العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

ملاحظات على خطاب الجنرال غورو

خطاب الجنرال غورو في إعلان قيام «لبنان الكبير» عيّنةٌ من خطابٍ استعماريٍّ تأسيسيٍّ لا يجوز أن يمرّ من دون تعليق، خصوصًا أنّه متوافرٌ الآن كاملًا باللغة العربيّة.

  1. 1. يقول الجنرال غورو إنّه استشار «المجموعات السكّانية» في تعيين حدود لبنانَ وإنّ ما تحقَّقَ إنّما هو تلبيةً لما عبّرتْ عنه «المجموعات السكانيّة بحرّية وخدمةً لمصالحهم المشروعة».

ليس يوجد أيُّ دليلٍ على مثل تلك الاستشارة. الاستشارة الوحيدة في تلك الفترة هي لجنةُ تحقيقٍ ثلاثيّةٍ اقترحَهَا الرئيسُ الأميركيّ وِلسن لاستطلاع «رغبات» أهالي المنطقة جريًا على مبدأ تقرير المصير. ومعروفٌ أنّ حكومتَي فرنسا وبريطانيا رفَضَتا المشاركة في اللجنة، فتحوّلتْ إلى لجنةٍ استشاريّةٍ للرئيس الأميركيّ عُرِفتْ بـ«لجنة كينغ–كراين». ونتائجُ استطلاعاتها معروفة: عبّرتْ أكثريّةُ سكان سورية عن رغبتها في مملكةٍ عربيّةٍ مستقلّة، وجوابًا عن السؤال حول اختيار دولةٍ ترعى الانتقالَ إلى الاستقلال والحكم الذاتيّ، نالتْ فرنسا أقلَّ عددٍ من الأصوات وجاء ترتيبُها بعد بريطانيا والولايات المتحدة الأميركيّة. ومعروفٌ أيضًا أنّ الأكثريّة العظمى ممّن جرى استطلاع رغباتهم أعلنوا رفْض إعلان بلفور والمشروع الصهيونيّ في فلسطين.

فمن الاستخفاف بالعقول أنْ يكون دليلُ غورو الوحيدُ على استشارة «المجموعات السكانيّة» قراءتَه رسالةً مغْفلة ترحّب بالحماية الفرنسيّة! وما لم يكن مغفِلًا، في المقابل، هو أنّ «مجلس إدارة متصرفيّة جبل لبنان»، الهيئة الوحيدة الممثِّلة لأهالي جبل لبنان، والمنتخَبة منهم، والتي أسهمت الحكومة الفرنسيّة في إنشائها عام ١٨٦٤، دعا يوم ١٠ تموز/ يوليو ١٩٢٠، إلى استقلال لبنانَ مع توسِعة حدوده. وأرسل المجلسُ وفدًا منه إلى دمشقَ للتفاوض مع الحكومة العربيَة والسفر إلى فرنسا للمطالبة بالاستقلال. وكان الوفدُ الذي رأَسه سعدالله حويّك، نائبُ رئيس المجلس، يضمّ ٧ من أصل ١١ من أعضاء المجلس (كان الرئيس مستقيلًا): أربعة مسيحيّين (ثلاثة موارنة وأرثوذكسيّ واحد) وعضوان درزيان والعضو الشيعي الوحيد. وقد اعتُقل أعضاءُ الوفد بأمرٍ من غورو في صَوفر وحكم عليهم بالغرامة الماليّة والسجن بعدما أضيف إليهم التاجرُ عارف النعماني المتّهم بتمويل رحلة الوفد، ونُفوا إلى جزيرة اروادَ ومن ثَم إلى كورسيكا.

أمّا عن ادّعاء غورو أنّه قرّرَ حدود لبنانَ بناءً على «المبادئ التي تُلهِم عصبةَ الأمم» فيجدر التذكيرُ بأنّ مؤتمر سان ريمو منَحَ فرنسا الانتدابَ على سورية في نيسان/ أبريل ١٩٢٠ وأنّ المفوّضَ الساميَ الفرنسيّ أعلن نشوءَ ثلاث دول فيها يوم ٣١ آب/ أغسطس ١٩١٠، في حين أن عصبة الأمم لم تصادقْ على نظام الانتدابات إلّا بعد أكثرَ من عامَين من ذلك، في ٢٤ تموز/ يوليو ١٩٢٢.

  1. 2. يأسف الجنرال غورو في خطابه لأنّه قد تغيّبَ عن الاحتفال مَن يسمّيهم «مندوبيكم إلى [مؤتمر السلام في] باريس، الذين كان لدورهم فائدةٌ كبرى في دوائر الحكومة الفرنسيّة».

