منذ حوالي أربعين عامًا، تدأبُ «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» على مطالبة الدولة بالكشف عن مصير أقاربهم الذين اختفوا قسرًا خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة (بين عامَي 1975 و1990)، بمن فيهم المعتقلون في السجون السوريّة والإسرائيليّة، وأولئك الذين اختطفتهم المليشيات وقتلتْهم خلال فترة الاعتقال السياسيّ في لبنان. منذ نهاية الحرب، سعى أهالي المخطوفين إلى الحصول على معلوماتٍ حول مكان الذين قد لا يزالون على قيد الحياة، أو حول بقايا من ماتوا لعلّهُم يدفنونهم. لكن لم يكن الكَشفُ ولا الحَسم وشيكَي الحدوث.
دفن الأمل
لسنواتٍ عدّة، نفّذ الأهالي وقفاتٍ احتجاجيّة أسبوعيّة في حديقة «جبران خليل جبران» في بيروت، وذلك قبل وقت طويل من قيام ثوار لبنان في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بملء وسط المدينة المهجور منذ أن أُعيدَ بناؤه بعد الحرب. بعد شهر واحد بالضبط من بدء الثورة، نظمت اللجنة عرضًا لفيلم «طِرسْ- رحلة الصعود إلى المرئيّ» لغسان حلواني (2018)، والذي يتناول البحث المستمرّ منذ عقود عن المفقودين وعن تحقيق العدالة لهم. في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 عُرض الفيلم للمرة الأولى في لبنان، وذلك قبل ليلتين من موعد اجتماع البرلمان اللبناني المُعَطَّل الذي كان ينوي إقرار قانون عفوٍ عام.
عمليًّا، كان لهذا القانون أن يعفو ليس فقط عن المُدانين الحاليّين، بل أيضًا عن أفراد النخبة الحاكمة الذين قد يُقادون إلى المحاكم بسبب جرائمهم الماليّة والسياسيّة، والذين اتّهمهم المتظاهرون علنًا ولمدّة أسابيع بعرقلة مسار البلد. سدَّ المتظاهرون طريق البرلمان في وجه المشرّعين، ولحسن الحظّ، منعوهم من عقد الجلسة وتمرير هذا القانون. كانت المرّة الأخيرة التي تمّ فيها إصدار مثل هذا القانون سنة 1991، تحت ذريعة صنع السلام وحفظه، إذ برّأت الدولة أبرز أمراء الحرب الأهليّة والنخبة الحاكمة من جميع جرائم الحرب التي ارتُكِبَت قبل ذلك العام، فطوَوا صفحةَ الماضي الدّموي وانتصبوا مُستأسدين فوق أنقاض بلدٍ هشّموه بأيديهم.
منذ ذلك الحين، دُفِنَ، وبشكلٍ رسمي، مصير كلّ مَن اختُطِفَ واعتُقِلَ وغُيِّبَ قسرًا، بينما أصبح الوضع القانونيّ والشخصيّ لأقاربهم الذين يعتمدون عليهم، وخصوصًا الآباء الذين ترْأس أسماؤهم السجلّ العائليّ اللبناني بموجب قانون الأحوال الشخصيّة، معلّقًا في حالة انتقاليّة دائمة. جرّاء ذلك، تصبح كلّ الإجراءات البيروقراطية، من الأكثر بساطة (تسجيل خطّ هاتف جديد) إلى الأكثر أهميّة (الميراث) مستحيلة. بالتالي، يمكن القول إنّ هذه واحدة من أسوأ تبعات الحرب الأهليّة وأكثرها إجحافًا، إذ أَسَرَت عائلات المفقودين في لغوٍ قانونيّ متواصل وفي انتظارٍ أبديّ.
