العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

أزمة الانفجار

وانفجار الازمات اللبنانية

جريمة الاستهتار

قد لا نعرف الحقيقة كاملة عن كيف ولماذا دخلت شحنة ٢٧٥٠ طنًّا من نترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، ولماذا أبقيتْ طوال ستّ سنينَ في العنبر رقم ١٢، إلى جانب موادّ قابلةٍ للاشتعال أو متفجّرة، على مقربة من منطقةٍ سكنيّة، ولا كيف انفجرتْ يوم الرابع من آب/أغسطس الرهيب.

ما نعرفه أن الانفجار شبْهَ النوويّ قتل نحو مئتي إنسانٍ وجرح الآلاف وشرّد نحو ثلاثمئة ألف ودمّر عشرات الألوف من الشقق.

وما نعرفه أن المسؤولين في قمّة السلطة كانوا يعرفون. مع ذلك قال رئيس جمهوريّة إنّه لا يعرف. اعترف رئيس حكومة بأنه عرف لكنّه أجّل موعدًا لتفقّد العنبر الذي يحوي الموادّ القاتلة عندما أبلغه أحدُ مساعديه بأنّها أسمدةٌ زراعيّة. أمّا السيّد حسن نصر الله فيعترف بأنّه يعرف عن مستودعات نترات الأمونيوم في مرفأ حيفا، لكنه لم يكن يعرف بوجود كمّيّات من المادّة نفسِها في مرفأ بيروت طوال ستّ سنين. فلو صحّ ذلك لوجب عليه الاعتذارُ من الشعب اللبنانيّ عن إخلاله بأولى مهمّاته ومبرّر وجود حزبه بما هو صاحبُ أكبر جهازِ استخبارٍ يفترض أنّه مكرّس لحماية أمن الوطن والمواطنين من العدوّ الإسرائيليّ ومن الإرهابيّين!

في مأساةٍ كهذه، عادةً ما يستقيلُ المسؤول التنفيذيّ ولو لم يكن على علمٍ بما ارتكبه مرؤوسوه. ما نعرفه أنّ رئيس الحكومة حسّان دياب استقال ولم يمثُل هو وحكومتُه أمام المجلس النيابيّ للمساءلة حول الانفجار. المسؤولُ عندنا غيرُ مسؤول. ولا أحدَ مسؤول. وفي حالاتٍ اخرى، قد يعتذر المسؤولُ من شعبه على مأساةٍ بهذا الحجم وقعت في عهده. وليست هذه أيضًا من عادات الأنظمة الديموقراطيّة. أمامي الآن خبرٌ مفادُه أنّ كيم جونغ ــــــ أون، دكتاتور كوريا الشماليّة، اعتذر من شعبه لأنّه لم ينجحْ في التخفيف من مصاعب الشعب المعيشيّة. بكى الزعيم ذو الوجه الطفوليّ، من فرْط النقد الذاتيّ، وأبكى معه الملايين. ليس المطلوبُ الوصول إلى مثل هذه المواصيل. مع أنّه يفيد أن نبكيَ على حالنا مع هذه الطغمة التي تحكمُنا.

يمكن للمسؤول، في حالاتٍ أخرى أن يستعجلَ التحقيق وأن يصرّ على إنزال أقصى العقوبات بالمذنبين. ما نعرفه عن التحقيق الذي وعدتْنا الحكومة بإعلان نتائجه بعد خمسة أيّام من الانفجار، أنّنا لا نزال ننتظر مطالعةَ المحقّق العدليّ الذي ينتظر بدوره تقريرَ المحقّقين البريطانيّين والفرنسيّين، على اعتبار أنّ مكتب التحقيقات الفيدرالي «أف. بي. آي» الأميركيّ قد سلّم تقريره. فيتبيّن أن السلطة التي رفضتْ بأعلى الصوت التحقيق الدوليَّ قد ارتضتْه بالتجزئة. وما نعرفه عن الجريمة والعقاب أن رئيس الدولة يرفض توقيع مرسومٍ وزاريٍّ بتنحية المدراء الثلاثة الموقوفين على ذمّة التحقيق للاشتباه بمسؤوليّتهم في الانفجار القاتل!

دهَمَنا الانفجارُ ونحن على أهبة إرسال عدد «بدايات» للمطبعة فآثرنا، طبعاً، ألّا يصدرَ دون أن نكوّن هذا الملفّ متنوّع المقاربات عن جريمة الاستهتار التي ارتكبتْها السلطة ضدّ شعبها.

