نُعاني من سوء تفاهم مع شركات الإنتاج السينمائي في كل أنحاء العالم: إذا قلت لهم إنّ السيناريو نصٌّ أدبي، فسيفقدون صوابهم، وربما كلّفوا قاتلًا مأجورًا بتصفيتك!
وإذا سألتَهم إلى أيّ جنس كتابيٍّ ينتمي السيناريو، فإنّ جوابهم الذي يُضمرونه في أنفسهم ولا يبوحون به هو أن السيناريو كتيّب إرشاديّ – كتالوغ - الهدفُ منه تقديم معلومات وصفيّة للمستخدم، وهو هنا المخرج حصرًا، وبالتالي فإنّه بلا قيمة أدبيّة تقريبًا، مثله مثل الكتالوغ المرفق مع الأجهزة الكهربائيّة.
المؤسف أنّ معظم الكتب الأجنبية المترجَمة إلى اللغة العربية والمتعلقة بتعليم كتابة السيناريو تُكرّس هذه النظرةَ الدونيّة لفنّ كتابة السيناريو، فهي تُركّز على الجانب التقنيّ، وتسهو عن التطرّق إلى الجانب الأخلاقيّ!
إنّ أيّ فنٍّ من الفنون هدفُه الأسمى الارتقاءُ بذوق الناس، وفن كتابة السيناريو لا يشذّ عن هذه القاعدة، ولا بدّ أن يُسهم بسهم وافر في تهذيب السلوك البشري، واجتلاب المزيد من الجمال الروحي إلى هذا العالم.
ما لاحظتُه في تلك الكتب المترجَمة – وهي عظيمة الفائدة حتمًا – أنّها تستدرجنا لفكرةٍ مؤدّاها أنّ كاتب السيناريو هو مجرّد موظف مطيعٍ تحت إدارة المخرج الذي هو بدوره عبدٌ خاضع لشركة الإنتاج. وفقًا لهذه الطبقيّة (طبقة العمّال: كاتب السيناريو والمخرج/ الطبقة البرجوازية: المنتج) فإنّ على السيناريست كتابةَ ما يُمليه عليه السوق لا ما يُمليه عليه ضميرُه، وأن يُنفّذ كجنديّ مرتزق ما يطلبه منه السادة المتحكّمون في المال والاستوديوهات.
ولهذا عندما يتحدّث كاتب السيناريو عن المغزى الأخلاقي في مكاتب هوليوود أو بوليوود أو مصريوود، فإنّه سيغدو أضحوكة، وتقريبًا سيتلقّى ركلةً حسنة التسديد بين ردفيه!
ومن نكد الدنيا أن يبرز الواقع الفني الضحل كاتب سيناريو مستلبًا، مَلكيًّا أكثر من الملك، يؤيّد بلا خجلٍ احتقار الفنّ الذي يُمارسه، مُظهرًا فسولةً تحسده عليها شركات الإنتاج، فيخوض حربًا شرسة ضد كل من تسوّل له نفسه الزعم بأنّ السيناريو نوع أدبيّ، ويُصرّح بغباء بأنّ ما يكتبه ليس أدبًا، بل كتابة موجّهة للاستخدام الموقّت من قِبل فئة مخصوصة - المشتغلون في السينما - وهو لا يفهم أنّه يهبط بفنّ كتابة السيناريو إلى مستوى ورق التواليت الذي تُمسح به المؤخّرات ويُرمى بعد الاستخدام.
السيناريو كمشروعٍ تجاريّ
أحدُ المخرجين الإيطاليّين المعروفين كان يتعاقد مع كاتبَي سيناريو أو ثلاثة، ويعمل كلُّ واحدٍ منهم منفصلًا عن الآخر على القصة نفسها، ولمّا سُئل لماذا يفعل ذلك، أجاب بوقاحة بأنّه يُفضّل استخدام أكثر من مرحاض!
وإذا تغاضينا عن رائحة المراحيض التي تفوح من بعض المخرجين، فإنّ خلاصة الرأي السائد في الأوساط السينمائية هي الآتي:
لا أحدَ في العالم كله يَكتبُ السيناريو كاستجابة داخلية، وإنما هو يُكتبُ لأجل المال فقط.
ولدى سدَنة معابد السينما التجارية هذه الحجّة التي يتوهّمون أنها الدامغة:
الأدب مشروع شخصيّ، ولكن عندما ننتقل إلى السيناريو، فهذا حقلٌ كتابيّ مختلف، الكتابة هنا ليست مشروعًا فرديًّا، بل مشروع تجاري، خاضع لقانون العرض والطلب، وعلى الجميع البحث عن الأرباح وتجنّب الخسائر، وفي مقدّمتهم السيناريست، الذي يتوجّب عليه إزاحة قيمه المثالية جانبًا، والتحوّل إلى بائعٍ محنّك يجيد تصريف بضاعته، وعليه أن يُساوم بحذق ليبيعها مقابل سعر ممتاز.
