انتهى حفل توزيع جوائز مهرجان «كان» السينمائيّ، الذي اختَتَم دورته الثانية والسبعين، في الوقت الذي هبطت فيه الطائرة التي استقللْتُها في برلين. تمّ الإعلانُ عن عددٍ قليل من الجوائز، وكنت أجهد لـ«تحديث» مختلف تطبيقات وسائط تجارة الأفلام و«تجديدها» على هاتفي لمتابعة الأخبار، بينما كنت أنتظر ظهور أمتعتي على حزام نقل الحقائب في المطار.
مرّت سنواتٌ عدّةٌ منذ أن تابعتُ قراراتِ لجنة التحكيم، لكنّها كانت سنة جيّدة للمهرجان، وقد تمكّنتُ من مشاهدة عددٍ من الأفلام أكثر مما أشاهد في العادة. ما أدهشني هو تلاشي نفوري المعتاد تُجاهَ مراسم التتويج الجماهيريّة التي ينظّمها تيري فريمو. في الواقع، كان عاماً جيّداً بحيث تغلّبتْ مناقشة الأفلام على الثرثرات المعتادة حول المشاحنات الجارية بين الرجال الذين يديرون أقساماً مختلفةً من المهرجان ويتنافسون دائماً على الأفلام المرغوب فيها نفسِها. إنّ «كان» هو مهرجانٌ للمشاعر المتطرّفة - الابتهاج والغضب - لكنّه ربما الأسوأَ من ذلك كلّه، إنّه مهرجانٌ يولّد ويغذّي مَيلاً مزعجاً للتهكّم. هذه المرّة، كانت الأولى منذ سنوات عديدة، التي شعرت بالحصانة لأنّ الكثير من الأفلام التي شاهدتُها انطبعتْ في ذاكرتي وبقيتْ متألّقةً مثلَ سحر اليراعات في ظلام الليل.
بالنسبة إلى مبرمجة مهرجانٍ مثلي، فإنّ مهرجان كانْ تجربةٌ جسديّة وعاطفيّة ونفسيّة. وفي رأيي المتواضع، إنّه المهرجان الأكثر إرهاقاً بين جميع المهرجانات. فمن المتوقَّع أن يشاهد المبرمِج أكبر عدد ممكن من الأفلام، وأن يجمعَ في الوقت نفسه معلومات («معلومات استخباراتيّة») عن الأفلام التي ستكون جاهزةً قريباً لإدراجها في الإصدار القادم من مهرجانه الخاصّ، من أجل اكتشاف الاتّجاهات الجديدة في هذه الصناعة، وتخمين ميول السوق. من ناحيةٍ أخرى، بدا لي المهرجان دائماً مثل «محيطٍ حيويٍّ» داروينيّ: نوعاً من التجربة النفسيّة والاجتماعيّة التي تجمع في مكانٍ واحد جميعَ الخبرات المرتبطة بالصناعة والمهَن التي تحْكم صناعة الأفلام من جميع أنحاء العالم.
في طابور الانتظار
يحدّد النظام الصارمُ لمهرجان كانْ إمكانيّة الوصول وفقاً للامتياز، وهو ما تُترجمه بوضوح الشارةُ التي يرتديها كلّ مشاركٍ في المهرجان حول عنقه. تُمنح الامتيازاتُ وفقاً لصيغة غامضةٍ تحدَّد فيها حالةُ العامل وقربه من دوائر السلطة التي تحكم المهرجان والقدرات الماليّة. فمن أجل مشاهدة كلّ فيلم، يتعيّن على المرء أن يقف في طابور. وفي المتوسّط ، يجب على حامل شارة «جيّدة» الوقوف بين ستّين دقيقة وتسعين لتأمين مقعدٍ في قاعة السينما حيث يُجرى عرضٌ رسميّ لأحد الأفلام. لكنْ حتى فترة الانتظار الطويلة هذه لا تقدّم أيَّ ضمانةٍ للحصول على مقعد. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الدخول إلى دور السينما والأماكن والشواطئ وبعض الفنادق الفاخرة مشروطٌ أيضاً بتدقيقٍ أمنيٍّ أقلّ تطفّلاً بدرجةٍ واحدةٍ أو درجتين من التدقيق الأمنيّ المتّبَع في المطارات. ويؤدّي هذا التدقيق إلى إبطاء حركة المرور بشكل كثيراً، وبالتالي إلى خلْق مزيدٍ من الطوابير.
