يحتلّ ميكلوس يانكشو مكانَه في عداد المخرجين الخالدين في تاريخ السينما العالميّة. مادّةُ أفلامه مأخوذةٌ في معظمها من تاريخِ المجر، يجري كثيرٌ من أحداثها في سهولها المنبسطة مترامية الأطراف، البوزستا، ترافقها الأغاني والرقصات المستمَدّة من التراث الشعبي المجريّ الزاخر، إلّا أنّها لافتةٌ ومؤثّرة من حيث الأسلوبُ والأثر البصريّ، وقد تعدّيا حدود بلاده. يستمدُّ يانكشو لغتَه السينمائيّة من كوريوغرافيا الرقص ومن الإخراج المسرحيّ، وهي لغةٌ لا تزال شديدة التميّز في أيّامنا هذه.
تدور مواضيعه مدار الظلم والقوّة والاستبداد والثورة والمجتمع الجديد القائم على الحرّية والمساواة. ومع أنّ الرقابة أمْلَت عليه غالبًا اللجوءَ إلى التورية والترميز، فقد كان ذلك لصالحِ رواج أفلامه، إذ منَحها القدرة على أن تُدهش وتجذبَ المشاهدين غير المجريّين الذين قد لا يلتقطون لولاها تلك التلاوينَ السياسيّة والثقافيّة التي ضمّنَها أفلامَه.
إنتاج يانكشو غزيرٌ، يمتدّ على ستّة عقود (توفّي في ٣١ كانون الثاني/يناير ٢٠١٤ عن ٩٣ سنة). وقد عاد إلى إخراج الوثائقيّات بعد انهيار الكتلة الشيوعيّة، خلَطَ فيها الإشاراتِ إلى التاريخ الثقافي والسياسيّ المجريّ بالشطحات البعد-حداثيّة. غير أنّنا سنقتصر في هذا التعريف به على أفلامه في مرحلته الشيوعيّة.
ولد ميكلوس يانكشو في بودابست، في العام ١٩٢١، لأبٍ مجري وأمٍّ رومانيّة. وقد علّق على ذلك لاحقًا بالقول إنّه التجسيد الحيّ لتضارب الآراء السياسيّة. درس القانون وبعده تاريخَ الفن والإثنوغرافيا، وأدّى خدمته العسكريّة خلال الحرب العالميّة الثانية، ووقع خلالها في الأسر. عند نهاية الحرب، نشط في حركة «مدارس الشعب»، وهي حركةٌ يساريّة واسعة الانتشار، مهتمّة بمحو الأمّية وتعليم أبناء الفلّاحين والعمّال، فقد كان مثل العديد من أبناء جيله شديدي الإيمان بضرورة تحسين أوضاع الفلّاحين. انضمَّ إلى الحزب الشيوعيّ سنة ١٩٤٥. تجربته في ظلّ الشيوعيّة في المجر موثّقةٌ في أفلامه. لكنّه لا يخفي أنّه خَبِر الخوف خلال الحقبة الستالينيّة.
بدأ يانكشو العملَ كمخرج سينمائيّ في أكاديميّة فنون المسرح والسينما في بودابست. تزوّج في العام ١٩٤٩ وتخرّج في العام الذي تلاه. خلال عقدٍ من الزمن، اقتصر إنتاجه على شرائطَ إخبارية ووثائقيّات. باشر في إخراج الأفلام الروائيّة في العام ١٩٥٨ بفيلم «الأجراس غادرتْ إلى روما»، الذي يقول عنه إنّه الفيلم الوحيد الذي لم يكن مقتنعًا به منذ البداية. في ذلك العام تزوّج زوجته الثانية، مارتا ميشزاروس التي سوف تكون شخصيّةً رئيسةً في السينما المجريّة بذاتها (تطلّقا في ١٩٦٨) وفي العام ١٩٥٩ تعرّف إلى الكاتبة غويللا هيرنادي التي سوف تصير أحد أبرز معاونيه.
