العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

بيروت و«كارما» التّحوّلات

كارما في الديانة الهندوسيّة: آثار أفعال الإنسان، السلبيّة أو الإيجابيّة، التي سوف تحدّد قدَره في حياته الثانية.

لا يَخلق العمل الرّوائيّ عالمًا منغلقًا أو كاملًا، لأنّ «الرّواية لا توجد إلّا في عالمٍ متفجّر، وجودها انعكاس لعالم مفكّك، وتطوّرها يرتبط عضويًّا بتاريخ المجتمعات التي تنشأ فيها»1.

انطلاقًا من هذا المفهوم للرّواية يمكن القول إنّها ترتبط بتشكّل رؤى زمن كتابتها، وتاليًا بالفعل المتبادل بين التّطوّر الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وبين الرّؤى التي تنبثق عن ذلك الفعل وذلك التّطوّر، إذ إنّ الرّوائيّ هو حلقة الوصل بين ذلك كلّه، حيث تترسّب في وعيه القيَم التي ترتبط بحياة الجماعة التي ينتمي إليها، فيتمكّن من إبداع شخصيّات تَعتبر أنّ قضايا عصرها هي قضاياها الذّاتيّة والشّخصيّة.

هكذا تعيد الرّواية إنتاج الاجتماعيّ كوحدة، فيها تكمن صيرورة الحقيقة الكامنة في المجتمع، وفيها كذلك مآلها وطموحاتها الكبرى، وهي بذلك قادرة على رؤية تلك التّحوّلات بعيدًا من فوضاها، في محاولة لتفاديها أو العبور بها أو تصوّر حلول لها.

تحكي الرّواية سيرة المدن التي تُكتب فيها بطريقة أو بأخرى، ويتورّط الرّوائيّ شعوريًّا في ما يسرده، يقف من مدينته التي يحكي سيرتها، كعرّافٍ ينذر أهلها بقرب سقوط الفاجعة، فهل تستمع المدن؟ هل تعرف المدن «كارما» التّنكّر للتّاريخ؟

منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، تشهد بيروت احتجاجاتٍ مطلبيّة. العيون مفتوحة على ما ستؤول إليه الأزمة في الآتي من الأيّام، رغم أنّ الأزمة أوقفها الرّعب من كورونا. والسّؤال الذي يتبادر: هل سكّان بيروت متورّطون في ما تــــشهده الــــمدينــــة اليوم ومــــا تَــــعاقبَ عليهــــا من أزمــــات عــــبر التّــــاريــــخ؟

بين «حارث المياه» و«غاندي الصّغير»

في مقاربةٍ لروايتَي «حارث المياه» لهدى بركات، الصّادرة عن «دار النّهار» في بيروت، و«رحلة غاندي الصّغير» لالياس خوري، الصّادرة عن «دار الآداب» 1989، حيث بيروت هي مسرح الأحداث، سنحاول الإجابة عن ذلك السؤال، كما عن مدى اشتباك الرّوائي في نبوءة الكارثة.

الفضاء العامّ في الرّوايتين هو بيروت زمن الحرب الأهليّة والاجتياح الإسرائيليّ. الرّاوي في «حارث المياه» يدعى الحاج نقولا وهو ابن تاجرٍ للأقمشة، لا يجد سوى محلّه القائم في الوسط التّجاريّ، فيقيم فيه «هكذا وجدتُ نفسي... أمام محلّنا والشّمس شارفت على المغيب»، فالأسواق التجارية حيث يقع المحلّ، باتت مهجورةً في الحرب. تمكّنه إقامتُه في المحلّ من رؤية المدينة الخالية من كلّ شيء، فراغ هائل تسكنه الحرب/ الموت، وهو، إذ يروي، نكتشف أنّه روحٌ هائمة، منفلتةٌ من حدود المادّة، تسبح في العدم.

