«السنوات كائن أيضاً»
جوخة الحارثي
للمرّة الأولى منذ تأسيس جائزة «المان بوكر الدوليّة» في العام ١٩٦٩، تمكّنت رواية عربيّة، هي رواية «سيّدات القمر»١ للرّوائيّة العمانيّة جوخة الحارثي، من الفوز بالجائزة. قبل فوز الترجمة الإنكليزية لـ«سيّدات القمر» على المستوى الدّوليّ، والتي أنجزتها مارلين بوث بعنوان Celestial Bodies («ساندستون»، لندن، ٢٠١٩)، لم تكن أعمال الحارثي، ولحسن الحظّ، بمنأى عن التّكريم، أي بشكلٍ ما في عقر دار الرواية إذا استرجعنا آراء إدوارد سعيد وميلان كونديرا وغيرهما حول الرّواية كفنٍّ أوروبيّ. فإذا كانت الجوائز نوعاً من لفت الانتباه العامّ إلى تميّز المنجز الفنّي لكاتبٍ ما، فإنّ أعمال الحارثي حصدت جوائز عدّة منذ مجموعتها القصصيّة الأولى «مقاطع من سيرة لبنى إذا آن الرحيل» (٢٠٠١)، الفائزة بالمركز الثّاني في جائزة «الشارقة للإبداع العربي»، وقصّتها «عشّ العصافير» للأطفال في العام ٢٠١٠، الحائزة على جائزة أفضل إصدار عمانيّ في أدب الطفل في العام نفسه، إلى جانب روايتها الأبرز «سيّدات القمر» التي حصدتْ جائزة أفضل إصدارٍ عمانيّ في الرّواية ٢٠١١، ثمّ رُشّحت للقائمة القصيرة للدّورة السّادسة لجائزة الشيخ زايد للكتاب من العام نفسه. وبعد ذلك بخمسة أعوام، استكملت الحارثي حصد الجوائز المحليّة فكانت على موعدٍ مع جائزة «السّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب» عن روايتها «نارنجة»، لتطأ قدمها أخيراً «المان بوكر» في دورتها الحادية والخمسين.
«أريد أن أكتب»
تحتاج الحارثيّ إلى الكتابة وتُدرك خطرَها. عن تلك الحاجة والإلحاح كتبتْ منذ بواكير أعمالها القصصيّة الأولى، لتعبّر عن الحمّى التي تنتاب المبدع: «أعرف أنّه ينبغي أن أكتب، الكتابات الأخرى المفروضة: الأوراق المفروضة، الخطابات الرّسميّة، وقائمة المشتريات. أعرف أنّه ينبغي أن أكتب وأريد أن أكتب ما لا ينبغي، ما سأموت دون كتابته، وما أموت بكتابته. أريد أن أكتب كثيراً كثيراً، بقدر الألم المزدحم بداخلي، بالقدر الذي تحتمله كلمات اللّغة الشّحيحة المترفّعة، بالقْدر الذي يطبّب الرّوح الكَلمى. ولا أستطيع أن أكتب، الكتابة بَوحٌ والبَوح سقوطٌ في اللّجّة من جديد. البَوح خطر، مخاتِل، متحفّز، وينصب الشّباك ويعرّفنا على الذي لا نريد أن نعرفه ويرينا الذي لا نريد أن نراه... لكنّي أريد أن أكتب كثيراً كثيراً».
تبرز الاندفاعة نحو الكلمات وعلاقة الحارثي بها في إحدى قصصها الأولى «ماء غيرُ آسن»، من خلال شخصيّة عائشة التي تقول الكاتبة في وصفها «كان لعائشة تلك القدرة الصّافيةُ على رؤية الكلمات في رحلتها السرّيّة. فكانت شخصيّة عائشة التي لا يراها أحدٌ ترى الكلمات، حين تستعيض الشّخصيّة عن حضورها الذّاتيّ بالكلمات، ذلك التّجلّي اللّغويّ للحضور، وللوجود، على هيئة كلمات، أو بالأحرى في فنّ الكلمات».