إنها حجةٌ متهافتة، لأنّ التفكير على هذا المنوال البراغماتيّ في السيناريو كبضاعة خاضعة لقوانين السوق، هو العامل الكارثيّ في انسحاب عباقرة الكتابة من حقل الكتابة الدراميّة.
ولدينا نموذجٌ أجنبيّ هو غابرييل غارسيا ماركيز الذي عمل لسنوات، اضطرارًا، في كتابة سيناريوهات الأفلام السينمائية، إلا أنّه أقلع نهائيًّا عن كتابتها بمجرد صدور روايته الناجحة «مائة عام من العزلة».
ولدينا نموذجٌ عربيٌّ هو نجيب محفوظ، الذي اضطرته الحاجة المادّية هو الآخر إلى مزاولة كتابة سيناريوهات الأفلام لسنواتٍ عدّة، ولكن عندما تحسّنت أحواله المادّيةُ قرّر العودة إلى كتابة الأدب وطيّ تلك الصفحة الرديئة من حياته. وهناك جوابٌ ظريف منسوب إليه مفادُه أنه اشتغل سيناريست ليوفّر ثمن الأحذية لابنتيه! وخلف جواب نجيب محفوظ الساخر ركامٌ من المرارة الداخليّة، وتلميحٌ إلى ما كان يُكابده من تدخل الحمقى ومنحطّي الذوق في عمله كسيناريست.
ولو افترضنا أن نجيب محفوظ - رحمه الله - يشاركنا هذا الجدل، وسألناه: «هل ينتمي السيناريو إلى الأدب؟»، لعلّه أجابنا مُعَرِّضًا: «لا.. السيناريو ينتمي إلى قلّة الأدب!».
وقلّة الأدب لا تقتصر فقط على ما تحت السرّة، ولكنها تتقصّد أيضًا خلوّ السيناريو من: العمق والبناء الدرامي السليم والرسم الجيّد للشخصيات والطرح الإنساني وكل ما يمتُّ للأدب الرفيع بصلة.
لماذا نتمسّك برفع السيناريو إلى مرتبة النصّ الأدبي، ونرفض تعليبه كغرضٍ للتسلية يتساوى مع الأغراض المعروضة للبيع في السوبر ماركت؟ إذا اتفقنا على منح السيناريو صفة «الأدبيّة» فهذا يعني اليقين بأنّ له رسالة أخلاقيّة يؤدّيها للمجتمع. وهذه الرسالة الأخلاقيّة ذاتُ أبعاد لا نهائية، إنها مَعينٌ لا ينضب للدراما الجديدة الجيدة.
البرمجة البصرية العصبية
إنّ أفلام الحركة الأميركيّة مثلًا تحمل رسالةً غير أخلاقيّة، وهي تُسمّم عقول الأطفال والمراهقين في كل قارّات العالم، وتدعوهم من طرف خفيٍّ إلى حل مشاكلهم باستخدام القوّة خيارًا أوحد. والمصيبة أنّ كتّاب السيناريو في هوليوود يدأبون على كتابة هذه النوعيّة غير المسؤولة من السيناريوهات التي تُشجّع الناشئة على العنف وتدمير العدوّ وقتله.
إنّ رسالة هذه الأفلام مناقضةٌ لرسالة الفن الراقي، ومفعولها في تشويه الأرواح مفضوحٌ ولا يحتاج إلى مزيدٍ من التوكيد.
ألم يكن من الأفضل الاتّجاه إلى كتابة سيناريوهات تحضّ على استخدام العقل والأخذ بمبدأ الحوار واستحسان الطرق السلميّة؟ هل هو قدَر البشر أن يذهبوا إلى العنف دائمًا حتى في الأفلام؟!
ما عادت الأفلام السينمائية أمرًا يُستخفّ به، لأنها منذ ميلادها تقوم بـ«البرمجة البصريّة العصبيةّ» لمليارات البشر، وهناك جزء من «البرمجة البصرية العصبية» يذهب إلى العقل الواعي - وهذه يسهل كشفها - وجزء منها يذهب إلى العقل الباطن.
