا، ووجدوا أيضًا في الجبل المنتجَ للحرير أهالي يبشّر فيهم كهنةٌ لبنانيّون درسوا عند الآباء اليسوعيّين. ثم إنّ تقدُّم النشاط الاقتصاديّ الفرنسيّ خَلَقَ من جهةٍ أخرى جاذبًا ثقافيًّا كان اليسوعيّون أوّلَ مَن أفادَ منه» (Chevalier، 281-(282.

لبنان على هامش مؤتمر الصلح

شكّلت مجاعةُ العام ١٩١٦ ونزيفُ الهجرة أبرزَ عاملَين للمطالبة التي ظهرت عشيّة الحرب العالميّة الأولى بتوسعة حدود متصرفيّة جبل لبنان بتزويدها بمساحةٍ زراعيّة وبمنفَذٍ إلى البحر. بات واضحًا أنّ لبنان المتصرفيّة بلدٌ غيرُ قابلٍ للحياة اقتصاديًّا ولو أنّه قادرٌ على الاكتفاء الذاتيّ الزراعيّ خصوصًا أنّ معظم عائداته تتأتّى من أموال المغتربين. وقد تلاقى على المطالبة بالتوسعة تيّاران متقاطعان ومتباينان من أبناء الطبقات الوسطى في بيروت والجبل.

تكوّن التيّارُ الأوّل في الجبل من موظّفي المتصرفيّة وأصحاب حلّالات الحرير والتجّار، وقد باشروا، قبَيل الحرب العالميّة الأولى، بالمطالبة بزيادة استقلاليّة جبل لبنانَ وتسليم الحكم الذاتيّ لأبنائه. وشكّلت تلك التجربةُ في الحكم الذاتيّ القاعدةَ التي سمحتْ بنموّ الدعوة الاستقلاليّة بينهم.

أمّا التيّار الثاني، فتركّز في بيروتَ حيت نادت بـ«لبنان الكبير» مجموعةٌ من المثقّفين الناطقين بالفرنسيّة ومن أبناء الطبقة الوسطى المطاِلبين بالحماية الفرنسيّة، المتحلّقين حول الشاعر شارل قرم و«المجلة الفينيقيّة» وكان قرم يجمع بين إحياء الحضارة الفينيقيّة ونزعةٍ مسيحيّةٍ استعلائيّة مُعاديةٍ للعرب والإسلام.

تفاوَتَ دعاةُ «لبنان الكبير» في تعيين حدود الكيان المرتجى، كما تفارقوا في الموقف من الاستقلال والحماية الفرنسيّة والعلاقة بسائر أجزاء سورية.2

لم يحضر لبنانُ في مداوَلات مؤتمر الصلح الذي انعقد بباريس. كان موضوعُه مؤجّلًا بانتظار بتّ أمر سورية التي تطالب بها فرنسا بينما تحتلّها قوّاتٌ بريطانيّة وتحكُمُها حكومةٌ عربيّة، برئاسة الأمير فيصل بن الحسين. ومعروفٌ أنّ الممثّلَ العربيَّ الوحيدَ في المؤتمر كان الأمير فيصل بصفته أميرًا حجازيًّا وليس بصفته أميرًا ثم ملكًا على سورية.

في آب/أغسطس ١٩١٩، زار البطريرك الياس الحويّك باريسَ على رأس وفدٍ شارَكَ فيه أخوه سعدالله بصفته نائبًا لرئيس «مجلس إدارة» جبل لبنان. طالب الوفدُ بالعودة إلى لبنان «الطبيعيّ» و«التاريخيّ» بناءً على الخريطة التي وضعتْها الحملةُ الفرنسيّةُ عام ١٨٦٢. حظي البطريرك بلقاءٍ سريعٍ مع رئيس الوزراء جورج كليمنصو الذي وعده في آخر أيّام المؤتمر بالموافقة على ضَمّ سهل البقاع و«مرافئ مناسِبة» ودَعاه إلى أن يطالب في المقابل بالحماية الفرنسيّة للبنان. وقد فعل.

