منذ عام 2011، تشكّلت ظروف مؤاتية دائمًا لتصاعد التوترات السياسية والاجتماعية وانفجارها، إلا أنّ ما حصل في لبنان اعتبارًا من 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لم يكن متوقعًا بالشكل الذي حصل فيه. هي المرّة الأولى منذ الحرب الأهلية، وربما منذ الاستقلال، التي نختبر فيها مثل هذه "الهبّة" الشعبية العابرة للطوائف والمناطق. لقد شهدنا على مدى أسابيع متتالية حركة لامركزية واسعة، شارك فيها الكثير من الناس في الساحات والشوارع والجامعات وبعض نقابات المهن الحرة، وتردّد صداها في البلدات والقرى في جميع المحافظات، حتى في الأماكن التي تصنّف مربّعات شديدةَ الضبط وتركّز القَسْر.
على الرغم من اتساعها الطبقي وامتدادها الجغرافي، وربما بسببهما، ظلّت هذه الحركة غير منظّمة ومن دون قيادات وبرامج ومشاريع ومطالب محددة. وكذلك، على الرغم من محاولات وأدها وشيطنتها وتخوينها واختراقها وتطييف الردود عليها، ظلّت خارج الاصطفافات المعهودة، سواء الاصطفافات التقليدية التاريخية أو التي نشأت بين قوى 8 و14 آذار أو التي أفرزتها صراعات المحاور الإقليمية وانفجار الأزمة السورية. وفي ظل كل ذلك وبسببه، ظلّت أيضًا عاجزة عن بلورة نفسها ولم تنجح في تقديم أدوات سياسيّة قادرة على ترجمة الهتافات والشعارات المرفوعة إلى جدول أعمال واكتساب المشروعية والقدرة لفرضه.
بهذا المعنى، جاء الحدث مفاجئًا، مثل "شبح" لم يكن ينتظره أحد إلا "ساذج" أو "عميل في مؤامرة لصناعة الأشباح وتوزيعها". وينطبق هذا على الجميع تقريبًا، الذين انخرطوا فورًا فيه أو ساروا معه أو انجذبوا إليه وراهنوا عليه أو ركبوا موجته أو حاولوا استثماره أو الذين ترددوا وخافوا أو وقفوا ضده وحاربوه واعتدوا عليه وفضحوا مواقعهم في مواجهته. ما أقصده هنا، أنّ هذه الهبّة الشعبية عبّرت بوضوح عن لحظة تصادم قوي بين مصالح اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة ومتناقضة. كما عبّرت عن لحظة عجز تام في قدرة النظام على إيجاد قاعدة للتوازن، لكن بقي الجميعُ تحت تأثير الشك الأصلي بوجود "شبح الصراع الاجتماعي" في المجتمع اللبناني "الطائفي" وعلاقاته، وفي ظل المحو الكامل للحدود بين المحلي والإقليمي والدولي.
لذلك، أعتقد أنّ هبّة تشرين لم تكن متوقعة ولم نفهمها وتأخرنا كثيرًا في محاولة تفسيرها وتعاملنا معها بريبة شديدة، ليس من ماهيتها فقط، بل أيضًا الريبة المبررة وغير المبررة من الذين سارعوا إلى محاولة تبوء مواقع قيادية فيها أو النطق باسمها بالجملة أو بالمفرق، أو وضع خارطة طريق لها أو محاولة تنظيم قواها وبناء أطر تمثيلية فيها. هذه الريبة، بقدر ما كان يُنظر إليها كسلاح في مواجهة محاولات السيطرة والتجيير والتحريف، كانت فرصة أيضًا لانتهازية واسعة وتمييع ملحوظ للمطالب والأهداف وطمس للطبيعة الطبقية للصراع الدائر وتقديس مبالغ فيه للعفوية الشعبية وقدرتها على التعبير عن نفسها من دون أي برنامج أو شكل من أشكال الانتظام.
لا يعني ذلك غيابًا كليًّا لمبادرات الانتظام، لكنّ الأخيرةَ ظلّت بسيطة وقاصرة، تقوم على مجموعات صغيرة موجودة سابقًا أو نشأت حديثًا وتجمّعات دائمة (خيم) أقيمت في مطارح محددة في المدن الرئيسة والعديد من البلدات والأحياء والطرقات الرئيسة. وقد بقي منها نحو عشرة تجمّعات صامدة حتى 15 آذار/ مارس 2020، تاريخ إعلان "التعبئة العامة" في مواجهة تفشي جائحة كورونا. سعت دائمًا هذه المجموعات وتلك التجمعات لإيجاد طريقة للتواصل والتنسيق والعمل المشترك، إلا أننا لم نتقدّم كثيرًا، أو بالأحرى لم نكتشف الطريق الذي يُفترض أن نتقدم عليها. بدا واضحًا أنّ من يمتلك الإعلام والتمويل والعلاقات الخارجية هو الذي يتقدّم المشهد ويعيّن المطالب والأهداف والوسائل. وبدا واضحًا أيضًا أننا نفتقر بقوّة إلى الأبحاث الاجتماعية ونقد الاقتصاد السياسي، ونعاني من معرفة مشوّشة بمجتمعنا واقتصادنا، ومن سوء فهم عميق للبنية الطبقية والمجتمع المدني، بنى وعلاقات ووظائف، وتقهقر مديد للحياة الحزبية والنقابية، حتى في داخل أحزاب السلطة ونقاباتها. ونعاني كذلك من الخضوع التام للصحافة والجامعات والنقابات المهنية والنخب الفاعلة عمومًا، ومن طغيان الصور النمطية والانطباعية. وقد أضفى هذا كلُّه المزيدَ من الضباب الكثيف على الظروف والعوامل والقوى التي دفعت بهذا العدد الكبير من الناس للتعبير عن غضبهم وسخطهم بهذا الشكل من دون أن يكونوا قادرين على تطوير حركتهم وتمكينها من تحقيق ما ينادون به. وهذا، ربما، مصدر الحيرة في تحديد طبيعة هبّة تشرين.
