العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

عن الطوائف والطائفيّة

في إشارةٍ إلى الحالة السوريّة

أتناول هنا، بقدر كبير من الإيجاز، أربعة جوانب نظرية وعملية لموضوع واحد، هو الطائفية (في الحالة السورية خصوصًا). أوّل هذه الجوانب نقدُ مفهوم «الجماعة» وتبيان عدم صلاحيّته لتناول موضوع الطوائف والطائفية. وثانيها التمييز بين «الطائفة» و«المذهب»، بدفع النقد السابق لمفهوم «الجماعة» قُدُمًا، في محاولةٍ للانتقال من تحديد الطائفة بالسلب، أي بما ليست هي، إلى تحديدها بالإيجاب، بما هي عليه. وثالثها الملامحُ الأساسية للمشكلة الطائفيّة في سورية، في تلمّسٍ سريع يمكن تطويره بالمقارنة مع الحالتين اللبنانية والعراقية. ورابع الجوانب وآخرها، نقدُ مفهوم «الديموقراطية التوافقيّة» كما تُطرح بوصفها علاجًا للتعدّد في بلداننا، وتبيان أنَّ ثمة فارقًا جوهريًّا يميّز النحو الذي طُرحت عليه في بلدان أوروبية من النحو الذي طُرحت وتُطرح عليه لدينا.

الطائفة بوصفها جماعة: نقد المفهوم

النظرة السائدة إلى «الطائفة» أنّها جماعة أو كيان اجتماعي قائم بذاته، متماسك داخليًّا، قديم، وثابت أو متكرر. وتُدْفَع هذه النظرة أكثر، في مجتمعاتنا خصوصًا، فتُرى الطائفة على أنّها جوهر أو وحدة أولى بسيطة يتكوّن منها المجتمع ويتعدّد بتعدّدها (كما يفترض الكلام الرائج على «المكوّنات» المتعددة التي تشكّل قوام مجتمع ما، وكما يشيع دعاة إدارة التعدد).

تنطوي نظرتي إلى هذا الأمر على تشكّكٍ وتمحيص، أراهما ضروريين، في مفهوم «الجماعة» ذاته (هنا «الجماعة الطائفية» أو «الطائفة») وفي ما يفترض هذا المفهوم وجودَه في العالم الفعلي؛ فهما ليسا بديهيين، بل إشكاليان إلى أبعد حدّ. ذلك أنَّ الجماعات ليست تلك الأشياء الجوهريّة والطبيعية الثابتة، بل هي مبنيّة بناءً، وطارئة، ومتغيّرة قُلَّب، ومنقسمة متشظّية، وعابرة بلا أشكال ثابتة ولا حدود واضحة. وكذلك فإنَّ «الوجود في جماعة» أمرٌ إشكالي متغيّر وليس ثابتًا، فلا يمكن افتراضه مسبقًا. وهو يتنوّع لا عبر الجماعات المفترَضة فحسب، بل ضمن كلّ منها؛ ويمكن أن يخبو ويزول بمرور الزمن، وأن يشتدّ في لحظاتٍ معينة.

يعني هذا أنّ الطائفية لا تقتضي مثل هذا «الوجود في جماعة». فهي لا تعمل عملها في الجماعات المحدّدة بحدودٍ أو من خلالها فحسب، أو حتى بصورة خاصة، بل تعمل من خلال تصنيفات وترسيمات معرفية ومواجهات وتماهيات ولغات وأُطُر خطابية وسرديات ومؤسسات وتنظيمات ومشاريع سياسية وشبكات وحوادث طارئة ومن خلالها. باختصار، ما تعنيه «الطائفة» لا يُطَال من خلال مفهوم «الجماعة» المتميّزة الملموسة ذات الحدود، بل بمصطلحات علائقية وسيروريّة وديناميّة وحدثيّة وصراعية وانقسامية. ودراسة الطائفية - بما في ذلك الصراع الطائفيّ - لا ينبغي أن تُختَزَل إلى دراسة الجماعات الطائفية، أو حتى أن تتركّز عليها. فالصراع الطائفي ليس بصورة أساسية، «جماعات طائفية في صراع».

