تشرح الملاحظات التالية الخلفيّة النظرية التي انطلقتُ منها في دراستي للأوضاع العربية والانتفاضة الإقليمية، وبالأخص في كتابي «الشعب يريد: بحث جذريّ في الانتفاضة العربيّة» (بيروت: دار الساقي، ٢٠١٣). وقد نُشرت بالأصل كجزء من دراسة أطول عنوانها «ملاحظات حول الدولة والثورة في المنطقة العربيّة»، صدرتْ في كتاب «تفكيك الثورة: دراسات حول الانتفاضة المصريّة والربيع العربي»، (القاهرة: دار المرايا، ٢٠١٨)، الذي حرّره تامر وجيه وجمَع دراستين أخريين لكلٍّ من والتر آرمبرست ولوسي ريزوفا.
لا بدّ لمن يريد دراسة المجتمعات، أيّة مجتمعات، من أن ينتقل من التجريدات النظريّة إلى «التحليل العينيّ للواقع العينيّ» بكلّ تعقيداته. هذا المبدأ الذي يبدو كأنّه بديهيّ، غالباً ما يغفله مَن يستوحون المنهج الماركسيّ ظنّاً منهم أنّهم محصّنون ضدّ المثاليّة المنهجيّة لمجرّد كونهم مِن أتباع «المادّيّة التاريخيّة»، فيعتقدون أنّه يكفي للإحاطة بمجتمعهم علماً وافياً أن يستخدموا بتعريفها المبسّط المفاهيم الثلاثة التي غالباً ما يُختزَل بها النهج الماركسيّ في التحليل التاريخيّ: التحديد الاقتصاديّ، نمط الإنتاج، الطبقة.
والحال أنّ ماركس قد أنتج منظومةً معرفيّة أَعقد بكثيرٍ من الطريقة الشائعة في تداول المفاهيم المذكورة. فالتحديد الاقتصاديّ ليس وحيداً لدى ماركس بل يتضافر مع جملةٍ واسعة من التحدّيدات المختلفة (سياسيّ، تاريخيّ، ثقافيّ، إلخ)، ولا يتغلّب عليها سوى «في التعيين الأخير»، وفق عبارة فريدريش إنغلز الموفّقة. والتعيين هنا أخيرٌ بمعنى أنّه يتغلّب في المدى التاريخيّ الطويل، الأمر الذي يحيل إلى أنّه كلّما قصُر المدى التاريخيّ زاد وقْع تحديداتٍ أخرى غير الاقتصاديّ.
مفهوم «التحديد التضافريّ» عند ماركس
نصل إلى مستوى أعلى من التعقيد عندما نأخذ بعين الاعتبار كَون الأحداث السياسيّة الكبرى في التاريخ، وفي طليعتها الثورات، تنجم عن «تحديدٍ تضافريّ» وفْق التعبير الذي استعاره لوي ألتوسير (surdétermination) من سيغموند فرويد، أي أنّ تحديداتٍ شتّى تتضافر وتصبّ في إنتاج الحدَث بحيث لا يمكن إحالته إلى أحدها دون سواه. والحال أنّ التحديد الاقتصاديّ الأساسيّ البنيويّ، ألا وهو التناقض بين تطوّر القوى المنتِجة وعلاقات الإنتاج (وهو يتميّز عن التحديد الاقتصاديّ الظرفيّ الذي قد ينجم مثلاً عن تقلّباتٍ في أسعار السوق العالميّة أو تقلّباتٍ مناخيّة، إلخ)، إنّما ينتمي بطبيعته إلى المدى التاريخيّ الطويل (longue durée) في عُرف المؤرّخين المادّيّين.
