إذا كان في الأصل هدفُ القراءة الفضولَ ونشوة المعرفة، فإنّ تاريخَها أثبت قدرتَه على التأثير والتعليم والأدلجة، حتى إذا تمّ ذلك عبر سطوة العقل الباطن. ويُنتج الأدبُ الكثيرَ من الإشكاليّات لكونه التجربةَ الأكثر تداولاً لدى القرّاء. ترتبط إحدى هذه الإشكاليّات بكتابات المرأة ومحاولةِ تصنيف جنسها الأدبيّ تحت مسمًّيّاتٍ خاصّة كـ«الأدب النسائيّ» و«النسويّ الأنثويّ» و«أدب المرأة» وغيرها. ومادام الإشكالُ حول وضع المرأة الجندريّ، خصوصًا في عالمنا العربيّ، قائما، فستظلّ هذه الإشكاليّة قائمة.
«الأدب النسوي» بين تعريفين
بدأت الحركةُ النقديّةُ التي تناولتْ هذا الموضوع بالموجة الثانية للحركة النسوية في الغرب، وقد ركّزتْ على التنقيب عن أدبيّات النساء المخفيّة خلف الأسماء المستعارة. ثمّ تطوّر هذا النقد، ليصبحَ بعدَه «تصنيفُ الأدب» مسألةً ثانويّة تمّ لاحقًا تجاوزُ الحديث عنها. حُصر تعريفُ الأدب النسويّ بين مفهومَين: كلّ ما كتبته النساء، أو كلّ ما كُتب نصرةً لقضاياهنّ وإظهار معاناتهنّ ومشاكلهنّ في المجتمع، سواء بقلم امرأةٍ أو رجل. لهذه المسألة عندي أهميةٌ كبيرة لكوني مهتمّةً بالشأن النسويّ. بنيتُ رؤيتي حولها انطلاقًا من جنس الرواية نفسه الذي أتحيّز إليه، ومن تأرجح الرواية بين الذات والتخييل. كما أنّ الرواية تشكّل حقلًا تجريبيًّا شاسعًا يُظهر فيه الكاتبُ كلَّ هواجسه واهتماماته وأفكاره وإبداعه، وربّما اللاشيء أيضًا.
لقد انتقد كثرٌ مصطلحَ «الأدب النسويّ» معتبرين أنّ لا علاقةَ للأدب بالنوع البيولوجيّ، فالأدب عملية إبداعيّة ويجب أن يوصف بالإنسانيّ. وتخوّفوا من أنْ يقودنا هذا التصنيفُ إلى تراتبيّةٍ سيحتلّ غالبًا فيها هذا الأدبُ مرتبةً أدنى ممّا سيُسمّى تباعًا «أدبَ الرّجال». وكلا الطرحين صحيح إلى حدٍّ ما.
ولأنّ النقدَ يتطلّب الشجاعة، كما قالت الفيلسوفة الأميركية جوديت بتلر، ولأنّ هذه المادّةَ الجدليّة ما زالت قائمةً بقوّةٍ في منطقتنا، فكلّ ما نحتاج إليه حركةٌ نقديّة حقيقية تشرح المفاهيم وتحلّلها وتسعى إلى دراسة الظواهر الأدبية لتشكيل مفاهيمَ تبني توجّهاتٍ حديثة وتهدم القديم منها، والنظر إليها كظاهرة اجتماعيّةٍ، فصاحب القلم يؤثّر على المجتمع الذي يعيش فيه ويتأثّر به. ضمن هذا الإطار يندرج قول كارل ماركس: «ليس وعي الناس هو الذي يحدّد وجودهم لكنّ وجودهم الاجتماعيّ هو الذي يحدّد وعيهم». ولأنّ روائع الأدب ليست مولوداتٍ منفردةً ومنعزلةً، بل حصيلةُ سنين من التفكير المشترك الذي تقف خلفه تجربةُ الجماعة، ولأنّ اختلاف القلم يرتبط باختلاف التجربة والتقسيم الجندري، معضلة مجتمعاتنا، فمن الطبيعيّ أن يختلف الإنتاجُ الأدبيّ حسب النوع أيضًا. وهنا لا أتبنّى وجهةَ نظرٍ بقدْر ما أحاول التفكير على نحوٍ منطقيّ لكوننا لم نصلْ بعدُ إلى المساواة الجندريّة.