يمثّل عبد الكريم، في «رحلة غاندي الصّغير»، التّحوّلات التي يمكن لبيروت أن تصنعها في إنسان: من ماسح أحذية إلى صاحب محلّ، ثمّ لا شيء سوى ميّت منسيّ. وما دوران الحكاية على أكثر من لسان، إلّا تجسيد لدوران الصّراع والمصائر في متاهاتٍ عدميّة لا تعرف نهاية. بيروت إذ هي مسرح الحدث، لا تعطي للرّاوي قصّةً بمسار واضح، فالأبطال يروون ما جرى كلٌّ من منظوره، ما يوحي بوعيٍ مأزومٍ ومتخلخلٍ للّحظة المعيشة، لا تمنحه فرادتُه صوابيّة، ولا تجرّده منها. «لم نعد نعرف أن نروي الحكايات، لم نعد نعرف شيئًا»، هكذا تغدو بيروت مراوِغة، فلا هي ضحيّة حرب ولا هي صانعتُها.

يقول الياس خوري في ما يشبه استقراءَ اللحظة التّاريخيّة الحاضرة والتحذير من آتٍ أكثر دمويّة وفتكًا: «أرى أمامي صورهم وهي تتلاشى خلف عيونهم، عيون تتلاشى وماء». بيروت زمن الحرب، هي عينُها وعيُ أهلها المتلاشي، وعيٌ لا يصدَّق لشدّة إيغاله في العدميّة. يتلاشى الرّاوي ساعتئذٍ في سراب المدينة، التي تتعرّى فتتكشّف لعناتُها، وتوغل محنُها في ضرب كلّ ما فيها، فلا يبقى منها غير موتها = تحوّلاتها = التّيه، فهي لم تعد تعرف نفسها إذ تنكّرت لماضيها، ولا تعرف حاضرَها إذ تفتك بوعيه الحرب.

في بيروت زمن الحرب عند هدى بركات، تتساوى الأزمنة، فتغدو بتوقيت الأرواح الهائمة فيها، أو بتوقيت أحلام الموتى، ويفقد الإنسانُ يقينَه وليس فقط ممتلكاته، يغيب الفعلُ ويسود الموتُ وما ينتجه من لامبالاة، ليتماهى مع مدينته، هو لا روح فيه وهي خسرت معاني العدالة وارتهنت لانحلال القيم. وإذا ما تتبّعنا الأحداث، فكأنّ الرّاوي يرى الحرب من خارجها، وكأنّ المدينة مخلوق خرافيّ يستوي الماضي والحاضر لديه، عند أرضٍ واحدة هي أرض الوهم. هنا تصبح بيروت صنوًا للحرب = العدم. ففي زمن الحرب ليس الحاج نقولا إلّا حارثَ الفراغ الذي أنبتتْه المدينة ونبتت منه على حدٍّ سواء. وهو، إذ يعيد اكتشاف ذاته ومحلّه، يعيد اكتشاف مدينته، ولكنّ ذلك لا يكون إلّا بعد فوات الأوان، فكلاهما ميّت.

غاندي الذي مات ولم يكترث ليعرف اسمه هو بيروت، وهو الذين باعوها ليمجّدوا موتها. بيروت التي تجمع المتناقضات كلّها: فهي أهلها وجلّادوهم، هي وهمُها وحقيقتها، هي الواقع والخيال وهي الرّاوي والحدث وهي التكرار المملّ لدوائر الحياة التي هي إحدى صوَر الموت، هي الماضي والحاضر الآخذ في الدّوران من دون أن يتمكّن من ولوج المستقبل، وهي بذلك لا شخصية لها ولا هويّة، ولن تتمكّن إذ هي تنكّرت لماضيها، من أن تمنح ناسَها هويّةً ثقافيّةً تميّزهم.