عن تربيته السينمائيّة، يقول يانكشو إنّه تأثّر بالأفلام السوفياتيّة في الثلاثينيّات من القرن الماضي. لكنه تأثر أيضًا بـ«الموجة الجديدة» في السينما الأوروبيّة الغربية. وهو لا يُخفي إعجابه بسينما جان لوك غودار وبأعمال برغمان وأنطونيوني وواجدا. على أنّ للأدب حضوره المستمرّ عنده، بل هو مصدر وحي أساسيٍّ في أبحاثه وكتاباته. يعترف بأنّه تعلّم الكثير من دراسة أسلوب همنغواي في الكتابة، ذلك أنّ الروائيّ الأميركيّ لا يضيف آراءه إلى النصّ، ولا يعرض فيه وجهة نظره الشخصيّة: «إنّه يصف كما لو أنّه يصوّر فيلمًا وثائقيًّا. والجملة عنده متعدّدة المعاني»، على حدّ تعبيره.
السهول والخيول والطوق
في العام ١٩٦٣ بدأ الإخراجَ السينمائيَّ بفيلمه «كانتاتا» (أغنية)، بعد ١٣ عامًا من العمل على الوثائقيّات. ومع أنّه اعترف بأنّه تأثّر كثيرًا بفيلم «لا نوتيه» (الليل) لأنطونيوني، إلّا أنّ الفيلم ينبئ بومضاتٍ من أسلوب يانكشو الناضج.
يروي «في طريقي إلى البيت» (١٩٦٤) قصّة الجندي المجريّ يوسكا، وله من العمر ١٧ عامًا، الذي يقع أسيرًا بين أيدي فرسان الكوزاك الروس في أواخر الحرب العالميّة الثانية. خلال الأسر، تنشأ صداقةٌ مؤثّرة بين يوسكا والجنديّ الروسيّ كوليا، المكلَّف بأسره، يعملان معًا في مزرعة أبقارٍ تزوّد الفرقة العسكريّة بالحليب. معظم الفيلم صامت، بين شابّين لا يجيد الواحد منهما لغةَ الآخر، وينتهي بموت الجنديّ السوفياتي، متأثرًا بجراحٍ أصابتْه خلال القصف، فيما يبدأ يوسكا طريق عودته إلى أهله، مرتديًا زيَّ صديقه الجندي السوفياتي.
في تلك الفترة كان يانكشو قد حظيَ ببعض الاهتمام في مهرجانات الأفلام الأوروبيّة، إلا أنّ فيلمه الرابع، «الطوق» (١٩٦٥) هو ما دفعه إلى مقدّمة الصفوف بين مخرجي الأفلام الأوروبيّين.
في المشاهد الافتتاحيّة صفّان من الخيّالة يعبُران مثل البرق أمام الكاميرا. موضوع الفيلم ثورة فلاحيّة في المجر سنة ١٨٤٨، في امتداد ثورات «ربيع الشعوب» التي شهدتْها أوروبا. يصوّر الفيلمُ الوشايةَ بين الأهالي والخيانة بين الثوار، بمثل ما يصوّر العنفَ والإذلالَ وعسفَ السلطة. تغلب على الفيلم المشاهدُ الخارجيّة. يصوّر يانكشو الأسرى من الثوّار مطوَّقين في السهل المجريّ مترامي الأطراف، كأنّما ليقول إنّه حيث يطغى ظلمٌ يتحوّل المدى المفتوحُ إلى سجنٍ كبيرٍ ولو بلا قضبان. يبعث الفيلم شعورًا ينمو تدريجيًّا بالحجر والاختناق، يبلغ ذروتَه عندما يطبقُ الفخّ نهائيًّا على الضحايا العاجزين. على أنّ البعض، في المجر خصوصًا، قرأ في الثورة الفلّاحيّة في القرن التاسع عشر استعارةً لثورة ١٩٥٦ المجريّة التحرّرية التي قمعتْها الدبّابات السوفياتية.