ملاحظة لا بدّ منها قبل الانتقال إلى موضعٍ آخر. معروف أن مرفأ بيروت استحقّ لقَبَ «مغارة علي بابا» لكونه أكبرَ بؤرةٍ للانتفاع والفساد والإفساد وسرقة المال العامّ وهدره في الجمهوريّة، ما لسنا نعرفه بما فيه الكفاية أنه نموذجٌ للشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ التي تدعو إليها المؤسّساتُ الاقتصاديّة الدوليّة في العصر النيو ليبرالي. بنهاية الحرب الأهليّة، انتقل المرفأ من سيطرة مليشيا القوّات اللبنانيّة إلى سيطرة أحزاب المليشيات، ما أسّس لهذا الاختلاط المميّز بين المال الخاصّ والمال العامّ. تدير المرفأ «اللجنةُ المؤقّتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت»، التي لا تزال مؤقّتةً، على رأسها ثلاثةُ مدراءَ مقرّبون من الرؤساء الثلاثة. والشركة لا هي من القطاع العامّ ولا من الخاصّ بل هي تنغيلٌ من الاثنين. مرفأ الحاويات تستثمره شركةٌ بريطانيّةٌ ولها شريكٌ لبنانيّ، كما يجب، وتتولّى أعمالَ الشحن والتفريغ وسائر الخدمات، نحو ثلاثينَ شركة خاصّة على صلةٍ بسياسيّين وشركائهم في عالم البزنس. والمرفأ تحت وصاية وزارة النقل والأشغال العامّة دون أن يكون تحت سلطتها، واللجنة التي تديره لها ميزانيّتُها الخاصّةُ المستقلّة عن موازنة الدولة، وتودَع أموالها، لا في المصرف المركزي، بل في مصرف خاصٍّ، وهي محميّة بالسرّ المصرفيّ، ولا تخضع لأيٍّ من أجهزة الدولة الرقابيّة ولا تتبع قواعدَ التوظيف في الخدمة المدنيّة. كل ما في الأمر أنّها تدفع للدولة ربعَ أرباحها وتحتفظ بالباقي، وقد تمضي سنواتٌ دون أن تدفع أيَّ مبلغ. وقد صرّح أحد الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الأشغال والنقل بأنّ خسائر الدولة من عائدات المرفأ لا تقلّ عن مليار دولار.

انفجار الأزمة الحكوميّة

فجّر تفجيرُ الرابع من آب/أغسطس أزمةً سياسيّة لم تقتصرْ على استقالة حكومة التكنقراط وإنّما تعدّتها لفشل محاولةٍ ثانية وربما ثالثة لتشكيل حكومة.

استدعى التفجير وتداعياتُه زيارتين للرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون. إلى الاعتبارات الجيواستراتيجيّة لفرنسا في المتوسّط وعلاقتِها المميّزة بلبنان، والوجهِ الإنسانيّ لمهمّته، تلخّصتْ مبادرة الرئيس الفرنسيّ بإبلاغ الفريق السياسيّ الحاكم، بأكثريّته والأقليّة: أنتم فاسدون. سرقتُم وهدرْتم الأموالَ التي قدّمناها لكم في مؤتمرات باريس. لا مزيدَ من الأموال إلّا بتنفيذ «الإصلاحات» واللجوء إلى صندوق النقد الدولي. لا نثقُ بكم. لا نستطيع تغييرَكم. نريد «الإصلاح» بواسطة حكومة اختصاصيّين مستقلّة عن الأحزاب السياسيّة قدّم لها الطرفُ الفرنسيُّ ورقةً إصلاحيّة.

تلقّى ماكرون وعدًا بتشكيل حكومةٍ قبل عودته في الأوّل من أيلول/سبتمبر بمناسبة مئويّةِ تأسيس «لبنان الكبير». لم يحصل. سلّمت الأكثريّةُ النيابيّة (حزب الله، أمل، التيّار الوطني الحرّ) لسعد الحريري أن يختار الرئيسَ المكلّف بنفسه. اختار الدبلوماسيَّ مصطفى أديب وسرعان ما تولّى «نادي رؤساء الوزراء السابقين» (سعد الحريري، فؤاد السنيورة، نجيب ميقاتي، تمّام سلام) الاتّصالاتِ والتشكيلَ نيابةً عن الرئيس المكلّف، والأخير ممتنعٌ عن التشاور مع الكتَل النيابية، مع أنّ حكومته مضطرّةٌ لكسب ثقة مجلس النوّاب مثلما امتنع عن التشاور مع رئيس الجمهوريّة في الأسماء والحقائب. يبدو أنّ أديب كان مطمئنًّا إلى فاعليّة ضغوط الرئيس ماكرون، وتهديداته بالعقوبات على سياسيّين لبنانيّين، لفرض حكومةِ أمرٍ واقعٍ على الجميع. لم يتطلّب الأمرُ أكثرَ من أنْ يطالب حزبُ الله وحركةُ أمل بتعيين الوزراء الشيعة وبأن تكون وزارةُ الماليّة من نصيب الطائفة الشيعيّة حتى يطاحَ بمصطفى أديب.

