كثيراً ما يُقال إنّ التحليل السوسيولوجيّ التقليديّ - أي التحليل الذي ينطلق أساساً من أفكار كارل ماركس وماكس فيبر - لا يمكن تطبيقُه في المجتمعات العربيّة أو أنّه لا توجد «طبقاتٌ» في المجتمعات العربيّة. وهذا تعميمٌ يفتقر إلى الدلائل، على الأقلّ فيما يخصّ المجتمعاتِ العربيّة بعد الحرب العالميّة الأولى. ومن الواضح أنّه لا يمكن اتّخاذ موقفٍ ما من هذه القضيّة في غياب دراساتٍ واقعيّةٍ متخصّصة عن البُنى الاجتماعيّة العربيّة. وليس من الجائز، من وجهة نظرٍ علميّة، رفضُ التحليل الطبقيّ كليّاً على أساس ارتباطاتٍ أيديولوجيّة عَرَضيّةٍ فحسب.
من الضروريّ أن نؤكّد، بادئَ بدء، على الطابع التجريبيّ لهذا الاستقصاء. ذلك أنّ التحليلَ العينيَّ للطبقات مشروعٌ بالغُ الصعوبة. فهو من جهةٍ، يفترض مسبقاً معرفةً تامّةً بالمسارات والتقييدات الموضوعيّة التي تتميّز بها البنية أو البُنى الاجتماعيّة التي تشكِّلُ الطبقاتُ جزءاً منها، ومن جهةٍ أخرى، توافُر ثروةٍ من التفاصيل، خصوصاً فيما يتعلّق بالمؤثّرينَ اقتصاديّاً وسياسيّاً من الأفراد والعائلات وعلاقاتِهم المتداخلة وهي تفاصيل قليلاً ما تكون قريبةَ المنال.
والأهمُّ من ذلك أنّ الطبقاتِ في العراق كانتْ غيرَ مستقرّةٍ نسبيّاً، وعلى الأقلّ في جانبٍ كبيرٍ من الفترة الممتدّة منذ عام ١٩١٤. وبطبيعة الحال، فإنّ بنيةَ الطبقة، من حيث المبدأ، لا تتميّز بالثبات. ومع ذلك، فقد جرتْ بصورة مقارنة، تحرّكاتٌ سريعةٌ دخولاً إلى الطبقات القائمة أو خروجاً منها أو صعوداً أو هبوطاً داخِلَها. كما كانت ثمّةَ تحوّلاتٌ فجائيّة في علاقاتها المتداخلة. ونجمتْ هذه الحركاتُ والنقلاتُ عن عدد من العوامل شملتْ، من جملة أمورٍ أخرى، الغزوَ الإنكليزيَّ، واختراقَ رأسِ المال العالميّ وتقطيع أوصال الإمبراطوريّة العثمانيّة وانفصالَ ولاياتِ العراق العربيّة الشماليّة عن مناطقها التجاريّة الطبيعيّة في سورية، والبناءَ المتسارعَ لمؤسّسات الدولة الملكيّة، والكسادَ العالميّ عام ١٩٢٩، وسياسات تسوية الأراضي في العامَين ١٩٣٢و ١٩٣٨؛ والنقص الحادَّ والتضخّمَ المتصاعدَ خلال الحرب العالميّة الثانية وفي سنوات ما بعد الحرب، وخروجَ اليهود الجماعيّ في أواخر الأربعينيّات وأوائل الخمسينيّات، والتدفّق المفاجئ لأموال النفط
بعد عام ١٩٥٢، وثورة عام ١٩٥٨، والانقلاباتِ والانقلاباتِ المضادّةَ المتكرّرة في الستينيّات، واجتثاثَ السلطةِ الاجتماعيّة للملْكيّات الخاصّة الضخمة، والنموَّ المتعاظمَ للبيروقراطيّة في حياة الناس، والارتفاعَ الخارق للعادة في عائدات النفط في السبعينيّات وما لازَمَها من القدرة الماليّة للحكومة، واستقلالها الذاتيّ الاقتصاديّ عن المجتمع، ومسؤولياتها عن الحكم المطلق، وعملياتِ الهجرة الواسعة إلى المدن من الريف خلال العقود الأربعة الأخيرة من جانب رجال القبائل، وتزايدَ عدد سكّان بغداد بما يعادل ثلاثة عشر ضعفاً بين عامَي ١٩٢١ و١٩٧٨. يضاف إلى ذلك أنّ التحركاتِ داخلَ الطبقة الواحدة لم تقتصرْ على الأفراد والأسَر، بل شملتْ جماعاتٍ بأكملها: ويتجلّى ذلك في ارتفاع مكانة المكوِّن الشيعيّ في الطبقة التجاريّة في أعقاب خروج التجّار اليهود. وفي الوقت نفسه، فإنّ بعض العناصر الطبقيّة كانت تتقدّم في أحد المجالات وتتأخّر في مجالٍ آخر: إنّ إثراءَ كثيرٍ من ملّاك الأرض من شيوخ القبائل في ظلّ النظام الملكي (١٩٢١ - ١٩٥٨) على حساب جمهرة رجال القبيلة الآخرين، عن طريق فصم الصلات القبليّة، قد أضعفَ وضْعَهم الاجتماعيّ، وبعبارة أخرى، فإنّ هؤلاءِ الشيوخَ كانوا، في آنٍ معاً، يتبلورون كطبقة، ويتحلّلون كفئةٍ تقليديّة ذاتِ مكانة.
وفوق هذا وذاك، وكما لمّحْنا في الإيضاحات سابقةِ الذكر، فإنّ الطبقاتِ في العراق كانت تتكوَّن من عناصرَ متنوّعة. ومن هنا كان من الممكن تمييزُ ملّاك الأرض أو التجّار لا وفقاً لأصولهم الإثنيّة فحسب - بوصفهم عرباً، أو كرداً، أو تركماناً أو آراميّين أو من الأرمن فحسب - أو وفق معايير دينيّة - إلى سنّةٍ، أو شيعةٍ، أو مسيحيّين أو يهودٍ أو أيْزيديّين - أو على أساسِ مساحة الأرض التي يملكونها، أو مستوى دخْلهم أو رأسمالهم، أو درجة نفوذهم السياسيّ أو وجاهتِهم الاجتماعيّة، أو انسجامِ مصالحهم، أو عدم انسجامها مع الاختراق الاقتصاديّ الغربيّ، بل وفقاً لمعيارٍ مهمّ آخر: العناصر المختلفة أو الفئات المختلفة ذات المكانة داخل طبقة ملّاك الأراضي والتجار - أي، على سبيل المثال، ملّاك الأراضي من الأغَوات أو الشيوخ والسادة1، وملّاك الأراضي العلماء، وزعماء الطرق الصوفيّة، والمسؤولين الرسميّين من ملّاك الأراضي «الأرستوقراطيّين»، وملّاك الأراضي المضاربين، والتجار، و«الصيارفة»2، والصناعيّين، والضبّاط من ملّاك الأراضي الصيارفة سابقا3 - الذين يحملون، بدرجات متفاوتة، شاراتِ فئاتٍ اجتماعيّة مختلفة أو مراحل تاريخيّة مختلفة. ويعود ذلك، جزئيّاً، إلى أنّ العراق، في ظلّ الحكم العثمانيّ، كان، على ما فيه من تمايُزٍ، يتكوّن من مجتمعاتٍ مغلقة، مترابطةٍ بصورة واهية، كما يعود في جانبٍ منه، إلى اختراقٍ داخليٍّ حَقّقه شكلٌ اجتماعيّ يسعى إلى كسب المال والتوسّع في الملكيّة الخاصّة وقد تشكّلَ أساساً جرّاءَ ارتباط العراق مؤخّراً بأسواقٍ عالميّة تعتمد على الصناعة الثقيلة مع أشكالٍ اجتماعيّة أقدمَ تعطي قيمةً للنّسَب العريق، أو للعلم بالدين، أو للتمتّع بالقداسة أو للسطوة القتاليّة في الغزوات القبليّة، وتهيمن عليها، إلى حدٍّ بعيد، الوشائجُ المحليّة والأعراف المحليّة، والصناعات اليدويّة الخفيفة أو منتجات زراعة الكفاف، وخارج البلدات. تسيطر عليها الدولةُ أو أشكالٌ للملكيّة ذاتُ طابع قَبَليّ جماعيّ.
تُرى، هل يعني تنّوعُ العناصر التكوينيّة في الطبقات في العراق والاختلافاتُ في أوضاع تلك العناصر أنّها، إذا توخَّينا الدقّةَ، لم تكن طبقات؟ إنّ الإجابةَ عن هذا التساؤل تستلزم القيامَ بمحاولةٍ أوّليّة للتوصّل إلى تحديدٍ دقيقٍ للطبيعة الجوهريّة للظاهرة.