ما طبيعتها؟ في أيّ نقاش، توجد تفاصيل تُرمى جانبًا كما لو أنها هامشية أو لا معنى لها. مثلا ينقسم الناس، وهذا حقيقي، بين من يعتبر أنه ينتمي إلى هبّة تشرين في أيامها الأولى، وبين من يعتبر أنه فيها حتى الآن. أو مثلا، يرفض البعض إعطاء أي أهمية في التحليل لشرارة هذه الهبّة المتمثّلة بقرار فرض ضريبة على الواتسآب. في الواقع، هناك رابط قوي بين المثالين، إذ أن فرض هذه الضريبة في ظل شكوى متراكمة من ارتفاع أسعار الاتصالات وتردّي جودة الخدمة واتهامات واسعة بفساد هذا القطاع ولّد شعورًا قويًّا أنّ الأمور تجاوزت كل حد ولا بد من الدفاع عن النفس. أدرك الناس أنهم مستهدفون ومعرّضون لمخاطر مرتفعة جدًّا وليس لديهم أدنى ثقة بمن يدير السلطة. طبعًا، لا يتعلق الأمر أبدًا بضريبة الواتسآب ولا بأيام الهبة الأولى، ولكن يسمح هذان التفصيلان بالاستنتاج الأولي أنّ هبّة تشرين هي أقرب إلى انتفاضة شعبية ضدّ ما يمكن تسميته "استبداد الوضع القائم". كانت التعبير عن تنامي حال الرفض في المجتمع اللبناني، وهي حال لا تخصنا فقط، بل هي حال عالمية تخص أزمة النظام الرأسمالي نفسه، أو إزمة إفراط في النيوليبرالية كما يراها بعض الليبراليين واليساريين.
على االرغم من أنّ كثرًا يطلقون عليها صفة "الثورة"، إلا أنها تفتقد إلى شروط أساسية للثورة. لكنها أكثر بكثير من حركة مطلبية أو حراك احتجاجي. طبعًا، إذا كان المقصود بهذه الأشكال ما يشبه أو يماثل حراك إسقاط النظام الطائفي في عام 2011 وتحرّكات العاملين والعاملات في القطاع العام والهيئة التعليمية (هيئة التنسيق النقابية) في عام 2013 واحتجاجات أزمة النفايات في حراك صيف 2015، فلقد كان لكل محطة من هذه المحطات أهميتها الخاصة وتوقيتها وظروفها والقوى الدافعة إليها. لكنها بقيت معزولة ومحصورة ومحدودة زمنيًّا ومكانيًّا وشعبيًّا، لذلك لم تشكّل هذه المحطات تهديدًا جدّيًّا للقوى المهيمنة على الدولة ولمصالح رأس المال، ولو أنها أزعجتها وأربكتها بهذه الدرجة أو تلك، وظهرت بين الحين والآخر كسنونوات لنهوض محتمل أو ممكن للنضال السياسي والاجتماعي والنقابي. لقد جاءت هبّة تشرين في سياق مختلف عن المحطات التي سبقتها، فلم تكن فئوية بالمعنى الضيق، أي تخص فئة معينة، ولا محصورة أو محدودة. ضمّت الهبّة مزيجًا واسعًا من فئات المجتمع اللبناني، على الرغم من انسحاب تدريجي من الشارع لأسباب كثيرة، لا سّيما بعد المجاهرة بموقف "حزب الله" ضد الانتفاضة ومحاولات الاستغلال الخارجي والداخلي واستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري والدخول في معمعة تشكيل الحكومة الجديدة وما رافقها.