بالَغَ الرئيسُ ماكرون في تقدير ما لديه، وفرنسا، من دالّةٍ على لبنان والطبقة الحاكمة. صدّق القادةَ السياسيّين الثمانية الذين التقاهم في «قصر الصنوبر» والذين أبلغوه تأييدَ ورقته الإصلاحيّة ووعدوه بتشكيل «حكومةِ مهمّة» من الاختصاصيّين المستقلّين عن الأحزاب. لم يفطن الرئيسُ الفرنسيّ، ولا مستشاروه، إلى أنّ الحزب في لبنان شيءٌ والطائفةَ شيءٌ آخر.

مهما يكن، سارع سعد الحريري هذه المرّةَ إلى تقديم نفسه مرشّحًا باسم المبادرة الفرنسيّة ودار وفدٌ يمثّله للبحث في الورقة الإصلاحيّة مع الكتَل النيابيّة. يجدر التذكير بأنّ حكومتَه سقطتْ مطلعَ الانتفاضة عندما حاول استخدام زخم الاحتجاجات الشعبيّة لتشكيل حكومة تكنقراط برئاسته يُقصي عنها أبرزَ وزراء الأكثريّة النيابيّة. وها هو يعود لتكرار المحاولة إيّاها: حكومة اختصاصيّين برئاسته. في المرّة الأولى أحبط الثنائيُّ الشيعيّ (حزب الله وحركة أمل) حكومةَ المرشح الوكيل. ويبدو أنّ الثنائيّ المارونيّ (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية) يستعدّ لإحباط مسعى الأصيل. والحجّةُ ذاتُها: إما حكومةٌ سياسيّةٌ برئاسة سياسيٍّ تتمثّل فيها الكتَلُ البرلمانيّة، ويكون لها رأيٌ في أعضائها وتوزيع الحقائب، وإمّا حكومةُ اختصاصيّين برئاسة اختصاصيّ.

على أنّ هذا الاستعصاء في الشكل، لا يجوز أن يُنسيَنا مضمون الورقة الإصلاحيّة الفرنسيّة وفيها نقطتان إشكاليّتان. الأولى هي العموميّة في معالجة الأزمة الماليّة المفتوحة على شتّي التأويلات. والثانية هي الدعوة إلى انتخاباتٍ نيابيّةٍ خارج القيد الطائفيّ وإلى إنشاء مجلس شيوخ «يحفظ حقوق الأقلّيّات». تبدو الصيغةُ كأنّها منقولةٌ من فذلكةٍ لتكوين مجلس الشيوخ في أدبيات فترة الانتداب. يتحدّث دستور الجمهوريّة الثانية (١٩٩٠) عن تمثيل «العائلات الروحيّة» أي الطوائف. ومهما يكن، ينذر فتحُ البحث في هذا الأمر بانفجار نزاعٍ مديدٍ حول تنفيذ هذه الموادّ غيرِ المطبّقة من الدستور، والتي جرى التغاضي عنها على امتداد ثلاثة عقود، وقد بدأتْ طلائع النزاع ما إن دعا رئيس البرلمان نبيه برّي المجلسَ النيابيّ إلى نقاش موضوع إنشاء مجلس شيوخ.

الهجوم المعاكس للمصارف

ما ليس معروفًا على نطاقٍ واسعٍ هو الهجوم الذي شنّتْه جمعيّةُ المصارف وحلفاؤها في السلطة، التيّار الوطني الحرّ وحركة أمل، على تحمّل أيّ جزءٍ من المسؤوليّة عن معالجة الأزمة الماليّة. تصرّ على تحميل الدولة وحدها المسؤوليّةَ عن الأزمة الماليّة وترفض إعادة الرسملة وتطالب بإنشاء صندوقٍ لحيازة الأموال الحكوميّة بقيمة ٤٠ مليار دولار كضمانةٍ للمودعين.