عشية مؤتمر الصلح، تم اتفاق أوّليٌّ على تسوية النزاع البريطاني الفرنسي حول مصير الشرق العربي في اجتماع بين كليمنصو ولويد جورج في السفارة الفرنسية بلندن. بعبارات مقتضَبة، تنازل كليمنصو للويد جورج، ممثّل الدولة التي تحمّلت القسط الأكبرَ من أعباء الحرب، وصاحبة الوجود العسكريّ الأكبر في الشرق الأدنى، عن القدس، التي كانتْ تحتلّها قوّاتُ الجنرال أللنبي منذ نهاية العام ١٩١٨، وعن ولاية المُوْصل، لقاءَ حصّةٍ من نفط الموصل. وكان المضمَر أنّ المقابلَ هو التسليم البريطانيّ بسيطرة فرنسا على سائر سورية. لكنّ التشبّثَ البريطانيَّ بإمكان حرمان فرنسا من أيّ وجودٍ في المشرق كان قويًّا يحظى بدعمٍ حماسيٍّ من قسمٍ كبيرٍ ونافذٍ من المعنيّين بالمنطقة في الإدارة البريطانيّة. ضغَطَ البريطانيّون على الأمير العربيّ للتخلّي عن فلسطين. ارتضى فيصلُ التفاوضَ مع حاييم وايزمان، بواسطة لورنس، على ورقة تفاهمٍ اعترف فيها الأميرُ بإعلان بلفور وبالحقّ في الاستيطان اليهوديّ في فلسطين مع تحفّظه بأنّ تنفيذ هذين الالتزامين مرهونٌ باعتراف مؤتمر الصلح بالدولة العربيّة في سورية.

حاول الرئيس ولسن التدخّل في النزاع بين كليمنصو ولويد جورج باقتراح تشكيل لجنةٍ ثلاثيّةٍ لتقصّي رغبات سكان المنطقة فرَفَضت الحكومتان البريطانيّة والفرنسيّة المشاركةَ فيها على اعتبار أنّ نتائجها سوف ترجّح نزعةَ الوحدة والاستقلال لدى شعوب المنطقة، فتحوّلت لجنة كينغ ــــــ كراين، على اسم رئيسَيها، إلى لجنةٍ استشاريّةٍ للرئيس الأميركي.

انسحبت القوّات البريطانيّة من دمشقَ في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩١٩. وفي مطلع ١٩٢٠، توصّل لويد جورج إلى عَقد اتفاقٍ بين كليمنصو وفيصل وافق بموجبه الأخيرُ على أن يكون ملكًا على سورية في ظلّ الانتداب الفرنسيّ الذي سوف يتمثّل بمفوّضٍ سامٍ مركزُه حلب. وقضى الاتفاق بأن تكون بيروتُ مدينةً حرّةً، لسورية ولبنان حقوقٌ فيها وهي إلى ذلك عاصمة فرنسا في المشرق. وارتضى فيصل أيضًا بوضع «لبنان» تحت الانتداب الفرنسيّ على أن تحدَّدَ حدودُه لاحقًا، علمًا بأنّه أقرّ لدعاة الاستقلال بين اللبنانيّين بـ«لبنان» مستقلٍّ سياسيًّا لكنّه موحّدٌ اقتصاديًّا مع سائر سورية.

أنهى مؤتمرُ الصلح بباريس أعماله دون حسم موضوع الانتدابات في الشرق. تولّاها مؤتمر سان ريمو في نيسان/ أبريل ١٩٢٠ مانحًا فرنسا الانتداب على سورية وبريطانيا على فلسطين والعراق دون تعيين حدودٍ لأيٍّ منهما. وفي حزيران/ يونيو ١٩٢٠، أعلن ألكسندر ميلران، رئيسُ الوزراء الفرنسيّ اليمينيّ الجديد، إلغاء اتفاق كليمنصوــــــ فيصل عمليًّا. وفي ٢٥ تموز/ يوليو، احتلّت قوّاتُ «جيش الشرق» الفرنسيّة دمشقَ وأطاحت الحكومة العربيّة.

غورو الأب الشرعيّ لـ«لبنان الكبير»

كان إنشاء لبنانَ الكبير إلى حدٍّ كبير «ابن ساعته»، تبلورتْ معظم ملامحه وحدوده بين تموز/ يوليو وآب/أغسطس ١٩٢٠، لكنّها سوف تظلّ مَوضع تجاذبٍ خلال عقدٍ من الزمن على الأقلّ.