«إخفاء الاختفاءات»
بعد حلول الظلام، تجمّع الناس على التلّة العشبيّة المهترئة والمبلَّلة من الأمطار الأخيرة في منتصف حديقة «جبران خليل جبران»، أمامهم شاشة كبيرة تمّ تركيبها باتجاه الجانب الجنوبي، على سويّة «جسر الرينغ» والأحياء السكنيّة الواقعة خلفه. لساعاتٍ عديدةٍ قبل عرض الفيلم وبعده، كان بعضهم، بمن فيهم العديد ممن كانوا يشاهدون الفيلم، يقف أو يجلس أو يستلقي على إسفلت ذاك الطريق السريع لمنع حركة السَّير، في وقفةٍ احتجاجيةٍ على فساد الدولة وتعسّفها.
يتوقّع المرء أن يبدأ الفيلم وينتهي حول المأزق نفسه، بما أنّه يتناول قضيّة مخطوفي الحرب وإمكانيّات حلّها، غير أنّ الفيلم لا يتبع هذا المسار. يبدأ عمل حلواني بصورة فوتوغرافيّة بالأبيض والأسود في ما يبدو وكأنّه مساحةٌ منعزلة من حيٍّ مدينيٍّ مزّقتْه الحرب. يتبيّن لنا من محادثةٍ يجريها حلواني مع رجل نجهل هويّته أنّ ما لا نراه أمامنا هو مشهدُ اختطاف، وأنّ «الشُّهود»، الخاطفَين والمخطوف والمصوّر وأيَ شخص آخر كان يمكن أن يكون حاضرًا، مُغَيَّبون عن المشهد لأنّ حلواني قرّرَ محوهم وإقصاءهم. هو اختفاءٌ مَمحُوٌّ عدا ثلاثة عناصر تركها تعديل حلواني الرَّقمي مرئيّة: خوذةٌ وحيدة وزوجُ حذاءٍ بُتِرَت ساقاه وعبارةٌ بالإنكليزيّة «أبذل ما بوسعي» (I give it my best shot)، والمطبوعة أصلًا على قميص أحد الجُناة، والتى نراها، بفعل المَحو، مُسقَطةً على الحائط الأبيض الرَّث الواقع خلف مسرح الجريمة الأصليّة التي أنتجتْ حالة الاختفاء.
من خلال توليف حُفنةٍ من المشاهد التي تتكرّر وتتعاقب، يعرضُ «طِرسْ- رحلة الصعود إلى المرئيّ» عمليّات تنقيب متعدّدة عن أولئك الذين اختفَوا في غضون 40 عامًا من التَّوق السياسيّ ومن انتظار عودتهم أو الامتثال لدفنهم، كما عن كشف أدلّة حول غيابهم أو موتهم المُحتمَل، ومطالبة الدولة بالمساءلة وتقديم الحماية لأسرهم من خلال التحقيق والاعتراف العادل. يفشل هذا السّعي إلى الحَسم في أحد المشاهد التي يستخدمها حلواني، والتي تصوّر عمليةَ نَبشِ أكياس من بقايا لهياكل عظميّة عُثِرَ عليها في قرية نائية عام 2011، حيث يحمل رجال من النيابة العامّة عظامًا ويزعمون أمام المتفرّجين وأمام الكاميرا بأنّها «عظامُ حيواناتٍ تعودُ لأغنامٍ وماعز». يفشل تحقيق الحَسم أيضًا في البحث المتأنّي الذي يجريه حلواني على إحدى التصويرات الأيقونيّة للمخطوفين، هي عبارة عن مُلصَق يجمع صورًا تعريفيّة لهم بالأبيض والأسود، رُصِفَت بالتساوي داخل شبكةٍ متصالبة. يبدأ عمله في التنقيب بتذكُّره أنّ لجنة أهالي المخطوفين كانت قد نشرت هذه الملصقات على أحد جدران شوارع بيروت الرئيسية خلال احتفالٍ تذكاريّ أُقيم َمنذ أكثر من عقد. في مشهد متكرّر في الفيلم، نرى حلواني يعمل بتأنٍّ بالغٍ واسترسالٍ نَهمٍ في تقشيرِ وتقطيعِ وفصل طبقات ورقيّة عديدة عن مُلصقاتٍ تحوي صُورًا لمواضيعَ شتّى، مضغوطة على بعضها بين طبقات من الغراء والنّشاء المُتَيَبّس، ومفصولة بمادّة الصّوغ والورق المَسحون. لا نعلم أين أو متى أو ما إذا كان غسّان سيجد مفقوده، ولكنّنا نشعر والمِقطَعُ في يده بأنّه يفعل «أفضل ما بوسعِه». أهو فعلُ ثأر وانتقام؟ ربما، وإن كان كذلك، فهو ليس انتقامًا للاختفاءات الغاشمة فقط، وإنما أيضًا للإخفاء المتعمَّد لتلك الاختفاءات.