تصوير الصراعات الطائفيّة و«تحليلها» على أنّها صراعات جماعات طائفية هو، في النهاية، نوع من الكلام الطائفي على الطائفيّة. وهو أمرٌ لا يفسِّر شيئًا بل يحتاج هو ذاته إلى تفسير. ذلك أنّه مُعطى تجريبي وعنصر من عناصر الموضوع المدروس وليس أداة أو مقولة تحليلية، شأنه في ذلك شأن أفهام الفاعلين الطائفيين وأدواتهم التعبوية.

تنطوي هذه الرؤية على نقدٍ جذري لثلاث نزعات مترابطة وشائعة في النظر إلى المجتمعات متعددة المذاهب، ليس لدى البشر العاديين فحسب، بل لدى المثقفين أيضًا بمن فيهم المختصّون. أولى هذه النزعات هي «الفهم الشائع» (common sense) الذي يعتبر المجتمع أمرًا بيّنًا بذاته، ظاهرًا وبديهيًّا، وكذلك طوائفه؛ وثانيتها هي «الجوهرانيّة» (essentialism) التي ترى إلى الطوائف على أنّها جماعات محدّدة الحدود، قديمة ومتكرّرة في التاريخ، بلا تغيير يُذكَر؛ وثالثتها هي «الجماعويّة» (groupism) التي تأخذ ما تعتبره جماعات محدّدة الحدود على أنّها الوحدات الأساسية للتحليل والمكوّنات الأساسية للعالم الاجتماعي، وبذلك تتصوّرها على أنّها كيانات متجانسة داخليًّا تُنسَب إليها المصالح والأفعال والأغراض الجمعيّة الموحَّدة.

الطائفة والمذهب

عادةً ما تُرسَم حدود «الطائفة» على أنّها حدود الانتماء إلى المذهب الدينيّ المعنيّ، كما هو الحال في تساؤل كاتبٍ: «متى نخلص من خوف السنّة من العلمانيّة؟»1، أو كما هو الأمر في قول كاتبٍ آخر: «ينفتح العلويون السوريون على الاتجاهات الفكرية الحديثة ويتحمسون لها لأنّها تنقذهم من أقلّويّتهم». هكذا تُصَوَّر جماعةٌ بشريّة برمّتها على أنّها خائفة من العلمانيّة أو تُصوَّر أخرى على أنّها مندفعة صوب الفكر الحديث. ويُصوَّر الدافع وراء ذلك كلّه على أنّه «سنّيّة» الأولى و«علويّة» الثانية. ويُجْعَل هذا الدافع تفسيرًا لسلوك كلّ فردٍ من أفراد الجماعة، فإذا ما خرج بعضهم على هذا الإجماع، كانوا استثناءً بسيطًا قليل العدد يُثبت القاعدة ولا ينفيها.

هذا منطق طائفي، بصرف النظر عمّا يحسب صاحبه أنّه عليه. والمنطق الطائفي هو منطقٌ عنصري ثقافي (يقيم التمييز على أساسٍ ثقافي ديني بدل إقامته على البيولوجيا). وهو منطقٌ قائم على البداهة. وأقصى ما يُمكن أن يبلغه من «علم» هو الربط بين المذهب الديني وحوادث تاريخية وأوضاع مجتمعية معيّنة تجعل من هذه المجموعة البشرية أو تلك مجموعةً «لها تمايز ثقافي واجتماعي معيّن»، كأن يقول إنَّ ما يجمع الطائفة الفلانية ويمايزها هو اضطهادٌ تاريخي أو سكنٌ في الأرياف أو ثقافةٌ مشتركة دينية واجتماعية أو نظرةُ المحيط كتحديدٍ خارجي مؤثّر، أو قيامُ دولة لها في السابق، إلخ. وبهذا يتزيّا المنطق الطائفي بزيّ العلم الاجتماعي والتاريخي، مموّهًا على أساسه المعطوب الذي يبقى هو ذاته: ثمّة جماعة بأكملها، حدودها حدود المذهب الديني، تطاولها هذه الحوادث برمّتها وتُحدِثُ لديها ردّة فعل جماعيّة واحدة لا يخرج منها إلا ما كان استثناءً يؤكّد القاعدة أو مصادفةً عابرةً لا تستحق الالتفات إليها. وبهذا أيضًا لا تكون حوادث التاريخ أكثر من زينة سطحية لا تغيّر شيئًا من أمر أنّ جماعةً بأسرها ستسلك سلوكًا معيّنًا وموحّدًا تجاه حوادث التاريخ هذه.