في «الطوق» تتجلّى المعالم الأساس للغة يانكشو السينمائّية: الأسلبة والترميز والاستعانة بالتاريخ وانسيابيّة حركات الكاميرا ولقطات التصوير الطويلة ونُفور المخرج من التوليف والحساسيّة المفرطة للتطلّب الجماليّ والمشهديّة.
وفي «الطوق»، بدأ يانكشو باستخدام العري بطريقته المميّزة. الجسد العاري عنده هو تَجلّي هشاشة المظلوم ووصمة الإذلال التي يفرضها القويّ على جسد الضعيف. لن يقتصر فرض الإذلال على الجسد النسائيّ، يُحكَم على الجنود أو الثوار الأسرى التعرّي، لكسر العين، كما يقال. لكنّ جسد النساء العاري يقول أيضًا الحرّية والبراءة، بمثل ما يعلن تطلّب المخرج المجريّ للجماليّة الحسيّة. وبالإضافة إلى خصائص التموضع المكانيّ والشغل على إحداث الوقع الدراميّ، تميّزَ يانكشو بإحساسٍ مرهف بالتوقيت وبمعرفةٍ تكاد أن تكون غريزيّة لمتى يجعل مشهدًا واحدًا يستمرّ إلى ما لا نهاية (بعض اللقطات تزيد مدّتها على ١٢ دقيقة للّقطة الواحدة)، ومتى يخطفه خطفًا في لحظات. وإلى ذلك كلّه، يتفهّم يانكشو بعمق متى يكون السرد أقوى تعبيرًا إذا ما حُجبت الصورة أو حتى غاب الصوت.
الإخوة الأعداء
حصل يانكشو على منحةٍ لتصوير فيلم «الأحمر والأبيض» (١٩٦٧)، ليقدّم خلال الاحتفالات بالعيد الخمسين لثورة أكتوبر الروسيّة، على الرغم من أنّ المنتجين السوفيات كانوا يدركون أنّه المخرج المجريّ المتمرّد الذي غالبًا ما يحيد عن السيناريو خلال التصوير، ومن أنّهم لم يتوقّعوا أن يكيل فيلمُه الإطراءَ الكبير للحدث موضع الاحتفال. التفّ يانكشو عليهم من حيث لم يتوقّعوا. بدلًا من أن يُخرج فيلمًا عن الثورة، اختار فترة الحرب الأهليّة الروسيّة، ١٩١٩، وأخرج فيلمًا يدين الحروب.
يقول عن فيلمه: «بين كلّ الكوارث التي تملأ تاريخَ شعبٍ ما، الحروب هي الأكثر بعثًا على الفزع. أقول ذلك وأنا أفكّر قبل أيّ شيءٍ آخر بالحرب الأهليّة التي يتواجه فيها الإخوة والأصدقاء والمواطنون واحدُهم ضد الآخر. إنّ الحياة هي ثروتنا الأغلى، ويجب بذلُ كلّ الجهود من أجل الحفاظ عليها».
ليس الجنود البيض المعادون للثورة في فيلمه من نمطٍ واحد، ولا الشيوعيّون الحمر جميعُهم من الأبطال، فهؤلاء «عرفوا الخوفَ ومارسوا العنفَ مثلما يفعل الناس البسطاء خلال حربٍ أهليّة أو خلال ثورة». ويفسّر يانكشو ذلك بقوله: «لا تقوم الثورةُ بناءً على خصائصَ للرجال، ولا على تركيبتهم النفسانيّة أو مشاعرهم، إنّها تعتمد بالدرجة الأولى على عددٍ معيّنٍ من الحالات ومن الظروف الموضوعيّة، التي يجد البشر أنفسَهم عالقين في خضمّها».