يمكن للإنسان متوسّط الثقافة ملاحظة «البرمجة البصرية العصبية» الموجّهة للعقل الواعي وتمييز ما هو ضارّ منها، وبالتالي اتّخاذ الموقف النقدي الصحيح. لكنّ أفضل العقول وأذكاها سيقع ضحيةً لـ«البرمجة البصرية العصبية» الموجّهة للعقل الباطن، وهي الأكثر خطورة ودهاءً، بينما لا يشعر بشيء. وأبسط صورها كمثال، الظهور المتكرِّر للعلَم الأميركي في مشاهد كثيرة - وهو ظهورٌ غير مبرّر دراميًّا في أغلب المشاهد - فتقع عليه عينُ المشاهد عرَضًا، معلّقًا على جدران المنازل، ومرسومًا على الحيطان، ومركوزًا عند المداخل والأسطح وعلى الأسوار والأفاريز، ومطبوعًا على القمصان وأغطية الأسرّة، إلخ. وهذه رسالة باطنية للشعب الأميركيّ لزرع حبّ الوطن في نفوسهم، وهذا أمر مقبول طبعًا بالنسبة للأميركيين، ولكن بشأن شعوب العالم الأخرى، كالعرب والأفارقة والآسيويّين والأوروبيّين والأميركيّين اللاتينيّين، فإنها ستكون رسالةً مموّهة موجّهةً إلى لاوعيهم. وكما يؤكد علماءُ النفس، فإنّ اللاوعي يفكّر عن طريق الصوَر فقط، وهذه حقيقة علمية قطعيّة، ومعنى هذا أنْ تنشأ الأجيال متعلّقةً بوطن آخر يحلّ بديلًا عن وطنها الأم.
تأتي البرمجة البصريّة العصبيّة الأكثر عمقًا للعقل الباطن، التي تشتغل عليها أفلام الحركة الأميركيّة، عن طريق الأبطال الخارقين واختيار ممثّلين بمواصفاتٍ جسديّةٍ فائقة، لتعكس تفوّقَ الولايات المتحدة الأميركية وجبروتَها في لاوعي المشاهدين. وبما أنّ هذا البطل الأميركيّ الخارق لا يُهزم، فإنّ اللاوعي يُسقط هذه الصورة تلقائيًّا على أميركا في الواقع الحقيقي، باعتبارها دولةً من المستحيل هزيمتُها.
«أفلام المقاولات» المصريّة
بينما نلاحظ أنّ السينما المصرية منذ صعود تيّار ما يُسمى «أفلام المقاولات»، تُعزّز نوعًا من البرمجة البصريّة العصبيّة المشبوهة، وكأنّ ثمّة يدًا خفيّةً تتلاعب بخيوط غير مرئيّةٍ، وتحرص على البرمجة البصريّة العصبية الضارّة بالعقل الباطن للمشاهدين العرب.
لن أكترث لأيّ أنْوَك* يفتح فاه مفنّدًا نظريّة المؤامرة، لأنّ التعبئة المضادة التي تُلقّنها السينما المصرية للمشاهد المصري والعربي في العقود الأخيرة بيّنة.
مَن هم الأبطال الذين قدّمتْهم الأفلام المصريّة منذ بداية القرن الحادي والعشرين حتى اليوم؟؟ البطل على شاكلة «اللمبي»: غبيٌّ ومحدود التفكير ومهرّج وتافهٌ ومعتوه ومخبول وكسول وليس لديه هدف في الحياة.
البطل في الأفلام الأميركية ذكيٌّ وقويّ وإنسانيّ. وعلى النقيض، نجد البطل في الأفلام العربية فهلويًّا ومُدّعي القوة بجسم رخوٍ، وأنانيًّا.
وهذا لا يعني أن نُجاريَ الأميركيين ونكتب سيناريوهات شوفينيّة، على غرار سلسلة أفلام رامبو، ولكن الواجب على كتّاب السيناريو العرب الكفّ عن إنتاج النماذج السلبيّة من الأبطال، والتركيز على «البطل الأخلاقي».
في الحياة الواقعيّة قد نُصادف هذا «البطل الأخلاقي» متجسدًا في جنديّ مرور يحمل على ظهره شيخًا مسنًّا ليساعده على عبور شارع مزدحم، أو في امرأة تنبش في حاوية القمامة بحثًا عن طعام لصغارها رافضةً بإباء بَيع جسدها، وفي ملايين الرجال والنساء الذين يكافحون كل يوم من أجل الفضيلة.
ثمّة نماذج عربيّة ناصعة للبطل الأخلاقي، في السينما لدينا نموذج «عمر المختار»، وفي الدراما التلفزيونية لدينا نموذج «رأفت الهجّان».
إذا أراد أحدهم اتّخاذ كتابة السيناريو كمهنةٍ بلا شرف فهو حرّ في رهن ضميره وقلمه لأيّ نذل يملك نقودًا ويريد التكسّبَ من إنتاج الأعمال الدراميّة، ولكن إذا آمنَّا بأن كتابة السيناريو مهنة شريفة، رفيعة القدْر، ترتقي بالذوق العام، فإنّ علينا البحثَ عن أبطالٍ لهم رسالةٌ أخلاقيّة في الحياة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.