وفي أعمال الحارثي يجد القارئُ تدفّق تيّار الزمن وجَرَيانه متعدّداً في أكثر من ساقيةٍ زمنيّة، تطوف بها القراءةُ وتتمشّى داخل الأزمنة الروائيّة، ما يتيح إطلالةً فسيحةً وتأمّلاً أعمق، مثلما يتيح تبصّراً في أكثر من مكانٍ واحد. مع أنّ المكان في أعمالها اتّخذ تركيبةً مكانيّةً تكاد تكون ثابتةً ومتماثلة (قرية، مدينة إقليميّة أو عاصمة هي عادةً مسقط، مدينة يمكن تسميتُها بالمعولمة مثل فرانكفورت ولندن)، الأمر الذي يمنح القارئ فسحةً واسعةً للتّأمّل الفنّي للزّمن والأمكنة، عبر إعادة صياغتها اللغوية للمكان والزمان، حتّى يصل الزّمان والمكان إلى معنى رمزيّ أدبيّ وفنّيّ ثريّ الدّلالات.
«سيّدات القمر»: هجر الصّلاة احتجاجاً
في «سيّدات القمر»، يشبه تكوين المشاهد الرّوائيّة نوعاً من دَوران زوابع الماء في السّواقي والقنوات، والرّيح في صيف الصّحراء، وسْط تدفّق التّيار، والهبوب المستمرّ للرّيح المسمّاة «الكوس» قبيل الغروب، حتّى يصفوَ النّسيم العليلُ المُسكِر برقّته كأنّه ماءٌ في الهواء، حتّى لا يصدّقَ أحدٌ أنّ النّسيم المنسابَ كالجدول الرّقيق وُلد من تلك الزّوابع المحمّلةِ بالتّراب والتّيارات المحتدِمة. وفي «سيّدات القمر» عشقٌ ضائعٌ وبديلٌ مرفوضٌ واحتجاج. تبدأ الرّواية بالعشق الضّائع للميا والبديل المرفوض لدرجة أنّها امتنعتْ عن الصّلاة احتجاجاً، لكن، في الوقت نفسه، يجسّد الزّوج البديل المرفوض، ابن سليمان التّاجر، تدفُّقَ تيّار الحياة الثريّة، بعنفها وقوّتها وثراء تنوّعها. تلتقي التيّارات قبل أن تولَد البنت لندن بقليل: «ما له اسم لندن؟... حرمة في بلاد جعلان اسمها لندن» (ص٦). والاسم تعبيرٌ عن التّوق، لكنّ الرواية لا تفضح ذلك، بل تومئ إليه. من تلك الإيماءات الذّكيّة والالتماعات البسيطة نجد الشّخصيات المختلفة تتوارد على مشهد الرواية، وكلّ شخصيّةٍ تخلق عالماً خاصّاً صغيراً.
هكذا نرى الأبَ العنيف القاسي: «حين احتُضر أبي في مستشفى النّهضة مددتُ يدي نحو يده فأزاحها بكلّ عزم» (ص٩). ونجد الابنَ المتذبذب بسبب سلطة الأب: «قلت له: أرجوك يا أبي أريد أسافر مصر أو العراق أدرس في الجامعة»، فشدّني من رقبتي وصرخ «وحياة هذه اللّحية ما تطلع من عمان.. تريد تتسفل؟ وترجع من مصر والعراق حالق لحيتك تدخن وتشرب؟» (ص٩)، فضلاً عن حادثة التعليق في البئر، هذا الابن الذي يسترجع حياته في انثيالٍ روائيّ متمازج بين التّأمّل والاسترجاع. ثمّ تطالعنا شخصيّة «ظريفة» المميّزة، التي نجدها في ظهورها الأوّل تقول: «الأفعى اللي عند ولدي ترضع راقدة مثل الكلبة.. ما ترضى تجلس... وسمّت البنت رشا... وولدي مسكين سكت، أيش بيقول بتلدغه لو تكلّم... بدل ما يسمّون حبيبة ومريم وفاطمة يسمّون هذي الأسامي مرفت ورباب وناباب وشاكاب وداداب، وقلع عين ‘بليس... دنيا!... وأنت يا ميا ما اسمها بنتك؟». ردّت ميا دون أن ترفع عينيها عن وجه الرضيعة: «لندن»، أطرقت ظريفة في سكون مفاجئٍ ثمّ نزعتْ جسدها الضّخم عن الأرض وقالت: «أحسن أقوم أجهّز لك الغدا» (ص١١). وصولاً إلى شخصيّة «القمر» التي نتعرّف إليها للمرّة الأولى عبر لقائها مع عزان بشكلٍ صادمٍ يدفع عزان للهروب منها، ما يوحي بقوّة الشّخصيّة التي تتعزّز لاحقاً عبر أحداثٍ أخرى في خضمّ الرّواية.