لا «أبطال» في الفيلم، بالمعنيَين: لا أعمال بطوليّة ولا شخصيّات رئيسة. يروي الفيلم قصصًا أو نبذاتٍ قصيرة، ويتعاقب خلاله أشخاصٌ لا أسماءَ لهم، يرتكبون أفعالًا ويتبادلون حواراتٍ موجزة. عدا عن ذلك، الأوامرُ العسكريّة، وكلُّ طرف قابل لأن يرتكب المجازر للتغلّب على خصمه. في المشهد الأخير، تنسحب الكاميرا إلى البعيد، لترينا مشهدًا حربيًّا أشبهَ بلوحةِ شطرنج، فيما بضعُ مئاتٍ من الكائناتِ الصغيرة المسلّحة منتظمةٌ في صفوفٍ يحصد رصاصُها قبضةً من الخصوم أصغر منهم حجمًا وأقلّ عددًا بكثير، ينحدرون عليهم من على سفح تلّة. إنّ يانكشو مهتمٌّ بتصوير لوجستيّات القتل أكثر منه البطولات.
لكنّ معارضته للحرب، وللحرب الأهليّة، ومعرفته الأكيدة بأنّ الثورات غالبًا ما تقود إلى حروبٍ أهليّة، لم تكن معارضةً مطلقة. يقول: «توجد ظروفٌ يتعيّن فيها على المرء أن يضحّي بحياته، للحفاظ على شيءٍ آخر أو لإنقاذ هذا الشيء. ومع أنّ الحرب الأهليّة تثير حنقي العميق، إلّا أنّي أعتقد أيضًا أنّه يجب القيام بالثورة عندما تدعو الضرورة».
مهما يكن، خيّبَ فيلم يانكشو آمال منتجيه السوفيات، فلم تسنح للمواطنين السوفيات فرصة مشاهدته. تعرّض الفيلم لأكثر من عملية حذفٍ وتشطيب، في محاولةٍ ليصير يشبه الموجزَ الأصلي الذي قدّمه يانكشو للرقابة السوفياتية، فلم يبقَ في الفيلم ما يستحقّ العرض، فتَقَرّر إهمالُه.
«صمت وصرخة» (١٩٦٧) يستعيد هذا الفيلم موضوع فيلم «في طريقي إلى البيت»، ولكن بوقْعٍ دراميّ أقوى. الفيلم السابق يتحدّث عن صداقةٍ بين عدوّين. هذا الفيلم يتحدّث عن عداوةٍ بين صديقين. الأعداء الأصدقاء، الأصدقاء الأعداء.
على أثر هزيمة ثورة ١٩١٩ الشيوعية في المجر، يختبئ ثائرٌ شيوعيّ شابّ لدى أسرةٍ من المزارعين. تتعرّض الأسرة للقسوة والإذلال من طرف عناصر «الجيش الأبيض» المعسكِر في الجوار، وخصوصًا الزوج الذي يبدو أنّه كان هو أيضًا مشاركًا في الثورة الحمراء. غير أنّ آمر المجموعة العسكريّة يغطّي الثائر المختبئ. في المنزل امرأتان إحداهما الزوجة، تنجذبان كلتاهما إلى الثائر الشاب، في علاقةٍ ملتبسة وغامضة. مع ذلك ليس هذا محور القصّة. مع أنّ الضابط يساعد الثائر على الاختباء ويمنع عنه الملاحقة، فالثائر لا يبادله بالمثل: يرفض مصافحته ويمتنع عن تناول الطعام معه. فنكتشف تدريجيًّا أنّ الضابط اليمينيّ صديقٌ قديم للثائر، افترقا كلٌّ في طريقه، واحدٌ نحو اليسار والثاني نحو اليمين. «أنا اخترت معسكري، والمرأتان ملكي»، يقول الضابط، ويردف «أعتقد أنّ عليّ أن أقتلك».