١. الطبقة وسِماتُها المميّزة
ما هي الطبقةُ؟ وما السماتُ المميِّزة لها؟ إنّني هنا أواجهُ مغبّةَ اتّهامي بالسذاجة غير أنّني، توخّياً للوضوح سأقول، أوّلاً، إنّني أتمسّك بالموقف السوسيولوجيّ المأثور وهو أنّ «الطبقة» في جوهرها، هي تكوينٌ يقوم على أساسٍ اقتصاديٍّ، مع أنّه يشير آخرَ الأمر إلى الوضع الاجتماعيّ، بشتّى جوانبه للأفراد والعائلات المكوِّنة لها. وثانياً، وانطلاقاً من الموقف نفسه، فإنّ فكرة «الطبقة» تتطلّب أو تفترض مسبقاً فكرة «اللامساواة»، وتنطوي بالتالي على وجود طبقةٍ أخرى على الأقلّ أو، بالمعنى المقابل، مجرّد طبقةٍ رئيسة أخرى، جنباً إلى جنبٍ مع طبقات صغرى - و«اللامساواةُ» هنا تشير أساساً إلى «الملكيّة». وبصراحة، فإنّ من الصعب عليّ أن أخالفَ جيمس ماديسون4، وكارل ماركس5، وماكس فيبر6 في تأكيدهم على أنّ «الملكيّة» و«عدم الملكيّة» يشكّلان العنصرَين الجوهريّين للوضع الطبقيّ، وأنّ هذا التناقضَ ينطوي على بذور علاقةٍ عدائيّة. والقبول بهذا الوضع لا يعني القبولَ بسلسلةٍ من المفاهيم التي يُلحقها به كلٌّ من هؤلاء المفكّرين الثلاثة، أو ما تنطوي عليه من افتراضات أو تداعيات7، إلّا إذا كانت بطبيعة الحال، قابلةً للتحقّق الإمبيريقيّ أو يمكن تطبيقُها على الحالة المطروحة. وفي الوقت نفسه لا مجال للشكّ في أنّ «الملكيّة» تتنوّعُ في طبيعتها وأهمّيّتها تبعاً لتنوّع الظروف، ولا يمكن فهمُها إلّا في سياقها التاريخيّ المحدَّد.
وما من شكٍّ كذلك في أنّ الطبقة ظاهرةٌ متعدّدةُ الأشكال ومتبدّلة الأوجه. فقد توجد بصورة متميّزةٍ خاصّة بها وحدَها، أو كعنصرٍ في جماعة مكانة (كقطاع ملّاك الأراضي داخلَ مجموعة من الشيوخ القبليّين) أو أنّها قد تضمّ عدّة جماعاتِ مكانة مختلفة، كما لمّحْنا سابقاً. وقد تشمل إحدى «النخب» (مثل «الأرستقراطيّة العمّالية») أو «جمهرةً» (مثل أغلبيّة العمال). وبهذا المعنى، فإنّ «النخبةَ» و«الطبقة» ليستا مفهومين متطابقَين حصريّاً. والطبقة قد تضمّ طبقاتٍ فرعيّةً عليا أو وسطى أو دنيا.
وقد تكون الجماعاتُ الواقعةُ داخلَ الطبقات نتيجةً لظروفٍ طبقيّةٍ قائمة (مثلاً، بروز التجّار، مقابلَ انهيار التجّار فيما يتعلّق بالثروة)، أو قد تكون فئةً ناجيةً من وضع اجتماعيٍّ سابق (مثل تجّار المكانة العليا المعروفين باسم الجلبي) أو تكويناتٍ جديدة تماماً (مثل الضبّاط من ملّاك الأراضي الصيارفة سابقاً) وقد تكون هذه الجماعات محصّلةً للارتباط بين بُنية مكانةٍ قديمة وبُنية طبقةٍ جديدة (كما في حالة السادة القبليّين من ملّاك الأراضي).
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الجماعاتِ الواقعةَ داخل الطبقات، كثيراً ما تكون، من حيث أصولُها على الأقلّ، ذاتَ طبيعةٍ غير اقتصاديّة: فقد يكون الأساس الأوليّ الذي قام عليه وصفُها عسكريّاً، أو دينيّاً، أو سياسيّاً - إداريّاً، إلخ. (كما هي الحالة بين الشيوخ القبليّين، والعلماء، والمسؤولين «الأرستقراطيّين» على التوالي).
ومن وَضعٍ عيانيٍّ إلى وضعٍ عيانيّ آخر، تختلف العلاقة بين الجماعات الواقعة داخل الطبقات، أو بينها وبين الطبقة نفسها. كما أنّ الطبقاتِ الفرعيّة قد ترتبط إحداها مع الأخرى مثلما تفعل الطبقات المتميّزة. وفي العراق، على سبيل المثال، يقف ملّاك الأراضي الأكبر والأصغر على جانبين متقابلين، أو أنّهما يتبنّيان نزعاتٍ سياسيّةً متعارضة كما حدث خلال السنوات الثوريّة بين عامَي ١٩٥٨ و١٩٥٩.
لا يصحّ، إذن، تعريفُ طبقةٍ ما رسميّاً بوصفها تجمّعاً من الناس يتميّزون بعلاقةٍ مشتركة أو متشابهة مع وسائل الإنتاج، ما دام الفرقُ في درجة أو مدى الملكيّة أو السيطرة على وسائل الإنتاج يمكن أن يكون من الاتّساع بحيث تشكل بنتائجها الاجتماعيّة فرقاً نوعيّاً لا مجرّد فرق كمّيّ فحسب.
إنّني أقبل بوجهة النظر القائلة بأنّه لا يُفترَض بالطبقة، خلال وجودها التاريخيّ، أن تتصرّف أو تشعر كوحدة، بل إنّها لا تفعل ذلك في واقع الأمر. وبعبارة أخرى، لا يفترض في الطبقة أن تكون واعيةَ ذاتيّاً. بيد أنّ ذلك لا يعني أنّها على هذا الأساس، مجرّد مقولةٍ فكريّة، وأي شيء مدسوس على الواقع من جانب العقل. إنّ أعضاء طبقةٍ ما قد لا يكونون واعين طبقيّاً في سلوكهم غير أنّ سلوكهم يكون مع ذلك مشروطاً طبقيّاً. ومن الواضح أنّ تشابهاً معيّناً في الوضع الاقتصاديّ لإحدى المجموعات، على الرغم من الفروق بين أفرادها في نواحٍ أخرى، قد يولّد تشابهاً معيّناً في المصالح والميول، مع أنّ ذلك قد يظلّ خافياً عن أنظارهم.
بالإضافة إلى ذلك من الضروريّ التمييزُ بين الشعور أو الوعي الطبقيّ الديناميّ من جهة والسلبيّ من جهة أخرى: ففي العراق في ظلّ النظام الملكيّ، فإنّ الفلّاح الذي لا يملك أرضاً، حتى في البقاع النائية التي لم تمسسْها المؤثّراتُ الأيديولوجيّة، كان يعي المسافةَ الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تفصله عن شيخه الملّاك. لقد كان يعرف، عل سبيل المثال، أنّه لا يستطيع أن يطمح إلى الزواج من ابنة الشيخ، ومع أنّه قد لا يكون واعياً لعلاقةٍ مشتركة مع الفلّاحين في ضيعٍة أخرى أو منطقة أخرى، فإنّه يدرك كلّ الإدراك أنّ الفلّاحين الذين يكدحون معه يشاركونه فقره، ولكنّه، في أغلب الأحيان، يستسلم لوضعه بوصفه قدَرَه المحتوم، ولا تحدوه الرغبة في تغييره.
قد يبدو عند هذا الحدّ أنّني لم أكن أعرّف مفهوم الطبقة، بل أتملّص من تعريفه. والواقع أنّني كنت أؤكّد واقعيّة الجوانب الموضوعيّة للطبقة - وتمييزها عن الجوانب الذاتيّة، أي كنتُ أؤكّد واقعيّة ما دعاه ماركس، بلغة هيغل، «طبقة بذاتها». والسيرورة التي تتبلور فيها طبقةٌ ما وتتحوّل إلى كيانٍ اجتماعيّ مستقرٍّ نسبيّاً، يمكن تعريفُه بدقّة، ويتميّز سياسيّاً بالوعي، أي إلى «طبقةٍ لذاتها» هي عمليّة مركّبة جدّاً تعتمد على ترابُط ظروفٍ عيانيّة بعضُها مع بعض.