أمّا نمط الإنتاج، فهو لدى ماركس نموذجٌ مجرّد، وإن كان التجريد هنا يقوم على توليف تحديداتٍ وعلاقات عينيّة عديدة. وتكاد لا توجد مجتمعاتٌ تطوّر فيها نمطُ الإنتاج الرأسماليّ في فضاءٍ خالٍ من أنماطٍ سابقة بحيث نشأت كمجتمّعاتٍ رأسماليّة صافية، إلّا ربّما المجتمعاتُ التي تأسّستْ في عصر الرأسماليّة على أنقاض مجتمعاتٍ سابقة في عمليّة استعماريّةٍ استيطانيّة. أمّا عدا تلك الحالات، فقد ترعرع نمطُ الإنتاج الرأسماليّ في مجتمعاتٍ كانت تسود فيها أنماطٌ ومؤسّساتٌ شتّى سابقة للرأسماليّة، وقد امتزج بها ولم يتخلّص من مخلّفاتها سوى بَعد مسارٍ طويل، وذلك في البلدان المتقدّمة فقط وبصورة غير تامّة. أمّا في البلدان التي جاءها نمطُ الإنتاج الرأسماليّ من الخارج مصحوباً بهيمنةٍ أعاقتْ تطوّرها الذاتيّ، فقد بقي ممزوجاً بعناصر هامّةٍ من العصر السابق لدخول الرأسماليّة، هي مخلّفات غالباً ما ارتأت الهيمنة الرأسماليّة الخارجيّة (الاستعماريّة) أن تستخدمها أدواتٍ لهيمنتها بدل تقويضها كما فعلتْ في بلدها. وتشكّل المشايخ النفطيّة الخليجيّة لدينا حالةً قصوى في هذا المجال.
يحيلنا ما سبق إلى المفهوم الآخر الذي طوّره علمُ الاجتماع الماركسيّ بناءً على مخطوطات ماركس التمهيديّة لكتاب رأس المال، وهو مفهوم «التشكيلة الاجتماعيّة» (Gesellschaftsform) التي تشهد في تطوّرها تركيباً لعناصر تنتمي إلى أنماط إنتاجٍ مختلفة بحيث تصبح «تشكيلةً اجتماعيّة مركّبة» (kombinierte Gesellschaftsform) على أن يكون المنطقُ الاقتصاديّ الغالبُ فيها منطق نمط الإنتاج المسيطر. لقد جرى ترويج مفهوم «التشكيلة الاجتماعيّة» (أو «التشكيلة الاجتماعيّة - الاقتصاديّة») وتطويره في النّصف الثاني من القرن العشرين من قِبَل ماركسيّين كأرنست ماندل ولوي ألتوسير. أما فكرة التركيب فتلتقي بمفهوم «التطور المتفاوت والمركّب» الذي صاغه تروتسكي وهو يستوحي من ماركس (من دون أن يدرك إلى أيّ مدى كان ماركس قد صاغ الفكرةَ قبْله، ولا سيّما في مسوّدات الرسالة الشهيرة إلى فيرا زاسوليتش التي حرّرها سنة ١٨٨١).
أمّا الطبقة، فهي أيضاً مفهومٌ مجرّد عندما تكون طبقةً «بذاتها» لا «لذاتها» وفْق التمييز الذي استعاره ماركس من هيغل. أي أنّ الطبقة تبقى مفهوماً نظريّاً لا غير، ولو كانتْ تشير إلى خصائصَ اجتماعيّة - اقتصاديّة موضوعيّة، ما دامت لم تصبح طبقةً «لذاتها»، أي طالما لم يرَ الذين ينتمون إليها نظريّاً (في ذهن أصحاب النظريّة) أنّهم يشكّلون طبقةً تشدّها مصلحةٌ مشتركة ولم يتصرّفوا على هذا الأساس. إنّ مسألة الوعي الطبقيّ لَحاسمةٌ في هذا الصدد، إذ إنّ سلوك المرء السياسيّ (بالمعنى العامّ للسياسة، بما فيها النشاط النقابيّ على سبيل المثال) لا يحدّده وجودُه الاجتماعيّ بقدْر ما يحدّده وعيُه الاجتماعيّ. فإذا صحّ أنّ الوجود الاجتماعيّ هو الذي يحدّد الوعي الاجتماعيّ وليس العكس، حسب مقولة ماركس الشهيرة، فإنّ الوعي الاجتماعيّ، الذي يجوز أن يكون «وعياً مزيّفاً» (أيديولوجيّاً) بالعُرف الماركسيّ، هو الذي يحدّد السلوك السياسيّ.