في هذه الأثناء، يزداد زوج المرأة هزالًا، فيكتشف الثائر أنّ زوجته تدسّ له السمّ تدريجيًّا في الشراب. تعترف المرأتان بأنّهما تسمّمان الزوج بأمرٍ من الضابط. يقرّر الثائر تقديم شكوى على المرأتين في مقرّ القيادة. يُبلغه الضابط أنّه مسجّلٌ في عداد المطلوبين والمطلوب سوقُه إلى المدينة، ويكلّف جنديًّا بمرافقته عبر الكثبان، وهي المنطقة التي يُعدَم فيها الثوار، يُخدعون بأنّه قد أُطلق سراحُهم ليجري قنصهم وهم يتسلّقون الكثبان. قبل أن يصل الثائر والجنديّ إلى تلك المنطقة، يكون قد لحق بهم الضابط الذي يقدّم مسدّسه للثائر قائلًا: «الأجدر بك أن تفعلها أنت بنفسك». لمّا كان لا بدّ أن يموت أحدُهما، يختار الثائر ألّا يكون هو القتيل.
الثورة مهرجان
من الثوّار إلى الثورة. القرن التاسع عشر في المجر، سهلٌ شاسع هو مسرحٌ لثورةِ عمّالٍ في مزرعة سيّدٍ إقطاعيّ، انتفضوا من أجل حقوقهم ويتنظرون جوابًا على مطالبهم.
في الأثناء يحتفلون. يقرؤون مقطعًا لفريدريك إنغلز عن الرأسماليّة والاستغلال. ويهتفون:
«يعيش العامل
تعيش الحقوق
يعيش عالم العمل»
ويتحدّثون عن مجتمعٍ جديد وعن إعادة توزيع الثروات.
هكذا يبدأ فيلم «صلاة حمراء» (١٩٧٢). الكلّ يحاول إقناعهم بالتعقّل والعودة إلى العمل. النساء يحرّضن العسكر على الانشقاق والانضمام إلى الثورة. ينشقّ أحد ضبّاط الفرقة التي تطوّقهم، فيقتله زملاؤه. يجيء وكيل مالك المزرعة للتفاوض، يعرضون عليه زيادةَ حصّتهم من المحاصيل ومطالبَ أخرى، يرفض المطالب، يخطفونه. يأتي مالك المزرعة، يحدّثهم متعاليًا في الاقتصاد عن قانون العرض والطلب، الذي ينطبق على الجميع، يردّون عليه بالحديث عن الرأسمال الذي يستحوذ على موارد الشعب وعن الحقوق. يقع ميتًا وهو يجادلهم. تحضر أرملتُه، تلعنهم وتتوعّد بالثأر. يأتي رجل الدين، يعِظهم ويستنزل عليهم غضب الربّ، يردّون بصلاةٍ بديلة:
من وجبات الشمندر/ نجّنا، يا ربّ
من الملفوف البلا لحم/ نجّنا، يا رب
من الأحذية المثقوبة/ نجّنا، يا رب
من الهجرة/ نجّنا، يا رب
من الترمّل/ نجّنا، يا رب
ويحرقون الكنيسة. والجنود يراقبونهم ويحاصرونهم ويضيّقون الطوق. والثورة ابتهال، تصدح الموسيقى والأغاني الشعبيّة وتبدأ الرقصات ثمّ تعلو الأناشيد في تمجيدِ العمل.
مشهدٌ من بعيد: جموع الثوار يطوّقهم العسكر. يختلط العسكر بالثوّار في هرجٍ ومرج، ثم ينفصل العسكر، يُحكمون الطوق وتقع المجزرة: الجيش من الشعب وضدّ الشعب.
الاحتفال بالنصر بحضورِ أرملة مالك الأرض والوكلاء والضبّاط ورجال الدين. يعيدون بناء الكنيسة. لكنّ الناجياتِ من المجزرة ينتقلن إلى الكفاح المسلّح وتنفيذ عمليّاتِ اغتيالٍ للعسكر. ومن هنا عنوان الفيلم الأصليّ بالمجريّة: «الشعب لا يزال يريد».