الطبقات والارتباط بالسوق
في ضوء الإيضاحات سالفة الذكر، ينبغي التأكيد على أنّ الطبقات في العراق هي، إلى حدٍّ بعيد، نتيجةُ انضمام البلاد تدريجيّاً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى السوق البريطانيّة الإمبراطوريّة القائمة على الصناعة الضخمة. وقبل ذلك، لم تكن الملكيّة الخاصّة، أي التملّك الخاصّ لوسائل الإنتاج، موجود خارج نطاق البلدات والمناطق الداخليّة، بل إنّها كانت، حتى في البلدات، تقوم على أساسٍ متقلقل، وباستثناء وقف الضرّاء8، فإنّها كانت تتعرّض للمصادرة. ففي بغداد العهدين المملوكيّ والعثمانيّ، أي بغداد المرحلة الممتدّة بين العامين ١٧٤٩ و١٨٣١، لم يكن تراكم الملكيّة أو الثروات - ربما باستثناء العائلات ذات المنزلة الدينيّة المتعارف عليه - يتمتّع بالإعفاء، لأنّه كان يثير الحسدَ والطمعَ في نفوس الحكّام الباشوات. وبالتالي، فإنّ «الملكيّة» لم تكن هي الأساس الغالب للتراصف الاجتماعيّ آنذاك. ومن المؤكّد أنّ «الطبقات» كانت موجودةً في المناطق الحضريّة، ولكن بصورةٍ أوّليّة وعلى هيئة بُنى موازية داخل الجماعات الدينيّة المتعارف عليها. وقد ظلّتْ تحتفظ بطابعها الاقتصاديّ الخالص ولم تكتسب جانباً سياسيّاً. وعلاوةً على ذلك، فبالنظر إلى أنّ العراق كان يتكوّن من مدنٍ - دول واتّحادات قبليّة معزولة نسبيّاً، تتمتّع بما يشبه الاستقلالَ الذاتيّ أحيانا، فإن روابط «الطبقة» الحضرية كانت في جوهرها أمْيلُ إلى أن تكون الروابط المحلّيّة وليست الروابط المتّسعة التي تشمل جميع أرجاء البلاد، إلّا في حالة بعض الصيارفة والتجّار، ولا سيّما تجّار الترانزيت الذين كانوا يعملون داخل أُطُرٍ أكثر اتّساعاً، ويحتفظون بارتباطاتٍ طبقيّة حضريّة - قبلية، وبَينيّة عربيّة، وحتى دوليّة.
ولئن كانت «الملكيّة» أو الطبقات ظواهرَ ثانويّة، فما هي الأسُس والأشكال الأكثر أهمّيّة في التراصف في العراق خلال العهد المملوكي؟ فنظراً إلى تعدّديّة مجتمعاته وعُزلتها الجغرافيّة النسبيّة، فإنّ تضاريسه البنيويّة كانت معقّدة إلى حدٍّ ما.
كانت البنى الاجتماعيّةُ في مختلف البلدات والمناطق، على الرغم من امتلاكها لسِماتٍ مشتركة، مختلفة جراء الاختلاف في وظائفها التاريخيّة أو ظروفها الطبيعيّة، ومن الواضح أنّ الطابعَ الاجتماعيّ لبلدةٍ - سوقٍ قبليّة خالصة، مثل «سوق الشيوخ»، كان يختلف بصورةٍ حادّة عن طابع مدينةٍ شيعيّةٍ مقدّسةٍ ومركزٍ للحجّ، مثل النجف، أو طابع بغداد التي كانت منذ أمدٍ بعيدٍ مركزاً رئيساً للحكم وملتقىً تجاريّاً مهمّاً على الصعيد العالميّ. من هنا، فإنّ السادنَ القيّم على ضريح الإمام عليّ في النجَف كان هو الشخص الأكثر ثراءً والحاكم المطلق في المدينة في آنٍ معاً، بينما كانت السلطة في سوق الشيوخ تتركّز على الأرجح في أيدي أحد كبار التجّار الذين كانوا شيوخاً قبليّين أو من عائلات الشيوخ الذين كانوا قد أثْروا من متاجرَتهم بالبضائع التي غنِموها من الركبان. ومرّة أخرى، فإنّ البنى الاجتماعيّة المحلّيّة أو الإقليميّة لم تكن تتحّمل الآثارَ الناجمة عن أحداثٍ طبيعيّةٍ مثل الفيضانات المدمّرة المتواترة في المناطق الوسطى والجنوبيّة في العراق، وغياب الفيضانات الذي تتميّز به المناطقُ الشمالية. ويتعلّق ذلك، في رأيي، بالانفراج أو الانفتاح النسبيّ الذي تتميّز به أشكالُ الحياة الاجتماعيّة في بغداد، وإلى حدٍّ ما، درجةُ ثباتها في الموصل. ولا بدّ من أنّ هذا العامل نفسَه، بالإضافة إلى حركات عددٍ أكبر من المزارعين القبليّين العرب، قد لعب دوراً في إنقاذهم من الأوضاع القريبة من السخرة التي يعيشها الفلّاحون الكردُ التقليديّون في كردستان، وهم من المساكين غير القبليّين.
ومهما كان الأمر في بغداد، التي طرأ التحوّل على أوضاعها الاقتصاديّة مع التدفّق والانحسار في تجارة الترانزيت عبر العراق مع تقلّبات الصراع بين حكّامها والقبائل المحيطة بهم حول المناطق المنتجة للغذاء في دجلة والفرات، فإنّ عدداً من مبادئ التراصف كانت تفعل فعلَها في وقتٍ واحد. فبالإضافة إلى تراتبيّة الثروة الهرميّة، كانت هناك التراتبيّات الدينيّة: المسلمون فوقَ المسيحيّين واليهود والصابئة، والطائفية: السنّة فوق الشيعة، والجماعات الإثنيّة: الجورجيون [الذين تعود أصولهم إلى منطقة جنوب القوقاز] والأتراك فوق العرب والكرد والفرس، ومراكز القوّة: الجورجيّون الأحرارُ فوق الجميع. كما كانت ثمّة تراتبيّة المكانة. حيث تصدّرَ الباشواتُ الجورجيّون الجماعاتِ المهيمنة اجتماعيّاً، ومعهم كبار الضبّاط العسكريّون والموظّفون المدنيّون، والسادة وزعماء الطرق الصوفية والفئة العليا من العلماء السنة، الذين كانوا، في الغالب، من السادة، وكذلك الجلبي، الذين كانوا تجّاراً من ذوي المراكز الاجتماعيّة العليا. وكانت أوضاع الجلبي تعتمد أساساً على الثروة، وأوضاع الجورجيّين على ما يشبه الاحتكارَ لوسائل العنف، وإلى روح التضامن بينهم باعتبارهم عبيداً سابقين، وتدريبهم العسكريّ والإداريّ الدقيق الذي جلب لهم الامتيازات، واطّلاعهم الوثيق على الشؤون المحلّية، وأحلافهم المتكررة مع السادة، وزعماء أخويّات المتصوّفين، والفئات العليا من العلماء، الذين اكتسبوا شرعيّتهم دينيّاً ومن نُبل المحتَد (أي ما يدّعونه من الانتساب إلى الرسول محمد أو أحد الأولياء) أو من معرفتهم بالشرع. وفي الجانب السفليّ من سلّم المراتب، تقع جمهرةُ العلماء، والتجّار الأدنى مرتبة، والصنّاع المهرة.
كانت هناك بالطبع درجةٌ عالية من التطابق والتلاقي بين هذه التراتبيّات جميعها، أي أنّ مَن يقعون في أعلى سلّم السلطة كانوا يميلون كذلك إلى أن يكونوا في القمّة من حيث الثروةُ أو الانتماءات الدينيّة، أو الطائفيّة، أو الإثنيّة، أو تلك المتعلّقة بالمنزلة الاجتماعيّة.
تجدر الإشارةُ هنا إلى أنّه، بسبب التعثّر المتكرّر في تجارة الترانزيت، والصراع المتواصل بين بغداد وهذا أو ذاك من الأحلاف القبليّة المحيطة بها، والعلاقات المحفوفة بالمخاطر بين المماليك والسلطان العثمانيّ، فإنّ السلطة السياسيّة، شأنها شأن المِلْكية لم تكن مستقرّة: فمن أصل تسعة من الباشوات المماليك، أطيح واحدٌ، وأُعدم ستة.
حين نتحوّل إلى الأرياف، سنلاحظ أنّ البنية القبليّة كانت موجّهةً لأداء الدور العسكريّ. وهذا الوضع هو ما حدّدَ، إلى حدٍّ بعيد، التراتبيّة القبليّة القائمة. ومن هنا، ففي الأراضي المنبسطة التي يقطنها العرب، فإنّ أهل الإبل المتحرّكين، المحاربين الذين يجمعون الأتاوات يهيمنون ويحتقرون ويأنفون من الزواج من أهل الغنم (أو «الشويها»)، أو السبخات («المعدن)»، أو المزارعين («الفلاليح»)9. ومن هؤلاء تبرز جماعاتُ المراتب المسيطرة - شيوخ المشايخ (زعماء الأحلاف القبليّة). ويماثلهم في كردستان الجبليّة البيهوات والأغوات القبليّون، الذين تحدّروا من الفرسان البدو الذين تسيّدوا على الفلّاحين غير القبليّين، واعتمد موقع هذه الجماعات القياديّة بصورة أساسيّة على علوّ شوكتهم المتفوّقة وسطْوتهم العسكريّة، وعلى النسَب ونُبل المحتد، وبالنسبة لجمهرة من يسودونهم من رجال القبيلة وليس بالضرورة من القبائل الموالية لهم، على العادات والأعراف القبليّة التليدة.