لقد صنع الناس انتفاضة حقيقية وأعلنوا أنهم مستعدون للتغيير. وما حصل لاحقًا، أنهم أعطوا لمن يريد الفرصة لإظهار البديل أو على الأقل التقدّم لتحمل المسؤولية. والنتيجة هي الماثلة أمامنا اليوم، إذ يشعر الناس بمخاطر أكبر بكثير من المخاطر التي شعروا بها في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
"المجتمع المضادّ"
في كل المحطات السابقة وإلى الآن، دارت فصول من الحرب التي تشنّها الأوليغارشية دفاعًا عن نموذج من تراكم وتمركز رأس المال والثروة والسلطة، تستفيد منه قلّة تزداد نفوذًا. جاءت هبّة تشرين تعبيرًا عن تطور أزمة هذا النموذج نحو إفلاس الجهاز المصرفي وتعطّل نظام الائتمان واضمحلال السيولة النقدية بالدولار وانهيار سعر صرف الليرة الثابت، أي نهاية كل ما كان يسمح بشكل او بآخر باستمرار هذا النموذج لفترة طويلة.
قام هذا النموذج على انتزاع الملكيات العامة والخاصة والمضاربات العقارية وتغيير استخدامات الأراضي وشروط البناء وتدمير البيئة والاحتكارات التجارية والصناعية وتقاسم الامتيازات والرخص وعقود المقاولة والتوريد وتشغيل المرافق العامة والاستعاضة عن خدمات الدولة بخدمات بديلة عنها. بالإضافة إلى تكديس مديونيات هائلة على الدولة والأسر وتكديس ودائع ورساميل في المصارف مقابل هذه المديونيات. كانت هذه الممارسات التي تطبع كل نظام رأسمالي بهذا القدر أو ذاك طاغيةً في لبنان، كما في بلدان أخرى. وترافقت مع ما يسمّى "المرض الهولندي" والعجزين التوأم (الداخلي والخارجي) اللذين كان يتم تمويلهما عبر تحويلات المهاجرين وتدفقات الديون الخارجية وودائع غير المقيمين وما يسمى عمليات تبييض الأموال والمتاجرة بالولاءات.
على مدى أكثر من أربعة عقود، نشأ ما يمكن تسميته "المجتمع المضادّ"، إذا كان يصحّ استخدام هذا المصطلح، على غرار ما يعنيه مصطلح "الثورة المضادة"، مثلاً. ففي الحرب وبعدَها كانت مصالح اجتماعية ومهنية مختلفة تزداد ارتباطًا بهذا النموذج والنشاطات المرتبطة به، بما في ذلك الهجرة الكثيفة وتحويلاتها. وترسّخ نظام كامل الأوصاف، أقرب إلى "نظام حرب"، لا يحتاج إلى الاحتكام للدستور والقوانين في ممارساته وفض تناقضاته ونزاعاته واكتساب شرعيته. كما يمكنه في أي وقت أن يستغني كليًّا عن الانتخابات والتنظيمات وقوانين الموازنة، مثلا، ويستبدلها بتوافقات قادة/ زعماء (نظام الزعامات)، طالما ما زالوا محتفظين بقدرتهم على استخدام العنف أو التهديد به أو استجلابه لضمان توزيع الريوع وأشباهها في ما بينهم (نظام المحاصصة). لم يكن هذا النظامُ القائمُ بالفعل والمسلّمُ به هشًّا أو ضعيفًا، بل دعمته شبكة توزيعية ضخمة، يُطلق عليها البعض صفات "الهدر" و"الفساد" و"الزبائنية"، لكنّها كانت تسمح بضبط "المجتمع المضاد" وتوسيعه باطراد في مقابل زيادة تركّز ثروة الدخل باطراد. وهنا تشير التقديرات إلى أن شريحة الـ10% الأعلى دخلا يستحوذون على أكثر من 60% من مجمل الدخل ونحو ثلاثة أرباع الثروة، علمًا أنّ شريحة الـ1% الأكثر ثراءً ونفوذًا تستحوذ وحدها على أكثر من ربع الدخل ونصف الثروة.
نصف اللبنانيين فقراء
بصفتي صحافي، يملي عملي رصدَ المعلومات الاقتصادية والمالية والنقدية تحديدًا. لقد عبّرتُ منذ سنوات عن قناعتي أننا متجهون إلى أزمة كبيرة وشاملة وعلى المستويات كلّها، فالنظام عاجز وشبكة التوزيع تتعطل والمتغيرات الخارجية والداخلية ليست مساعدة أبدًا على التعامل مع هذه الأزمة كما في الأزمات السابقة، عندما كانت العوامل الخارجية تحديدًا تسمح بشراء المزيد الوقت، ولو بكلفة باهظة، وتدفع بالأزمة إلى الأمام لتأجيل إعلان انهيار وشيك.