الطبقة بذاتها والطبقة لذاتها
ونادراً ما تدْخل طبقةٌ ما حلبةَ التاريخ بأجمعها وبوعي طبقيّ «صافٍ». وكما هو معلومٌ فكلّما كانت التشكيلة الاجتماعيّة أكثر تركيباً وتعقيداً، أي كلّما امتزجتْ فيها مخلّفات العصور السابقة للرأسماليّة بصورة أعظم، زادت قوّة الانتماءات إلى روابط اجتماعيّة ما قبل الحديثة كالقبيلة والطائفة التي تنافس الوعي الطبقيّ وتختلط به، لا سيّما لدى الطبقات الكادحة إذ تسعى الطبقات المسيطِرة إلى تعزيز كلّ ما يمكنه أن يحُول دون تبلْور وعي طبقيٍّ في وجهها. ومؤدّى ذلك أنّ الوعي الطبقيّ أكثرُ تبلوراً لدى البرجوازيّة بوجهٍ عامّ ممّا هو لدى العمّال، بالرّغم من أنّ لدى الطبقة العاملة درجةً أعلى نسبيّاً من الانسجام الاجتماعيّ ووحدة المصلحة ممّا لدى البرجوازيّة التي تنقسم عموديّاً وأفقيّاً إلى قطاعاتٍ وشرائح شتّى ومتنافسة. ففي أهمّ كتابات ماركس المخصَّصة للتحليل العينيّ للتاريخ العينيّ، ألا وهي كتاباتُه حول فرنسا ولا سيّما «الثامن عشر من برومير للويس بونابرت»، يبدو العمّال كتلةً منسجمة قياساً بالبرجوازيّة التي يشدّد ماركس في صددها على تعارضٍ رئيسيٍّ قائمٍ بين فئتي الرأسمال الصناعيّ والمالي، من جهة، والأرستقراطيّة العقاريّة من الجهة الأخرى.
فعلى من أراد اتّباع منهج ماركس أن يشخّص طبيعة الطبقات والفئات المالكة القائمة في البلد الذي ينوي تحليله بدل استسهال مقولة «الطبقة البرجوازيّة» أو «الطبقة الرأسماليّة» التبسيطيّتين اللتين تحيلان إلى ما سمّاه تروتسكي «النموذج المجرّد للرأسماليّة القوميّة» القائم على «السِّمات العامّة للرأسماليّة المماثلة في جميع البلدان» (مقدّمة الطبعة الألمانيّة لكتاب «الثورة الدائمة»). وقد شدّد تروتسكي على أنّ «السمات الخصوصيّة» لكلّ رأسماليّةٍ قوميّةٍ «ليست مجرّد إضافاتٍ إلى السمات العامّة مثل الدمّل على الوجه»، بل «تمثّل الخصائص القوميّة تركيباً طريفاً للسّمات الأساسيّة للسيرورة العالميّة». إنّها «النتاج الأكثر عموميّةً لعدم تكافؤ التطوّر التاريخيّ»، بشرط «أن تُفهم هذه المقولة الأخيرة بشكلٍ صحيح، وأن يُنظَر إليها بأبعادها كافّة، وكذلك أن يجري إدراج الماضي السابق للرأسماليّة ضمنها... إنّ خاصيّة نموذجٍ اجتماعيٍّ قوميٍّ ما إنّما هي بلورةٌ لعدم تكافؤ نشوئه».
هكذا نجد في معظم بلدان منطقتنا بلورةً خصوصيّةً للتعارض القائم بين الأرستقراطية العقاريّة الرَّيعيّة والرأسماليّة الحديثة والذي حلّله ماركس في رأس المال، وذلك في التعارض القائم بين الفئتين اللتين سمّيتُهما «برجوازيّة الدولة» و«برجوازيّة السوق»، بالإشارة إلى أعضاء الجماعة الحاكمة ومّحاسيبها، من جهة، وسائر الرأسماليّين الذين لا يدينون بمصدر رزقهم للسلطة السياسيّة، من الجهة الأخرى. وليس مصادفةً أن يطلق علمُ الاجتماع السياسيّ الحديث تسمية «الرَّيع» على مصادر الرزق الرأسماليّة المرتهِنة بالعلاقة بالسلطة السياسيّة، وهي بمثابة احتكاراتٍ مولّدة لريوعٍ مثلما هو احتكار الأرض والموارد الطبيعيّة.
كذلك نجد في منطقتنا حالةً في منتهى الخصوصيّة هي حالة العائلات الحاكمة في أغلب الدول القائمة على رَيع المحروقات (النفط والغاز)، ومعظمها عائلاتٌ عشائريّة متحدّرة من مجتمعاتٍ قبَليّة تحوّلتْ إلى جماعاتٍ رأسماليّة رَيعيّة من خلال تملّكها أو تمليكها (من قِبَل الاستعمار) للأرض وما تحت سقفها من ثروةٍ طبيعيّة. وقد أنشأت السيطرة الغربيّة فوق تلك الأرض دولةً هي تركيب من بعض سمات الدولة الحديثة وسِمات دولة الحكم المطلق «الميراثيّة» (patrimonial، والمفهوم مستعارٌ من ماكس فيبر الذي له الفضل الأكبر في تطوير علم اجتماع المؤسّسات السياسيّة) التي عرفتْها العصورُ السابقة للرأسماليّة. كما قامت حتى الأمس القريب في العراق وليبيا جماعاتٌ انقلابيّة من أصول برجوازيّةٍ صغيرة تحوّلت إلى مرادف «جمهوريّ» للأنظمة «الميراثّية» من خلال إرساء حكمٍ مطلق، فما لبثتْ أن استندت إلى عائلاتها وعلاقاتها العشائريّة والقبَليّة على غرار المشايخ النفطيّة. ونجد أيضاً حالاتٍ للنّموذج الميراثيّ ذاته في دولٍ قائمة على رَيع ليس نفطيّاً بصورة رئيسيّة (ريع طبيعيّ أو استراتيجيّ)، سواء كان النظام فيها ملَكيّاً (المغرب، الأردن) أو «جمهوريّاً» (سوريا).
