أذكر في منتصف التسعينيّات من القرن الماضي، في بداية قراءاتي الشعريّة والروائيّة غير الحزبيّة، كنتُ متحمّسًا لاكتشاف أشكالٍ جديدة من الكتب التي تُبدّل في مزاجي وتزيد من معرفتي، وحين عرض عليّ صاحب إحدى مكتبات الكتب العتيقة في شارع الحمرا في بيروت، كتابَ «جسد» بورقه الزهريّ القديم المطبوع في الستينيّات، للشاعر اللبناني الراحل جوزف نجيم، كان يقدّمه باعتباره كتابًا نادرًا في الشكل والمضمون، ويتحدّث عن الجسد والنساء بطريقةٍ أقرب إلى الإباحية أو «على شفيرها» كما قال الشاعر أنسي الحاج. وعلى الرّغم من أنّي كنتُ من هواة الكتب المثيرة والممنوعة والإيروسية، لم أتشجّع على اقتناء الكتاب بطبعته القديمة العابقة بالنوستالجيا، أوّلًا بسبب ارتفاع ثمنه، إذ يعتبره بائع الكتب العتيقة من كنوزه، وينتظر الزبون اللقطة، وثانيًا بسبب أني كنت أنفر من كلّ الشعر الكلاسيكي العمودي وإيقاع فَعولُنْ فعلن، الذي تشرّبناه في الأعوام الدراسيّة، وهذا قبل أن أعود إلى بعضه لاحقًا.
لم أقتنِ ديوانَ «جسد» (وهو مُنع، حين صدر، في سورية والأردن والعراق)، لكنّ عنوانه واسم صاحبه بقيا في ذاكرتي، كأنّ كلمة «جسد» وحدها كانت كافية لإبقائه في الوجدان. لكنّني نادرًا ما قرأتُ عنه في الصحف أو المجلّات خلال فترة التسعينيّات، على عكس الكثير من أقرانه الشعراء اللبنانيين، وفي الكواليس هناك الكثير من الكلام حوله، وحول جموحه في الكتابة عن الإيروس.
المبعوث من جديد
حين صدرتْ أعمال نجيم الشعريّة في طبعة جديدة عام 2014 عن «دار نلسن» بتقديمٍ للشاعر جوزف صايغ، بدا وكأنّ البعض يكتشفونه للمرّة الأولى، والبعض الآخر يستذكرون مجده الغابر في الستينيّات والسبعينيّات، فهو الشاعر الذي توفّي بطريقة غامضة عام ١٩٨٣. كَتب المترجم رواد طربيه في كتابه «دفاتر الثقافة» أسئلةً راودتني وأنا أقرأ التعليقات في الصحف اللبنانيّة على وفاة الشاعر جوزف نجيم. تعليقات انطباعيّة، جميلة بحدّ ذاتها، تتوجّه إلى معرفة العارف، تلميحًا وتصريحًا، لكنّها لا تفيد الخبر بشيء.
لم ترُقْ لي أعمال نجيم في طبعتها الجديدة وورقها الأصفر. كأنّي أعيش حنينًا للكتب بطبعتها القديمة بل وزمنها، في مرحلةٍ كانت الكتابة عن الجسد فيها شيء من عبق خاصّ. على أنّ مقدّمة الشاعر جوزف صايغ، التي رافقت طبعة «دار نلسن»، على الرغم من غناها ولغتها الشاعريّة، لم تكن كافيةً لتشريح تجربة جوزف نجيم، فأعماله ربّما تحتاج، قبل كلّ شيء، إلى دراسةً عن أحوال الشاعر وسيرته بكلّ تجلّياتها الشعريّة والحياتيّة والسيكولوجيّة، وقضيّة مقتله الغامضة أو الملتبسة والتي لا نعرف أيّ شيء عنها ولا يتوفّر أرشيفٌ لنعود إليه، وهو يكتب عن المرأة بالمطلق، ولا نعرف سيرة امرأة في حياته. وفي مجمل الأحوال، تضيء مقدّمة صايغ على الجانب اللغويّ في شعر نجيم: «كان شاعرَ الجسد. قاله ملءَ مجد السرير، ومجَّده ملءَ شِعره، وانتحر فيه، وفيه بُعِث. فما أَماته أَحياه. ما هو هذا الجسد الذي صنع منه جوزف نجَيم تُحَفَه؟ منه، ومن اللغة طبعًا. لغةٌ أَصيلة أَثيلة، تمكَّن منها، فاستغواها، فاستجدَّتْ وجادتْ على قلمه حتَّى لَتخالها غير ما اللغة». يضيف صايغ: «شاعر لا يترك قارئه حياديًّا. معه، إذا كان الشِّعرُ هواه. عليه، إذا كان من المخلِّقين. لكنّ هذه محسومةٌ في الجماليَّات. إن هذا الشعر، الذي يدور في ما يدور على العهر، ليس عاهرًا، إنه شعر فحسْبُه».