بين عامي 1993 و2010 تدفقت رساميل وتحويلات إلى لبنان بقيمة تجاوزت 162 مليار دولار. غطّت هذه التدفقات الخارجية عجوزات تجارية بقيمة 135 مليار دولار في الفترة نفسها، وتحقّق فائض تراكمي في ميزان مدفوعات بقيمة تتجاوز 27 مليار دولار. سمح هذا الأمر بالمحافظةِ على احتياطات كبيرة بالعملات الصعبة، وبصمودِ سياسةِ تثبيت سعر صرف الليرة لجذب المزيد من التدفقات الخارجية وإشعار الطبقات الوسطى بمستوى معيشي وهمي مموّلا بالخسائر التي تم الاعتراف بها الآن. ولكن منذ عام 2011 انقلبت الآية، فتدفّقات الرساميل لم تعد تكفي لتمويل العجز التجاري المتنامي، الذي بات يمثل أكثر من ربع مجمل الناتج المحلي السنوي. بدأت الشكوك تتنامى، وارتفعت الدولرة أكثر وتعاظمت مدفوعات الفائدة على الدين الخارجي بمفهومه الواسع، أي الذي يشمل ودائع غير المقيمين، وفي الوقت نفسه انطلقت موجة هروب الرساميل من لبنان، لا سيما بعد احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية أواخر عام 2017.
في هذه الفترة بين عامي 2011 و2019، زاد عدد سكان لبنان بنسبة تتجاوز 30%، أو 5% كمتوسط سنوي، في حين أنّ مجمل الناتج المحلي لم ينمُ إلا بمتوسط 1.7% بين عامي 2011 و2017، وسجّل انكماشًا بنسبة -1.9% في عام 2018، وبنسبة -7% في عام 2019، ويُتوقع أن يسجّل -14% في هذا العام. ورزح ميزانُ المدفوعات تحت عجوزات سنوية متتالية على مدى العقد الماضي، وهي حالة لم يشهدها حتى في ظروف الحرب والاحتلال. أدّى هذا الأمر إلى استنزاف متواصل للاحتياطات بالعملات الصعبة، وعظّم الضغوطَ على الليرة، وأسفرت الهندسات المالية والقيود على العمليات والحسابات المصرفية والودائع عن تزايد حالات التعثر، كما فقد عشرات آلاف العمال والعاملات مصادر دخلهم كليًّا أو جزئيا وارتفعت البطالة والهجرة. وكان الفقراء اللبنانيون، وفق تقديرات البنك الدولي، يشكّلون 27.4% من السكان في 2011 و2012، وأصبحوا في 2018 يشكّلون ثلث السكان. ويُرجّح أن يكون نصفُ اللبنانيين قد أصبحوا فقراء (قبل أزمة الكورونا).
تزامنت هذه التطورات ذات التأثير العميق مع انفجار الصراع في سوريا وتدفق عدد كبير من اللاجئين السوريين إلى لبنان. سارت الأزمتان، اللبنانية والسورية، معًا وتداخلتا حتى طمست الثانيةُ الاولى، أو ظهر أن الأزمة في لبنان سببها ضغوط اللاجئين وصعود الصراع الإقليمي. غير أنّ المؤشرات لا تدعمُ هذا الربط، وقد تبيّن أن الدعم الخارجي، ولو المحدود، للاجئين السوريين في لبنان ساهم بإبطاء سرعة الأزمة التي تعتمل في المجتمع اللبناني واقتصاده ونظامه السياسي منذ وقت طويل، وتعلن عن نهاية حقبة سمحت لهذا المجتمع أن يعيش بمستوى أعلى من دخله ويرتهن للديون ونمو الودائع وتشجيع الهجرة وتسويغ الاحتكارات والفساد.
بين عامي 2016 و2019، خضع الناس في لبنان لضخ إعلامي ضخم يخبرهم "أننا نمرّ في ظروف حرجة جدًّا وخطيرة"، ويدعوهم إلى التقشف والقبول بمستوى عيش أدنى من المستوى الذي يعيشون فيه، وإلا سينهار كل شيء ونعيش في البؤس! ومن أجل ذلك، تم تقديم رواية للناس مفادها أنّ الإفراط في الإنفاق العام ودعم الكهرباء وزيادة الأجور وتدفق اللاجئين والعقوبات الأميركية وغيرها هي المسؤولة عن تنامي العجز المالي للدولة وتراكم المديونية والبطالة وأزمة السيولة، وأنّ حالتنا البائسة على الصعد كلها: البنية التحتية والخدمات الأساسية والبيئة والصحة والتعليم والسكن والوظائف والأعمال، كلّها نتجت من "طبقة سياسية" فاسدة لا عن اقتصاد سياسي فاسد.