لقد وجَدَ التراصفُ الاجتماعيّ في ذلك الوقت، مثلما وجد بعد ذلك، تكريساً آيديولوجيّاً في القرآن:((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)) (الزخرف: 32). ويضاف إلى ذلك ((وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)) (النحل:71)10 ويمكن الاستدلال على الأهمّيّة التي يوْليها الشرع للملكيّة من أن «الملكيّة» كانت، كما أشار ابن خلدون11، واحداً من مقاصد الشرع الضروريّة الخمسة - والأربعة الأخرى هي «الدين، والنفس، والعقل والنسل» - طالبت الشريعة بالحفاظ عليها لأنّه لا يمكن الاستغناء عنها. ويميل التراصفُ إلى أن يتعزّز كذلك بمبدأ الكفاءة الشرعيّ، أي المساواة أو التناسب في الزواج: فالزوج لا يمكن، أساساً، أن يكون في مرتبةٍ أدنى من مرتبة الزوجة من حيث المولدُ أو المهنةُ أو الثروة من أجل تفادي أيّ انتقاصٍ من منزلة والدها أو عائلتها الاجتماعيّة. ومن العناصر ذات العلاقة في قضيّة التراصف أنّ العرب يدركون، أو كانوا يدركون أهمّيّة الأنساب. إنّ أهل المدن، بصفةٍ خاصّة، يعلّقون أهمّيّةً قصوى على أصالة الحسَب والنسَب. ومن هنا، فإنّ كثرةً من العائلات المرموقة تحرص كلّ الحرص على التدليل على انتسابهم إلى عائلة النبيّ أو إلى أحد القادة البارزين أيّام الفتوحات العربيّة، مثل خالد بن الوليد، أو إلى أحد الأولياء المعروفين أو إحدى القبائل المرموقة.
٢. توزيع الملكيّة في الريف
لا يمكن في هذه الورقة تتبّعُ الآثار بعيدةِ المدى التي خلّفَها على الأعراف والبُنى القائمة تحوّلُ العراق التدريجيّ في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى مساعدٍ للنظام الرأسمالي الصناعي - وهو عاملٌ حاسمٌ جدّاً في الدراسة الاستقصائيّة التي بين أيدينا - وما لازَمَه وصاحَبَه من وقائعَ وسيرورات. وسنكتفي هنا بمناقشة ملامحها العريضة، ومن ناحية آثارها على تكوين ونشوء الطبقات فحسب.
تَمثّل التغيّر الأكبر في هذا المجال في الترسيخ، والتوسّع، وفيما بعد التركّز المكثَّف للملكيّة الخاصّة. في عام ١٩٥٨، كان ٢٤٨٠ شخصاً يملكون ١٧،٧ مليون دونم12، وكانت ٤٩ عائلة تمثّل بالفعل نواة مُلّاك الأراضي. تمتلك ٥،٤ ملايين دونم، أي ٥٥،١ بالمائة و١٦،٨ بالمائة على التوالي من الأراضي الزراعيّة المملوكة ملكيّةً خاصّة. وفي الوقت نفسه، كان ثمانون بالمائة من العائلات في العراق لا يملكون شيئاً.
كان تقدّمُ وتركُّز الملكيّة الخاصة ينبعان، جزئيّاً، من واقع أنّ الحراثة القبليّة التقليديّة، الذي كان في جوهره محليّاً، أو قائماً على ما يشبه الكفاف، أو خاضعاً للنظام الرعويّ، قد أفسح المجالَ لزراعةٍ مستقرّة تتّجه نحو السوق. ومن العوامل المساعِدة الأخرى الدورُ الأكبر الذي لعبَه المال، وارتفاع مستوى المضاربة في مجال العقارات، استحواذ الشيوخ والأغوات المحاربين القدامى على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الميري التي تملكها الدولة بغير حقّ أو دفعٍ أي مقابل، ووضع الملكيّة على أسس عدليّة أكثر صلابة، وبشكل أساسيّ عن طريق استخدام قوانين الأراضي لعامَي ١٨٥٨ و١٩٣٢، وتضمّن ذلك، بدوره، التعزيزَ والتركيز المتعاظميْن لسلطة الدولة، وإلى جانب ذلك، انتشار وسائل الاتصال، ونموّ البلدات، وشيوع الأفكار، والأساليب الأوروبية، وانتشار العلاقات القائمة على تملّك الأراضي على حساب علاقات القربى، والتداخل المتبادل الأوسع بين مختلف أجزاء المجتمع.
البُنى التقليديّة والبُنى القائمة على الملكيّة
كان لا بدّ في هذه الحالة من أنّ العلاقات التي كانت قائمةً بين العراقيّين على أساس القربى أو المركز الدينيّ أو كرم المحتَد قد غدتْ تعتمد أكثرَ فأكثر على الممتلكات المادّية. واكتسبت الملكيّة أهمّيّةً أكبر كأساسٍ للتراصف الاجتماعيّ والمكانة على سلّم السلطة مع أنّها لم تلعب دورها كاملاً جرّاء منزلة العراق كنظامٍ ملكيّ مستقلّ ونفوذ البريطانيّين في الأوضاع البنيويّة.
لم تختفِ عناصر البُنى الاجتماعيّة التقليديّة ومَقولات التفاهم والقيَم الملازمة لها بل بقيتْ حيّة، وإن بأشكالٍ مخفّفة، إلى جانب النزعات الفكريّة الجديدة والعناصر البنيويّة والمبادئ الجديدة. والواقع أنّ المجموعة نفسَها غالباً ما كانت تحمل سماتِ البُنيتيْن السابقتين بشكلٍ مُدْمَج. وهكذا فإنّ الشيوخ والسادة من ملّاك الأراضي كانوا خلال المرحلة المَلَكية، جزئيا، جماعةَ مكانةٍ تقوم على أساس التقاليد أو تمتُّعٍ بسند دينيّ ويكونون، جزئيّاً كذلك، طبقة متميّزة. وكان تحولهم من جماعة مكانة إلى طبقة عملية بطيئة ودقيقة التفاصيل، غير أن أملاكهم كانت، بحلول خمسينيات القرن وبصورة واضحة هي المحدِّد الأكثر حسماً لمركزهم الاجتماعي من منزلتهم التقليديّة.
وثمّة نقطةٌ أخرى تستحقّ التأكيد بصفة خاصّة. ففي العقود المبكّرة الأولى من العهد الملكي - في العشرينيات والثلاثينيات - فإنّ العناصر المختلفةَ لطبقة الملّاك المسيطِرة اجتماعيّاً - وهم السادة القبليوّن والحَضَر، والشيوخ القبليون والأغوات، والمسؤولون «الأرستقراط»11والضبّاط الأشراف السابقون - كانوا يتنافسون فيما بينهم على السلطة، والوجاهة والملْكيّة. ومع ذلك، فإنّ هؤلاء العناصرَ أنفسهم قد رصّوا صفوفهم وتكاتفوا في الأربعينيّات والخمسينيّات لإيضاح مصالحهم المشتركة إزاء قضايا في غاية الأهمّيّة، أي موضوعات مثل إعفاء طبقتهم من الضرائب وإقصاء الطبقات الأخرى فعليّاً عن تولّي مناصب مهمّة في الدولة، والأهمّ من ذلك، حماية النظام الاجتماعي الذي كانوا جميعاً يفيدون منه. وكان من جملة الآليّات التي جرى تنسيقُ تحرّكاتهم وفقها مجلس الوزراء والبرلمان الذي كانوا يسيطرون عليه تماماً، وكذلك، لبعض الوقت، حزب الاتّحاد الدستوري، الذي كان التعبير التنظيميَّ الأوضح للمصالح الذاتية آنذاك.
ومن الواضح أنّ الفئة العليا من ملّاك الأراضي كانوا ما زالوا طبقًة جنينيّة أو «طبقةً بذاتها» أو، حسب تعبير ماكس فيبر، مجرّد «قاعدةٍ محتملة للعمل الجماعي»، ولكنّهم تحوّلوا في الأربعينيّات والخمسينيّات، بشكلٍ واضح كلّ الوضوح، إلى «طبقةٍ لذاتها» أي إلى جماعةٍ متميّزة وواعية لذاتها من الوجهة السياسيّة.
كان الحفّاز المحرّكُ لوحدتهم هو الخطر المتصاعد الذي يهدّد وضْعهم الاجتماعيّ من جانب الطبقات المتحفّزة التي كانت، على عكس فئة الملّاك العليا، تعاني من نتائج ضَم العراق إلى سوقٍ عالميّة تعتمد على الصناعة الثقيلة، أي بعيداً عن الصناعات المحلّيّة القديمة المنهارة أو المتداعية التي كانت تعتمد على أساليب الحراثة القبليّة التقليديّة أو صناعات الحرَف وبناء السفن أو وسائل النقل القديمة (كالجمال والسفن).