إنّ إصرار الياس خوري على تسمية الشّوارع في بيروت، وعدم إغفال هدى بركات الإشارة إلى حاضر المدينة الإعماريّ وما نتج عنه من تغيّرات، محاولةٌ للبحث عن بيروت الأصيلة، عن الذّاكرة/الوعي. وإنّ انتقاء شخصيّة بائع الأقمشة إشارةٌ إلى تلك التّحوّلات التي عرفها إنسان بيروت اليوم، لا النّاس يتمهّلون ولا حتّى يعرفون ممّن يشترون، لا وقت لديهم ولا اهتمام عندهم بإقامة علاقات ودٍّ مع بائع القماش، همُّهم الوحيد المساومة على الأسعار: «لا يحتاج الديوليون للحديث أو الوقت». بينما نجد في شخصيّة ماسح الأحذية الذي تطحنه المدينة وتنساه، إشارةً إلى المهمّشين المغرّر بهم. في بيروت، يمكن أن تكون السّيّد في لحظة، وفي لحظة لاحقة تدوسك عجلة النّسيان.

في هاتين الشّخصيّتين تتجسّد الصّراعات التي عرفها إنسان بيروت عبر أزمنةٍ من الحروب المتتالية، حيث أصبح الكلّ فيها واحدًا متكرّرًا يمثّل نموذجًا مصغّرًا لإنسان العصر: السّاذج المغرّر به والظّالم المتسلّط والواهم والمتكسّب والمتخلّي عن قيمه وصانع الحرب وهدف قنابلها الأوّل والتّائه بين عدميّة الموت والباحث عن معنى للحياة والسائر نحو حقيقته أو تيهه. لا فرق إذ تضيع قيمُه.

لقد كُتبتْ هاتان الرّوايتان في عقدٍ سابقٍ من قرنٍ سابق، ولكن هل تغيّر شيءٌ منذ ذلك الوقت إلى يومنا في بيروت أو في ناسها؟ قال نابليون مرّة: «في الحرب كما في الحبّ لكي ينتهي كلّ شيء لا بدّ من مقابلةٍ مباشرة»، لقد حاول الرّوائيّان في «حارث المياه» و«رحلة غاندي الصّغير» أن يُنذرا بوطأة المأساة حين تموت روح المدن، حين تتنكّر لثقافتها وأصالتها، وتخضع لكلّ جديد.

إذا كانت الرّواية قادرة على حمل تحوّلاتٍ مجتمعيّة وتاريخيّة، فهي بذلك قادرةٌ على حَمل مآلات تلك التّحوّلات، أو التنبّؤ بها والتّحذير من نتائجها. وهذا ما حاول الرّوائيّان فعله فيما يسردان حكاية حرب بيروت. لقد رأى كلٌّ منهما أنّ المدن ليست شوارعَ تطحنها الحرب، للمدن ذاكرة، وحين تموت ذاكرة المدن يموت ناسُها. حاولا أن يتساءلا عن الذي مات في بيروت حين طحنت الحربُ ذاكرتَها، أو حين عرفت حداثةً غيّرت معالمَها، فكيف يمكن لإنسانٍ يحيا في مدينةٍ تائهة أن يحافظ على توازنٍ يعينه على الإتيان بنوعيّة حياة تضمن له أصالتَه في هذا العالم المتغيّر.

نشهد اليوم صراعاتٍ فتّاكة، حربًا من نوعٍ آخر لا قنابل فيها حتّى السّاعة في بيروت، كما يشهد العالم حروبًا نوعيّة خبيثة يسقط فيها الإنسان أمام فيروس لا يُرى إلا تحت عدسة مجهر، ولكن هل تغيّر شيء في تقبّل بيروت للحرب؟ هل انتهت الحرب في نفوس أهل بيروت؟ وهل ما يعرفه العالم من هيَجان وعواصفَ وغليان سيولّد رواياتٍ تحكي سيَر مدن نعرفها، إذ هي تشهد موتها القيميّ مع تحوّلات زمننا الاقتصاديّة والمعرفيّة. أرجو أن نشهد جيلًا روائيًّا يتنبّأ بتلاشي المدن، فتنتبه مدننا العربيّة من غفلتها، عساها تنجو من «كارما» الزّمن.

  • 1. أيّوب نبيل، «نصّ القارئ المختلف وسيميائيّة الخطاب النّقدي»، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، ص 86-87.
العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.