كان البرنامج الوحيد المطروح أمام الناس هو تخفيض الأجور وزيادة الضرائب وإلغاء الدعم والخصخصة ومواصلة تسديد الديون. لكنّ الناس راحوا يكتشفون، شيئًا فشيئًا، أنّ سعر الليرة لم يعد مضمونًا، وقد بدأ ينخفض اعتبارًا من أيلول/ سبتمبر. كما اكتشفوا أنّ مدخراتهم وحساباتهم وأجورهم وتحويلاتهم صادرتها المصارف في الوقت الذي كان أصحابها وكبار مودعيها يهرّبون أموالهم إلى الخارج، وأنّ برنامج التقشف والضرائب والخصخصة والمزيد من الديون هو على حسابهم لا على حساب من حقق المكاسب الكبيرة سابقًا. لذلك، عندما طرحت الحكومة سلسلة إجراءات (من ضمنها الضريبة على الواتسآب) شعر الكثير من الناس أنهم باتوا معرّضين لهذا المستوى من المخاطر، حيث يجري الاستهانة بهم واحتقارهم كما لو أنهم غير موجودين. عندها خرجوا بكثافة إلى الساحات والشوارع وصبّوا جام غضبهم على الفساد المستشري، معتبرين أنه مصدر العلل كلّها، وعبّروا عن سخطهم على "السياسيين الفاسدين" وحمّلوهم المسؤولية المباشرة عن معاناة كل فئة اجتماعية أو شريحة مهنية والمخاطر التي تحدق بها والخسائر التي تتحملها أو تنتظرها. ولكنهم، على الرغم من طغيان خطاب الفساد، طالبوا بالعدالة الاجتماعية إلى جانب استرداد الأموال المنهوبة ورحيل "الطبقة السياسية الفاسدة" عن السلطة "كلن يعني كلن".
بالطبع، لا يمكن اختزال هبّة تشرين بالاقتصاد، لكن سيكون من الصعب جدًّا البحث عن أسبابها بعيدًا عن تطور أزمة نموذج تراكم رأس المال وانهيار سعر صرف الليرة والركود طويل الأمد وارتفاع البطالة والهجرة واتساع الفقر وتزايد اللامساواة في توزيع الثروة والدخل وإفلاس النظام المصرفي واستحقاق فواتير ضخمة دفعة واضحة، وفي مقدمها خسائر في ميزانيات مصرف لبنان والمصارف قُدّر مجموعها الصافي بنحو 83 مليار دولار. وما زالت هذه الأسباب قائمة وتتفاقم. وأعتقد انها ستبقى بمثابة فتيل الانفجار، لا سيّما أنّ الترتيبات لتوزيع هذه الخسائر تجري بغياب ممثلين وممثلات عن الانتفاضة، وبحضور كاسح لأطراف الأوليغارشية المالية ودعوات متزايدة لتدخّل صندوق النقد الدولي بقروضه وشروطه المؤلمة.
الفئات المشاركة
لقد تسنّت لي، بين تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وآذار/ مارس 2020، المشاركة في أكثر من خمسين لقاءً واجتماعًا عامًّا في الساحات في جميع المناطق. كما شاركتُ في معظم التظاهرات في بيروت. لا شك أن هذا النوع من التماس المباشر مع الانتفاضة لا يحل محل الأبحاث الاجتماعية المطلوبة لتشريح الانتفاضة ومكوناتها، إلا أنه يسمح بملاحظات مباشرة لجانب مهم وفاعل منها، وهو المتعلّق بالمشاركة التي كانت تستقطبها المجموعات المختلفة.
كان المشاركون في اللقاءات والاجتماعات من المستخدمين والمستخدمات في القطاع الخاص، هؤلاء الذين وجدوا القدرات الشرائية لأجورهم تتهاوى وهي محتجزة مع ادخاراتهم وتعويضاتهم في المصارف، وهم يرزحون تحت أكلاف معيشية مرتفعة وديون السكن والاستهلاك. فقد الكثيرُ منهم عمله أو يكاد، أو فقد الأجرَ أو جزءًا منه، ولم يعد يشعر بـ"الأمان الوظيفي". تشمل هذه الشرائح أساتذة من الجامعات والمدارس وموظفين في الشركات الخاصة قلقين على امتيازات "الوظيفة الدائمة". وهؤلاء، مع أصحاب مهن حرّة وأصحاب مشاريع صغيرة ومتوسطة وعاملين في مجالات الإعلام والفنون والمنظمات غير الحكومية، هم الذين طبعوا الانتفاضة بطابع الطبقات الوسطى. وكان لافتًا في هذا السياق ضعف حضور العاملين في القطاع العام.
ثم هناك عدد كبير من المتعطّلين عن العمل، لا سيما الذين أمضوا وقتًا طويلا في البحث عن عمل أو وظيفة وفقدوا الأمل. كان هؤلاء، إلى جانب شرائح من المتقاعدين والعمال المياومين، أكثر حضورًا خارج بيروت وضواحيها، لا سيما في طرابلس.
كان أيضًا هناك الطلاب الآتون من الجامعات الخاصة ومن الجامعة اللبنانية، ومن أسر عمالية وريفية فقيرة وأسر برجوازية مدينية، وخليط متنوع من أبناء الطبقات الوسطى، أسر مهنيين وموظفين في القطاعين العام الخاص وأصحاب مشاريع صغيرة ومتوسطة. كانوا إلى حد كبير بمثابة التمثيل الاجتماعي المقابل للمجتمع المضاد، أو المتفلت منه، على الرغم من أن الكثير من هؤلاء أتوا من أسر ارتبط مستوى عيشها بشبكة التوزيع التي قام عليها النظام الذي ينادون بإسقاطه. كانت مسائلُ الهجرة والبطالة وارتفاع كلفة التعليم أكثر ما شغلهم، لكنهم بدوا قلقين جدًّا على أهاليهم، مصير دخلهم وادخاراتهم وديونهم وكلفة صحتهم ورعايتهم.