من جهةٍ أخرى، عرقلَت الأكثريّةُ النيابيّةُ التحقيق الجنائيَّ في مصرف لبنان طوال أشهرٍ ولم يوقّع الوزيرُ المحسوبُ على حركة أمل الاتفاقَ مع الشركة إلّا عشيةَ زيارة ماكرون الثانية. والتحقيق الجنائيُّ هو الشرط الأوّل لاستئناف التفاوض مع صندوق النقد الدوليّ. وإذ باشرت الشركةُ أعمالَها، تبيّنَ أنّ المصرفَ المركزيَّ امتنع عن الإجابة على قسمٍ حيويٍّ من الأسئلة التي وجّهتْها والحجّة قانون سريّة المصارف وقانون النقد والتسليف. وقد تدفع الشركة إلى الاعتذار عن إكمال مهمّتها إذا اعتبرت أنّ الإجابات غير كافية للشروع في التدقيق.

رفضت المصارفُ أيَّ حسمٍ لأيّ نسبةٍ من ودائع أصحاب المصارف وكبار المودعين («هير كات») تعويضًا عن الأرباح الفاحشة المكتسَبة من المضاربة على مديونيّة الدولة. كما رفضت البحثَ في إعادة أيِّ جزءٍ من الأموال المهرّبة ولو نسبة الـ١٥٪ التي حدّدها حاكمُ المصرف المركزي. أمّا مشروعُ قانون «الكابيتال كونترول» فلا يزال عالقًا منذ أشهر في «لجنة الإدارة والعدل» النيابيّة بانتظار جمْع المزيد من المعلومات عن سيولة المصارف في الداخل والخارج!

ومن جهةٍ ثانيةٍ، يطبع المصرف المركزيُّ العملة اللبنانيّةَ ويكبّ في السوق حتى بلغتْ نسبةُ التضخّم ٩٠ بالمئة، فقرّر تقييدَ السحب من المصارف بالليرة اللبنانية بعدما ألزمَ سحبَ الدولارات بالعملة المحلية.

والآتي أعظم. حتى قبل أن نصل إلى طلب صندوق النقد رفعَ الدعم على المحروقات والموادّ الغذائيّة والأدوية، ها هو المصرفُ المركزيّ يعلن أنّه سيتوقّف عن الدعم بنهاية هذا العام. والحجّةُ أنه لن يبقى له في الاحتياط إلّا ١٧ مليار دولار التي هي الاحتياطيّ الإلزاميّ الذي توْدعه المصارف في خزانته. والسؤال: لماذا لا توضع هذه الأموال في خدمة الدعم؟

مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة

في الرابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر، افتُتحتْ مفاوضاتٌ «غير مباشرة» حول ترسيم الحدود البحريّة بين وفدين لبنانيّ وإسرائيليّ برعاية الأمم المتّحدة وحضور الوسيط الأميركيّ ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجيّة الأميركي. مهّدَ للتفاوض «اتفاقُ إطارٍ» توصّلَ إليه رئيسُ مجلس النواب نبيه برّي بعد ثلاث سنوات من الوساطة الأميركيّة.

تسلّم الرئيس ميشال عون ملفَّ التفاوض على اعتباره المسؤولَ عن توقيع المعاهدات الدوليّة. وانعقدت الجلسة الافتتاحيّة بعد التراجع عن تسمية مستشار وزير الخارجيّة في الوفد وصرف النظر عن اعتراض رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب على عدم إشراك الحكومة في الإشراف على المفاوضات.

قدّم برّي المفاوضاتِ على أنّها من أجل استعادة الحقوق اللبنانيّة في حقول النفط والغاز ٨ و٩ و١٠ المفترض أن يبدأ التنقيبُ فيها قبل نهاية العام الحاليّ. ومعروفٌ أنّ الحقل ٩ هو الحقل الواعد بنوعٍ خاصّ. لكنّ ما لم يقلْه رئيسُ المجلس هو أنّ لبنان خسر ٨٦٠ كيلومترًا مربّعًا من حقوقه البحريّة بسبب خطأ ارتكبَه مدير عام وزارة الأشغال والنقل عبد الحفيظ القيسي خلال ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص، العام ٢٠٠٧. وقد قدّم الوسيطُ الأميركيّ فريدريك هوف اقتراحَ تسويةٍ تقضي باستعادة لبنان ٥٠٠ كيلومتر وترْك الباقي لإسرائيل. إلى ذلك يتبيّن من الخريطة التي يحملها الوفدُ المفاوضُ أنّ لبنانَ يطالب أيضًا بمساحةٍ مماثلةٍ قضمتْها إسرائيل عندما وضعت النقطة البرّيّة عند جزرٍ صغيرةٍ تابعة لفلسطين المحتلّة بدل اعتماد نقطةِ الحدود عند الناقورة.