وأبلغُ توصيفٍ كتبه صايغ قوله «لم يكن (نجيم) منظّرًا للخير والشرّ، للأخلاق أو للتحليل. إنّه شاعر، نظْرتُه إلى الدنيا نظريّة الدنيا فيه: يأسٌ ساخر، على أناقة وكبرياء، ولا رجاء، فهو، في خلاصته، جسدُ حُرم الجسد، وأوتي عبقريّة التعبير عن هذا الحرمان، فكان الجسدُ مأساته ومؤاساته... سرُّه قوله: مثل سحر الكؤوس: تمزف سُكرا/ مستبدًّا ولا تبيح شرابًا... والشاعر الذي يكتب بلغة أثيلة، افترستْه شهوة وثنيّة. كتب القصيدة العموديّة والكلاسيكيّة وتقترب لغتُه من مناخات لغة سعيد عقل، مع فارق أنّ الأخير يميل إلى الجماليّة، أمّا الأوّل فيغلّب على أعماله الطابع الإيروسي - الجماليّ. وهو «عبّاد الجمال» بحسب جوزف غريب، و«يحوّل المرأة الى جسدٍ لكي يحوّل الرجل إلى سجود» بحسب سمير عطا الله، و«لا يجد في المرأة سوى الجسد» وقصائده «تعج بجحيم الشهوات» (ميشال جحا)، ويكتب «اللذة المجنونة» (ياسين الأيوبي)، و«اللذة المقهورة» (بحسب عنوان مجلة «كتابات معاصرة»). وعلى الرغم من أنّ المرأة هي الحاضرُ الأبرز في قصائده، لكنّها في الواقع تبدو غائبةً عنه أو حسّها كان بعيدًا منه، وهو ينشده، كأنه يعيش يُتمها لذتها، أو كأنه يتخيّل امرأة ينبغي أن تكون في سريره ولا تكون:
أشمّ منها جسدًا يسفكُ
فبعضها يريح في بارد
دغدغة مثل لقاء لها
تتقن أن تعرى فتعرى كما
فأبيض ينزع من أبيض
فصدرها يضيء في لفتة
وتوقظ النهدين مغمورة
ويسترسل في مكان آخر:
وفي سريرك انطفأنا معًا هل يذكر السرير كيف اشتعل؟
المرأة الغائبة (أو الجسد) في كل قصائده هي مُلهمتُه، وتستحوذ على حواسه وتستولي على كيانه، وهو يحمل الكثير من ملامح حبّه الحسيّ والأرجح البصريّ أو التخيّلي والغائبيّ، وما فيه من الانجذاب إلى الجمال بصوَره المادّية، والشعور بالامتلاك وتحرُّر الشخصية وعدم خضوعها في الحبّ للاعتبارات والقيود الخُلقيّة.