لا تختزل هذه الملاحظات المباشرة لبنية المشاركة في اللقاءات العامة بنيةَ المشاركة في الانتفاضة، التي شهدت تغيّرات عدّة مع الوقت، لا سيما مع دخول أحزاب وقوى في السلطة عليها، سواء لاستغلالها وتوجيهها أو لقمعها ووأدها. أعتقد أن الانتفاضة عكست مشاركةَ قاعدة اجتماعية أوسع من حصرها في مفهوم فضفاض يسمى الطبقات الوسطى وأبعد من مركز هذه الطبقات المديني.
لا هذا الشعارُ ولا ذاك
في الحصيلة، لم يتحقق لا شعار "تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة عن أحزاب السلطة" ولا شعار "حكومة انتقالية تنظم انتخابات مبكرة". لكنّنا حصلنا على حكومة حسان دياب التكنوقراطية، وانقسام بين أحزاب السلطة في البرلمان، وانكفاءٍ في الانتفاضة، وجمودٍ في حركتها الشعبية لصالح حركيات متفاوتة للمجموعات الصغيرة والأحزاب، لا سيما "الحزب الشيوعي اللبناني". أعتقد أن هذه الصفحة انطوت وأننا أمام صفحة أخرى مفتوحة. ماذا سيحصل من الآن وصاعدًا؟ سنرى.
في الواقع، عبّر هذان الشعاران عن بعض مأزق الانتفاضة نفسها. فالأوّل كان تعبيرًا عن نظرة "تقنية" لإعادة تكوين السلطة. تنطلق هذه النظرة من أن المشكلة أخلاقية وتتعلق بالكفاءة وتقترح إحلال "الخبراء" محل السياسيين ليضعوا الحلول للاقتصاد والمجتمع والبيئة. وهذا بالفعل ما تمثله حكومة حسان دياب، مع فارق أن التكنوقراط فيها غير مستقلين عن أحزاب السلطة، بل هي التي سمّتهم ومنحت حكومتهم الثقة في البرلمان. أمّا الشعار الثاني، فكان تعبيرًا عن نظرة "أخلاقية" لانتقال السلطة تراهِن على تحمّل "الزعماء" مسؤولياتهم عن فشلهم، وتعتبر أن هذا الانتقال يمكن أن يكون سلميًّا، يقوده الشعب في الشارع، لا الجيش ولا الحزب القائد، ويؤدي إلى تغيير النظام السياسي عبر الانتخابات وتعديل الدستور وإصلاح النموذج الاقتصادي وإعادة تأسيس الدولة. هذه النظرة هي الأقرب إلى تشخيص الأزمة كأزمة بنيوية عميقة، لا أزمة فساد وفاسدين فقط ولا أزمة سوء إدارة أو جهل، بل أزمة اقتصاد سياسي وأزمة مجتمع، ولكنها أهملت كثيرًا تشخيص ميزان القوى الاجتماعي والسياسي، وأهملت أكثر الوسائل لتحقيق هذه الغايات.
هل كانت هذه الانتفاضة محكومة منذ البداية بهاتين النظرتين؟ أراد الناس إزاحة الملك عن عرشه، وكان اسم الملك هنا "كلن يعني كلن". وعلى الرغم من أنّ الخطاب تناول الأشخاصَ أكثر من البنى والعلاقات، إلا أن هذا الشعار كان يعني إزاحة النظام كلّه ومجتمعِه المضاد وشبكتِه التوزيعية وآلياتِه لإعادة توزيع الثروة والدخل، أي إزاحة بنيان راسخ ومصالح فتّاكة، وبالتالي كان يُصعب التفكير أن ذلك يمكن أن يحدث بسلاسة، فضلا عن أنه كان يحتاج إلى قوى دافعة إليه وقادرة على فرضه كبديل.