أمّا الاكتفاء بضمّ جميع تلك العائلات الموسّعة الحاكمة إلى «الطبقة الرأسماليّة»، وإن صحّ أنّ بعض أفراد العائلة تحوّلوا إلى رأسماليّين نشطين، فيتغافل عن خصوصيّتها القصوى ليجعل من جميع أصحاب الرساميل عناصرَ متماثلةً في ضبابٍ نظريّ هو كالظلام الذي تغدو فيه جميع القطط رماديّةَ اللون. يُضاف إلى ذلك أنّ «الطبقة الرأسماليّة» لا تمارس الحكم بصورة مباشرة حتى في البلدان الرأسماليّة المتقدّمة، إذ هي «طبقةٌ سائدة» (herrschende Klasse) في كتابات ماركس وليست «طبقةً حاكمة» كما نجد في ترجماتٍ خاطئة. أمّا الحكم فتمارسه ما سمّاه عالمُ الاجتماع الماركسيّ - الفيبيريّ الأميركيّ سي. رايت ميلز «نخبة السلطة» (power elite) وهي تتألّف في بعض بلداننا، على غرار ما شخّصه ميلز في الولايات المتّحدة في خمسينيّات القرن الماضي، من «مثلثٍ» يتألّف من قمم الجهاز العسكريّ والمؤسّسات السياسيّة والطبقة الرأسماليّة، بينما تتألّف نخبةُ السلطة في الدول العربيّة الميراثيّة من أفراد العائلة الحاكمة وأقاربهم وأزلامهم الماسكين بأزمّة الحكم والقوّات المسلّحة.
وتنسحب ضرورةُ توخّي الخصوصيّة على تحليل الدولة، بالطبع. فالاكتفاء بالقول إنّ الدول العربيّة «برجوازيّة» هو كالاكتفاء بتصنيف الطبقات المالكة بأنّها «رأسماليّة»، أي أنّه ليس خاطئاً بالمطلق لكنّه على درجة عاليةٍ من العموميّة تتغاضى عن فوارقَ وخصوصيّات أساسيّة. ومن خصائص منطقتنا التي تتميّز بها عن سائر مناطق العالم أنّها تضمّ نسبةً عالية من الدول الميراثيّة ونسبةً أعلى من الدول الريعيّة (مع تمييز «الدولة الريعيّة» عن «الاقتصاد الريعيّ» الذي لا يتطابق بالضرورة معها، إذ إنّ دولةً ما يمكن أن تكون ريعيّةً، فيشكّل الريع جزءاً رئيسيّاً من مدخولها، بينما لا يشكّل سوى جزءٍ ثانويٍّ من الاقتصاد القوميّ برمّته).
مفهومان للدولة الريعيّة
طبعاً، لا بدّ في هذا الصدد من نقد الاستخدام النيوليبراليّ لمفهومَي «الدولة الريعيّة» و«النيوميراثيّة» الذي يطمس الطبيعة الرأسماليّة للدولة ويحيل المشكلة فيها إلى آليّات الحكم، بحيث يبدو وكأنّ حلّها ممكنٌ بخصخصة مَرافق الدولة وبإرساء «الحكم الرشيد» مع إزالة المحسوبيّة والفساد (إنّها نظرة المؤسّسات الماليّة الدوليّة ويتبنّاها بعض المعارضات الليبراليّة ومجمل الحركات الإسلاميّة «المعتدلة»). بيد أنّ ذلك الاستخدام الأيديولوجيّ ليس سبباً للتخلّي عن مفهوم «الدولة الريعيّة» الذي هو مفهومٌ أساسيٌّ ينسجم تماماً مع التحليل الماركسيّ وينتمي إلى تراثه.