لا يكتفي هذا المنطق بردّ الأفراد مهما اختلفوا إلى طوائفهم، بل يتعدّى ذلك إلى ردّ المجتمع ذاته إلى جماعاته المذهبية، بما في ذلك المجتمع الديموقراطي، كما في قول أحد المتنطّعين لتناول الطائفية في سورية: «المبدأ الأساس في تجاوز الاستبداد هو المساواة بين الجماعات الاعتقادية السوريّة بوصفها جماعات تأسيسية للكيان الوطني». وبذلك لا يعود الكيان الوطني الحديث والديموقراطي قائمًا في مبدئه الأساس على مساواة المواطنين الأفراد كما في كلّ الكيانات الوطنية الحديثة، بل على تساوي جماعات اعتقادية تأسسيسية. وبهذا يعود المنطق الطائفي إلى أساسه: الجماعات الاعتقادية أو المذاهب. إن تساوت هذه المذاهب زال الاستبداد، وإن لم تتساوَ استغلّت السياسة وباتت طوائف. والحال إنَّ سوسيولوجيا هؤلاء هي من النوع الذي ينظر إلى المجتمع فيراه طوائف، وحين ينبري إلى حلّ مشكلاته يحلّها بوصفها مشكلات طائفية. ويكاد دور التاريخ أن يكون مقتصرًا في النهاية على إقامة الطوائف التي يكاد لا يكون ثمّة فاعلٍ سواها في المجتمع المعنيّ.

حتى حين يجري الحديث عن «عوامل تاريخية مشتركة تخلق جماعةً بشرية لها تمايز ثقافي واجتماعي معيّن»، كما يقول كاتب سوري آخر، لا نجد تمحيصًا لما إذا كان ذلك التأثير واحدًا على جميع أبناء المذهب المعنيّ، كبارًا وصغارًا، مشايخ وعوامًا، آغوات وفلاحين. أو ما إذا كان للسكن في الأرياف، مثلًا، التأثيرات ذاتها على القرويين السنّة والمسيحيين؟ حتى مفردة سوسيولوجيّة مثل «الريف»، الذي هو أرياف في حقيقة الأمر، يُمكن أن تكون مثقلة بالتعمية. أمّا «الخوف من الآخر» و«تاريخ الاضطهاد» فقد يفضيان إلى ردود فعلٍ مختلفةٍ لدى الجماعة الواحدة، تتراوح من الطائفية إلى حسّ المواطَنة الرفيع مرورًا بطيفٍ واسعٍ من التدرّجات.

باختصار، هذا المنطق لا يطرح على نفسه السؤال الضروري: هل تقوى الهوية المذهبية في العالم الحديث على أن تقوم عليها جماعةٌ بشرية ذات تمايزٍ اجتماعي وثقافي وذات حدودٍ واضحة؟ هل تصمد الهوية المذهبية أمام فيض الهويات الهائل وفيض التناقضات والصراعات التي تكاد لا تنتهي وتشقّ كلّ جماعة بشرية مهما صغرت؟ دع عنك أنَّ ما من عاملٍ من «العوامل المشتركة» المزعومة إلّا وتشترك فيه أجزاء واسعة من جميع الطوائف وتخرج عنه أجزاء واسعة من المذهب ذاته.