في هذه المجالات وما يتعلّق منها بالتغييرات والانخلاعات البنيويّة، امتدّتْ جذور أحزاب وحركات المعارضة المهمّة، بما فيها الشيوعيّون، والضبّاط الأحرار، والبعثيّون. ومن هذه المصادر نفسِها تدفّقت التيّارات الانتفاضيّةُ التي وجدتْ أقوى تعبيرٍ عنها في «الوثبة» عام ١٩٤٨ وفي ثورة تموز / يوليو ١٩٥٨.
كان الحزب الوطنيّ، الذي اتّخذَ موقف المعارضة الحازمة من النفوذ الإنكليزيّ، قد أرسى جذورَه خلال العقد الأوّل من العهد الملكيّ في أوساط الحرفيّين الذين أدّى تدفّق البضائع المصنّعة آليّاً إلى فقدانهم لسبل عَيشهم التي ورثوها أباً عن جدّ. وكان للشيوعيّين في بغداد، منذ الأربعينيّات وما بعدها، واحدٌ من أكثر قواعدهم منعةً في حيّ باب الشيخ. وهو مركزٌ لصناعة الأنسجة اليدويّة التي كانت ناشطةً مزدهرة ذات يوم. وكان فريق الضبّاط والبعثيّون يجتذبون كثيراً من عناصرهم المتحفزّين من أوساط العائلات الشماليّة العديدة التي انتقلتْ إلى العاصمة، وتخلخلتْ حياتُها الاقتصاديّة جرّاء الحدود الجديدة مع سورية، أو انهيار صناعات مثل إنتاج العباءات (الأردية الصوفيّة) في مدينة عانة أو الكلاك (الزوارق المصنوعة من جلد الحيوانات المنفوخ) في مدينة تكريت. وقد جاء أغلب الدعم الذي تمتّع به الشيوعيّون خلال «الوثبة» ١٩٤٨ أو خلال «حمامات الدم» عام ١٩٥٩ أو الأيّام المريرة في شباط / فبراير ١٩٦٣، من الشروقيّين في بغداد، وهم من الفلّاحين القبلّيين المهاجرين الوافدين من ريف العمارة، الذين تأثّرتْ معيشة الكفاف التي كانوا يعيشونها جرّاء العلاقات الزراعيّة الجديدة باستخدام مضخّات الريّ بلا حسيبٍ أو رقيبٍ من ملّاك الأراضي في الكوت وبغداد. ومرّةً أخرى، كان ما لا يقلُّ عن ٣٣ بالمائة من مجمل العضويّة في اللجان المركزيّة للحزب الشيوعيّ بين عامَي ١٩٥٥ و١٩٦٣ يتحدّرون من السادة من ذوي الموارد المعتدلة والقادمين من بلدات الريف الصغيرة التي تعثّرتْ اقتصاداتُها القديمة بفعل القوى الناجمة عن إخضاع العراق للسوق العالميّة. وتُبيّن هذه الوقائعُ بصورة لا لَبس فيها الأبعادَ البنيويّة والطبقيّة للسياسات المعارضة أو الثوريّة في العراق.
٣. الطبقات في ظلّ الجمهوريّة
هل يمكن فهمُ الأنظمة التي تلَت العهد الملكيّ وفقاً لمصطلحاتٍ طبقيّة؟
لا بدّ من الإشارة الآنَ إلى أنّ إحدى نتائج ثورة ١٩٥٨ كانت الزيادة الملحوظة في الأهمّيّة العدديّة للطبقات الوسطى. ففي خلال العقد المنتهي عام ١٩٦٨، زاد تعداد قاطني المدن من هذه الطبقات بنحو ضعفين: وعلى أساس بياناتٍ ناقصةٍ أو غير دقيقة بما فيه الكفاية، فإنّ هؤلاء ومُعاليهم زادوا، على ما يبدو، بنحو ٧٣،٩٠٠ نسمة فبلغ عددهم مليوناً و٦٧٦،٠٠٠، نسمة. وتدلّ جميع المؤشرات المتاحة على استمرار هذا الاتّجاه في السبعينيّات.
ويعني مصطلح «الطبقات الوسطى» بالنسبة إليّ قطاعات المجتمع التي تستخدم بصيغة الجمع للتدليل على وظائفها، ولكنّها تشترك في أنّها تمثّل مرتبةً وسطى أو تحتلّ مركزاً متوسّطاً بين من لا يملكون شيئاً من جهة، وكبار الملّاك من جهةٍ أخرى، وهي تضمّ، من جملة عناصر أخرى، ضبّاط الجيش، والموظّفين المدنيّين، والمهنيّين والحرفيّين المهَرَة، والتجّار، وملّاك الأراضي.
تُرى، هل رافق توسّعَ الطبقات الوسطى العدديّ تزايدٌ في وزنهم السياسيّ؟
يمكن القول، بصورة مقْنعة، وعلى الرغم من أنّ الصورة الحقيقيّة أكثرُ تعقيداً إلى حدٍّ ما، إنّ أنظمةَ الحكم التي برزتْ منذ ثورة عام ١٩٥٨ والانقلابات التي تلتْها، بما فيها نظام الحكم الحالي [في أواسط السبعينيّات] كانتْ من أنظمة الطبقة الوسطى ولكن ليس بالمعنى الضيّق الذي أدّتْ فيه وظائفها بشكلٍ واضحٍ بالنيابة عن الطبقات الوسطى أو خدمتْ مصالحَها بصورة واعية. فبأيّ معنى، إذن، يمكن تفسير طابَعها كطبقة وسطى؟ وفي هذا المجال، تبرز عدّة نقاط.
الأولى أنّ عبد الكريم قاسم، والشقيقين [عبد السلام وعبد الرحمن] عارف، والأغلبيّة من أعضاء الهيئات والمجالس العليا للضبّاط الأحرار، ومجلس الاحتياط للضبّاط الأحرار، ومجلس قيادة الثورة عام ١٩٥٨، وقيادات البعث المختلفة، ومجالس قيادة الثورة بين عامَي 1963 و1977، كانت تنتمي إلى عائلاتٍ من الطبقة الوسطى أو متدنّية الدخل.
والثانية أنّ رجال الطبقة المتوسّطة لم يحتلّوا، منذ الثورة، مواقعَ المبادرة ومراكز القرار في نواة الدولة فحسب، بل احتكروا تقريباً سلسلةَ المناصب العليا والوسطى في جهازها الإداريّ.
ويمكن فهم المعنى الحقيقيّ لهذه الوقائع عندما نأخذ في الاعتبار أنّه، نظراً لاجتثاث جذور الملكيّة الخاصّة الضخمة، وفي سياق استقلال الدولة المالي الفعلي عن المجتمع جرّاء التدفّق الهائل لدخل النفط، فإنّ علاقاتِ الأفراد والجماعات بالملكيّة قد انحسرتْ أهمّيّتها، كما أنّ السيطرة على جهاز الدولة قد غدتْ هي العامل المحدّد للفعل الاجتماعي بصورة أكثر حسماً من أيّ وقتٍ مضى.
والنقطة الثالثة تتمثّل في أنّ الظروف التي خلّفتْها الثورةُ والانقلابات التي تلتْها كانت هي الأنسب لنموّ الطبقة الوسطى، والواقع أنّ مصالحها كانت تتغلغل في تضاعيف الدولة أكثر ممّا كانت تفعل مصالح أية عناصر أخرى في المجتمع. والبيانات الإحصائيّة المتاحةُ ليست دقيقةً بالشكل المطلوب، لكنّ من الصعب عدم تفسيرها بوصفها مؤشّراً ملموساً على الدخل في المدن منذ عام ١٩٥٨ على حساب الأعمال التجاريّة الضخمة والملْكيّات الضخمة ولصالح أفراد الطبقة الذين يتقاضون الرواتب، وإلى حدٍّ أقلّ، مَن يتقاضون الأجور. والحقيقة أنّ دخل العمّال في المراكز الحضريّة ارتفع منذ عام ١٩٥٨ أكثر من ارتفاع الأسعار، وكانوا، منذ عام ١٩٦٤، يشاركون في أرباح المشاريع الكبيرة. وفي عام ١٩٧٤، سجّلَ عمّال القطاع العام والدوائر الحكوميّة زيادةً في الأجور بلغتْ ٢٠٠ فلس في اليوم، وفي ١٩٧٧ حقّقوا الحدَّ الأدنى من الأجر اليوميّ ومقدارُه ١١٠٠ فلس13.
