إلى نيلسون مانديلا
(خطاب تلقّي جائزة «بوشنر» في دارمشتات عام 1985).
«فويتسيك»، لجورج بوشنر (١٨١٣-١٨٣٧)، واحدة من أبرز المسرحيّات الأوروبية وأكثرها عنفًا وإشكالًا، وهي تُعتبر أوّل مسرحيّة بروليتاريّة في أوروبا. تولّى المخرج أسامة غنم ترجمتها في صيغةٍ جديدة، وقد أخرجها وعرضها على خشبة المسرح الوطنيّ التونسيّ العام الماضي.
ننشر في هذا العدد نصّين عن هذه المسرحيّة من ترجمة أسامة غنم، الأوّل للمسرحيّ الألمانيّ هاينر موللر، والثاني لمترجم خطاب موللر إلى الفرنسيّة برنار أومبريشت، وسننشر مقدّمة أسامة غنم والنص الكامل للمسرحية في العدد المقبل.
1
لا يزال فويتسيك يحلق ذقن ضابطه، يأكل الحمّص الموصوف له، ويعذّب ماري ببلادة حبّه - إذ استحال شعبه دولة - محاطًا بالأشباح: جنديّ الرماية رونجه، الأداة البروليتاريّة في أيدي قتَلَة روزا لوكسمبورغ. يؤدّي دورَ أخيه في الدم. سجنُه اسمُه ستالينغراد، حيث تواجهه ماري المقتولةُ، في قناع كريمهيلدا: يقوم صرحه على تلّة ماماييف Mamaïev، نصبه التذكاريّ الألماني هو الستار الحديديّ، في برلين، قطار الثورة المصفّح الذي تخثّر فبات سياسة. فمه ملتصقٌ بكتف الضابط الذي يُخرجه بخطوةٍ سريعة، على هذا النحو رآه كافكا يختفي من على الخشبة بعد قتل أخيه، كابحًا بصعوبةٍ رغبته في التقيّؤ. أو في هيئة المريض الذي يستلقي طبيبُه في سريره، مع جرحه المفتوح مثل منجم فحمٍ حجريّ تُبرز منه الديدانُ رؤوسها. عملاق غويا كان ظهوره الأوّل: جالسًا على الجبال، يحصي سنين الطغيان، هو أب حرب العصابات. على لوحةٍ جداريّةٍ في صومعةِ ديرٍ في بارما رأيت قدميه المبتورتين، عملاقتين في منظرٍ طبيعيّ آركاديّ. في مكانٍ ما، يتابع جسدُه التقدّم ربّما، على يديه، ربّما مرتجفًا من الضحك، إلى مستقبلٍ مجهولٍ لعلّه تهجينه مع الآلة، مدفوعًا ضدّ قوة الجاذبيّة في دخان الصواريخ النفّاث. في أفريقيا لا يزال يتابع دربَ آلامه نحو التاريخ، لم يعد الزمن إلى جانبه بعد الآن، حتّى جوعه لم يعد ربّما عنصرًا ثوريًّا بعد أن غدا من الممكن إسكاته بالقنابل، فيما ضبّاط طبول العالم يدمّرون الكوكب: ساحة معركة السياحة، موقع لحالة طوارئ، ما من نظرةٍ للنار التي رآها جنديّ المدفعيّة فرانز يوهان كريستوف فويتسيك، وهو يبري العصيّ من أجل الركض بين صفَّي كتيبة التأديب، تنتشر عبر سموات دارمشتات. أولريكه ماينهوف، ابنةُ بروسيا والعروس - المولودة متأخّرة - للقيطٍ آخَر من لقطاء الأدب الألمانيّ دفن نفسه في بحيرة فانسي، هي، بطلة آخِر دراما في العالم البرجوازيّ، عودة الرفيق الشابّ من مقلع الأحجار الكلسيّة مسلّحًا حتى الأسنان، هي أخته، يزيّن رقبتها عقد ماري الدامي.
2
نصٌّ استغلّه المسرحُ مرّاتٍ عديدة، حصل لابن ثلاثةٍ وعشرين عامًا قصّت الأقدارُ أجفانَه عند ولادته، نصٌّ فجّرت الحمّى حتى تهجئتَه، بنْية من تلك التي من الممكن أن تتشكّل عندما نصبّ في الماء رصاص النبوءة المصهور، فيما اليدُ التي تحمل الملعقةَ ترتجف أمام مرأى المستقبل – ها هو ملاك الأرق الذي يسدّ بوّابة الجنّة حيث كانت ترقد براءةُ كتّابِ المسرح. كم هو مسالمٌ تأثير في انتظار غودو لبيكيت على منحنى الدراما الحديثة، قبالة هذه العاصفة المزمجرة المقتربة بسرعة عصرٍ آخر، وفي حقائبها لنز، برق ليفونيا المنطفئ، زمن جورج هايم في الفضاء البلا يوتوبيا تحت جليد هافيل، كونراد بايير في جمجمة فيتوس بيرينغ المفرغة. ينظر رولف ديتر برينكمان إلى اليسار فيما يأتي السيرُ من اليمين قبالة حانة شكسبير، وما أوقحَ كذبةَ ما بعد التاريخ أمام الواقع البربريّ لما قبل تاريخنا.
3
بدأ جرح هاينه يتحوّل إلى ندبة، مشوّهة: فويتسيك هو الجرحُ المفتوح. يحيا فويتسيك حيث دُفن الكلب، مع الزنجيّ في كومة الحطب، الكلب/الزنجي يُدعى فويتسيك. من أجل تقمّصه ننتظر في خوف و/أو أمل أنّ الكلب/الزنجيّ سيعود ذئبًا. يأتي الذئبُ من الجنوب. حين تبلغ الشمس سمتها يتطابق مع ظلّنا: عندها، في ساعة التوهّج، يبدأ التاريخ. وإن لم يحدث التاريخ فما من انقراضٍ جماعيٍّ سيحدث في صقيع التوازن الحراريّ، أو، بعبارةٍ سياسيّةٍ مختصرة، في الانفجار الكبير الذي سيكون نهاية كلّ يوتوبيا وبداية واقعٍ يتخطّى الجنس البشريّ.
(ترجمتُ نصّ الخطاب انطلاقًا من الترجمة الإنكليزية التي قدّمها مارك فون هيننغ في Heiner Müller – Theatremachine والترجمة الفرنسيّة التي قدّمها)
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.