مع إعادة طبع أعمال نجيم الشعرية، برزتْ بعض الآراء والإسقاطات حوله، وهي نتاج أمزجة وتوجّهاتٍ وتأويلات. كتب الشاعر عبده وزان في جريدة «الحياة»: «هذا شاعر كبير يخرج إلى الضوء بعدما حلّت به ظلامة وأُهمل شعرُه وكاد اسمه يغيب عن قائمة المدرسة اللبنانيّة في الشعر المعاصر، كلاسيكي النهج، حديث الروح. شاعر هو في طليعة المجدّدين العصريّين وإنْ أصرّ على القصيدة الموزونة والمقفّاة وعلى اللغة العربية القشيبة المشبعة بلاغةً وبيانًا وبديعًا. على أنّ ما كتبه يصبّ في صميم الحداثة، رؤية وموقفًا، فهو في آن واحد، سليل التراث الشعري القديم وعصر النهضة والمدرسة الرمزية الفرنسيّة، لا سيما كما تجلّت في شعر شارل بودلير الذي كان له على شاعرنا كبير أثر». ويضيف وازن «ولعلّه أدرك من خلال بودلير «اللعنة» التي حلت به فجعلته شاعرًا «رجيمًا» في إبداعه ورؤيته إلى الحياة والجسد والذات». وقال الشاعر جوزف عيساوي في تعليق فايسبوكي «الشاعر الإيروسي الكبير جوزف نجيم الذي قَصَرَ شِعرُه على تمجيد الشهوة والمجون بلا اكتراث للحب كعقيدةٍ يوظفها النظام البطريركي في إنشاء العائلة وهذه إحدى مؤسّساته القمعيّة القاتلة للحب. الحبّ هذا العجل، بل الثور، المستفحل بالجنس، تسمّمه وتسمّنه الأخلاق الدينيّة وأيديولوجيا سوق العولمة، سواء، لاستلاب الإنسان المتعة باسم الرباط الإلهيّ، وكسر أجنحة اللذة على أنها خطيئةٌ وذنبٌ وشرٌّ يُذهب الى النار». وكتب الشاعر العراقي هاشم شفيق في جريدة «القدس العربي»: «شعراء لبنانيّون عديدون ظهروا في الكلاسيكيّة العربيّة إلى جانب الشاعر الزحلاوي سعيد عقل، وواصلوا الكتابة وتألقوا في بعض. لم أقرأ في الكلاسيكيّة العربية البتّة، شاعرًا بهذا الجمال من دقّة السبك اللغوي، في الموضوع الشعري الإيروسي، لم تعطنا الكلاسيكيّة شاعرًا بحجم جوزف نجيم، هتَكَ معاييرَ الجسد وغنّاه عاليًا بطريقة أوروفيّة، أبولونيّة، فيها الكثير من الألق والإلهام والتصعيد نحو الأقاصي الحلميّة. غنّى جوزف نجيم النساء والبناتِ والحب إلى حدود التعرية الروحيّة والميتافيزيقيّة، إله الجسد كبوذيّ، مترهبنٍ صاعد في تشريق، من أقانيم وتعازيم النرفانا»، و«أفاد جوزف نجيم من عوالم اللغة الفرنسية، لا سيّما عالم بودلير، وعوالمه الإيروسيّة التي أشارت باكرًا إلى نعمة الموسيقى في جسد المرأة».
نجيم في عين كنفاني
لكن ما لفتني خلال الاطلاع على بعض ما كُتب عن جوزف نجيم رأيُ الروائي والكاتب الفلسطينيّ غسان كنفاني، وهو كان يكتب باسمٍ مستعارٍ (فارس فارس) في مجلة «الصياد» اللبنانية في بداية السبعينيات. قال كنفاني إنّ ديوان الشّعر الأخير لجوزف نجيم كان اسمه «تخت». وهذا الديوان الجديد اسمه «بنات»، ولا شكّ أنّ الترتيب في الأسماء يظهر لنا أنّ نجيم من ذلك النوع الذي يشتري الحدوة قبل أن يشتري الحصان! يضيف كنفاني و«مثل بقيّة دواوينه: ورق صقيل، والشعر مكتوب بخطّ خطاط، وفي كل صفحة قصيدة، سداسيّة، ولون الورق زهري، وهو حافل بلوحات عالمية لكبار الرّسّامين، تمثل نسوانًا مزلّطات في أوضاع مختلفة، وغير صحيح، طبعًا، ما يقوله جوزف نجيم للصحف عن «اكتشاف الروائع التي تكثر في المرأة». فحسب دواوين شعر (وهي المستمسكات الوحيدة التي نملكها عنه في هذا الصدد) فهو يعلك - بموهبة أقل - كلّ الاكتشافات الساذجة التي افتتحها امرؤ القيس، مرورًا بعمر بن أبي ربيعة، نهاية بكمال الشنّاوي! ويضيف كنفاني بأنّ «الاكتشاف» الوحيد الذي يسجّله جوزف نجيم في عالم المرأة هو «الاكتشاف» نفسه الذي دانه كبار شعراء العالم الذين اكتشفوا المرأة فعلا، أي اكتشاف أنّها دميةٌ لتوفير اللذّة فحسب... ففي كل قصائده في هذا الديوان لا يقدّم لنا اكتشافًا واحدًا في المرأة خارجًا عن اكتشاف القطّ للقطّة، ولكن ليس أبدًا اكتشاف الانسان للإنسان. يقول جوزف نجيم مفتخرًا بمواهبه: «الحمد لله الذي أنعم عليّ بمناعة ضد السياسة وضدّ كل أمر آخر غير المرأة، فأنا أحيا للذّة شخصية، لا لواجب، لا لفائدة، لا لضرورة». يقول كنفاني «ذلك يثبت أنّ المهارة في اكتشاف المرأة لم تبدأ بعد - إنّ مثل هذا الكلام يقوله المراهقون الذين ما زالوا يتزلّجون على جلد المرأة». ويختم بأنّ الجسد كان «الفخّ الذي جعل اكتشاف المرأة صعبًا، إنه الكاموفلاج الذي يجعل الكثيرين يعتقدون أنهم اكتشفوا شيئًا، في حين أنهم لم يكتشفوا إلا جزءًا من الليبيدو المزدهرة في أعماق نفوسهم».