وعدا تحليل ماركس المستفيض للرَّيع العقاريّ الذي شخّصه كأساسِ دخل إحدى الطبقتين المالكتين الأساسيّتين اللتين صنّفهما في «رأس المال»، ألا وهُما الملّاك العقاريّون والرأسماليّون كما سبق الذكر، فقد تبع الاقتصاد الكلاسيكيّ أيضاً بتسمية الذين يعيشون من فائدة رأسمالهم النقديّ بذوي الريع (Rentiers). ونجد التسمية ذاتَها في صميم كتاب لينين الشهير، «الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة»، حيث يطلِق التسمية عينَها على الذين يعيشون من عائدات الأسهم والسندات ويصفهم بالطفيليّين، أسوةً ببعض الاقتصاديّين في عصره، بل يرى فيهم فئةً باتت مسيطرة في بعض الدول الإمبرياليّة التي يطلَق عليها صفة «الريعيّة» مؤكّداً أنّ «الدولة الريعيّة هي دولة رأسماليّة طفيليّة».
والحال أنّ طغيان الرأسمال الماليّ (بمعنى الرأسمال النقديّ العامل في الأسواق الماليّة، وهو غير «الرأسمال الماليّ» بتعريف رودلف هيلفردنغ، أي الرأسمال المصرفيّ المندمج بالرأسمال الصناعيّ، وهو مفهومٌ بات بالياً) على سائر أنواع الرأسمال، هذا الطغيان هو من أبرز سمات عصرنا النيوليبراليّ. وبالطبع ما ينسحب على الرأسمال الماليّ ينسحب أيضاً على الدولة والرساميل القائمة على الريع بأصنافه كلها، وهو في جميع الأحوال دخلٌ طفيليّ بصورة بحتة بخلاف أرباح روّاد الأعمال. وهكذا ينجلي بصورة أدقّ انخراط الدول الريعيّة الخليجيّة في الرأسماليّة الماليّة الطفيليّة المهيمنة في زمننا. كما نرى التلازم بين شكلَي الريع في السلوك الرأسماليّ الريعيّ الخاصّ بالدول الخليجيّة التي تستثمر في الخارج القسمَ الأعظم من «فائض دخلها» بشكلَي الريع المذكورين: الاستثمارات العقاريّة واستثمارات «المحفظة» (التي تختلف بطبيعتها السلبيّة الطفيليّة عن «الاستثمار الأجنبيّ المباشر» عندما يهدف إلى المشاركة في إدارة المشاريع).
الميراثيّة والنيوميراثيّة
ومثلما ميّزنا بين شتى أنواع الفئات المالكة في منطقتنا وشدّدنا على خصوصيّتها، لا بدّ أن نميّز بين الأصناف السياسيّة للدول الريعيّة التي تتألّف منها غالبيّة الدول العربيّة. فبعضها دولٌ ميراثيّة بالكامل (حاليّاً، دول مجلس التعاون الخليجيّ والملَكيّتان المغربيّة والأردنيّة والنظام السوري) وبعضها الآخر دول نيوميراثيّة (تعبيرٌ استحدثتُه لترجمة مفهوم neopatrimonial الحديث، وقد فضّلتُه على «ميراثيّة جديدة» لاقتضابه)، أي دول تشهد استشراء المحسوبيّة في إطار حكمٍ غالباً ما يكون سلطويّاً، لكنّها دولٌ ليست مُلك عائلة حاكمةٍ بعينها كما أنّ القوى المسلّحة، وهي العمود الفقريّ لكلّ دولة، ليست فيها حرساً خاصّاً للعائلة الحاكمة كما هي الحال في الدول الميراثيّة، بل تسود المؤسّسة العسكريّةُ على السلطة السياسيّة في بعضها (مصر، الجزائر، السودان).
تكتسب التعقيدات النظريّة سابقةُ الذكر أهمّيّةً بالغة في البلدان العربيّة التي تشمل بعض أكثر مجتمعات العالم تعقيداً من حيث تعدّدُ العناصر المساهمة في تكوينها وتنافرها. فالتحليل الاقتصاديّ الذي يستند في فهمه لسير العمليّة الاقتصاديّة إلى مقولاتٍ كالإنتاجيّة والسوق والمعدّل الوسطيّ للربح، بما في ذلك التحليل الماركسيّ كما جاء في «رأس المال»، لا بدّ من أن يأخذ في الحسبان في المنطقة العربيّة ما سمّيته «هيمنة التحديد السياسيّ لتوجّهات النشاط الاقتصاديّ». والحال أنّ شتّى العوامل السياسيّة، من هيمنة السلطة السياسيّة على العمليّة الاقتصاديّة المحلّية حتى التأثير الكبير للظروف السياسيّة العامّة على عنصر أساسيٍّ في المعادلة الاقتصاديّة الإقليميّة هو سعر النفط، تلك العوامل تهيمن على الدورة الاقتصاديّة وعلى تحديداتها الاقتصاديّة «العاديّة» في بلداننا.