لقد غدا أغلب العمّال الآن أفضل تغذيةً، وأفضل ملبساً، ويتمتّعون بتأميناتٍ نقديّةٍ أفضل ضدّ المرض والتعطّل. وفي الحالات كلّها، حقّق أفراد الطبقة الوسطى الذين يتقاضون الرواتب مكاسبَ مادّيّةً أعظم وأصبحوا، مع العناصر الاجتماعيّة الأخرى في الشرائح الوسطى، المنتفعين الأساسيّين من خدمات الدولة المتّسعة في مجالَي التعليم والصحّة، مع تخفيض أجرة المساكن14بنحو ٣٢،٥ - بالمائة وفقاً لقوانين أُقرّت في السنوات ١٩٥٨، ١٩٦٣ و١٩٦٧، وتوفير أراضي الدولة مجّاناً لبناء المساكن، في ظلّ قانونٍ صدرَ عام ١٩٦٣، لذوي المسؤوليّات العائليّة والدخل المحدود.
أمّا قطاع العمل التجاريّ، في الطبقة الوسطى، فقد حقّقَ خطواتٍ إلى الأمام: فقد انتفع صغارُ التجّار، من تسهيلاتٍ أوسع في ناحية الضمانات والاعتمادات البنكيّة ومن تخفيض إيجار المحال التجاريّة بنحو ٣٧ بالمائة. وشهدت الطبقةُ الوسطى العسكريّة بعضَ الازدهار بطريقةٍ خاصّة يمكن الاستدلال عليها من زيادة «الرواتب والعلاوات في أوساط العناصر المقاتلة بنحو ستّة أضعاف منذ الثورة ونتيجةً لأنّ فرق الدخل بين الجنديّ - المتطوّع الأدنى راتباً والضابط الأعلى أجراً كان يبلغ ١:١٣، وبين المجنّد [حيث يشكّل المجنّدون أغلبيّة الجيش)] والضابط الأعلى دخلا ٤٦:1 مع احتساب كلفة المعيشة العالية، فضلاً عن مساكن الضبّاط، والملابس العسكريّة وعلاوات الخدَم أو الدفعات الإضافيّة المستحقّة للضبّاط الذين يمثّلون مراكز قياديّة.
هل كانت الطبقة الوسطى تمارس السلطة؟
ولكن هل يمكن القول على أساس الملاحظات سالفة الذكر إنّ الطبقات الوسطى في ظلّ هذه الظروف كانت منذ عام ١٩٥٨ هي التي تمارس النفوذ المؤثّر في البلاد؟
إنّ الطبقات الوسطى، كما أسلفْنا ليست متجانسةً بالمعنى الوظيفيّ، لكنّها تضمّ عناصرَ متنوّعة تقوم بوظائف متفاوتة. ولن نفيد هنا من المبالغة في هذه النقطة أو أن نتشدّد، في السياق العراقي على الأقلّ في التمييز بين المهنيّين والبيروقراطيّين في الطبقة الوسطى من جهة، والتجّار والملّاك الصغار والوسطيّين أو بين المكوّنات المدنيّة والعسكريّة في الطبقة الوسطى من جهة أخرى. فإذا فعلنا ذلك، ستفوتنا حقيقةُ أنّ كثيراً من المسؤولين وضبّاط الجيش هم أنفسهم من الملّاك. وسيعادل ذلك نظرتَنا لعناصر الطبقة الوسطى بمعزلٍ عن الشبكة الحيّة من العلاقات الاجتماعيّة، أي ستفوتنا أمورٌ مثل الشراكات أو الارتباطات غير الرسميّة بين البيروقراطيّين والتجّار أو الروابط المتواترة بين المسؤولين وضبّاط الجيش والحرفيّين المهَرَة أو الملّاك من خلال العائلة أو العائلة الممتدّة. وتبرز هذه الأمورُ الآن بصورةٍ أوضح ممّا كانت عليه قبل سنة 1958 عندما كانت السيطرة على جهاز الدولة بأيدي السنّة وكذلك التجارة في بغداد - والبصرة وليس في الموصل - بأيدي الشيعة. ورجحان كفّة الفئة الأخيرة تجاريّاً ليس قويّاً أو واضحاً في الوقت الحاضر، لكنّ هؤلاء كان لهم موطئ قدَم أكثر تأثيراً في الأطراف البيروقراطيّة الدنيا والوسطى.
ومثلما أنّ من الخطأ التأكيد بقوّةٍ على الانشطار السنّيّ - الشيعي بوصفه أحد عوامل الانقسام في أوساط الطبقة الوسطى، فإنّه يظلّ بدون شكٍّ عنصراً مؤثّراً في هذا المجال، وبصورة خاصّة عندما يتزامن مع تفرّعاتٍ ثنائيّة إقليميّةٍ أو تعزّزه نزعاتٌ عشائريّة محلّيّة.
وفي واقع الأمر، فإنّ استمرار الولاءات والأنماط الفكريّة من الماضي وليس عدم التجانس المهنيّ، هو الذي يمكن أن يُعزى إليه الاستعداد الضعيف لدى الطبقة الوسطى لبلورة مواقف مشتركة أو الانضمام إلى فعلٍ مشترك.
إنّ تفتّتَ العناصر الاجتماعيّة الوسطى، بالإضافة إلى أوضاعٍ أبقتْ جمهرة العراقيّين خارجَ الدائرة السياسيّة - باستثناء فتراتٍ قصيرة ولكنْ مهمّة تاريخيّاً، قد أدّى أكثر من مرّة عام ١٩٥٨ إلى تمكين أفراد مجموعاتٍ ذات قاعدةِ قوةٍ ضعيفة من السيطرة على الساحة. وكان هؤلاء، في غالبيّتهم من الضبّاط أو من جماعات الضبّاط، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ أنظمةَ الحكم التي أعقبتْ ذلك كانت أنظمةَ ضبّاطٍ فحسب أو أنّ الضبّاط كانوا يتصرّفون بصورةٍ مستقلّة أو أنّ أفعالهم لم تكن ذات طابع طبقيّ.
ونظام الحكم الذي يصعب تعريفُه أكثر من غيره هو نظام العميد [عبد الكريم] قاسم، الذي كان رئيس البلاد من عام ١٩٥٨ حتى شباط / فبراير ١٩٦٣. وخلافاً لأكثريّة ضبّاط الجيش من الطبقة الوسطى، فإنّه لم يكن من أصولٍ عربيّة سنّيّة في المدن الواقعة في المنطقة الشماليّة الغربيّة، كما أنّه لم يشاركْهم في نزعتهم العروبيّة15، فقد كان والده من أصولٍ سنّيّة - شيعيّة مختلطة، وعمل والده نجّاراً قبل أنْ يتحوّل إلى صاحب مزرعة وافدٍ من بلدة الصويرة في المنطقة الجنوبيّة الشرقيّة. ولهذا السبب، فإنّ قاسم تحاشى مثل هذا الوضع الملتبس، ولم يراهنْ على أيّ دعمٍ من جانب ضبّاط المنطقة الشماليّة الغربيّة وبذَلَ جهودَه لمواجهة نفوذهم ونفوذ أنصارهم في الأحزاب السياسيّة والشيوعيّين الذين كانوا قد تغلغلوا في أوساط الطبقة العاملة وصفّ الضبّاط والجنود العاديّين. وفرضَ سيطرته عن طريق ممالأة هذا الطرَف أو ذاك حسب متطلّبات المرحلة، معتمداً في الأساس على فرقته العسكريّة، التاسعةَ عشرةَ، ومستفيداً من التعاطف العام لدى الفقراء الشيعة. وفي الوقت نفسه، فإنّه سلكَ في سياساته الاجتماعيّة مساراً لا مجال للشكّ في طابعه الوسطيّ المعتدل.
أمّا نظامُ عبد السلام وعبد الرحمن، ابنَي تاجر الأجواخ عارف (تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٦٣ - تموز / يوليو ١٩٦٨)، فقد استمدّ قوّته، جزئيّاً أو لبعض الوقت، من ارتباطه ﺑِالرئيس جمال عبد الناصر وبالناصريّين في العراق، وبشكل أساسيّ، من الحرس الجمهوريّ، والتوازن بين الوحدات العسكريّة الأخرى، ومساندة مجموعة من الضبّاط السنّة العرب من إقليم الديلم (الأنبار الآن) في المنطقة الشماليّة العربيّة، وهي موطن عشيرة ’عارف‘. وكان الحرس الجمهوريّ هو الفرقةَ العشرين لعبد السلام، لكنّها تحوّلتْ إلى القوّة الضاربة الأكثر كفاءةً في الجيش بعدما عُزِّزت برجال من الجميلة، عشيرة «عارف» التي ينتسب لها كذلك المعيَّنون في المناصب الرئيسة مثل قائد حامية بغداد ومساعد المدير (بل المدير الفعلي) للمخابرات العسكريّة. وباختصار، فإنّ النظام العارفي جمَعَ في صفوفه الولاءاتِ القبليّةَ، والجهويّةَ، والطائفيّة، والمهنيّة والقوميّة. وعلاوةً على ذلك، فإنّه، بإلغاء الملكيّات التجاريّة، والماليّة والصناعيّة الكبيرة عام ١٩٦٤، وبتخصيص نصيبٍ من الأرباح للعمّال والعاملين، قد سعى إلى استمالة المشاعر الطبقيّة لدى العناصر الواعية اجتماعيّاً والأكثر عدداً. غير أنّ تلك التدابير كانت، في جانبٍ منها كذلك، تحدوها الرغبةُ في السير على خطى عبد الناصر.