هل عرف نجيم الحبّ؟ يسأل ميشال جحا والسؤال في مكانه. وسبق أن كتب سمير الصايغ في مجلة «مواقف» (عدد ٤، ١٩٦٩) قائلًا: «الذي يبقى أخيرًا وأنت تطالع ديوان جوزف نجيم «تخت» حزمةٌ من الكلمات تقف بين أصابعك هزيلة معتمة ويابسة. القصائد هي القصائد تدور حول الجنس والعشق والشذوذ والحب، لكن هذه العوالم تتحوّل في «تخت» إلى ألفاظٍ والمرأة والحب يسقط معها الشعر. المرأة في «تخت» لا علاقة لها بالمرأة الحقيقة، ولا تستطيع أن ترفض أو تقبل هذا الشعر لأنه لا يعني لك شيئًا».
ولد جوزف نجيم (١٩٢٦ – ١٩٨٣) في قانا في قضاء صور. أصل أسرته من بلدة معاصر الشوف. انتقل والده الذي كان ضابطًا في الجيش الفرنسيّ الى بيروت وسكن في حيّ الأشرفية حيث أدخل ابنه مدرسةَ الآباء اللعازاريين ثمّ مدرسة المخلّص للروم الكاثوليك، حتى نال الشهادة الإعداديّة. كان متفوّقًا في دروسه وخاصة اللغتين العربية والفرنسيّة، من ثمّ انصرف إلى التعليم الثانوي في عموم لبنان. بعد ذلك أتيحت له الفرصة ليكون المشرف على اللغة العربية في القسم العربي في إذاعة لبنان في باريس، ثم أنشأ إذاعة المغتربين في وزارة الإعلام في لبنان. فاز بجائزة الشعر الأولى عام ١٩٥٣ عن مسرحيّته «إبشالوم». صدر له عام ٢٠٠٣ «شاعرات العربية» و«الديوان الأخير» وقد نُشرا بعد غيابه. من خلال العودة إلى بعض المراجع القديمة ومنها مجلة «الآداب» البيروتية وكتاب «قضايا الشعر الحديث» لجهاد فاضل (دار الشروق)، نجد أن نجيم فتح نقاشًا طويلًا حول الشعر، لكنّ سجاله بقي عالقًا عند الشكل والوزن والتغنّي بهما واعتبارهما أهم من كل شيء، فهو الذي كان يكتب الشعر الموزون ويعادي قصيدة النثر، ويعتبر أنّ «الحداثة» فقط هي عكس «القدامة»، وكأنّ المسألة هي كلمة قاموسيّة، وبرأيه «لا يجوز في الشعر أن تعني الحداثة خروجًا عن أصالة الأداء أي حرمة الوزن والقافية لأنّ الوزن والقافية هما ما به يسمّى المعنى شعرًا»، ويضيف بأنّ الحداثة التي يقول بها المحدثون عندنا، هي إنكار الكيان الشعري و«التلهّي بمتاهات وترّهات وقبول الفوضى»، ويربط الشعر بقواعده كما المهندس، ويعتبر أنّ مجلة «شعر» أساءت إلى الشعر العربي لأنها «شيّأت محيّاه».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.