في منتصف الفيلم، تظهر لقطة لمناطق مختلفة في لبنان منها بيروت، بينما تتسرّب من مشهد سابق دندنةٌ جهيرةُ الصّوت للحوار الذي دار بين حلواني والرجل المجهول. نحوم هناك لبرهة تجعلنا نلحظ موقعَين محدّدَين: مكبّ قمامة ومَمشى خرسانيّ مبنيّ على ممتلكات تم استصلاحها من ضفّة البحر الأبيض المتوسّط، في مساحةٍ لم يتم بناؤها بعد، تقع في وسط بيروت المُعاد بناؤه والمُتنازَع عليه والمُقفِرِ أبدًا. في الموقع الأوّل، تلتقط الكاميرا في يومٍ مُشمسٍ منظر القمامة إلى جانب حفّارة آليّة، بينما تقف خَفِرةً في إحدى زوايا متنزّه بحريّ في يومٍ رماديّ عاصف كانت تتحطم فيه الأمواج العاتية على الإسمنت، ويهسهس الماء من ثقوب وفجوات مجهولة المصدر بين الدرابزينات الباردة. بمساعدة قليل من المعرفة المحليّة بمشهد ما بعد الحرب، يوضح لنا تريّثُ الكاميرا أنّه، تحت مكبّ النفايات كما تحت الممرّ الخرساني المهجور، يمكث بعضٌ من أكبر المقابر الجماعيّة في لبنان.
مرةً أخرى، ومن منظورٍ عُلوي، هذه المرة على المستوى البشري، نرى حلواني يبسطُ نسخةً من الملصق الأيقوني على طاولة مُضاءة ليثبّته ويقتطع منه بعض بورتريهات ويضعها جانبًا. في لقطةٍ أخرى وعلى مكتب عملٍ اعتياديّ، نرى يَدَي الفنان تخلطان عددًا من الملفّات وأكوام الوثائق المُجمَّعة التي يُفتَرَض أنها تعود للقضايا القانونية المرفوعة وإنما المُعلَّقة.
في أول ظهور لبورتريهات المفقودين على الحائط، يتبدّل التّنقيب الجنائي، من التقطيعات السريعة والرّشيقة لمِقطَع الفنان، إلى ضربات فرشاةٍ رطبةٍ غضّة يلاطفُ بها خطوط الشّعر والجبين والأذن والذّقن، ويُمسِّدُ بريشها نظرات رائقة لنساءٍ ورجالٍ لتغدو وجوههم الآن أكثر اتّضاحًا وجلاء. عند اختفائها من حولنا وتراصفها في شبكة مُؤيقَنة، تغدو الوجوه «مجهولةً فُرادى وغير مألوفةٍ إلّا مجتمعة»، بحسب جملة نقرؤها على الشاشة. تمامًا مثل جميع الأدلّة الجنائية، فإنّ تماميّة الملصق الأيقوني غير مُتاحة على هذا الجدار التذكاري. في اللحظة نفسها، تُبلِغُنا جملة دُوِّنَت على الشاشة رَفْض المجتمع ولجنة الأهالي لإعلان الدولة اللبنانية قرارَ إنهاء القضية عبر إحياء ذكرى جماعية لجميع المخطوفين معًا، من دون أي تعويض لعوائلهم أو أي عقاب للجُناة.