كلّ ما سبق يرسم صورةَ ما سمّيته «النمطيّة الخصوصيّة لنمط الإنتاج الرأسماليّ» في المنطقة العربيّة، وهي «تنويعةٌ خصوصيّة إقليميّة للرأسماليّة» يندرج البحث فيها في المسعى إلى تخطّي فكرة نمط الإنتاج الرأسماليّ العامّة المجرّدة، وذلك بالتركيز على خصوصيّات أوضاعنا. وقد حدا المسعى عينه بمهدي عامل إلى صياغة مفهوم «نمط الإنتاج الكولونياليّ»، إلّا أنّ تسمية «نمط إنتاج» توحي أنّ المقصود يختلف عن نمط الإنتاج الرأسماليّ بدلّ أن يكون تنويعةً من تنويعاته و«نمطيّةً» من نمطيّاته (والقصد من هذا التعبير الأخير المستحدَث هو الآخر إنّما هو الإشارة إلى أصناف النمط عينه التي لا تشكّل نمطاً مغايراً). كما يبقى المفهوم الذي صاغه المفكّر الماركسيّ الشهيد مفهوماً عموميّاً يشير إلى حالة الرأسماليّة في البلدان التابعة بوجه عامّ بينما تتميّز منطقتنا العربيّة بخاصّياتٍ تاريخيّة فريدة من نوعها، لا بدّ من وضعها في صميم التحليل إذا أردنا فهم أوضاعنا فهماً عينيّاً وخصوصيّاً بدل أن يبقى مجرّداً وعموميّاً.
الأزمة العظيمة العام ٢٠١١
نأتي هنا إلى تحليل الأزمة العظيمة التي انفجرتْ بصورة الانتفاضة الإقليميّة الكبرى المعروفة بتسمية «الربيع العربيّ». فإنّ كثيراً من المحلّلين اليساريّين، وبعضهم من الماركسيّين، عزَوا الانفجار العربيّ إلى النيوليبراليّة، بل ربطه بعضُهم بأزمة هذه الأخيرة التي انفجرتْ في عام ٢٠٠٧ وبلغتْ ذروتها عالميّاً في العام التالي. ولا شكّ بالطبع في أنّ التغييرات المستوحاة من النيوليبراليّة التي دخلت المنطقة العربيّة تدريجيّاً منذ سبعينيّات القرن الماضي والتي حثّت عليها وأحياناً أملتْها المؤسّسات الماليّة الدوليّة، تلك التغييرات ساهمتْ إسهاماً أساسيّاً في مفاقمة ثلاثيّة «الفقر، اللامساواة، اللااستقرار» التي عانتْها المنطقة، ومنها بالأخصّ معدّلات البطالة المزمنة القياسيّة (ولا سيّما بطالة الشباب والنساء والمتخرّجين).