لقد شاعت النظرة التقنية، أي حكومة تكنوقراط مستقلة، ليس لأنها فكرة صحيحة بل لأنها بسيطة وسهلة ولا تستهدف تغيير النظام وإنما تحسينه. وبالتالي، لم يكن مستغربًا أن يحملها عدد كبير من الناشطين والناشطات في الحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية والأحزاب الليبرالية التي شاركت في الانتفاضة وبعضُ التيارات الديموقراطية واليسارية والعديدُ من "الخبراء" الذين ظهروا فجأة عبر وسائل الإعلام. وقد شاعت أيضًا لأنها لم تكن مستفزة كثيرًا لأطراف من البرجوازية اللبنانية التي بدأت تشعر بالخوف على مصالحها من تطور الأزمة وعجز القوى السياسية عن التعامل معها. لذلك أيدَت تشكيلَ حكومة تكنوقراط تعمل على تنفيذ الوصفة "النيوليبرالية" المعهودة مع بعض التنازلات في مسألة توزيع الخسائر. افترضَت هذه النظرة أن القوى السياسية المهيمنة على الدولة ستقبل بالتنازل طوعًا عن تسمية الوزراء، وستمنحهم ثقتها وتيسّر أمورهم في البرلمان، ولكن لم تقدّم هذه النظرة أي إجابة واضحة حول الظروف والكيفية، فمن سيسمّي هؤلاء الوزراء ووفق أي مشروعية؟
أمّا الحكومة الانتقالية، فكانت النظرة إليها أكثر صعوبة وتعقيدًا وتلعثمًا، لأنها احتاجت إلى ثورة تُنهي النظام القائم بالفعل وتنجز عملية انتقال السلطة. ولكن إلى من؟
لا بد من الإشارة إلى أن هذين الشعارين اقترنا غالبًا بإضافات لا تقل إشكالية، كمَنح الحكومة المستقلة، سواءً الانتقالية أو التكنوقراطية، صلاحيات استثنائية من برلمان لم يكن قد مضى على انتخابه سنة ونصف السنة، وفاز فيه الائتلاف الحاكم منذ عام 2015 بنحو 117 مقعدًا من أصل 128. أي أنه كان المطلوب من هبّة تشرين أن تُجبر القوى السياسية المهيمنة ليس على التنازل عن الحكومة فحسب بل عن البرلمان أيضًا بانتظار إجراء انتخابات جديدة، فضلًا عن سلطة القضاء إذا أضفنا شعار إقرار قانون استقلالية القضاء، وكلّ هذا وسط ميل واسع إلى شيطنة التمثيل والتنظيم والقيادة والتفاوض، وعدم ظهور أي آليات ديموقراطية شعبية تسمح بمشاركة الناس، مباشرة أو بالواسطة، باختيار قياداتهم وصياغة المطالب والدفع إلى تلبيتها.
نحو جبهة معارضة
يمكن اعتبار الانتفاضة نفسها بمثابة إنجاز. طبعًا سيبدو الأمر على غرار "الفن للفن"، لكنّه يبقى إنجازًا مهمًّا جدًّا بمعزل عمّا آل إليه. ويعتبر البعضُ تشكيل حكومة حسان دياب إنجازًا أيضًا، إذا كان المقياس يتعلق بمدى الاقتراب أو الابتعاد عن شعار تشكيل حكومة أخصائيين الذي كان يصدح على ألسنة كثيرة والذي سمح بمناداة هؤلاء لإعطاء الحكومة الجديدة الفرصة. ويمكن تعداد الكثير من الإنجازات منذ استقالة سعد الحريري وإسقاط ورقته الإنقاذية ومنع المجلس النيابي من الانعقاد مرتين لإقرار قانون العفو بالشكل الذي كان يراد تمريره، إلى إعلان تعليق سداد سندات اليوروبوندز والتعهد بإعادة هيكلة الدين والقطاع المصرفي.
لا شك أن الانتفاضة كان لها تأثيرها الكبير على كل ذلك، ولكن هل هذا ما نعنيه بالإنجازات؟
كان يمكن لهذه الانتفاضة أن تفرز أدوات ووسائل عديدة ومتنوعة لاستنهاض عمل سياسي منظّم ونضال اجتماعي على المدى البعيد، أو هذا هو الرأي الذي عبّرتُ عنه دائمًا. لذلك شاركتُ في تأسيس تجمع مهنيات ومهنيين وتجمع نقابة الصحافة البديلة. كما بحثتُ في فكرة إيجاد "إطار ديموقراطي منفتح" ذي ميول يسارية يسمح بالذهاب إلى بناء "جبهة معارضة" ببرنامج موحّد لإدارة السلطة وإدخال تغييرات بنيوية على النظام السياسي والمجتمع والاقتصاد. وكنت أرى الأزمة مديدة وردَّ الفعل عليها تراكميًّا. وأيدّتُ فكرة إيجاد أشكال من لجان الأحياء أو اللجان الشعبية للتعبير عن الصراعات الاجتماعية في أماكن العيش (السكن) التي كانت من دوافع أو محركات هذه الانتفاضة. لم تظهر مشاركةُ العمال والعاملات في الانتفاضة ضد رأس المال بصفته صاحب عمل، بل بصفته يمتص أجورهم بالإيجارات وأقساط القروض السكنية والشخصية وفواتير الكهرباء والاتصالات والمياه والنقل وأكلاف الصحة والتعليم، إلخ. وبالتالي كان يجدر إعطاء هذه الفكرة أهمية قصوى بدلًا من التردد في طرحها.
الأصعب آتٍ
لم تنجز انتفاضة تشرين ما يُفترض أنها مهمة رئيسة لها، وهي تخفيض مستوى المخاطر التي دفعت بشرائح عمالية ومهنية، من طبقات فقيرة ومتوسطة، إلى الشوارع والساحات. ما زالت هذه المهمة قائمة. وقد ارتفعت المخاطر بدلا من أن تنحفض، وهي تنذر بعواقب وخيمة في ظل آثار جائحة كورونا العالمية وتهديداتها الاقتصادية والاجتماعية. لذلك، مجدّدًا، ما زالت المهمّة قائمة، بل باتت أكثر إلحاحًا بعدما دخلنا في مرحلة توزيع الخسائر السابقة واللاحقة، بينما لا يوجد على طاولة المفاوضات إلا أطراف الأوليغارشية نفسها ومعهم عدد من "المستشارين" وموظفي صندوق النقد الدولي.