يبدو أنّ الشركات الخاصّة التي يجري توظيفُها لتولّي أمور الأمن تبتكر، في كلّ عام، نظاماً جديداً لتنظيم مداخل الأماكن ومخارجها، والمواقع التي يجب أن يتمّ فيها الانتظار، فضلاً عمّا إذا كان مسموحاً بإدخال الأطعمة والمياه والأشياء الاعتياديّة الأخرى للحياة اليوميّة. أنا مقتنعةٌ بأنّ هذه الشركات الخاصّة أبرمت اتفاقاً سرّيّاً مع علماء الاجتماع السلوكيّين الساديّين الذين يرَون في المهرجان فرصةً لإجراء تجاربَ لتقييم السيطرة على الحشود، ولقدرة الناس على الامتثال للقوانين التي تتحدّى المنطق على نحوٍ صارخ، إضافةً إلى القدرة الإنسانيّة على تحمّل الإهانة.
غنيٌّ عن القَول أنّ المحيط الحيويّ مدعومٌ من السوق. إنّه يضخّم رهانات ودراما المهرجان. ففي هذا الكون الموقّت، كلّ شيءٍ يضخَّمُ على نطاقٍ واسع: الغضب الاعتياديّ يصبح حنَقاً واهتياجاً، وتصبح النكتة السخيفة هزْلاً، والإشاعة حقيقة، ويصبح تورّم الكاحلَين من الوقوف والجلوس لساعات طويلة شارة عار، ويصبح ماراثوناً من الاجتماعات أو التصرّف غير المهذب علاماتٍ على الخزي. وعندما تُمطر السماء أو عندما لا تتوافق درجات الحرارة مع فصل الربيع، تزداد المنافسة الداروينيّة، ويزداد مؤشّر حدّة التعذيب قليلاً.
يعني الوجود في المحيط الحيويّ أنّ طابور الانتظار يبدو كأنّه تكفيرٌ شعائريّ يجب أن يتحمّله الحاجّ قبل أن يستحقّ الدخولَ إلى المعبد المقدَّس. كما أنّه يضمن أنّ المهاجرين غير الشرعيّين الذين يبيعون المظلّات أو الحليّ، والذين يزرعون الطوابير الطويلة جيئة وذهاباً، يصبحون في أفضل الأحوال حتميّةً طفيليّة، وفي أسوأ الأحوال غير مرئيّين. ومن سخرية القدَر أنّ هؤلاءِ غالباً ما يكونون مواضيع الأفلام ذاتِها التي يصطفّ المرءُ لمشاهدتها، والتي من المحتمل أن تفوز بجوائزَ لالتقاطها الدقيق للواقع. الحياة في المحيط الحيويّ تَعني التحدّثَ بعنفٍ إلى الطاقم المتعَب الذي ينظّم طوابير الانتظار، وإلى موظّفي المطاعم الصغيرة باهظةِ الأسعار، عندما يخطئون في تقديم طلب شخصٍ آخرَ إليك. إنّهم أيضاً موضوعُ الأفلام التي غالباً ما تثير التعاطف، والتي يُثني عليها المرءُ بعد ذلك عندما يلتقي أقرانُه في هذه المطاعم الصغيرة والحانات ذات الأسعار المرتفعة.
مع ذلك، يعني الوجود في المحيط الحيويّ هذا العام أيضاً تجاهلَ واقع حركة «السترات الصفراء». فقبل بدء المهرجان بفترة قصيرةٍ، تمّ توزيع عريضة على حَشْد تضامُن مجتمع الأفلام السينمائيّة في فرنسا مع الحركة، وظهرتْ جماعةٌ تطلق على نفسها اسم «الغوّاصة الصفراء». وكان عددُ الموقّعين لافتاً، لكنّ «الغوّاصة الصفراء» أثبتتْ في النهاية أنّها مضلَّلة، وقد أثارت اهتماماً ضئيلاً في المهرجان. ربما سيُصنعُ فيلمٌ عن «السترات الصفراء» في العام المقبل، حتى يحظَوا أخيراً ببركات مجتمع السينما العالميّة.