غير أنّ تفسير أزمة المنطقة العربيّة بالنيوليبراليّة وحدَها إنّما يحيلها إلى سياسات اقتصاديّةٍ وقد يتغافل عن طبيعتها البنيويّة. أفلا تتميّز الأزمة الإقليميّة العربيّة عن الأزمات الاقتصاديّة الظرفيّة العابرة التي شهدتْها بلدانٌ عديدة في السنوات الأخيرة؟ ولماذا أدّت السياسات النيوليبراليّة ذاتُها إلى نجاحاتٍ اقتصاديّة في بعض البلدان، منها تركيا والهند، تختلف اختلافاً عظيماً عن عواقبها في المنطقة العربية؟ أوليست الحقيقة أنّ البلدان العربيّة تميّزت حتى «الربيع العربيّ» بتطبيقٍ جزئيّ وحذِرٍ نسبيّاً للسياسات النيوليبراليّة، الأمر الذي أدّى بالمؤسّسات الدوليّة إلى ممارسة ضغطٍ مستمرٍّ ومتصاعدٍ عليها كي تطبّق وصفاتها بالكامل؟ وبالتالي كيف يتمّ الردّ على تلك المؤسّسات التي عزَت الانفجار إلى البطء والتردّد والتمهّل (وكلّها بسبب الخوف من ردّ الفعل الشعبيّ، طبعاً) في تطبيق وصفاتها؟
في الواقع، فإنّ أزمة المنطقة العربيّة ليست بمجرّد نتاجٍ إقليميٍّ لأزمة النيوليبراليّة العامّة مثلما هي الأزمة اليونانيّة على سبيل المثال، أي أنّها ليست أزمة ظرفيّة يمكن تخطّيها بتعديل السياسات الاقتصاديّة، بل هي أزمةٌ بنيويّة ناجمة عن النمطيّة الرأسماليّة الخصوصيّة السائدة في المنطقة والتي تمّ شرحها أعلاه. وهذه النمطيّة هي التي تفسّر لماذا أدّت السياسات النيوليبراليّة في المنطقة العربيّة إلى فشلٍ أكبر ممّا في أيّ منطقة أخرى من العالم، بحيث إنّ معدّلات النموّ الاقتصاديّ لدينا هي الأكثر انخفاضاً بين المناطق النامية في آسيا وأفريقيا. وقد فسّرتُ ذلك في كتابي «الشعب يريد» من خلال تفحّص مشكلة الاستثمار وتبيان كيف أنّ الشروط البنيويّة السائدة في المنطقة العربيّة غير مؤاتيه للاستثمار الخاصّ التنمويّ، بل تولّد استثماراً خاصّاً يتوخّى الربح السريع بغالبيّته العظمى، وهو استثمارٌ ريعيّ في قسمٍ كبير منه سواءٌ بمعنى الريع العقاريّ أو ريع المحسوبيّة.
أمّا لازمة هذا التحليل فهي أنّ الأزمة الاجتماعيّة - الاقتصاديّة العربيّة لا يمكن اختزالها بنتيجةٍ للنيوليبراليّة لا غير، ولا يمكن حلّها بمجرّد تعديلٍ السياسات الاقتصاديّة في إطار استمرار البنية الاجتماعيّة - السياسيّة ذاتها، بل هي أزمةٌ ناجمة عن هذه البنية الأخيرة وقد سرّعت السياسات النيوليبراليّة في تفجيرها. أمّا حلّها فيتطلّب تغييراً جذريّاً في البنية المذكورة، لا يمكن أن يكون فحواه سوى إحلال حكمٍ جديد تكون الغلبة فيه للطبقات الكادحة، وهي القوّة الاجتماعيّة الوحيدة ذات الزخم الكافي لتشكيل أساسٍ لسياساتٍ اقتصاديّة مختلفة جذريّاً.
هذا ويسمح التحليل الوارد أعلاه بتشخيصٍ دقيق للاستراتيجيّة الثوريّة وبفهم الاختلاف في مصائر الانتفاضات في مختلف البلدان العربيّة. وقد بيّنتُ في «الشعب يريد» كيف أنّ عمليّة التخلّص السلميّ (نسبيّاً) من رأس هرم السلطة («رأس جبل الجليد») ممكنة في الدول العربيّة النيوميراثيّة، حيث يجوز أن يتخلّص جهازُ الدولة من المتربّعين على قمّته، لكنّها مستعصية في الدول الميراثيّة حيث يؤدّي الارتباط العضويّ بين القوى المسلّحة والعائلة الحاكمة إلى حتميّة التصدّي الدمويّ لأيّ محاولةٍ لإزاحة رأس السلطة. فركّزتُ على أنّ الأزمة البنيويّة لا يمكن تجاوزها سوى بثورةٍ تتفوّق على مقاومة جهاز السلطة المسلّح، الأمر الذي لن يحدث بدون درجة عالية من الصدام المسلّح في الدول الميراثيّة. ولن يمكن تفادي مثل ذلك المستوى من الصدام والحرب الأهليّة في الدول الميراثيّة كما في الدول النيوميراثيّة سوى إذا استطاعت الحركة الشعبيّة أن تنهض إلى مستوى تلبية شروط «الدرس الاستراتيجيّ» الذي لخّصته في «انتكاسة الانتفاضة العربيّة: أعراض مرَضيّة»، في الفصل الخاصّ بمصر، على النّحو الآتي: «ما من ثورة ستنجح في تفكيك الدولة العسكريّة - الأمنّية ما لم تتمكّن من كسب «قلوب وعقول» قاعدتها، عوضاً عن ارتكاب الخطأ المميت المتمثّل في السعي وراء تأييد قمّتها، مثلما كان الحال في ٢٠١١ - ٢٠١٣ على السواء. وفي غياب ذلك، فإنّ قمّة الهرم العسكريّ - الأمنيّ، التي هي مكوِّنٌ أساسيّ من مكوِّنات قمّة الهرم الاجتماعيّ، لن تتردّد في سحق أيّ حركة جماهيريّة سحقاً دمويّاً، مهما كان الثمن بالأرواح البشريّة». (انظر أيضاً مقالتي «هل يستطيع الشعب إسقاط النظام والدولة لاتزال قائمة؟ تأمّلٌ في المعضلة الرئيسيّة للانتفاضة العربيّة»).