لا شكّ أنَّ لمفهوم «الطائفة» فائدة وأهمية كبيرتين، نظريًّا وعمليًّا، شرط تحديده العلمي لا العنصري. ونقطة البدء في تمييز المنطق العلمي من المنطق الطائفي العنصري هي في تبيان أنَّ هذين المنطقين لا يُشيران إلى الشيء ذاته حين يقولان «الطائفة الدرزية»، مثلًا. فهذه العبارة تشير، في المنطق الطائفي، إلى جميع المنتمين إلى المذهب الدرزي، وقد تطلب منهم، في لحظةٍ، ما طلبه أحد «الثوّار» السوريين من العلويين، أن يعتذروا «عن كلّ جريمةٍ منذ حماة وما سبقها وما تلاها حتى اليوم ارتُكبت باسم الطائفة حتى لو لم يشاركوا بها شخصيًّا، اعتذار يقوم به الجميع فردًا فردًا، كبيرًا وصغيرًا، ولا يسقط عن الجميع بقيام البعض به». أمّا في المنطق الآخر، فتشير «الطائفة» إلى علاقةٍ سياسية تحاول أن تنتظم شقًّا مذهبيًّا بأكمله لتجعل منه جماعة مُتَخَيَّلة متلاحمة بعوامل مشتركة تميّزها، لكنها لا تقوى على هذا لأنّها، في العالم الحديث على الأقلّ، أوهى من أن تكون لها مثل هذه القدرة. وكلّ ما تتمكّن من إقامته هو جماعة متخيَّلة مختلفة تمام الاختلاف عن جماعة المذهب. وهي جماعة لا تختلف عن جماعة المنتمين إلى المذهب المعنيّ بحكم الولادة فحسب، بل تختلف أيضًا حتى عن جماعة المنتمين إليه بحكم الإيمان والتصديق الدينيّ.

ما يهمّنا هنا بصورةٍ حاسمة أنّ الجماعة المذهبيّة المُتَخَيَّلة لا تتطابق قَطّ مع جماعةِ الطائفة أو الجماعة الطائفيّة المُتَخَيَّلة، ولا تقوم على الأساس الذي تقوم عليه، فالأولى جماعة بالاعتقاد الديني، أمّا الثانية فجماعة بالسياسة. وتكاد الأولى تشمل أبناء المذهب جميعًا بحكم الولادة و/أو الإيمان، في حين أنّ تعداد الثانية متغيّرٌ زيادةً ونقصانًا بحسب الانضواء في ممارساتها ومنطقها الطائفيّ، وتبعًا لما إذا كان هذا الانضواء تامًّا أم جزئيًّا، دائمًا أم موقّتًا، وهي تعجز بالتأكيد عن أن تشمل أبناء المذهب جميعًا.

ليس الناظم الحاسم في تشكّل الطائفة، إذًا، هو المذهب القديم بل علاقة سياسيّة راهنة وحديثة. هنا يكمن الاختلاف الجوهريّ الذي لا يدركه الطائفيّون. وعدم الإدراك هذا هو أثرٌ لحضور «الطائفيّة»، أي تلك الأيديولوجيا أو ذاك المنطق الذي يوهمك أنّ الطائفية تنبع من المذهب، أو تنبع منه بشيءٍ من مساعدة السياسة، بخلاف منطق علميّ يرى أنّ السياسة هي الأصل والمذهبُ أمرٌ مساعدٌ وثانويٌّ تستغلّ السياسةُ وجودَه لأنّه موجود، ولو لم يكن كذلك لخلقته أو استغلّت غيره. والدليل الواضح على ذلك أنّ المذاهب لا تُعدّ ولا تُحصى في كلّ بلدٍ من بلدان العالم من دون أن يكون ثمّة أثرٍ جديّ لأي مشكلة طائفية في غالبيتها الساحقة. و«الطائفية»، إذًا، هي تلك الأيديولوجيا التي لا تكتفي بتعبئة الناس على أساس الطائفة، وقد تصل حدّ إقامة كيان طائفي، بل تتعدّى ذلك إلى إخفاء حقيقة «الطائفة» وإلقاء قناع القِدَم والدين عليها لتبدو متطابقة مع المذهب الاعتقادي الديني.