إذا كانت الآلام الجسديّة للكواحل المتورّمة أو الظهور الموجعة هي التدخّلات الحميمة للوجود الحقيقيّ، مؤكدةً وجود الفرد في المحيط الحيويّ، فإنّ الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعيّ عن شحن دونالد ترامب الأسلحةَ إلى المملكة العربيّة السعوديّة وقيامَه بمبادراتٍ عدوانيّةٍ تُجاه إيران، مثيرة للقلق. لقد تأهّبتْ أنظمة الدفاع الشخصيّ الخاصّة بي. فتساءلتُ فجأة عمّا إذا كنتُ على وشك أن تتقطّع بي السبل بعيداً عن موطني، في أثناء مشاركتي في مهرجان كانْ السينمائيّ، وما إذا كانت المنطقة التي أتحدّر منها، ولا أزال أعيش فيها، ستشتعل فيها الحرب. «لن يحصل ذلك خلال شهر رمضان»، هكذا أعلن رؤساء التحرير العرب. هل يشترون الوقت لتجنّب التفكير فيما يمكن تصوُّره؟
عندما تنطفئ الأنوار في قاعة السينما ويبدأ عرض الفيلم، تُخلى أخيراً منطقةُ المحيط الحيويّ الشريرة. أحياناً، يبدو الفيلم كأنّه سحر. وكمُبرمِجة للسينما العربيّة والأفريقية، كنتُ أحذّر دائماً بشدّة من تصوّر السينما بديلاً رئيسيّاً من التحقيق الصحافيّ. فليس من مهمّات السينما التعويض عن الصحافة الضالّة أو الغادرة. فهي، أي السينما، حتى عندما تلتقط «الحقيقة»، فإنّها تنبثق من داخل حقيقةٍ حيّة: قلبِها، شجاعتِها، ذكائها، تخيّلِها الجماعيّ، أعرافِ المقاومة، الإلحاحِ، الشعراءِ، الأساطير. ستكون قراءةُ اختيار الأفلام في مهرجان كانْ كروح العصر البديلة، أمراً قاصر النظر وحقيقيّاً، لكنّ نَظْم الأفكار الرئيسيّة في الأفلام، وتوليف الصدى، واستخلاص الحكمة، تشكّل بهجةً نادرة تُمنح للحضور.
عودة المكبوت
عاود العديدُ من الأفلام تناولَ موضوع الزومبي، والأشباح، والمسّ الشيطانيّ، واستحواذ الأرواح. على
وجه التحديد: فيلم «أبو ليلى» للمخرج أمين سيدي بومدين، و«أطلنطس» (المحيط الأطلسيّ) للمخرج ماتي ديوب، و«زومبي تشايلد» (الطفل الزومبي) للمخرج برتراند بونيلو، وهما من أفلام عام ٢٠١٩. ويجري استخدام الأشباح، الزومبي، الأرواح، والمسّ بطرق مختلفة تماماً: فهي أقلّ أهمّيّةً كعناصر دراميّة تتعامل مع مبدأ من نوع ما، أكثر من كونها رموزاً معّدّةً لمعالجة عودة ظهور الصدمات المكبوتة وغير المستقرّة والظلم طويل الأمد، سواء الذي حدث في الماضي القريب أو البعيد. إنّ أولئك الذين يعتقد الأقوياء أنّهم سحَقوهم، ومحَوْهم، وجعلوهم عديمي الأهمّيّة، قد تمّ تمكينهم حديثاً من الانبعاث من المقابر والقبور الجماعيّة غير الرسميّة (المحيط الأطلسي أو البحر الأبيض المتوسّط)، وحتى من مقبرة النسيان القسريّ، إنّهم يتذمّرون، ويصحّحون السرد ويبطلون الأعمال السيّئة. إنّ زيادة عددهم ليست مجرّد استعادةٍ رمزيّة أو شعريّة للعدالة، لأنّها تضفي تغييراً راديكاليّاً في مجرى الأحداث.
لم تكن هذه رسالةً برقيّةً، سواءٌ في فيلم «أبو ليلى» أو «أطلنطس» أو «زومبي تشايلد». لكنْ، بدلاً من ذلك، قامت هذه الأفلام بتمكينٍ عنيدٍ لخيال التمرّد، وهو فعلٌ أكثر عمقاً وفاعليّةً بكثير من أيّ رسالةٍ يمكن توضيحُها. لقد تطرّقتْ أفلام أخرى للفكرة أيضاً، بما في ذلك الفيلم الافتتاحيّ الرسميّ للاختيار The Dead Don't Die (الموتى لا يموتون)، وهو فيلمٌ مليء بالممثّلين النجوم، للمخرج جيم جيرموش، والذي يروي قصّة غزْو بلدةٍ صغيرة من قبَل حشْد من «الموتى الأحياء». (للأسف، فشلَ الفيلم فشلاً ذريعاً في تناول هذا النوع بشكل خلّاق وكان أقلّ إثارةً للاهتمام من الأفلام الأخرى).