«صلاة حمراء» هو رائعة ميكلوس يانكشو على الإطلاق. فيلمٌ يصوّر الثورة بما هي مهرجان وابتهالٌ وطقوس جمال وانفتاح لكلّ آفاق الممكن، وقد تحقّق فيه المزج الرائع بين الشكل والمضمون والسياسة والشعر. يقول يانكشو إنّ فكرة الفيلم وُلدت عندما عثرتْ مساعدتُه على دفترٍ صغير دوّنت عليه أناشيد اشتراكيّة مجريّة من مطلع القرن.
اغتصاب السلطة وسلطة الاغتصاب
«من أجل إلكترا» (١٩٧٤) هو رواية يانكشو المميزة للمسرحيّة الإغريقيّة الخالدة.
إنّها الذكرى الخامسة عشرة لعهد إيجيستوس الذي قتل أخاه أغاممنون واستولى على عرش المملكة. خلال الاحتفالات، يمنح الملك الأمان للرعايا ليقولوا الحقيقة. وحدها إلكترا، ابنة أغاممنون، تتجرّأ على أن تعلن في وجه الملك عن الجرائم التي ارتكبها، مضيفةً أنّ أخاها أُورستس عائدٌ للأخذ بثأر أبيه.
يأتي رسولٌ من بعيد حاملًا خبر موت أورستس. في سَورة غضب، تطعنه إلكترا بخنجر. يتعافى الرسول ويتبيّن أنّه هو أخوها، قدِم إلى المدينة متخفّيًا ليثأر لوالده. معًا ينتصر الأخَوان على الطاغية، ولكنّهما يختلفان بعد النصر. إلكترا تكتفي بالثأر، لكن أورستس يرى طريقًا أخرى للوصول إلى غايتهما المشتركة: العمل على إنشاءِ ملكوت الحرّية. لا يلبث أن يتقاتل الأخوان ويصرع واحدهما الآخر، ثم يُبعثا حيّين فتأتي لإنقاذهما طائرة هليكوبتر حمراء اسمها «ثورة». والعبرة على لسان يانكشو: «على الثوريّ أن يتجدّد على الدوام، يتعيّن عليه أن يموت كلّ يومٍ، لينبعث بالضرورة في الأيّام التالية».
سوف يُخرج يانكشو فيلمًا آخر ينسج فيه على منوال قصّة إلكترا. تدور أحداث «قلب الطاغية» (١٩٨١) في مجر القرن الخامس عشر. ابن الملك المجريّ، الذي جرى ترحيلُه إلى إيطاليا وهو طفلٌ في سنّ السنتين، يعود يافعًا إلى القصر، بمعيّة فرقةٍ مسرحيّة فكاهيّة، باحثًا عن أمّه وعن حقيقة موت أبيه في ظروفٍ غامضة. يُقال له إنّ أباه قتَلَه دبٌّ خلال رحلةِ صيد والرواية التي قُدّمتْ للشعب أنّه مات بطلًا وهو يقاتل العثمانيّين وأنّ أمّه مسّها جنونٌ إثْر موت الملك، وقد استولى عمُّه على السلطة. في القصر دبٌّ في قفص. يسأل الأمير: هل هذا هو الدبّ الذي قتل أبي؟ لا، ليس هو. لكنْ في القصر غرابٌ، وهو يُنبئ بكثير.
تتسلسل الأحداث على مستويين: أداء الفرقة المسرحيّة، وأحداث البلاط. تارةً تطلّ الفرقة على مسرحها الصغير داخلَ المسرح، لتقدّم وصلةً فكاهيّةً من التهريج والمسخرة، وتارةً تنسحب إلى مؤخّرة المسرح الكبير لاستعراض أجسادٍ عارية في الرقص والغناء، أو لتقديم مشهدٍ إيمائيّ. وتدريجيًّا، يكون الاختلاط بين أعضاء الفرقة وأهل البلاط في مبادلات إباحيّة ماجنة.