الحالة السوريّة

ما أريده الآن هو التركيز لا على المنطق الطائفي الصريح والمباشر، بل على تناولٍ للطائفيّة يحاول الظهور بمظهر العلم فيعطي شيئًا من الدور للسياسة أو التاريخ أو الاجتماع، لكنّه يُبقي على الأساس المعطوب للمنطق الطائفي، ألا وهو الكلام على جماعةٍ بأكملها، حدودها حدود المذهب الديني، تطاولها السياسة أو التاريخ أو الاجتماع، وتُحْدِث لديها ردة فعل جمعيّة واحدة، لا يخرج عنها إلا من كان استثناءً.

هكذا، يبقى المنطق طائفيًّا حين يربط الطائفيّة في سورية، مثلًا، بنظام امتيازاتٍ ومقادير متفاوتة من الرأسمال الاجتماعي، معتبرًا هذه الطائفيّة «سياسة تمييز بين السكان وفق روابطهم الدينية والاعتقاديّة، تمارسها نخبٌ في السلطة أو طامحة إليها»، حيث «الطائفية تسير يدًا بيدٍ مع نظام الامتيازات والتمييز الاجتماعي والسياسي، ويغلب أن تكون أداةً لنيل مكاسب خاصّة على حساب محرومين بلا حقوق ولا حماية».

ربما كان مناسبًا في هذا المقام، بدلًا من أن ندخل في نقاشٍ نظريّ مع هذه «التخييلات»، أن نورد ما قاله بهذا الصدد دارسٌ مدقّق مثل حنا بطاطو في سياق كتابه الشهير عن سورية البعث، إذ طرح السؤالَ صريحًا: هل نظام الأسد طائفيّ؟ ووضع بين يدي قارئه شيئًا غير قليلٍ ممّا يلزم للإجابة عنه. يقول بطاطو: «لا جدال في أنَّ قاعدة سلطة الأسد هي في جوهرها علويّة بقوة، وأنَّ هذا الملمح من ملامح حكمه كان في جزءٍ منه قد عمل في النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات على إيجاد مناخٍ سياسي مشحون بالطائفية وصدّع الرأي السوري تصدّعًا خطيرًا على أساسٍ طائفي، لكن ليس هناك، في الوقت ذاته، سوى القليل من الأدلة على أنَّ الأسد في سياساته الاقتصادية أعطى تفضيلًا ملحوظًا للطائفة العلوية، أو أنَّ أغلبيّة العلويين تتمتّع بأسباب الراحة في الحياة أكثر من أغلبية الشعب السوري». هذا عن الامتيازات الاقتصاديّة، أما عن سواها من الامتيازات فيتابع بطاطو قائلًا: «من الجدير بالملاحظة أنّ مناوئي النظام من جميع الطوائف يعترفون أنّ أغلبية العلويين لا تتمتع بمعاملةٍ مميّزة، وأنهم مهمّشون سياسيًّا مثل باقي الشعب».