إنّ اعتماد نظام الحكم البعثيّ الراهن [عام ١٩٧٥] على الروابط المحلّيّة هو الآن أكثر بروزاً ممّا قبل، مع أنّ أيّاً من حكّام العراق السابقين، باستثناء قاسم، لم يستخدم الأسلحة التنظيميّة الحديثة أو أساليبَ الحشد الجماهيريّ في الجيش، بالكفاءة نفسها. وكان ثمّة نفوذٌ قويٌّ وواضح كلَّ الوضوح في الجيش، والحكومة والحزب للوشائج التكريتيّة - أي بالعلاقات مع المدينة العربيّة السنّيّة العربيّة الصناعيّة في المنطقة الشماليّة الغربيّة. وكانت الروابط القبليّة والعائليّة فعّالةً كذلك: إنّ رئيس الجمهوريّة أحمد حسن البكر، وصدّام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وزعيم النظام القومي، وعدنان خير الله طلفاح وزير الدفاع، وبرزان حسين، الذي يحتلّ منصباً رئيساً في جهاز النظام الأمنيّ، لم يكونوا تكريتيّين فحسب، بل ينتمون إلى العشيرة نفسها وهي البونصير. يضاف إلى ذلك أنّ صدّام هو شقيق برزان وابن العم وزوج أخت عدنان زوج بنت البكر. ولم تلعب هذه العوامل الدورَ نفسه في نظام البعث خلال الفترة الواقعة بين شباط / فبراير وتشرين الثاني / نوفمبر ١٩٦٣، عندما كان الحزب يضمّ عناصرَ مختلفة، بما فيها أغلبيّة شيعيّة في القيادة العليا، أو ربما في «القطاع النشط» فيها. وكان الانهيار الذي أعقب ذلك في أهمّيّة الشيعة داخل حزب البعث يعود إلى ظروفٍ طارئة وإلى الآثار الطبيعيّة للعلاقات المحلّيّة أكثر ممّا كان نتيجةً لسياسات حزبيّةٍ مدبّرة. وبطبيعة الحال، لم يعتمد النظام البعثيّ الحاليّ على عصبيّة العشائريّة لتكريت والبونصير. فعلاوةً على محاولات النظام بناءَ الحزب وتحويل فروعه إلى دروع تحمي الحكومةَ ومؤسّساتٍ لتنظيم القبول الجماهيريّ وتوجيه التغيّر الاجتماعي، فإنّه سعى إلى إقامة الجسور مع القوى السياسيّة الأخرى. ومن هنا كان تحالفُه مع الحزب الديمقراطيّ الكرديّ بين العامَين ١٩٧٠ و١٩٧١، ومع الشيوعيّين منذ عام ١٩٧٢ حتى عهدٍ قريب.
ولئن كان تضامنُ الجماعات الحاكمة المتتابعة، وعلى الأقلّ منذ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٦٣، قد تجلّى على نحوٍ متكرّر - ولكن غير حصري - في أشكالٍ مناطقيّة، أو محلّيّة، أو طائفيّة، أو قبليّة أو شبه قبليّة، فإنّ علينا ألّا ننسى أنّ هذه الجماعات والأفرادَ الذين تتألّف منهم إنّما كانوا بالدرجة الأولى، من الفئات الوسطى، وكانوا، في بعض النواحي، ينظرون إلى الحياة من زوايا متماثلة ويعالجون كثيراً من القضايا بطرائق متشابهة. وفي ظلّ تلك الظروف، وحيث إنّهم لم يستطيعوا سَنَّ قوانين خاصّة بل قوانين عامّة فحسب، فإنّهم بطبيعة الحال، وبما اتّخذوه من تدابير عامّة، قد أفادوا الطبقات التي كانت في أوضاعٍ مماثلة لأوضاعهم، أي الطبقات الوسطى، حتى وإن كانوا يتصرّفون لحسابهم الخاصّ. وفي الوقت نفسه، فإنّ علينا ألّا نغفلَ عن أنّ الفئة الأكثرَ انتفاعاً، وفي ما يتعلّق على الأقلّ بالنشاط غير النظاميّ الذي يقوم به نظامُ الحكم القائم، إنّما كانتْ عائلات الطبقة الوسطى التي تعيش في المدن العربيّة في المناطق الشماليّة الغربيّة أو التي تعيش في المدن العربيّة في المناطق الشماليّة الغربيّة أو التي هاجرتْ منها إلى بغداد في فترةٍ متأخّرة نسبيّاً، أي العائلات التي ما فتئتْ منذ عام ١٩٦٣ تمثّل سوق التوظيف التي يرتادُها صنّاع القرار أو أصحابُ المناصب المسؤولة في الحكومة، والجيش، والبيروقراطيّة الإداريّة وجهاز حزب البعث.
وربّما كانتْ طبقةٌ عليا جديدة تتبلور على نحوٍ متميّزٍ في هذه الآونة. وفيما يتعلّق بهذا الموضوع، وما يتّصل به من نقاطٍ عرضناها في هذا الإطار، فإنّ من الصعب توخّي المزيد من التحديد لأنّ العراق يمرّ الآن في مرحلة بنيويّةٍ لا تزال في سيرورةٍ متنامية.
- 1. مُدَّعو الانتساب للنبي محمد
- 2. الصيارفة
- 3. الضبّاط الذين كانوا في الجيش العثماني وانضمّوا خلال الحرب العالميّة الأولى إلى الثورة ضدّ الأتراك التي تزعَّمها شريف مكّة الحسين [بن علي] وعائلته
- 4. «... إنّ مصدر الانقسامات الأكثر شيوعاً وديمومة هو التوزيع متعدّد الأشكال وغير المتساوي في المجتمع... إنّ مصلحة مالكي الأرض، ومصلحة الصناعيّين، ومصلحة أصحاب المال، ومصالح كثيرة أقلّ منها، تتنامى بالضرورة في الدول المتمدّنة، وتقسم مجتمعاتها إلى طبقات مختلفة، تحرّكها نزعاتٌ ووجهات نظر مختلفة». (James Madison. «The Federalist No. 10,» November 23, 1787, The Federalist. A Commentary on the Constitution of the United States [New York: The Modern Library, 1937], p. 56)
- 5. «إنّ تصنيف الأفراد في طبقات] ظاهرة مماثلة تماماً لتبويب أفرادٍ منفصلين وفق قاعدة تقسيم العمل». (Marx and Engels, Collected Works [Moscow, 1976], Vol. 5, p. 77) إنّ تصنيف العمل يتضمّن التوزيع، بل التوزيع غير المتساوي، كمّيّاً ونوعيّاً، للعمل ومنتجاته، أي المِلْكية... إنّ تقسيم العمل والمِلْكيّة الخاصّة هما، آخر الأمر، تعبيران متطابقان: إذ يتأكد في أحدهما المعنى نفسه بالرجوع إلى النشاط مثلما يتأكّد في الآخر بالإشارة إلى نتاج النشاط» (المصدر نفسه، ص 46). إن التناقض بين عدم المِلْكيّة والمِلْكيّة، طالما أنه لا يعني التناقض بين العمل ورأس المال، سيظلّ تناقضا محايداً، لا يُفهم في ارتباطه النشط، وفي علاقته الداخلية، ولا يُفهم حتى ذلك الحين بوصفه تناقضاً (المصدر نفسه [Moscow, 1975], Vol.3, p. 293)
- 6. «إنّ الحقيقة الاقتصاديّة الأكثر جوهرية من غيرها في الطريقة التي يتم بها نقل الملكية الماديّة وتوزيعها بين عدد وافر من الأشخاص الذين يلتقون في أجواء تنافسية في السوق بهدف التبادل، هي أنّها، بحدّ ذاتها، تخلق فرص حياة محدّدة. وحسب قاعدة المنفعة الحدّية، فإن نمط التوزيع هذا... يفضّل المُلّاك، ويمنحهم، في الواقع احتكاراً لاكتساب البضائع [العالية القيمة] ... وهو يزيد، بصورة عامة على الأقل، من قدرتهم على خوض حرب الأسعار مع أولئك الذين لا يتمكّنون، بوصفهم لا يملكون شيئًا، من تقديم أيّ شيءٍ باستثناء خدماتهم بصورتها البدائيّة أو البضائع بصورة تكوّنت عبر عملهم هم، كما أنّ هؤلاء مرغمون في جميع الأحوال على التخلّص من تلك المنتجات ليستطيعوا بالكاد أن يعيشوا عيش الكفاف. إنّ نمط التوزيع هذا يعطي المُلّاك... الوظيفة المقاولاتيّة وجميع الفرص للمشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في عائدات رأس المال... وبالتالي، فإنّ ’الملكية‘ والحرمان من الملكية‘ هما العنصران الأساسيّان في جميع الأوضاع الطبقية». In Essays in Sociology From Max Weber «Class, Status, Party», H. H. Gerth and C. Wright Mills. eds. Oxford University Press, New York, 1958), pp. 181 - 82