«سيّدات القمر» مشغولةٌ بدقّة، والأهمّ، محبوكةٌ بصدقٍ وشجاعةٍ تصويريّةٍ وفنٍّ بارع. وهذا ما نجدُه في نواحٍ مختلفةٍ من الرواية، أبسطُها إبرازُ صورة المجتمع العمانيّ المعاصر، على ما في ذلك من مشقّةٍ إبداعيّة، وأعقدها الفنّ التّأمّلي للرّواية الذي يرفع العالم كلّه في عين القارئ فيجعله مرئيّاً ومتجسّداً وقابلاً للمقاربة والاسترجاع، خيوطُ الحياة المتشابكةُ وهي تأخذ شكل أمثولةٍ فنّيّةٍ عبر نسيج ذكيّ، وغزل أنيق، يمكن للقارئ أن يطالعه عبر الرواية كما يطالع المرءُ مشهد السّهول المنبسطة من نافذةٍ سحريّة.
تمتاز «سيّدات القمر»، مثل روايات الحارثي الأخرى، بالتّأثيث الجماليّ، صحبة الأثاث القديم المصبوغ بالحبّ، مع الأيقونات القديمة والتّفاصيل الصّغيرة، لوحات البراق، لوحات المساجد المقدّسة الثلاثة، صوَر الكعبة، ومرايا سلطنة مسقط وعمان، والطّنافس والوسائد الضّخمة و«الرّواز»، حتّى ليبدو الزّمن الطّفوليّ أكثرَ أثاثاً روائيّاً من الزّمن الحاضر الشّاب، وكذلك الخطاب القديم، خطاب الأمّهات الأُول كمقارنةٍ سالمةٍ في «سيدات القمر» بين نِسوة الماضي والحاضر: «اليوم يلدْن راقداتٍ وصراخهُنّ يسمعه الرّجالُ من آخر المستشفى... ذهب الحياء... ايه والله..» (ص٦)، فكأنّما كان ذاك التّأثيثُ وتنسيقُ البساتين للزّمن الماضي، الذي احتُضر ومات فلم تبقَ سوى البقايا، يوحي بنوع من الحنين الرّومانسيّ القويّ، ولذلك سحرُه القرائيّ الخاصّ على اختلاف الأجيال.
في «نارنجة»، وفي «سيّدات القمر» تحديداً، استلهامٌ متقنٌ لمشاهد الحياة القديمة، فتأتي شخصيّاتها ومَشاهدُها الروائيّة بالغةَ الأثر، تثير خيالَ القارئ وتخصّبه، من دون أن يؤثّر ذلك في قضايا الرواية الرئيسيّة التي لعلّ أبرزَها قضيّةُ العبوديّة. تتناول الرّواية هذه المسألة عبر أكثر من زاوية، فنجد شخصيّتي سنجر وزوجته شنة، اللّذين يهاجران إلى الكويت للعمل في مهَن بسيطة هرَباً من وصمة العبوديّة، ونقرأ كلام ظريفة، أم سنجر: «أحرار أحرار، عذّبَني أبوه بهذا الكلام، ما صدقت راح وجاني ولده، أحرار ولّا عبيد! أنا أيش خصّني؟ أنا أريد ولدي قربي...». كما نطّلع على النّهاية الحزينة لمسعودة وهي حبيسةُ إحدى غرف البيت: «أنا هنا، أنا مسعودة، أنا هنا»، ومثلها النهاية المفاجئة لمنين: «منين مسكين عطوه لقمةَ عيش، عطوه شطفة حلواه». وهذا يذكّرنا بالغجريّة أو الزطيّة التي سقطتْ ميتةً في «نارنجة»: «سحّه بيبيه سحّه بيبيه». مشاهد روائيّة متكاملة تلقي إضاءةً متمهّلةً تعيد تمييز ذلك العالم في ذهن القارئ المعاصر وتدفعه للتّأمّل والتّحليل، أو على الأقلّ، لمحاولة فهم تلك العوالم والاقتراب منها.