في فيلم «أبو ليلى » (٢٠١٩) للمخرج أمين سيدي بومدين، يسافر ضابطُ فرقة مكافحة الإرهاب الجزائريّ لطفي (ليث سالم) وصديقُ طفولته شرطيّ المرور «س» (سليمان بنواري) جنوباً إلى الصحراء في رحلةٍ دون كيشوتيّة لطرد الأرواح الشرّيرة، التي تمّ إطلاقها خلال العشريّة السوداء للجزائر، والتي يبدو أنّها استحوذتْ عليهما١. وكلّما تقدمت أحداث الفيلم، ازدادت حبكتُه غموضاً وغرابة. في البداية، يبدو أنّ لطفي و«س» يخوضان جنوباً في مطاردة أبي ليلى، أحد القادة الإرهابيّين. ويبدوان مدفوعَين بالرغبة في الانتقام لـ«س» الذي يعاني من الصداع النصفيّ ونَوبات هلوسة نتيجةَ احتجاز أبي ليلى له قبيل مهمّةٍ أمنيّة وطنيّة. فإذا ما ألقي القبض عليه، فإن «س»، سيتمكّن من افتداء نفسه، أو هكذا يَعتقد المشاهد.
لكنْ، في منتصف الفيلم، يصبح من غير الواضح ما إذا كان أبو ليلى موجوداً بالفعل أم أنّ «س» يتخيّله، أم أنّ لطفي في الحقيقة هو أبو ليلى متنكّراً؟ وحتى بعد أن ينقضي ثلثا الفيلم، تتعقّب الشرطةُ هذين الرجلين. وبحلول نهاية الفيلم، يضيع «س» في الصحراء، حيث يشاهد أسداً يقضم جثّة أحد المرشدين الذي يتحوّل إلى شكل رجلٍ تمّ التعرف إليه مسبقاً في الصور باسم أبو ليلى. يترابط الفيلم من خلال الإحساس القويّ بوجود تهديدٍ لا هوادة فيه، وهو مزاجٌ تمّ التقاطه بشكل مثير للإعجاب من خلال التصوير السينمائيّ لكانام أونوياما.
ينتهك «أبو ليلى» ببراعةٍ وفطنة الأعرافَ السينمائيّة. فباعتباره فيلمَ إثارة، يشوّق الجمهورَ فعلاً من دون الكشف عن أيّ معلوماتٍ معقولة حول دوافع شخصيّاته، سواءٌ الماضية أو الحاليّة، وذلك من خلال حبكةٍ سورياليّة. وكفيلمٍ تدور أحداثه على الطريق، فإنّه لا يُظهر كيفيّة تطوّر العلاقة بين الشخصيّتين، ولا يشرحها البتّة، فتصبح العلاقة أكثر إثارةً للفضول والغموض نظراً إلى فشل الحبكة في تتبّع أيّ فاصل، بل تعود بنا إلى المشهد الأوّل من الفيلم. إنّ رحلة لطفي و«س» هي رحلة إلى «قلب الظلام»، إذا جاز التعبير، حيث تنقل الدراما بصدق المزيجَ المهووس من الاغتراب والخوف واليأس الذي عانى منه الجزائريّون خلال عشريّتهم السوداء، أولئك الذين وَجدوا أنفسهم عالقين بين العنف العقيم للإسلامويّين - أشباه داعش - الذي شنّوه ضدّ السكّان الذين لم يؤيّدوهم، والعنف الذي استخدمه الجيش للقضاء على أولئك الإسلامويّين.
لا توجد أشباحٌ أو زومبي أو مسٌّ شيطانيّ في فيلم «أبو ليلى»، لكنّ الذنب والخوف والغضب، التي لم يصرْ إلى علاجها أو إخمادها، قد تجمّدتْ في مركّباتٍ سامّة تُحوّل البشر إلى وحوش. يغامر البطَلان في «قلب الظلام» لأنّهما يريدان الخلاص، في الذهاب إلى صحراء لم تكن مكان أحداث الفيلم وحسب، بل لأنّها أيضاً صورة مجازيّةٌ لحاضر الجزائر الاجتماعيّ والسياسيّ. فالانتفاضة المدنيّة السلميّة التي أطاحت الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وتتواصل حتى الآن إنّما هي رفضٌ للنظام الذي حكَمَ البلاد منذ نهاية العشريّة السوداء.
السماوات والقبور ليست عوالمَ منفصلة
أمّا في فيلم «أطلنطس» للمخرج ماتي ديّوب، فإنّ أشباح الشباب السنغالي الذين لقوا حتفهم في البحر أثناء عبورهم الخطر إلى أوروبا، تنهَض للاستحواذ على أجساد أحبّائهم، الذين ينتظرون بفارغ الصبر أخبارَهم، ولاستعادة أجورهم المتأخّرة غير المدفوعة من أرباب العمل السنغاليّين الذين انتهكوا حقوقهم وأفلتوا من العقاب٢. ومن خلال إعادة النظر في أفلام ديوب السابقة القصيرة والمتوسّطة يبرز «أطلنطس» للمخرج ببراعة القضاء على الفروق. ترجع كاميرا كلير ماثون التي صوّرتْ مشاهد الفيلم على شواطئ داكار في أكثر الأحيان عدّة مرّات للتركيز على تموّجات وتدفّق مياه المحيط في الأفق المفتوح، تماماً مثل لوحة مارك روثكو، مع سلسلةٍ مضيئةٍ بين لون السماء الأزرق الفاتح للسماء والأزرق الغامق للمحيط الأطلسي، ما يوحي بأنّ العاَلمين مستمرّان على نحوٍ خاطئ.