يلتقط بطاطو، إذًا، ملمحًا طائفيًّا في حكم الأسد: «قاعدة سلطة الأسد هي في جوهرها عَلويّة بقوة»؛ ويشير إلى تاريخ بناء هذا الملمح أو الطابع الطائفي: «النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين والنصف الأول من ثمانينياته». لكن منطق بطاطو البعيد عن الطائفيّة يمنعه من إقامة ذلك كلّه على نظامِ تفضيلٍ طائفي اقتصادي أو سياسي، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن الأساس الذي تقوم عليه هذه الطائفية، وهل هو مقتصرٌ على سورية وحدها أم أنّه خصلة عامّة للطائفيّة في كلّ مكان. فعند بطاطو، ليس للمذهب (الروابط الدينية والاعتقادية) ذلك الدور الذي يعطيه له الطائفيون، والطائفيّة ليست قديمة كلّ القدم بل بُنيَت بناءً منذ عهدٍ قريب جدًّا، والأهم من ذلك أنّها ليست نظام امتيازاتٍ اجتماعية-اقتصادية-سياسية تطاول مذهبًا بأكمله كما يزعم بعض من يمارسون «التخييل» في فهم الطائفية.

لعلَّ بداية الإجابة عن الأسئلة التي يدفعنا بطاطو إلى طرحها تكمن في التفاتنا إلى المكان الذي يجتمع فيه الولاء والخوف والخطر وترقّب خطاب «الخصم» وأفعاله والتصرّف بناءً عليها، وليس في أيّ نظامٍ للامتيازات، رسمي أو غير رسمي. لعلّها تكمن في مكانٍ حيث يسهل أن يكون لكلّ فعلٍ ردّة فعل من جنسه، في حلقةٍ شريرة لا يكفّ فيها السبب عن التحوّل إلى نتيجةٍ لا تلبث بدورها أن تغدو سببًا. يكفي مثلًا أن تندفع الدكتاتورية إلى إحاطة نفسها بأبناءٍ من مذهبها (أو قومها أو لونها) ضمانًا للولاء حتى يتولّد لدى الخصوم الحاليّين أو المحتملين إحساسٌ طائفي مناوئ لا يلبث أن يعزّز لدى أبناء المذهب الأول ما سبق أن تولّد لديهم في دورةٍ لا تتردّد، إذا ما تفجّر العنف، في أن تدفع ملايين من البشر ممّن لا ناقة لهم ولا جمل إلى التصرّف بناءً على منطق هذه الدورة المترع بالخوف والرغبة في اتّقاء الخطر وردّه بسرعةٍ لا تتيح مجالًا لأيّ تفكيرٍ منطقي أو عقلاني. وأمام الهجمة الطائفيّة التي لا تميّز، قد يشترك البشر الذين هم محلّ هجومٍ في ردة فعلهم، لا لأنهم يعتبرون أنفسهم أبناء مذهبٍ واحد أو لأنهم طائفيون جميعًا، بل لأنَّ «الخصم» يعتبرهم كذلك.

هكذا ترتبط مصالح التسلّط السياسي والاقتصادي التي هي مصالح قلّة (ليست طائفية بالضرورة) بالبعد الثقافي (المذهبي) كي تُكَهْرِب المجتمع كلّه وتقسمه بالخوف والخطر. والخطاب الطائفي هو جهاز يدير معرفة الاختلافات المذهبية على نحوٍ يوهم بأنَّ هذه الاختلافات أساسٌ للسلوك وتفسيرٌ له. وتتمثّل الوظيفة الاستراتيجية الأساسية لهذا الخطاب في خلق فضاءٍ تقطنه طوائف، أي في خلق فضاء هويته الأساسية هي الهوية الطائفية، متوسّلًا لذلك صورًا نمطيّة تُقوَّم وتُثمَّن على نحوٍ متباين. أمّا غايته النهائية فترتبط مباشرةً بالسلطة (سواءً بالحفاظ عليها أم ببلوغها والاستيلاء عليها). وهو لذلك يردّ الأفراد إلى طوائفهم، ويردّ المجتمع إلى جماعاته المذهبية، بل ويردّ الديموقراطية ذاتها إلى مساواة بين الجماعات الاعتقادية التي يعتبرها جماعات تأسيسية للكيان الوطني.