فمَن هم هؤلاءِ المندوبون؟ رأَسَ داود عمّون الوفدَ الأوّل في كانون الثاني/ يناير ١٩١٩ ومن أعضائه إميل إدّه. ورأس البطريركُ الياس الحويّك الوفدَ الثاني الذي ضمَّ شقيقَه سعدالله الحويّك، ممثّلًا «مجلس إدارة» متصرّفيّة جبل لبنان. ورأس الوفد الثالثَ المطرانُ عبد الله خوري وكان وفْدَ متابعة.

لسنا ندري ما إذا كان عمّون أو إدّه حَضَرا الاحتفال أو تغيّبا عنه. لكنّنا متأكدون من غياب سعدالله حويّك عن الاحتفال لوجوده قَيد الاعتقال. لكنّ المفارقة الحزينةَ في الأمر هي ما يَروي عارف النعماني في مذكّراته. نُقِـــــــــــــــل منفيّو أرواد إلى بيروت يوم الأوّل من أيلول/ سبتمبر ١٩٢٠ بالذات وباتوا فيها في طريقهم إلى مَنفاهم الجديد بكورسيكا، ومُنِع عليهم الاتصال بذويهم. لسنا نعرف ما إذا كان المفوّضُ السامي الفرنسيّ يعلم أو لا يعلم أنّه يحتفل بإعلان الانتداب الفرنسيّ على لبنانَ في اليوم ذاتِه عندما كان الممثّلون الشرعيّون لسكّان جبل لبنان، والمنتخَبون منهم، موجودين في الاعتقال ببيروت في طريقهم إلى المنفى. لكنْ لا بدّ أنّه يعرف أنّ أحدَ الغائبين من مندوبي لبنان إلى مؤتمر الصلح في باريس غائبٌ لأنّه، غورو، أمَر باعتقاله، ويصعب أن يجهل الجنرال أنّ المعتقَلَ سعدالله الحويك هو شقيق البطريرك الياس الحويّك الجالس إلى يمينه في الاحتفال والذي أغدَقَ عليه لقب «بطريرك لبنان الكبير». فهل يجوز، والحالةُ هذه، استبعادَ التشفّي في «أسَف» الجنرال؟

  1. 3. كل محتلٍّ يدّعي تحريرَ ضحايا احتلاله من محتلٍّ سابق. لم يكنْ لغورو أن يكتفيَ بشرعيّة عصبة الأمم والانتداب الذي لا يأتي على ذكره. كان لا بدّ له من أنْ يؤسِّس الحكمَ الفرنسيَّ على القوّة. أشار في خطابه إلى «ثقل اليد» العثمانيّة التي رزحتْ على اللبنانيّين طوالَ قرون. لكنّ «التحريرَ» وقَعَ ضدّ طرفٍ آخَر: «بالأمس، منذ خمسة أسابيع، أطلقَ جنودُ فرنسا الشباب... كل آمالكم، إذ قضَوا، في صبيحة يوم معركةٍ، على القوّة الشرّيرة التي سعتْ إلى استعبادكم».

في ذلك «الأمس»، أيْ يوم ٢٤ تموز/ يوليو ١٩٢٠، في خان ميسلون، وقعت معركةٌ، بين طليعة جيشٍ من ٣٠ ألف جنديٍّ فرنسيّ، مزوَّدة بالطيران والدبّابات والمدفعيّة، تضمّ مَن يسمّيهم الجنرال غورو «عرّابي استقلال لبنان» وبين «قوّةٍ شرّيرة تسعى إلى استعباد» اللبنانيّين من بضْع مئاتٍ من ضبّاطِ وجنود «الجيش العربي» بقيادة يوسف العظمة، كانت تقاوم احتلال دمشق. دمشق التي سقطتْ في اليوم التالي ودخَلَها هنري غورو بعد إسقاط الحكومة العربيّة فيها.

في عباراتٍ مقتضَبة، يقدّم المفوّضُ الفرنسيّ السامي لسورية ولبنان معالمَ النظام الذي سيفرضه: أولويّة جبل لبنان–الحصن، وحكم المستشارين الفرنسيّين إلى حينَ يستطيع لبنانُ أن يحكمَ نفسَه بنفسِه عندما تنمو «ثقافة الشعب السياسيّة» (والنخبة؟!) وإلى أن تغلبَ الكفاءةُ على العاملين في الجهاز الإداريّ. في النظام السياسي: التعدُّد الدينيّ والطوائف، أمّا في الاقتصاد، فمنكم التجارةُ (والبلاغة!!) أي تصدير الحرير والمنتجات الزراعيّة إلى فرنسا واستيراد سلَعنا المصنّعة (المانيفاتورة)، ومنّا مساعدةُ صناعتكم وتوظيفُ رؤوس الأموال وتقديمُ وسائطِ النقل والتكنولوجيا.

العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.