هنا تكمن الحيلة الخياليّة لفيلم «أطلنطس». في المرّة الأولى التي يظهر فيها تسلسل المحيط والأفق، يبدو أنّه التقاطٌ مجازيٌّ للحدّ الفاصل بين الواقع القاسي للحياة في داكار والوعد بحياة أفضل وراء الأفق، لكنْ عندما يتكرّر ذلك، تثير هذه الحدود بدلاً من ذلك الحدّ الفاصل بين عالم الأحياء وعالم الذين ابتلعتْهم أمواج المحيط. إنّ السماوات والقبور الجماعيّة ليستْ عوالم منفصلة: فالأموات لا يُهزمون، بل يعودون إلى الحياة في أجساد أولئك الذين يحبّونهم ولا يزالون ينتظرونهم على الشاطئ. يجسّد «أطلنطس» كيفيّة تعايش الأحياء مع حزنهم على الذين ماتوا، لكنّ الاخيرين يواصلون العيش داخل الأحياء كما تتكرّر الكلمات التي كانوا يقولونها، ويتكرّر بالتحديد الظلمُ الذي تعرّضوا له، ما يمكّن الأحياء من أن يحقّقوا الرغبات التي لم يستطيعوا تحقيقها. في النهاية، لم يكن «أطلنطس» فيلماً انتقاميّاً لاستحواذ الزومبي، بل تأمّل معاصر في الظلم طويل الأمد الذي تتسبّب به أنظمة الاستغلال والرعونة الدنيئة المتمثّلة في إفلات السلطة من العقاب.
في فيلم «زومبي تشايلد» للمخرج برتراند بونيلو، تتحدّر فتاةٌ مراهقة من هايتي من جدّ أصبح زومبيّاً عن طريق السحر، وتنتهك الأسس الأخلاقيّة العالية للثورة الفرنسيّة، متذرّعةً بعبء التاريخ الاستعماريّ طويل الأمد. لقد تمّ بناء الفيلم من خلال تناقضاتٍ صارخة بين باريس الحاليّة وريف الستينيّات من القرن الماضي في هايتي. ويستمدّ الفيلم أيضاً من إيقاعاته التبادلَ المذهل للحدود الزمنيّة في هذه الحالة.
يجسّد فيلم «زومبي تشايلد» قصّة كليرفيوس نارسيس (ماكينسون بيجو) في مرحلة بلوغه المبكّر وحفيدته البالغة من العمر ١٥ عاماً، ميليسا (ويسلاندا لويمات). كان كليرفيوس نارسيس قد أصبح زومبياً بعد سحره بالفودو، تلبيةً لطلب شقيقه، على أثر نزاع بينهما على ميراث أرض. لكنّه نجا من هذا السحر وتمكّن من العودة إلى زوجته وقريته، بعد مرور عشرين عاماً تقريباً. يعتبر سحر المرء زومبياً من طقوس الفودو الهايتيّة التي نشأتْ في أثناء تمرّد العبيد الآبقين من المستعمرين الفرنسيّين، وفي حالة نارسيس وآخرين في السجلّات التاريخيّة، من المفترَض أنّ سحر المرء بجعله زومبياً لا يزال يُمارَس عمليّاً حتى اليوم. ولا تزال المدرسة الداخليّة التي أسسها نابليون لأطفال المتميّزين في «فيلق الشرف الفرنسيّ»، التي ارتادتها ميليسا في الفيلم موجودة هي أيضاً.
يُطلَب من ميليسا، التلميذة السوداء الوحيدة في صفها، الانضمام إلى نادٍ أدبيّ سرّي للفتيات يضمّ زملاء الدراسة المتفانين، لكنْ غريبي الأطوار. بعد أن تغلق المدرسة في الليل وتطفأ أنوارها، يجتمع المراهقون في أحد المختبرات، حيث يتعيّن على ميليسا اجتياز اختبار العضويّة. تلقي بيت شعر من القصيدة المؤثّرة للشاعرة الهايتيّة رينيه ديبستر «القبطان زومبي»:
اسمع، أيّها العالم الأبيض
لحفظ الموتى
اسمع صوتي الزومبيِّ
على شرف موتانا
اسمع، أيّها العالم الأبيض
إعصارٌ من الوحوش البريّة
يمزّق دمي حزني
على جميع مسارات العالم
اسمع، أيّها العالم الأبيض!