بعد أيّامٍ من احتلال دمشق، يوم الثالث من آب/ أغسطس، أعلن غورو في مدينة زحلة ضَمَّ البقاع بأقضيته الأربعة حاصبيّا، راشيّا والبقاع (أي زحلة والبقاع الأوسط في التسمية الحاليّة) وبعلبك إلى جبل لبنان. أمّا الخطواتُ الباقية فكانتْ موضعَ نقاشٍ وخلافٍ بين كبار موظّفي الانتداب والحكومة المركزيّة. كان الشاغلُ الأبرز هو كيفيّة السيطرة على سورية، بما فيها الأراضي اللبنانيّة، وقد اندلعتْ فيها الموجة الأولى من الانتفاضات ضدّ الانتداب. كان روبير دوكيه، الأمين العامّ للمفوّضيّة السامية في بيروت، وصاحبُ النفوذ الواسعِ لدى ميلران، يدعو إلى تقسيم سورية إلى حوالي عشر دويلات على أساسٍ مذهبيٍّ بينها «مدن حرّة»، هي بيروت وطرابلس وإسكندرون، على أن تُدار كلُّ الدوَل على أساس الحكم الذاتيّ الداخليّ ويلعب المفوّض السامي دَور الحكَم في خلافاتها. (Eddé, pp. 100-10) ومعروفٌ عن دوكيه معارضتُه الحاسمةُ لاتفاق كلمينصوــــــ فيصل وعداؤه لـ«لبنان الكبير»، ساخرًا ممّا سمّاه «هَلوسات الشعور بالعظَمة المسيحيّة» لدى دعاته ومحذّرًا من ضَمّ المناطق المسلمة من طرابلس والبقاع وعكار إلى الكيان الجديد لأنّها تحمل خطرًا يهدّد استقرار الدولة المسيحيّة المقبلة. وكان إميل إدّه، أبرزَ دعاة لبنانَ المسيحيّ بين السياسيّين اللبنانيّين، قد سعى في باريس بالاتجاه ذاته، لكنّ كلّ ما حظيَ به بعد انتظارٍ طويلٍ هو لقاءٌ مع موظّفٍ مغمور في الخارجيّة الفرنسيّة، هو السيد بارجتون Bargeton، في ٧ أيار/ مايو ١٩٢٠ الذي أبلغه أنّ بيروتَ ستكون مدينةً حرّة وأنّ طرابلس لن تعطى للبنان، كما أكّد له أنّ لبنان الكبير سوف يضمّ الضفّة اليسرى من نهر العاصي، أي منطقةَ بعلبك ــــــ الهرمل. (خوري، ٣٥٦ــــــ٣٥٧).

انطلاقًا من شاغل الضبط والسيطرة ذاتِه، كان غورو واثقًا من قدرته على السيطرة على سورية بنسبةٍ أقلّ من التجزئة. كتب إلى رئيس الوزراء ألكسندر ميلران: «سوف تكون أسهلَ علينا إقامةُ التوازن بين ثلاث دوَل [سورية] ومجابهة كل واحدة منها بالأخرى إذا لَزم الأمر» (أرشيف وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، ٢٠ آب/ أغسطس ١٩٢٠، المجلّد ٣٢، ص ١٨٨ــــــ١٨٩، وطرابلسي، تاريخ لبنان، ١٤٤) وافق ميلران على إنشاء «لبنان الكبير» بضمّ الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان، لكنّه تحفّظ على ضَمّ طرابلس وبيروت. وكتب إلى غورو في ٢٣ آب/ أغسطس ١٩٢٠ يقول إنّ ضم المدينتين «لا يشكّل فائدةً للمدينتين ولا للبنان ذاته» ودعا إلى فترة اختبارٍ تحافظ خلالها طرابلسُ «وضاحيتُها المسلمة» على مقدارٍ كبير من الاستقلال الذاتيّ الإداري والماليّ، «ما يوفّر الوقتَ لمراقبة كيفيّة تَصرّف الأطراف المعنيّة بعضُها تجاه بعض». بعبارةٍ أوضح: إفساح الوقت لمراقبة تصرّف الوافدين الجُدد من المسلمين في علاقتهم بالمسيحيّين والكيان الجديد. واستدعى ميلران قائدَ جيش الشرق إلى باريس لمواصلة البحث على اعتبار أنّ «مثل تلك الأمور لا تُحلّ بواسطة البرقيّات» (خوري، ٣٩٦ــــــ٣٩٨).