روائيّات يشرحنَ «الأدب النّسويّ»
«هل أنتِ مع التصنيف المسمّى بالأدب النسويّ»؟ و«هل ينبغي تبنّي قضايا المرأة في الأدب»؟ سألتُ الروائيةَ الليبيّة وفاء البوعيسي، فأجابت بأنّ التصنيف فرضتْه المرأةُ نفسُها، التي تملك طريقتها في تأنيث فضائها الأدبيّ وتملك لغتها الخاصةَ وقضاياها التي تناقشها دائمًا، والتي تدور غالبًا حول الطلاق والحجاب والمجتمع. بينما الرجلُ قد يناقش قضايا الحرب والسجون والاحتجاج السياسيّ.
أمّا الروائيّة كوثر الجهمي، الحاصلة أخيرًا على جائزة مي غصوب للرواية، فقالت: «لا أعتبر «الأدب النسوي»، التعبيرَ الشائعَ عمّا تكتبه المرأة، تصنيفًا، وإلا لكنّا صنّفنا ما يكتبه الرجل أدبًا «ذكوريًّا»! وإذا كان المقصود بالأدب النسوي الأدبَ الذي يطرح قضايا المرأة، فقد قام كثير من الكتّاب والشعراء الرجال بذلك. أقبلُ هذا التصنيف فقط حين يدلّ على قيمته الجمالية باعتبار أن كاتبته امرأةٌ، فلأجل الأدب العظيم تبذل المرأةُ، العربيّة تحديدًا، جهدًا عظيمًا يفوق غالبًا ما يبذله شقيقُها الرجل. ويرجع ذلك إلى الصعوبات والعراقيل المضاعفة التي تواجهها الكاتبةُ في عالمنا العربي بسبب مسؤوليّاتها العائلية إن وُجدت، بالإضافة إلى نظرة المجتمع لها وحكمه عليها إذا ما كتبتْ عن محظوراتٍ اخترقها الكاتبُ الذّكرُ منذ زمن. فالرجل حين يكتب عن الدعارة مثلًا يبقى «كاتبًا»، بينما تحاط المرأةُ بإشارات التعجب والاستفهام إن تناولت الموضوع نفسه. أما قضايا المرأة العربية فهي حاضرةٌ بقوة في روايات الرجال والنساء معًا، ولا أظنّ أن من الصحّيّ احتكارها من قبل الكاتبات، فقضايا المرأة تتشابك مع قضايا الرجل. لذا من الأفضل تسليط قلمهما لخدمة القضايا المشتركة. وفي حال تخلّصنا من القيود الاجتماعية المتوارَثة، لا بدّ حينها أن تُعالج تلقائيًّا قضايا النساء العالقة، فنهضةُ المجتمع لا تكون إلا بالمرأة».
وعن السؤالين السابقين أجابت الروائيّةُ عائشة إبراهيم التي دخلتْ روايتُها «حرب الغزالة» أخيرًا في القائمة الطويلة للبوكر العربية: «تكمن الإشكاليّة في كيفيّة تفسير مصطلح «الأدب النسوي»، فهل هو الأدب الذي يتسامى إلى نصرة المرأة ويؤسّس لبناء وعيٍ مجتمعيٍّ تجاه حقوقها وقضاياها، أم هو تلك الصورة العنصريّةُ التي تدعو إلى فصل أدب الرّجل عن المرأة بهدف التقليل من قيمة الإبداع الذي تنتجه المرأة؟ بغضّ النظر عن جدليّة التفسير، لا أحبّذُ إجمالاً هذا التصنيفَ، فالقضايا الإنسانيّةُ واحدة، وكذلك هي المحدّدات الفنيّة للعمل الأدبي. لا يمكن أن نقول إنّ هناك لغةً خاصة بالمرأة لا يعرفها الرجلُ، وإنّ هناك صورًا تخييليّةً أو بنيةً سرديّةً أو تفعيلةً شعرية أو أيَّ أفكارٍ خاصة بالرجل وأخرى بالمرأة. إنّ التجربة الإبداعيّة واحدةٌ، تتجاوز الذاتَ لتعبّر عن القضايا الإنسانية. أعتقد أنّنا ما زلنا بحاجةٍ إلى تبنّي قضايا المرأة في الأدب، الأمر المتّبع في أكثر المجتمعات تقدّمًا، على أن يكون ذلك بوعيٍ وبعيدًا عن الابتذال والسطحية».