ردًّا على ذلك، يقوم حلواني بفعلٍ أدائي ترميمي: مقبرة عمودية لصُوَر المفقودين المعلّقة على جدار الملصق. ينقشُ الفنان على طبقة الغراء رقمًا واسمًا لكلّ من تظهر وجوههم على الملصق، سواءٌ الوجوه الواضحة أو تلك التي شُطِبَت سهوًا خلال الحَفر أو التي ظلّت محصورةً تحت أكوام الورق وطبقات اللِّصاق.
تفترض جميع مشاهد ولقطات الفيلم تقاربًا نحو اعترافٍ جَماعيّ ومساءلة عامّة تُخرج المفقودين من حالهم العتبيّة المعلّقة نحو عالم الموتى لعلّهم يستريحون، ولعلّ أحبّاءهم يستأنفون حياتهم الاجتماعيّة. لكنّ من الواضح أنّ ليس هذا هو المكان الذي يأخذنا حلواني إليه، إذ يختتم الفنان فيلمه بانعتاقٍ معكوسٍ وغير متوقّع. تظهر على الشاشة وثيقةُ إخراج قيد عائليّ تحوي أسماء أفراد عائلة حلواني الأربعة (الوالدان، الأخ وغسّان نفسه). يشرع الفنان إلى شطب أسماء الأحياء الثلاثة وترك اسم أبيه سالمًا مَصونًا، في سلوكٍ بيروقراطي يرمي إلى إبراز اسم المفقود وإنكار اختفائه.
من خلال إبراز حتميّة وفاته وأفراد عائلته في المستقبل، يبيّنُ هذا المشهد ما قبل الأخير، بطريقةٍ مؤثّرة، حيوات من انتظروا بائدةً زائلةً ومغمومةَ العيش نَكَبَها حُكم الدولة. في حين يبقى المفقودون تائهين في حال انتظارٍ أبديٍّ لم يبقَ مَن ينتظره بعد اليوم. حتى تلك اللحظة، كان إخراج القيد العائلي هو الحيّز الوحيد حيث يمكن للعائلات أن تنضمّ ثانيةً إلى مفقوديها، إلى أن يظهر مثل هذا التناقض البيروقراطي الذي يفصلهم عكسيًّا ويرفض توحيدهم حتى في الموت، تاركًا المفقودين وحيدين في غيابهم إلى الأبد. بضربةٍ من قلمه مرة أخرى، يقوم حلواني في المشهد الأخير بإعادة المفقودين إلى حياةٍ وُلِدَت من نَقص الموت. يُظهر تصويرَين متحرّكَين لشخصَين أحدهما واضحُ الوجه والآخر من دون وجه، يتّجهان نحونا جنبًا إلى جنب على إيقاعِ مشيةٍ مُتّحدةٍ مُطمئنّةٍ مُتّئدة، أعاد غسّان غَرسَها مرة أخرى في حُضنِ الإلفة والأسرة.
هكذا ينتهي فيلم «طِرسْ- رحلة الصعود إلى المرئيّ»، بثورةٍ بعيدةٍ عن منطق الخسارة والفقدان الذي بدأ به، مقترِحا تدخلًا جذريًّا ثلاثيّ الشعب: دفنٌ وعكسٌ للأدوار وانبعاث. في تلك الليلة من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، شكّلت إيماءات غسّان حلواني مشهدًا فريدًا طال انتظاره لفعلٍ ثوريّ ضد النَّقص والانعدام المستمرَّين لكلِّ عدالةٍ وكرامة اجتماعية. في تجاورٍ مع هذا المجال العام الحديثِ التّبرعُم، يقول تدخُّل حلواني إنّ القانون قد يعجز عن طوي صفحات التاريخ بسهولة، وإنّ ما قد يُسعفنا هو الطموح وإعادة الترتيب الاجتماعي والتحوّلات المجبولة بالعبور الطّقسي التي تدفع بالجسد وبالجهاز السياسيّ قُدُمًا نحو حالٍ مُغايرٍ لما كانت عليه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.