استبق الجنرالُ العودة إلى باريس وأعلن، في ٣١ آب/ أغسطس، فَصْل الجبل والساحل والأقضية الأربعة عن سائر سورية وإنشاء «دولة لبنان الكبير». كما أعلن في اليوم نفسه قيامَ دولتَي دمشق وحلب، ودولة العلويّين، وضَمّ إليهما دولتَي العلويّين والسويداء (جبل الدروز) في آذار/ مارس ١٩٢١، ليشكّل منها مجتمعةً «اتّحاد الدوَل السوريّة».

عند التساؤل لماذا أصرّ غورو على زيادة عدد المسلمين في «لبنان الكبير» بضمّ طرابلس، لن نلقى جوابًا إلّا تأمين احتكار مرفأ بيروت لتجارة سورية والداخل العربي ومنْع مرفأ طرابلس من أنْ يتحوّل إلى مرفأ الشمال السوري.

هكذا جزّأ غورو سوريةَ إلى خمسة كياناتٍ على أساسٍ دينيٍّ مذهبيّ هي: دولةٌ ذات غالبيّة درزيّة، دولتان ذات غالبيّة سنّية، ودولةٌ ذات غالبيّة علوية. والمفارقة الفاقعة أنّ الدولة المفترض أن تكون الدولة المسيحيّة انفردتْ دون الدول الأربع في أنّ تركيبَها السكانيّ شبْه متوازنٍ بين مسلمين ومسيحيّين.

لم تكن خطوة غورو بعيدةً عن العلاقة الوثيقة التي تربط المصالح الاقتصاديّةَ الفرنسيّة بالعسكر الكولونياليّ. سبَقَ أنْ أقامت غرفةُ تجارة ليون حفلَ استقبالٍ على شرفه، يوم ١١ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩١٩، عشيّة سفره إلى سورية لتولّي مهامّه قائدًا عامًّا لجيش الشرق ومفوّضًا ساميًا لفرنسا في سورية. عرَضَ عليه رجالُ الأعمال مَطالبهم: تثبيت النقد، منْع قطْع الأشجار للتدفئة من أجل تزويد معامل الحرير بالوقود، التعويض على خسائر فرنسيّي الشرق بسبب الحرب، إلزام السوريّين باستيراد البضائع الفرنسيّة وغيرها. وكان المطلبُ الأبرزُ هو ما جاء في كلمة الصناعيّ غيدو: «السوريّون يملكون الذهب، والذهب يتدفّق عندهم. خلال الحرب، أثرى السكانُ، بالطرق الشرعيّة وغير الشرعية، إنّ سورية بلدٌ ثريّ جدًّا، ويهمّ، نظرًا لماضي العلاقة بيننا، أنْ نثمّرَ هذه الثروةَ لصالح فرنسا». ولمّا عاد غورو إلى فرنسا، بعد انتهاء خدمته كمفوّضٍ سامٍ لفرنسا في سورية ولبنان، احتفلتْ به غرفةُ تجارة ليون مجدّدًا في ٥ نيسان/ أبريل ١٩٢٢. وفاخَرَ السيّد براديل، رئيس الغرفة، «يمكننا القولُ في ليون إنّنا نعتبر سورية مستعمرةً ليونيّة» فرفع الجنرال كأسه وأعلن «أيّها السادة، الصفقة سوف تكون مربحة». (طرابلسي، حرير وحديد، ٢٨٨ــــــ٢٨٩).

ماذا تبقّى من سايكس ــــــ بيكو؟

في حصيلة مقرّرات مؤتمر سان ريمو لم يبقَ كثيرٌ من اتفاق سايكس ــــــ بيكو وخريطته.