تمّ تصوير المشهد على ضوء الشموع، وهو مشهدٌ يثير الرعب بسبب استحسانه التعبير عن التاريخ والحسابات التي لم يتم حسمها مع الاستعمار، وهو بمنزلة نوع من بداية في سرد الفيلم. هذه هي اللحظة الأولى التي يندمج فيها الماضي والحاضر ويكشف عن فترة زمنيّة قلقة تعبُر القارّات والمجتمعات والاقتصادات والأفراد والهيئات، وتكشف عن حيّز يسكن فيه الوعيُ الجماعيّ.
يشير بونيلو إلى بعض الأفكار الرئيسة لهذا الإنتاج من الزومبي، ولكن فقط بشكل مملّ، لأنّ «الرعب» الذي يثير اهتمامه يكمن في الحاضر المتوحّش كما في الماضي: الحقائق المتشابكة التي يعزّز بعضها بعضاً. وتأكيداً لهذه النقطة، دعا بونيلو المؤرّخ الفرنسيّ البارز باتريك بوشرون للمشاركة في الفيلم. ففي مشهد لا يتجاوز الخمس دقائق، يظهر بوشرون كمدرّس للتاريخ وهو يعطي (وبالضرورة للجمهور) درساً مرتجلاً تماماً عن التاريخ: تجربة التاريخ، وكيفيّة كتابته، وظهور الروايات التاريخيّة في إطار الانقطاعات الحاليّة.
السينما والسوق
قبل ستّين عاماً، في عام ١٩٥٩، عرض فيلم Hiroshima Mon Amour (هيروشيما حبي) للمخرج آلان رينايس وفيلم Les quatre cents coups (٤٠٠ ضربة) للمخرج فرانسوا تروفو لأوّل مرة في مهرجان كانْ السينمائي. وقد أشّر ذلك على ظهور ما سيُعرف لاحقاً باسم «الموجة الجديدة». وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة فرصةً قد ضاعت هذا العام للاحتفاء بهذه الذكرى، ولا سيّما أنّ نسبة الأفلام الفرنسيّة في مختلف أقسام المهرجان كانت أعلى من المعتاد، وكانت هناك مجموعة من السينمائيّين المشهورين: سيلين سياما، ريبيكا زلوتوفسكي، برتران بونيلو، جوستين ترييه، ماتي ديوب، وبرونو دومون، وهم أصوات سينمائيّة مختلفة جدّاً. إنّهم يعملون من داخل النظام، الأمر الذي يمكن أن يفرض تغييراً ما، ولكن من دون خلْق ثورةٍ في لغة الأفلام السينمائيّة. ومع ذلك، فهم جميعاً ملتزمون التزاماً عميقاً بالكفاح السياسيّ وبالعدالة الاجتماعيّة التي تعاني اليوم في وطنهم وفي أوروبا والعالم، الأمر الذي يمكن أن يساهم في إنجاز أفلامٍ جريئة تستند إلى حقائق هذه القضايا.
لقد حضرتُ العروض الرسميّة الأولى لأفلام سياما، وديوب، وبونيلو، وزلوتوفسكي، وشاهدت عن كثب درجة الصداقة والتضامن التي تربطهم. كما أنهم لم يكونوا وحدهم: كان منتجوهم هناك أيضاً، حيث حضروا وجلسوا معاً، وتوهّجت العاطفة من وجوههم وبدا من لغتهم الجسدية كأنّهم مجموعة من مجموعات الدعم. ولربّما كانوا كذلك: هل يمكن أن يجسّدوا ويجدّدوا «الموجة الجديدة»، إنّهم جماعة منغرسة في التربة نفسها، وملتزمة بالصراع نفسه، كمواطنين وفنّانين؟
حتى لو كان الأمر كذلك، فإنّني أظنّ أنّه قد لا يكون له صلة من الناحية الواقعيّة أو النظريّة لمعظم نقّاد الأفلام السينمائيّة، أو حتى المؤرّخين في المستقبل. حتى إذا لم يتمّ الاعتراف بما تجسده هذه الجماعة، يجب أن يكون تضامنها واضحاً للجميع، إذا أخذنا في الاعتبار الأزمات السياسيّة التي تعصف بفرنسا - بدءاً بالتمرّد غير التقليديّ لحركة السترات الصفراء، والذي لا يحظى بتغطية واسعة. وبشكل أكثر تحديداً، فيما يتعلّق بالأفلام السينمائيّة، حظيت حكومة ماكرون بتراجعٍ كبير من حيث الدعم الشعبيّ، ففي دفاعه عن اقتصاديّات السوق، جادل ماكرون بأنّ الأفلام السينمائيّة يجب أن تكون بشكل رئيسيّ قطاعاً اقتصاديّاً مدرّاً للدخل، وليس مجالاً للتعبير الفنيّ فقط. علاوةً على ذلك، فمع التعدّي الذي يَلوح في الأفق لمنصّات البثّ الخاصّة (وغير الفرنسيّة) القائمة على الاشتراك، مثل «أمازون» و«نتفليكس»، و«ديزني»، التي تدافع عن مبدأ التفرّد والوصول وفقاً لقاعدة الامتياز الاقتصاديّ، فإنّ الدولة الأكثر إنتاجاً للأفلام السينمائيّة الديناميكيّة والمتنوّعة تواجه تغييرات جذريّةً ومشينة. ويمكن أن تصبح مجموعة الرفقاء من صنّاع الأفلام السينمائيّة المبدعين الذين تجمّعوا في مهرجان كان، على نحوٍ ملموس، بوتقةَ المقاومة ضدّ التسويق التجاريّ لسينما الإبداع٣.