وتبقى مسألة الكتلة التاريخيّة الثوريّة، بالمفهوم الذي طوّره غرامشي، التي ينبغي تشكيلها في مواجهة النظام القائم. فإنّ التركيب الاجتماعيّ العينيّ لتلك الكتلة يتحدّد بحسب التشكيلة الاجتماعيّة الخاصّة بكلّ بلد، وإن أمكن التأكيد بوجهٍ عامّ على ضرورة شمولها للطبقات الكادحة من عمّال وفلّاحين وبرجوازّية صغيرة فقيرة ومتوسّطة وكذلك الفئات الوسطى المثقّفة. أمّا التعبير السياسيّ عن هذه الكتلة التاريخيّة فهو جبهةٌ تشمل كافّة القوى التقدميّة من ماركسيّة وأناركيّة واشتراكيّة إصلاحيّة (إصلاحيّة إزاء الرأسماليّة كنمط إنتاجٍ وليس إزاء النظام السياسيّ القائم) وناصريّة يساريّة وسواها من القوميّين التقدميّين، وصولاً إلى الليبراليّين التقدّميّين (ليبراليّين في السياسة ومعارضين للنيوليبراليّة الاقتصاديّة)، بما في ذلك أيّ جماعات دينيّة تنتمي إلى هذا القوس من التيّارات السياسيّة.
وتواجه مهمّة تشكيل الكتلة التاريخيّة الثوريّة في المنطقة العربيّة صعوباتٍ تفوق المعهود بسبب خاصّيّتين: إحداهما هي استغلال الدين من قِبَل القوى الرجعيّة، سواءٌ كانت في السلطة أو في المعارضة، بتحويله إلى سلاح أيديولوجيّ لمراميها، أمّا الأخرى فهي استغلال الأنظمة القائمة لشتّى أنواع الاصطفاف الاجتماعّي المضادّ للاصطفاف الطبقيّ من طائفيّة وقبليّة وجهويّة، وهي أنواعٌ تحتلّ أهمّيّةً كبيرة في منطقتنا.
فإنّ الصعوبات التي تعترض طريق الثورة في المنطقة العربيّة صعوباتٌ جمّة وعظيمة بلا شكّ، لكنّ تلك الطريق قد يسهل تعبيدها لو تطوّر الظرف العالميّ في اتّجاه صعودٍ تاريخيٍّ جديد لقوى اليسار، ظهرت مؤشّراته في الصعود الحديث لتلك القوى في معاقل الإمبرياليّة الغربيّة الرئيسيّة، ولا سيّما الولايات المتّحدة الأميركية وبريطانيا. والحال أنّ العولمة السياسيّة والثقافيّة التي نجمتْ عن العولمة التكنولوجيّة (تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات) قد خلقت أساساً مادّيّاً للعولمة الثوريّة («الثورة العالميّة») يفوق كثيراً ما قامت عليه الموجتان الثوريّتان العالميّتان السابقتان اللتان عقبتا الحربين العالميّتين في القرن العشرين.
والانفجارات الثوريّة مفاجئة بطبيعتها، مثلما كان «الربيع العربي»، وتنتظرنا بلا شكّ مفاجآت عديدة في السنوات والعقود المقبلة على خلفيّة السيرورة الثوريّة طويلة الأمد التي انطلقت شرارتُها من تونس في نهاية عام ٢٠١٠. هذا يزيد من إلحاح مهمّة إعداد الكتلة التاريخيّة الثوريّة، إذ إنّ هذا الإعداد شرطٌ رئيسيّ لتفادي انقلاب الموجات الثوريّة الآتية إلى موجات مضادّة ولإخراج منطقتنا من النفق التاريخيّ المظلم الذي باتتْ حبيسةً فيه إلى نور عصر جديدٍ من الحريّة والمساواة والازدهار هو ما تصبو إليه الأجيال الصاعدة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.