نساء الحارثي
للمرأة كذلك حضورٌ لافتٌ في روايات الحارثي. وتتجسّد الأحوال الكثيرةُ للمرأة المعاصرة عبر أكثر من صورةٍ وشخصيّة، فنراها مهزومةً وضعيفةً ومصابةً بالكوارث العاطفيّة والاعتداء الجسديّ، كما حدث لحنان صديقةِ لندن في «سيّدات القمر»، أو نراها واقعةً تحت ثقل شعور الغرابة والحنين المتأخّر عند شخصيّة زهور في «نارنجة»، أو نلفيها أحياناً بلا أسلحةٍ تقاوم بها ضرباتِ القدَر. كما ترسم الروايات صوَراً واضحةً وجليّةً للمرأة العمانيّة المعاصرة، مثلما نجد في رأي شخصيّة أسماء داخل «سيدات القمر» في الحليّ والزّينة القديمة: «طبعاً ما أريد ألبس أشياء تخرخش في رجولي».
ولا تغفَلُ روايات الحارثي عن التّصوير الدّقيق للأمّهات أو الجيل السّابق والأسبق، وذلك عبر مسحةٍ شبه تبجيليّة اكتسبْنَها من العمل المُضني والقوّة الكامنة في النّفس، فتلك الأمّهات هنّ أكثر قوّةً وصبراً وعناداً. إلّا أنّ التبجيل لا يلغي خصلتَي الصّدق والكذب، فنجدهنّ في أحيان كثيرةً أكثرَ وقاحةً وتسلّطاً، لكن في الحالتين بأسلحةٍ متوافرةٍ ومساحةٍ أكبر للتصرّف، واختراع الحلول للعقبات الحياتيّة، مثلما هو الحال في شخصيّة بنت عامر، والتَّوأمين رايه وريا القادمتين من أفريقيا في «نارنجة»، أو ميا وأمّها سالمة في «سيّدات القمر». وأحياناً تبدو المرأةُ متسلّطةً عنيفةً لكنّها تُخفي داخِلها هشاشةً وتحطّماً، وفي أحيانٍ أخرى تبدو أكثرَ حرّيّة من الرجل نفسه كما هو الحال مع كافّة في «نارنجة»، ونجية بنت سعيد القمر في «سيدات القمر». ولا تغفل الرواية في الوقت نفسه عن عرض أشكالٍ فريدةٍ من العلاقات، ولا عن وجوهها الدقيقة الخفيّة، كوصف العلاقة الحرّة بين عزان ونجية القمر: «تسقط في أعنف أشكال العبوديّة، الحاجة قيد»، كاشفةً بذلك وجهاً آخَر للحرّية هو العبوديّة المتخفّية داخلَها.
لعلّ المسألةَ الأهمّ التي تشغل بال الحارثي، وقد برزتْ في حياة إحدى «سيّدات القمر»، هي أنّ الحياة بدتْ لها منشطرةً شطْرين كالليل والنهار، ما نعيشه وما يعيش داخلَنا. وقد جاءتْ أعمالُها الروائيّة لتحاولَ معالجة المابين الذي يصبّ فينا، من جهتَي الليل والنهار، بين ما نعيشه وما يعيش بداخلنا. ذينك الوجهين اللذين كتبتْهما الروائيّةُ وكشفتْهما ببراعةٍ في لقطاتٍ ومَشاهد كاشفة، عبر أعمالها المبنيّة على تشرّب المكان وارتشافه بمهل، حتّى تكشف، كما في «نارنجة»، أمراً مدهشاً: «ولكنّه حصى يتكلّم، حصى يتنفّس»، وكأنّما كانت مهمّة الرّوائيّ ترجمةَ كلام الحصى وأنفاسِها. ويذكّرنا هذا الأمرُ بالحضور الجغرافيّ للمكان المشغول بفنٍّ وبراعة، بطريقةٍ بدتْ معها الرّوايةُ وكأنّها تأخذ صورةً شاملةً وتضعُها لوحةً ضخمةً في طريق القارئ: «التحام الغيم بقمم الجبال الرماديّة، تصرخ باسمك ليرجعَ الصدى الغريبُ عشراتِ المرّات، كأنّ كائناتٍ غريبةً مستترةً تؤازر صرختك».
كتبت الحارثي في مجموعتها المبكّرة «مديح الحب»: «الحكّاء يحمي سرَّه ولذا يحذّرك من النوم عطشاناً. وأنا بدون تيهِ روحك في العطش سأخبرك بسرّ الحكّائين: لا توجد نهايةٌ للحكاية. هذا هو السرّ». ولعلّ هذا هو السرّ الذي يجعل رواياتِها تنتهي دون أن تنتهي، كالريح التي تختفي، والماء الذي يتسرّب بين اليدَين ويمضي ولا يبقى غيرُ البلل.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.