نهضة سينمائيّة عربيّة
إذا كان هناك من سيدّخر الكثير من المال بعد إطلاق نسخة مهرجان كان لهذا العام، فمن المحتمل أن تكون السينما العربيّة، التي كان لها أكبر عرض في تاريخ المهرجان مع فيلم «معجزة القدّيس المجهول» للمخرج علاء الدين الجم (المغرب، ٢٠١٩) وفيلم «أبو ليلى» للمخرج أمين سيدي بومدين (الجزائر، ٢٠١٩)، وذلك في عرض أسبوع النقّاد، إضافةً إلى فيلم «طلامس » للمخرج علاء الدين سليم (تونس، ٢٠١٩) في نصف شهر للمخرجين، وفيلم «بابيشا» للمخرجة منية مدوّر (الجزائر، ٢٠١٩) وفيلم «آدم» للمخرجة مريم توزاني (المغرب، ٢٠١٩)، وفيلم «لا بدّ أنّها الجنّة» للمخرج إيليّا سليمان (فلسطين، ٢٠١٩) في المسابقة الرسميّة، وفيلم «إلى سما» للمخرجة وعد الكاتب (سورية، ٢٠١٩) كاختيار رسميّ خارج المنافسة.
العديد من هذه الأفلام المتنوّعة للغاية في الموضوع، عبارة عن أفلام روائيّة أوّليّة أو ثانية، مثل «بابيشا» و«آدم»، والتي أُنجزْت بإتقان بارع لكنّها امتثلتْ بشدّة للأعراف السرديّة. وهذان الفيلمان يتناقضان تناقضاً حادّاً مع «طلامس» و«أبو ليلى»، اللذين يصنعان أكواناً غير مألوفة من حيث عدم وضوح الواقع والخيال وتداخلهما، على الرغم من أنّ كليهما يكشفان عن موهبةٍ غير عاديّة.
«القدّيس المجهول»، هو أوّل أفلام علاء الدين الجم، كوميديا سوداء عن سارقٍ يعود بعد أن يُنهي عقوبته في السجن، إلى المكان الذي دَفن فيه الأموال المسروقة عند جذع شجرةٍ جافّة في الصحراء، ليكتشف أنّ القرويّين في المنطقة حوّلوا المكان إلى مزار لـ«القدّيس المجهول». ويتّصل السارق بصديقه في السجن، وهو أخرق يسمّي نفسه «المخّ»، ليضعَ له خطّةً [لاسترداد أمواله]، وهنا تتتابع سلسلةٌ من المواقف السخيفة التي تقدّم تعليقاتٍ لاذعةً بذكاء عن رثاء المجتمع المغربيّ والحاجة الماسّة إلى مُنقذ. (ففي النهاية، لم يقم القدّيس المجهول بمعجزات).