في انتظار الجولات الآتية من المفاوضات، السؤالان الأوّلان الواجبُ طرحُهما هما: لماذا يبدي العدوُّ الإسرائيلي استعدادَه للتفاوض أصلًا؟ وما الكلفة التي على لبنان أن يدفعها لتحصيل حقوقه؟

يمكن الافتراضُ بأنّ اهتمام حكومة إسرائيل بالتفاوض، عدا الكسب الإعلاميّ، هو أنّ شركاتِ النفط ترفض التنقيبَ في المناطق المتنازَع عليها من جانبَي الحدود. وهذا ما عناه بنيامين نتنياهو عندما قال إنّ ترسيم الحدود البحريّة مع لبنان يأتي بفائدةٍ اقتصاديّة لإسرائيل.

من السذاجة بمكان ألّا ننتبهَ للتزامن بين افتتاح مفاوضات الترسيم البحريّ والإعلان عمّا سُمّي اتفاق السلام بين الإمارات والبحرين وإسرائيل. ومن المبالَغة في السذاجة عدمُ الاعتراف بأنّ هذا التنازلَ الإعلاميّ–الدعاويّ يدخل في خانة أكلاف الوساطة في أقلّ تقدير. على أنّه يجدر عدمُ الخلط بين التنازل الإعلاميّ وبين التطبيع مع العدوّ.

هذا وقد وردتْ ردودٌ مبكّرة على التوقّعات والتحليلات المتذاكية التي تقول إنّ التفاوضَ تنازلٌ من قبَل لبنان الرسميّ مقابل إلغاء العقوبات على حزب الله او لاستدرار المساعدات الماليّة الأميركية. أكدت الخارجيّة الأميركية استمرارَ العقوبات بغضّ النظر عن مفاوضات الترسيم، وكرّرَ وزير الخارجيّة مايك بومبيو أنّ المساعداتِ الماليّة مرهونةٌ بـ«الإصلاحات». والسخرية في الأمر تتجلّى في الافتراض أنّ لبنان سوف يكافأ على قبوله التفاوض فيما هو يفاوض أساسًا لأنّه فرّط بجزءٍ حيويٍّ من حدوده البحريّة وقد احتاج إلى الوساطة الأميركيّة لاستعادتها.

ومن منوّعات المواقف الرافضة للتفاوض ذلك الذي يرفض الاعترافَ بالكيان الصهيوني، فكيف الاعترافُ بحدوده؟ وهذا يعني عمليًّا تكريسَ احتلال العدوّ لأجزاء من مجال لبنانَ البحريّ والاستهتار بالسيادة وبمواردَ واعدة من النفط والغاز يحتاج لها بلدٌ في حالة إفلاس. فهل يدعو المعترضون إلى التخلّي أيضًا عن المطالبة بتعديل الحدود البريّة عند «الخطّ الأزرق» أو عن تأكيد لبنانيّة مزارع شبعا على اعتبار أنّ ذلك يمثّل اعترافًا بحدود الكيان الصهيوني؟ ومن عجبٍ أن يوصمَ التفاوضُ على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بأنّه يصبّ في «صفقة القرن»، لكنّها عادة الممانعين المتأخّرين دومًا عن استراتيجيّةٍ واحدة للعدو على الأقل: انتقلوا من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» إلى «صفقة القرن» الفلسطينيّة، فيما زحلت الاستراتيجيّة الأميركيّة ــــــ الإسرائيلية إلى الاختراق الإسرائيلي في الخليج! أمّا عن الدعوة إلى تحرير الحقول البحريّة المحتلّة بواسطة المقاومة ــــــ وهو ما لا يدّعيه حزبُ الله المؤيّدُ بصمت للمفاوضات ــــــ فيحتاج إلى مَن يفسّر لنا كيف يتمّ التحريرُ البحريّ على نحوٍ عملانيّ.

ومع ذلك، لا ثقةَ بالسلطة القائمة ولا ثقةَ بعدم وجود اتفاقٍ مسبق قبل الشروع بالمفاوضات.

الموقف الوطنيّ هو الذي يقف بالمرصاد: لا يحقّ للطرف اللبناني إعطاءُ أيّ إشارةٍ تفيد بأنّ التفاوض يشبه مفاوضاتِ تطبيع علاقاتٍ مع دولةٍ عدوّة، أو أنّه مقدّمة له، ولا تفريط في حقوق لبنانَ السياديّة على مياهه ومَوارده.

العدد ٢٧ - ٢٠٢٠
وانفجار الازمات اللبنانية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.