  • قضى الاحتلال الفرنسيّ لسورية على أوّل وأهمّ بنْدٍ في الاتفاق وهو «استعداد الدولتين للاعتراف بدولةٍ عربيّةٍ مستقلّةٍ أو بكونفدراليّة حكوماتٍ عربيّة مستقلّة في المنطقتين A وB في ظلّ حكم قائدٍ عربيّ».
  • أزيلت المنطقةُ المرسومةُ باللون البنّيّ على الخريطة التي تؤشّر على الإدارة الدوليّة المشترَكة (البريطانيّة ــــــ الفرنسيّة ــــــ الروسيّة) للقدس، وخضعتْ فلسطين بكاملها للانتداب البريطانيّ المتضمِّن الالتزامَ ببناء وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين.
  • وقّعتْ بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في مؤتمر سان ريمو اتفاقًا خاصًّا حصلتْ كلٌّ من فرنسا والولايات المتحدة بمَوجبه على حصّةٍ في شركة نفط العراق. وضمّتْ بريطانيا الموصلَ إلى لواءَي البصرة وبغداد لتشكيل مملكة العراق، برئاسة الملك فيصل الذي وضعتْه على عرش العراق بعدما اخرجتْه قوّات الاحتلال الفرنسيّ من دمشق.
  • خسرتْ فرنسا كيليكيا كلّها في جنوب تركيا بعدما حرّرتْها الحركةُ الوطنيّة التركيّة.
  • بناءً على قرارٍ صادرٍ عن المؤتمر الكولونياليّ البريطانيّ المنعقد في القاهرة والقدس، في آذار/ مارس ١٩٢١، نشأتْ إمارة شرق الأردن، برئاسة الأمير عبدالله ابن الشريف حسين، تمتدّ من الضفّة الشرقيّة لنهر الأردن إلى حدود العراق شرقًا، ومن قضاء عجلون شمالًا إلى حدود الحجاز جنوبًا.3

النزاع على خريطة

تبقى خريطةُ لبنان الكبير محاطةً بكثيرٍ من الألغاز.

أرفَقَ غورو مرسومَ إنشاء «دولة لبنان الكبير» بخريطةٍ قُدّمت نسخةٌ منها إلى عصبة الأمم. لم أستطع إلى الآن العثورَ على صورة الخريطة الأصليّة الموْدعةَ في محفوظات الأمم المتّحدة. مهما يكن، يتبيّن من خريطة «لبنان الكبير» ١٩٢٠ التي وزّعها الجيش اللبنانيّ بمناسبة الاحتفالات بالمئويّة أنّها مرسومة فوق خريطة العام ١٨٦٢ بحيث تَظهر من حوافها بعضُ مَعالم تلك الخريطة التي لم يؤخذْ بها.

لكنّ هذا لا يُسكن الفضولَ بالخريطة وكيفيّة رَسْمها وتعيين حدودها.

نُشرتْ خريطةُ الحملة الفرنسيّة السوريّة للمرّة الأولى عام ١٨٦٢، وقد ورَدَ في رأس نسختها الأحدث، التي طبعتْها «مؤسّسة المطبوعات اللبنانيّة» في حزيران/ يونيو ٢٠١٠، الآتي: «خريطة لبنان/ بناءً على استطلاعات المفرزة الطوبغرافيّة/ تبع/ قوّات الحملة الفرنسيّة السورية/ في ١٨٦٠ــــــ١٨٦١/ أودعها في أرشيف وزارة الدفاع/ النقيب أركان حرب غيليس /Gelis في زمن وزارة سعادة الماريشال الكونت راندون/ ١٨٦٢/ تمّت مراجعتها في ١٩١٣ و١٩١٥».

والخريطةُ التي تصل شمالًا إلى النهر الكبير وجنوبًا إلى رأس الناقورة وبحيرة الحُولة وتشمل شرقًا منطقة الزبداني، مزوّدة في أسفلها بلائحةٍ إحصائيّةٍ للسّكّان مصنّفين حسب الأقضية4 وحسب الطوائف الستّ: روم أرثوذكس، روم كاثوليك، دروز، مسلمون شيعة، مسلمون سنّة، يهود، موارنة. ويبلغ مجموع عدد السكان ٤٨٧،٦٠٠ نسمة وعدد الموارنة ١٨٠، ٢٠٨.