اعترفت الحكومة أخيرًا بصافي خسائر الجهاز المصرفي. لكن هذه ليست كلّ الخسائر، إذ تفيد التوقعات أننا سنمر بأوقات عصيبة جدًّا على مدى سنوات طويلة مقبلة: انكماش اقتصادي يزيد البطالة والهجرة، وتضخم مرتفع يقضي على ما تبقى من قدرات شرائية للمداخيل بالليرة، وشح مستمر في العملات الأجنبية قد يؤدي إلى نقص في السلع والمواد الأولية والتجهيزات. أي أنّ الفقر سيزيد بمعدّلات هائلة، وسيخضع المجتمع اللبناني إلى إعادة هندسة أقسى وأشد مما يُطرح على صعيد إعادة هندسة مالية الدولة والجهاز المصرفي.
هذا الوضع قائم منذ فترة طويلة، ولم ينشأ في ظل انتفاضة تشرين أو جائحة كورونا وليس سببه إعادةُ هيكلة الدين العام المفترضة. ما اختلف الآن أنّ الاعتراف بالخسائر بدأ، وهي تتعاظم مع الوقت وبالتالي حان الوقت لتوزيعها: من سيحمل كم؟ ما أحاول قوله أنّ الانتفاضة، كونها شكلٌ من ردّ الفعل على هذه الخسائر وتحميلها إلى فئات الدخل المتوسط والأدنى ورد فعل على التدهور المتواصل في مستويات المعيشة الذي أصاب حتى الأسر المدعومة بتحويلات المهاجرين، كان عليها أن تكتشف الطرق إلى إيجاد برنامج عمل سياسي يقوم على المطالب الاقتصادية والاجتماعية، أي محاولة تمثيل مصالح الفئات المتضررة في مواجهة مصالح الاطراف الأوليغارشية، لا سيما المصرفية والعقارية والتجارية.
لقد أسيء فهم مسألتي الفساد والريع، وتم التعامل معهما كما لو أنهما خارجتين عن النظام أو مصدر علله، في حين أن تجميع الأدلة وتحليلها يبرهن أنّ ما يسمى ريعًا أو فسادًا هو في صلب النظام، أو أنهما، على الأقلّ، نتيجةٌ أكثر مما هما سببين للأزمة. لذلك لم تخرج الانتفاضة بخطاب مفهوم وواضح حول التقشّف والخصخصة والضرائب والفوائد والنقود والأجور، أو التغطية الصحية الشاملة وتعويض البطالة والدخل الأساسي ونظام تقاعد للجميع والتعليم الإلزامي والمجاني وصيانة البيئة والاستخدام الأمثل للموارد والهجرة وغير ذلك. أريد أن أشدّد هنا أنّ ما أقوله لا يعني أنّ أحزاب ومجموعات وأفراد طرحوا مطالب أو رؤى، فما أقصده يتصل بالعمل على إيجاد قاعدة اجتماعية وبناء قوى سياسية تأخذ الانتفاضة إلى أهداف محددة.
أين الطبقة الثورية اللعينة؟
أظن أننا نطرح الإشكالية نفسها، من كان عليه أن يفاوض؟ وبأي صفة؟ وعلى ماذا؟ ومن أين سيكتسب المشروعية؟ أعتقد أن الأمر كان مرهونًا بقدرة الانتفاضة على إنتاج أطر تمثيلية قادرة على إقامة جبهة عريضة، أي شكلٍ يمنح التفاوض قوّة، وإلا في الوضع القائم، سينتهي الأمر إلى مفاوضات بلا طائل. وعلينا أن لا ننسى أن حكومة حسان دياب تزعم أنها تمثل هذه الانتفاضة وأنها تضم وزراء كانوا متحمسين لها.
في الواقع، ما آلت اليه الانتفاضة أنها باتت مقيّدة بعدم مشروعية أي مفاوض، وبالتالي بقيت خارج طاولة المفاوضات.
ختامًا، لا نزال في قلب الأحداث. والأزمةُ التي كانت من أسباب الانتفاضة تشتدّ قساوةً وتجرّ المجتمع اللبناني إلى أوضاع ليس سهلا التنبوء بها. لذلك أعتقد أنه من السابق لأوانه الحديثُ عن دروس. قناعتي تقول إنّ هبّة تشرين أخرجت المجتمع المقابل للمجتمع المضادّ، وكشفته كما هو في لحظة تصادم طبقي لا مزاح فيه. وسيكون الخيار الأسوأ أمام كل منّا أن نجلس في حجرنا المنزلي ونردّد سؤالنا الممجوج: أين هي تلك الطبقة الثورية اللعينة؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.