خلال التحقيق في ظروف موت الأب، يكتشف الأمير منوّعاتٍ لا متناهيةً من الكذب والحِيل والمكائد والدسائس وشهوة السلطة والتآمر في الداخل ومع الخارج (الجيش العثمانيّ على الأبواب وأحد ممثّليه في البلاط). والأمير شخصيّةٌ هاملتيّة، لا يريد أن يكون ملكًا. يحاول الهرب فيُمنع بالقوّة. وتبدأ الاغتيالات بين المتنافسين على السلطة: يقع المطران والمهرّج الإيطالي، صديق الأمير، والعمّ، والأمير نفسه، إلخ. الكلّ يموت والكلّ لا يموت. أخيرًا، يعترف العمّ بأنّه قتل أخاه. وبأنّه خائف. تعفي الملكة عنه: «إنه مجرّد ممثّل»، تقول، «إنه يؤدّي دوره». والفيلم يصوّر مسرحيّة. والكلّ يمثّل. أفراد فرقة المهرّجين الإيطاليّين يمثّلون. وأهل البلاط يمثّلون. وفي التمثيل قيل الكثيرُ عن كذب السياسة وشهوة السلطة وعَسَفها ونفاق رجال الدين. ألم يقلها شيكسبير: «العالم كلُّه خشبة مسرح/وجَمع الرجال والنساء مجرّد ممثّلين»؟
القديم الذي لا يموت
«موسم المسوخ» (١٩٨٧) هو آخر فيلم أخرجه يانكشو عشيّة انهيار الاتحاد السوفياتي والسلطة الشيوعيّة في المجر. لست أدري ما إذا كان المخرج قد استوحى العنوان من مقولة أنطونيو غرامشي الشهيرة عن سيادة المسوخ في المراحل الانتقاليّة، عندما القديم لم يمت كليًّا والجديد لم يولد بعد. لكنّ مقولة غرامشي تنطبق على هذا الفيلم، الذي يشهد نهاية القديم ويتأمّل فزعًا في ما يمكن أن يكون الجديد.
بأفلامه، ينتقل يانكشو إلى المدينة، وتراه مهووسًا بالمصاعد والتلفزيونات. وإذ يعود إلى الريف، فإلى ريفٍ لم يعد يشبه ريفَ أفلامه، حلّ فيه السحر والشعوذة، تندلع فيه الحرائقُ من تلقاء نفسها في أكوام الشعير أو في مياه النهر، فيما طوّافةٌ عسكرية لا تكفّ عن التحليق على علوٍّ منخفضٍ فوق الرؤوس.
أستاذٌ جامعيٌّ يعود من التعليم في السويد، يكتشف أنّ صديقه انتحر، ويدعو طلّابَه لحفلٍ في منزله الريفيّ. يكثر في الحفل تعرّي النساء، وقد فقد ما كان له من جماليّةٍ حسّية وشاعريّة. والحفل مناسَبة لتأملاتٍ ومصادماتٍ بين الآراء في زمنٍ انتقاليٍّ مفتوح على مجهول. هذا جامعيٌّ شيوعيّ انقلب إلى مسيحيٍّ مؤمن، وذاك ضابطُ أمنٍ صديقٌ للأستاذ الجامعي، أمّا المهيمن على الحفل، فطبيبٌ ممسوس يبشّر بالأبديّة للجميع، مع الحق في اختيار الموت لمن يرغب، ويدّعي أنّ بإمكانه تحقيقَ المساواة بين البشر بعمليّاتٍ جراحيّة في الدماغ!
والخلاصةُ عبارةٌ يطلقها أحدُهم: الأيّام الآتية لن تكون أجمل من أيّامنا!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.