لكنّ ما لا نعلمه عن الخريطة هو الأهمّ: بناءً على أيّ معطيات رُسمتْ في العام ١٨٦٢؟ ومن زوّد الفريقَ العسكريَّ بالتوجيهات اللازمة لتعيين حدود ما سمّي «لبنان» حينها؟ ولمّا كانت الخريطة تشير إلى تعديلاتٍ أُجريتْ عليها خلال عامَي ١٩١٣ و١٩١٥، وَجَب السؤال: لماذا تقرّرَ تعديل الخريطة عشيّة الحرب العالميّة الأولى وخلالها؟ ومن تولّى التعديل؟ وبناءً على أيّ اعتباراتٍ ومصالح؟ وهل أشرِك لبنانيّون في ذلك الجهد؟ ومَن هم؟

الأمر الراجح أنّ الخريطةَ وتعديلاتِها فرنسيّة المصدر. ويجوز الافتراضُ أنّ الخريطة التي حمَلَها البطريركُ الحويّك إلى مؤتمر الصلح بباريس كانت موجودةً أصلًا في محفوظات البطريركيّة المارونيّة في بكركي. ما يثير السؤالَ عن الدور الذي لعبتْه البطريركيّة المارونيّة في تحديد مَعالم تلك الخريطة منذ الحملة العسكريّة في العام ١٨٦٠ وصولًا إلى مؤتمر الصلح في العام ١٩١٩. أمّا الإجابةُ عن باقي الأسئلة فتستدعي المزيدَ من البحث والتحرّي.

مهما يكن، لم يقف النزاعُ على خريطة « لبنان الكبير» عند نشرها رسميًّا في مرسوم الجنرال غورو. في عام ١٩٢١ دعا رئيس الوزراء الجديد أريستيد بريان إلى فصْل طرابلس عن «لبنان الكبير» من أجل تأمين أكثريّةٍ عدديّةٍ للمسيحيّين. ويبدو أنّ غورو رضَخَ لدعوة رئيس الوزراء الجديد بتعليق ضمّ طرابلس وعكار الى لبنان الكبير كما يظهر في تلوين المنطقة بالأصفر في خريطة مراكز المحاكم «لبنان الكبير» عام ١٩٢٣ (راجع الصورة).

تَجدّدَ السجالُ والمراوحة عشيّة صياغة دستور العام ١٩٢٦ الذي كرّس التمثيلَ الطائفيَّ في الوزارة والإدارة، ولم يشمل التمثيلَ النيابيّ لأنّ القانون الانتخابيّ قضى بانتخاباتٍ خارج القيد الطائفيّ في البرلمان وتمثيل الطوائف في مجلس الشيوخ. خلال مداولات الدستور، أعلن دو كيه أنّ خطأ قد ارتُكب في إدارة «لبنان أكبر مما يلزم» مقترحًا إعادة ضمّ طرابلس والمناطق المسلمة من البقاع وعكار إلى سورية، على اعتبار أنّ فترة الاختبار أثبتتْ عدم ضمان ولاء المسلمين للكيان اللبنانيّ.

وبعد سنتين من ذلك، قدّم إميل إدّه مذكرةً إلى الخارجيّة الفرنسيّة تطالب بإنشاء «لبنان متوسّط» يُمنَح فيه جبل عامل الحكْم الذاتيّ، على غرار دولة السويداء في سورية، وتعاد عدّة مناطقَ ذات أكثريّة مسلمة من البقاع إلى سورية. واقترح إدّه أن تعلَن طرابلس «مدينة حرّة» تحت الإدارة الفرنسيّة، يُمنح سكانُها المسيحيّون الجنسيّةَ اللبنانيّةَ والمسلمون الجنسيّةَ السوريّة. هكذا تتأمّن في «اللّبنان المتوسّط» هذا أكثرية مسيحية تصل إلى ٨٠ ٪ من السكان، وتسمح بـ«حمايته»، حسب تعبير إدّه. لم يؤخذْ باقتراح إدّه. فقد تجاوزَه دستورُ ١٩٢٦ الذي عيّن حدود لبنان.