الحال، إنَّ كلّ كلام على جماعة مذهبيّة بـ«ال» التعريف هو كلامٌ يسهم في تعزيز هذا الجهاز ولو أدخل السياسة أو التاريخ أو الاجتماع بين مبرّرات سلوك تلك الجماعة وسيكولوجيّتها. وكلّ كلام لا يتيح مجالًا لما يجري داخل كلّ جماعة-طائفة من صراع وتنوع وتعدّد (هو الأمر الطبيعي العاديّ والمتوقَّع لا الاستثنائي والغريب) إنما هو كلامٌ طائفيّ عنصريّ لا يحتمل رؤية ما يجري داخل كلّ مذهب من مقاومة لتطييفه أو نأي بالنفس عن ذلك، بل لا يحتمل حتى تخيّل أنَّ في ذلك المذهب ثمّة أطفالًا وعجائز ومرضى لا يقوون حتى على التفكير في الأمر أو إدراكه.

«الديموقراطية التوافقية»: نقد

يبدو ما يُدعى بـ«الديموقراطية التوافقية» Consensus democracy واحدًا من السيناريوهات القوية التي يُحتمل أن ينتهي إليها الحدث السوري الرهيب. و«الديموقراطية التوافقية» - في مفهومها النظري كما في أمثلتها العيانيّة، ومنها المثالان اللبناني والعراقي - هي ديموقراطية توافق الطوائف، بل ديموقراطية ممثّلي هذه الطوائف وزعمائها؛ أي ديموقراطية تقاسم هؤلاء الممثلين الطائفيين مؤسسات السلطة ومواقعها. والحجّة الأساسية هنا أنَّ الطوائف أمرٌ واقع، وأنّ ثمّة تمييزًا بينها، فلا بدّ من تصويب الحال بوضع هذه الطوائف على قدم المساواة.

عادةً ما تُمرَّر «الديموقراطية التوافقية» في إهابِ أسئلةٍ تبدو علميةً رفيعة، لكنها أبعد ما تكون عن العلم في الحقيقة: كيف نخطّط الديموقراطية في بلدٍ منقسمٍ إلى طوائف وأعراق، فلا يطيح بها الصراع الداخلي ولا الرياح الإقليمية والدولية؟ ما الأنظمة الانتخابية التي تساعد الديموقراطية على البقاء في بلدان تشطرها الانقسامات الدينية والعرقية؟ والجواب دومًا هو: الديموقراطية التوافقية، ديموقراطية ممثّلي الطوائف والأعراق. وهذا ينطوي على نظرةٍ إلى المجتمع تراه، أصلًا وفي الأساس، طوائف وأعراقًا. وإذا ما كانت فيه هويات أخرى، كالطبقة والجنس والقومية، «تكرّمت» تلك النظرة ووضعت هذه الهويات على سوية واحدة مع الطوائف، وبات لكونكَ برجوازيًّا الأهمية والمفاعيل ذاتها التي لكونك مسيحيًّا أو كرديًّا (لا يكفي الحيّز هنا لتناول الفروق الجوهرية بين مثل هذه الانتماءات). والأسوأ بعد، أنَّ المجتمعات تُقسَم في هذا المنطق على نحوٍ استشراقي بين مجتمعات تُسْتَطَبُّ لها وصفة ديموقراطية الطوائف ومجتمعاتٌ أخرى لا يليق بها مثل هذا الاستطباب، مع أنها تعجّ بالطوائف التي سبق أن تصارعت وأسالت أنهارًا من الدماء. كما يُنسى في السياق أنَّ مجتمعات ليس فيها طوائف شهدت ظواهر وصراعات لا تختلف في أسبابها وجوهرها عن تلك التي شهدتها وتشهدها مجتمعاتٌ أخرى تُوصف بأنّها طائفية.