- 7. بطبيعة الحال، اختلف ماديسون، وماركس، وفيبر، اختلافاً عميقاً، لا في مسلماتهم المفهومة ضمناً فحسب، بل كذلك في قيّمهم وتعاطفاتهم. وليس من الممكن في هذه الورقة مناقشة تلك الفوارق على نحو شامل. وسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض العناصر الأبرز فيها. إنّ ماديسون الذي لا يأخذ بالاعتبار دور الإرث، يرى، من خلال منظوره، أنّ التوزيع غير المتساوي للملكية، إنما ينبع، أساساً، من «تنوّع المَلَكات بين البشر... والأسباب الكامنة للانقسامات... مزروعة في صلب الطبيعة البشرية». (The Federalist, p.55). وبالنسبة لماركس، فإنّ «الملكية الشخصيّة [منذ البدء] ... هي النتاج، والنتيجة، والمحصلة للعمل المُسْتَلَب... وفيما بعد، تغدو هذه العلاقة متبادلة» (Collected Works, Vol.3, pp. 279 - 80). وبصورة أكثر تحديداً، وفي سياق نظام الملكيّة الرأسمالي، يؤكد ماركس أن «الرأسماليّ يملك [السيطرة على العمل ومنتجاته]، لا لخصائصه الشخصيّة أو البشرية، بل لكونه هو مالك رأس المال» (المصدر نفسه، ص 247)، كما أنّه يشرح نشأة هذا التملّك وتراكم رأس المال بمصطلحاتٍ مادّية وبنيويّة (انظر الجزأين السابع والثامن من رأس المال، المجلد 1). ويتبنى فيبر كذلك وجهة نظر تاريخيّة، غير أنّها ترتكز على أسباب متعدّدة، وتفسح المجال لتأثير الأفكار - الأخلاق البيوريتانية / الطهرانية - ولدور شخصية المقاول أو «السوبرمان الاقتصادي» الكارزمية في ظهور النظام البورجوازي الحديث (Essays From Max Weber, pp. 67 and 321). يضاف إلى ذلك أنّ ماديسون، الذي كان من المُلّاك، رأى أن حقّ المرء الشخصي في اكتساب الملكيّة هو «حقٌّ طبيعي». وأنّ حماية الملكيّة من جانب الحكومة هي «حقّ اجتماعي». (James Madison. A Biography in His Own Words. [New York: Newsweek Inc., 1974] Vol. 3, p. 390) وقد دعا ماركس إلى الإطاحة «القسريّة» بالملكيّة الخاصّة «وجميع الأوضاع الاجتماعيّة القائمة»، وإلى تجمّعٍ حرّ للمنتجين الذين يستخدمون قوى الإنتاج بصورة مشتركة وعلى أسس مدروسة (Collected Works, Vol. 6, pp. 354, 498, 506, and 519) أمّا فيبر فكان يرى أنّ غلبة الاشتراكيّة على الملكيّة الخاصّة ستفضي لا محالة إلى المزيد من البيروقراطيّة والقنانة (Essays From Max Weber, pp. 49 - 50). وإلى ذلك، فإنّ ماديسون وفيبر كليهما كانا يصدران عن موقفٍ قوميّ وينطلقان من مفهوم المصلحة الوطنيّة، بينما التزم ماركس نظرةً دوليّة عالميّة. علاوةً على ذلك، ارتبطتْ نظرة ماركس للطبقة ارتباطاً وثيقاً بسلسلةٍ شاملة من المفاهيم المتداخلة - السلطة السياسيّة بوصفها السلطة المنظّمة لطبقة واحدة بغرض قمع طبقةٍ أخرى، والصراع الطبقي بوصفه القوّة المركزيّة الدافعة في التاريخ، والطابع الطبقيّ في جوهره للأفكار والقيَم الاجتماعيّة، واستحالة المصالحة بين العداوات الطبقية، وحتميّة دكتاتوريّة البروليتاريا الانتقاليّة، وفي سياق أوروبا الغربيّة على الأقلّ، وحتميّة قيام المجتمع اللاطبقي في آخر المطاف. وبالإضافة إلى طائفةٍ من الأفكار المشابهة ولكن الباهتة والأقلّ تعميماً حول المضمون الطبقيّ للأفكار والسلطة السياسيّة، فإنّ المفاهيم آنفة الذكر كانت غريبةً عن أسلوب ماديسون في التفكير. كما أنّ فيبر لم يؤمن بها، مع أنّه أقرّ بأهمّيّة المصالح الماديّة والصراعات الطبقيّة، وكان، فكريّاً، مديناً لماركس بأكثر ممّا هو متعارَف عليه بصورة عامّة. ويجدر التأكيد هنا على نقطتين أخريين. الأولى أنّه من منظور ماركس، فإنّ أعضاء طبقة ما يمثّلون جماعةً متميّزة عندما يكونون منظّمين سياسيّاً (Selected Works [Moscow, 1969], Vol. 1, p. 479)، بينما تقتصر الطبقات، في نظر فيبر، «على مجرّد أسسٍ مجتمعة ومتواترة للفعل الجماعي» (From Max Weber, p. 181). أمّا النقطة الثانية، فهي أنّ فيبر ربط ظاهرة «الطبقة» بوجود أسواقٍ للسلع والعمل. «إنّ الوضع الطبقي»، كما يؤكد، «هو، في آخر الأمر، وضع سوق» (المصدر نفسه، ص.182). وبينما يستخدم فيبر أحياناً مصطلح «طبقة» على نحوٍ فضفاض للإشارة إلى مجموعاتٍ رأسماليّة وأخرى قبل - ماركسيّة متناقضة داخليّاً، فإنّه غالباً ما يستخدمه حصريّاً لوصف تشكيلات في الفترة الرأسماليّة. ومن هنا، فإنّه ميّزَ في ’الآيديولوجية الألمانيّة‘ بين أربع مراحل في تطوّر تقسيم العمل: «البنية البطركيّة، العبوديّة، وأشياء الطبقات Estates، والطبقات» (Collected Works, Vol. 5, pp. 32)وبيّن بوضوح أن «ظهور الطبقة... هو، بحدّ ذاته، من نتائج البورجوازيّة» (المصدر نفسه، ص. 78). وفي تلك المقالة، وفي مقالة أخرى بعنوان «تأملات» (Collected Works, [Moscow, 1978], Vol. 10, pp. 590 - 91) فإنه يجري مقابلة توضّح الفرق بين «نظام أشباه الطبقات» و«نظام الطبقات»
- 8. الأملاك الموقوفة أو الصندوق الذي تُخصّص عائداته لمصلحة ورثة صاحب الوقف
- 9. غالباً ما كان تقسيم العمل داخل الحلف القبليّ أكثر تعقيداً ممّا توحي به هذه العبارات الموجزة. من هنا فإنّ الحساوية داخل حلف المنتفق كانوا فلّاحين، والجويبر سمّاكين ومزارعي أرزّ، والمشيعلة مربّي أغنام، والحسينات نسّاجين، وبنو سعيد أصحابَ دكاكين، والنواشي والمعدن مراكبيّة وحمّالين عبر النهر. وكانت جميع هذه القبائل تدفع أتاوة للسعدون الذين كانوا هم الجمّالين والزعماء في الحلف
- 10 . الكلمة العربية هي «الرزق»
- 11. ابن خلدون، «المقدمة» (القاهرة: مطبعة مصطفى محمد. بدون تاريخ)، الكتاب الأوّل، القسم الثالث الفصل 43، ص288. والكلمة العربية التي يستخدمها ابن خلدون هي «المال»
- 12. الدونم الواحد (14.400 قدم مربعة) يعادل 0.618 من الآكر (الذي يساوي 43,560 قدماً مربعة)
- 13. كل ألف فلس تساوي ديناراً واحداً
- 14. كان جزء كبير من العمّال غير المهرة يعيشون في الصرائف، وهي الأكواخ الطينيّة، فلم يفيدوا من هذا التخفيض
- 15. يمكن تفسير نزعاتهم العروبيّة، في جانب منها، يكون أن المناطق التي جاؤوا منها ارتبطتْ اقتصاديّاً مع سورية وفلسطين قبل الحرب العالمية الأولى وتضرّرت جرّاء تقسيم الإمبراطوريّة العثمانيّة والعقبات التي برزتْ عند إقامة الحدود الجديدة
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.