خلاصة

لم يلبِّ مولودُ العام ١٩٢٠ آمالَ وطموحات معظم الأهالي الذين لم يؤخَذ برأيهم في رسْم حدود بلادهم. عارضتْ أكثريّة المسلمين الكيانَ الجديد يعبّر عنها «مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة» ومؤتمر وادي الحجير في جنوب البلاد، فيما أهالي طرابلس ينظّمون التظاهرات ويرفعون العلَمَ العربيَّ معلنين الانضمام إلى سورية. من جهةٍ أخرى، كانت أكثريّة أعضاء الهيئة الوحيدة الممثِّلة لسكان جبل لبنان موجودةً في المنفى لمعارضتها الانتدابَ ومطالَبتها بالاستقلال، حتى لا نتحدّث عن المسيحيّين من دعاة الوحدة العربيّة أو السورية أو من دعاة «لبنان الكبير» المستقلّ أمثال يوسف السودا وبولس نجيم وخيرالله خيرالله والعديد غيرهم.

ولا شك في أنّ ولادة «لبنان الكبير» زَعْزعت الاضطراب لدى دعاة «لبنان المسيحيّ» من أنصار الانتداب المتجمعين في «حزب الترقّي» الذي تأسّسَ عام ١٩٢١ تحت شعار «الحفاظ على استقلال لبنان الكبير في ظلّ الانتداب الفرنسيّ». وقد ضمّ الحزب خليطًا من سياسيّين ورجالِ أعمالٍ ومثقّفين، بينهم شارل قرم وبشارة الخوري وميشال شيحا وإميل ادّه. غيرَ أنّ الحزب كان قد تفكّك عندما قدّم اميل إدّه مذكّرته عن «لبنان المتوسّط». ولن يمضيَ وقتٌ طويل قبل أن يقَعَ الانقسام في هذا التيّار بين إميل إدّه (ومعه شارل قرم) وبشارة الخوري (ومعه ميشال شيحا) الذي سوف يهيمن على حياة لبنان السياسيّة لأكثرَ من عقدين من الزمن.

ولعلّ جورج سمنة، أحد أبرز دعاة «سورية التامّة» في ظلّ الانتداب الفرنسيّ، كان الأوضح تعبيرًا عن مأزق التكبير والتصغير حين تساءل «أيُّ وطنٍ قوميّ مسيحيّ هو هذا حيث نصْف سكّانُه من المسلمين؟» (زامير، ١١٣).

لم يبقَ السؤالُ دون إجابة. تقرّر تجاوزُ تعريف اللبنانيّين بين مسيحيّين ومسلمين وإعادة تعريفهم بما هم أقليّاتٌ وفق صيغة المستشرق البلجيكي هنري لامنس الذي عرَّفَ لبنان على أنّه «ملجأ الأقليات الدينية»، فتأسّسَ بذلك مبدأٌ جديدٌ تُحتسبُ بموجبه حصّةُ كلّ «أقليّة» من التمثيل السياسيّ والإداريّ بناءً على وزنها العدديّ بين السكان. وقد تكرّس ذاك المبدأ في دستور العام ١٩٢٦، علمًا أنّ مسلسل البحث فيه والمراجعة سوف يتوالى فصولًا في منعطفاتٍ عديدةٍ في الأعوام ١٩٣٢ و١٩٣٦ و١٩٤٣ و١٩٥٨ و١٩٩٠ وهو مستمرٌّ إلى يومنا هذا.

أما عن الاقتصاد، فتحقّقت الوحدة الاقتصاديّة بين سورية ولبنان، عن طريق اعتماد عملةٍ واحدةٍ، ومصرفٍ مركزيٍّ واحد، وهيئة تجارة خارجيّةٍ واحدة، ووحدة جمركيّة، وعددٍ من الشركات الفرنسيّة للنقل والكهرباء والمياه والبرْق والبريد والاتصالات تخدم البلدين سُمّيت «المصالح المشتركة». هكذا تكرّس دورُ بيروتَ بما هي المرفأ والعاصمة الاقتصاديّة لسورية ولبنان، وفوق ذلك، مقرّ إقامة المفوّض السامي الفرنسيّ.

ومن المفارقات الفاجعة لجدل الوحدة والانفصال بين سورية ولبنان أنّ الاستعمارَ الفرنسيّ وحّد البلدين اقتصاديًّا وتولّى الاستقلاليّون في البلدين فصلَ وحدته الماليّة والجمركيّة عام ١٩٤٨ــــــ١٩٥٠!