يبقى الأساس النظريّ لدى أصحاب «الديموقراطية التوافقية» أنَّ انقسام المجتمع إلى طوائف وإثنيّات هو انقسامٌ جوهريّ إن لم يكن الانقسام الجوهريّ ذاته، ولا بدّ تاليًا من أن يُفْهَم المجتمع ويُدَار ويُصَاغ على هذا الأساس، وبذلك تغدو هذه الهويّات الجماعية الطائفية والإثنية مرجع الدولة الوطنية وليس العكس. فما يؤسّس الكيان الوطني الحديث، بحسب هذا المنطق، هو جماعات مؤسِّسة، مذهبية وطائفية وإثنية، تتساوى في ما بينها، وليس علاقة مواطنة تربط الفرد بالدولة. وطبيعيٌّ أنَّ مثل هذا المنطق، عدا عن خطله النظري، يؤسّس لكياناتٍ سياسية متعددة وليس لكيانٍ موحّد كما يدّعي. ودعوته إلى تقاسم السلطة والتوافق والتعايش هي نوعٌ من إدارة حربٍ مفترضةٍ مخبوءةٍ قد تغدو حربًا أهليّةً في أيّ لحظة. والمساواة التي يطلبها ليست سوى مسكّنٍ موقَّتٍ لبلاءٍ يعمل هذا المنطق على تعزيزه بدلًا من أن يخفّف منه أو يزيله.

صحيحٌ، بالطبع، أنّنا مواطنون أفراد لهم، في الوقت ذاته، انتماءاتهم الأخرى. وهنا يغدو السؤال: هل هذه الانتماءات الأخرى جميعًا كياناتٌ قائمة بذاتها، ما يرتّب على الدولة حقوقًا تجاهها تتعدّى حقوق المواطنة والفرد؟ وهل من حقّ هذه الجماعات أن تكون لها سلطة على الفرد والمواطن؟ وهل تتعدّى هذه السلطة حدّ حقّ هذا المواطن باختيار انتماءاته؟ بعبارةٍ أخرى: ما العلاقة بين الجماعة والفرد والدولة؟ هكذا، ينفتح المجال واسعًا أمام تناولٍ علمي لمسألة الجماعات، الطائفية والعرقية وسواها، بدل الاكتفاء بأخذ واقع وجودها ذريعةً لتكريسها ومأسستها، باسم التحرّر والانعتاق.

طبيعي أنّ الإجابات عن الأسئلة السابقة تتعدّد بتعدّد المجيبين ومنابتهم ومصادرهم وانتساباتهم. ولا نخفي، بل نجهر ونفخر، بأنَّ الإجابة الصائبة والعادلة والتقدمية والحضارية هي الدعوة إلى إقامة المساواة والعدل على أساس المواطنة، على أساس تساوي الأفراد أمام القانون وفي حرياتهم وحقوقهم السياسية. ذلك أنّ هذا وحده ما يُمكن أن يوفّر إطارًا سياسيًّا واحدًا للقانون والعدل، أو مرجعًا أساسًا لهما، يمكن أن يستوعب في داخله حقوقًا جماعيّة لجماعات مختلفة. فحين تُربَط الحقوق بالمواطَنة وبالفرد المواطِن، لا بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد، يغدو وجود جماعات لها حقوق مسألةٌ يسيرة، إذ يغدو الانتماء إليها واحدًا من حقوق الفرد المواطن ذاتها، ألا وهو حقّه في اختيار هويته الثقافية أو الدينية، مثلًا. وبالمقابل، فإن اتّخاذ حقوق الجماعات مرجعًا وأساسًا ليس سوى مشروع لإقامة كيانات منفصلة ومتحاربة لا يجمعها إطارٌ واحدٌ لإدارة العدالة.

  • 1. مثل هذه الأقوال التي سأوردها غير مرّة مستمدّة من مقالات لكتّاب سوريين مختلفين أو من تصريحات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن الممكن توثيقها تمامًا، لكن تركيزي هنا لا ينصرف إلى السجال الشخصي الموثّق بقدر ما ينصرف إلى صراع التصورات والمفاهيم.
العدد ٢٧ - ٢٠٢٠
في إشارةٍ إلى الحالة السوريّة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.