ومن رواية «شيء من الدّفء»، الرواية الأولى بقلمٍ نسائيّ ليبيّ عام 1972 لصاحبتها مرضية النعاس، حصلتُ على مقاربةٍ مختلفة. فبطلة الرواية امرأةٌ تتحدّث عن همومها بصفتها امرأةً تعيش في مجتمعٍ يضعها في مرتبةٍ ثانية لكنّها تحاول إبداءَ رأيها في القضية النسوية. يقول مقطعٌ من الرواية «القضية ليست قضية رجل وامرأة. والكتّاب الذين يحاولون خلق مشكلة وهميّة واهمون، وهم أنفسهم محتاجون إلى من يخلّصهم ويُفهمهم إن كانت هناك قضية تحرير فيجب أن تشمل الرجل والمرأةَ معًا، لأنّ قضيتنا ومشكلتنا واحدة، فالرجل أيضًا لا يزال هو نفسه في حاجة إلى من يحرّره من عقال التقاليد والعقَد التي رسّخها المجتمعُ في نفسه».
نحو أدبٍ يخدم المجتمع
إنّ الإبداعَ والكتابة أمران شائكان. يقول جاك دريدا «لأنّ الكتابة هي أفقُ الحقيقة سوف لن يؤسّس أبدًا علم تحت هذا الاسم، ولن يكون قادرًا أيضًا على كتابة خطابه على نهجٍ ما وتعيين حدود حقله بوضوح». ومن حقّ المبدع أن يغوص في ذاتيّته أو شموليّته وأن يكون محرّضًا أو كاشفًا.
والمنظومة الأدبيّةُ مليئة بكتاباتٍ تُثري الإنسانيّةَ ككتابة الكاتب الروسيّ الأميركيّ فلاديمير نابوكوف عن لوليتا، وماركيز دو ساد عن أصالة شرّه، والفيلسوف الفرنسي جورج باتاي عن الغائط، وكذلك ما تكتبه المرأةُ ويكون مهمازًا في خاصرة مجتمع التفرقة والظلم، أو ما يكتبه كلاهما عن الوطن والبيئة. إضافةً إلى أنّ اللغة عند البعض ليست مجرّد وسيلة إلى الحقيقة، بل طريقة لمساءلة الرّغبة في الحقيقة. المشكلة تكمن في ضرورة أن يتحوّلَ الحديثُ عن تصنيف الأدب الذي تكتبه المرأةُ والنقاش حول إطلاق التسميات حوله إلى اتّجاهٍ آخر، في محاولةٍ للدفع نحو التزامنا أدبًا يمكن تسميته «الأدبَ الملتزم» الذي يخدم قضايا المجتمع، ومنها قضية المرأة. ومن المهمّ أن يكون الأدبُ موجَّهًا نحو كشف مَواطن الخلل، وأن يساعدَ قضيّة المرأة بالغة الأهمية كونها تشكّل بداية طريق التحرّر. أو على الأقلّ أن يكون صادقًا حتى لو حدّثنا فقط عن الاستيهامات التي تراود الإنسانَ، كي لا يُعيدَنا النقاش دائمًا إلى نقطة البداية. المهمّ أنّ البَراح يبقى مفتوحًا لكلّ أشكال الأدب ما دام هناك قارئٌ لها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.