 

مراجع مختارة

  • Chambre de Commerce de Marseille,
    Congrès français de la Syrie – Séance des Travaux, Marseille,1919.
  • Chevalier, D., “Lyon et la Syrie en 1919,
    les bases d’une intervention”,
    in Revue Historique, t.224, 1960, pp. 275-320.
  • Congrès français de la Syrie,
    Que Vaut la Syrie? Rapport de M. Paul Huvelin, Lyon and Marseille, 1919
  • Ducruet, Jean, Les capitaux européens au Proche Orient, Paris, 1963.
  • Eddé, Carla, Beyrouth la naissance d’une capitale, 1918-1924, Paris, 2013.
  • Jouplain, M. (Boulos Nujaym), La question du Liban. Etude d’histoire diplomatique et de droit international, Paris, 1908.
  • Kassir, Samir, Histoire de Beyrouth, Paris, 2003.
  • Khoury, Gérard D., La France et l’Orient Arabe, Naissance du Liban Moderne, 1914-1920, Paris, 1993.
  • Laurens, Henri, Le Royaume Impossible. La France et la genèse du monde arabe, Paris, 1990.
  • -Salibi, Kamal. A House of Many Mansions. The History of Lebanon Reconsidered, Berkeley, 1988.
  • Samné, Georges, La Syrie, Paris, 1920.
  • Tobie, Jacques, Interêts et impérialisme francais dans l’empire ottoman, 1895-1914, Paris, 1977.
  • Tyan, Ferdinand, France et Liban, défense des intérêts français en Syrie, Paris, 1917.
  • Zamir, Meir, “Smaller or Greater Lebanon” – The Squaring of a Circle”, The Jerusalem Quarterly, no. 23, Spring, 1982, pp.35-53.
  • أديب، أوغست، لبنان بعد الحرب، القاهرة، ١٩١٩.
  • البستاني، سليم، الأعمال المجهولة، بيروت ١٩٩٠.
  • خليفة، عصام، الحدود الجنوبية للبنان، بيروت ١٩٨٥.
  • السودا، يوسف، في سبيل الاستقلال، الجزء الأول،
    ١٩٠٦-١٩٢٢، بيروت، ١٩٦٧.
  • الصلح، كاظم، مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان، بيروت، ١٩٣٦.
  • طرابلسي، فواز، حرير وحديد. من جبل لبنان الى قناة السويس، بيروت، ٢٠١٣.
  • طرابلسي، فواز، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة الخامسة، بيروت، ٢٠١٨.
  • طرابلسي فواز، سايكس- بيكو- بلفور. ما وراء الخرائط، بيروت، 2019.
  • 1. أبرز المصالح الفرنسيّة القائمة أصلًا البنك الإمبراطوري العثماني، شركة مرفأ بيروت، شركة سكة حديد دمشق حماه وتمديداتها، أرصفة القسطنطينيّة، شركة طريق بيروت ــــــ دمشق، شركات النقل البحري، وأشهرها «ميساجري ماريتيم»، وغيرها.
  • 2. يمكن الاطّلاع على تفاصيل التيّارات الفكريّة والسياسيّة عشية تأسيس «لبنان الكبير» في كتابات بولس نجيم ويوسف السودا وألبير نقاش وجميل المعلوف وعارف النعماني في أماكن أخرى من هذا العدد من «بدايات».
  • 3. للمزيد عن سايكس ــــــ بيكو ومصيره، راجع: فواز طرابلسي، سايكس- بيكو- بلفور: ما وراء الخرائط، بيروت ٢٠١٩.
  • 4. الأقضية هي: عكار، ضنيّة، طرابلس المدينة، الكورة التحتا، الكورة الفوقا، الزاوية، بشرّي، البترون، جبيل، المنيطرة، الفْتوح، كسروان، المتن، زحلة، الساحل، بيروت، الغرب، المناصف، الشحّار، الجرد، العرقوب، الشوف، جزين، الريحان، الخرّوب، التفّاح، شمّر، بشارة، مرج عيون، الحولة، حاصبيّا، راشيّا، البقاع، بعلبك. وتوزيع السكان الطائفي: يهود ٢٠٦٠، مسلمون ٧٦،٣٦٢، متاولة ٣٦،١٢٠، كاثوليك ٣٢،٤٧٣، أرثوذكس ٦٨،٠٤٠، موارنة ٢٠٦، ١٨٠. المجموع: ٤٨٧،٠٠٠.
العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.