يعتبر فيلم «لا بدّ أنها الجنة» للمخرج إيليّا سليمان، متابعةً طال انتظارُها لفيلم «الوقت الذي يبقى» (٢٠٠٩)، إذ يبدأ الفيلم الثاني حيث انتهى الأول. هنا يعود إيليّا سليمان (الشخصيّة التي يلعبها المخرج في جميع أفلامه) إلى الناصرة ويعيش في منزل والدَيه، الذي لم يسكن فيه أحد منذ أن تُوفّيا. الفيلم مبنيٌّ في ثلاثة فصول من المقالات القصيرة الصامتة تقريباً، يظهِر إيليّا سليمان وهو يشهد ويشارك أحياناً فقط في الحركة التي تتكشّف في ثلاثة مواقع متميّزة. يصف الفصل الأوّل العبث المظلم حيثُ يكون المرء فلسطينيّاً في إسرائيل. أمّا الفصل الثاني فتدور أحداثه في باريس، ويُظهر كفاح سليمان لصنع فيلم فلسطينيٍّ بينما يكتشف حقيقةً محلّيّة تتحوّل إلى حقيقة لا تختلف كثيراً عن الحياة اليوميّة في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي. فبينما تستعرض الدبّابات في شوارع باريس، في يوم الباستيل، يشرح المنتج (يؤدّي الدور فينسينت مارافال، المنتج الحقيقي لسليمان)، كيف أنّ المخرج ليس «فلسطينيّاً بما فيه الكفاية». أمّا الفصل الثالث فتدور أحداثه في مدينة نيويورك، حيث تستضيف إحدى الجامعات إيليّا سليمان لإجراء حوارٍ ولمقابلة منتجين سينمائيّين، غير أنّ الجميع في نيويورك يحملون أسلحة (مسدّسات وبنادق آليّة). ويجري الحوار في عيد الهالوين، بحيث يأتي الجميع بملابس تنكّريّة، بينما يشرح له منتج آخرُ أنّ فيلمه «فلسطينيّ جداً» هذه المرة. أخيراً، يزور سليمان بصّارة «تارو» التي تتنبّأ له بأنّ فلسطين ستوجد في يوم ما، لكن ليس في حياة أيٍّ منهما.
إيليّا سليمان وفلسطين الاستعارة
في المؤتمر الصحافيّ الذي عقدَه في مدينة كانْ، قال سليمان - وقد تمّ اقتباس ما قاله على نطاق واسع - إنّه يريد التعليق على التطفّل غير المبرَّر لأنظمة المراقبة والأمن والسيطرة على حياة المواطنين في العالم الغربيّ، إلى درجة أنّهم يستحضرون أنظمة السيطرة والشرطة التي يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيليّ. ينتهي الفيلم بعودة إيليّا سليمان إلى الناصرة. يتمّ تصوير المشهد الأخيرة في ملهى ليليّ، حيث يحتسي سليمان مشروباً في حانةٍ وهو يراقب الحشد في حلبة الرقص يقفزون بفرحٍ على إيقاع أغنية البوب «عربيّ أنا». وعندما تسلَّط الكاميرا على وجهه تبدو عليه أوّل مرّة نصف ابتسامة غريبة الأطوار. لا تتمّ ترجمة كلمات الأغنية في الواقع، هم خائفون وخائفون من النساء، لكنّ النقطة الأساسيّة هي الامتناع: «عربيّ أنا، اخشيني» في الأغنية، تدور هذه الكلمات حول التودّد والغزل، لكن في فيلم سليمان، أصبحتْ بياناً سياسيّاً متفجّراً، يتناول واقع الفلسطينيّين في إسرائيل، تحديداً في ظلّ حكومة نتنياهو.
بينما يعيد فيلم إيليّا سليمان إحياء فكرة «فلسطين كاستعارة لظلم العالم»، وهي فكرة انتشرتْ على نطاقٍ واسع عندما وصف الفلسطينيّون نضالهم على أنّه ثورة وليس قضيّة، فإنّ فيلم «لا بدّ أنّها الجنّة» ليس أقوى أفلام سليمان. وإنّ وجود المخرج في الفيلم يشير إلى الكثير من النرجسيّة، وتشير بعض المشاهد إلى فكرة رقيقة جرى مطّها إلى أبعد من إمكاناتها.
الفيلم العربيّ الأكثر تميّزاً الذي تمّ عرضه في مهرجان كانْ هذا العام في نصف شهر للمخرجين، هو «طلامس» الفيلم الثاني للمخرج علاء الدين سليم، والذي يترجَم باللغة التونسيّة المنطوقة إلى «طلاسم». وقد عُرض الفيلم الأوّل لسليم «آخر واحد فينا» (٢٠١٧) في مهرجان البندقيّة السينمائيّ وحصل على جائزتين. هناك قرابة واضحة واستمراريّة في العناصر الجماليّة والسينمائيّة والدراميّة للفيلمين، لكن الفيلم الجديد يتقدّم على الفيلم الأوّل، وقد انقسم النقّاد حوله، بينما حاز الفيلم الأوّل ثناء النقّاد بالإجماع.
«طلامس» فيلم مذهل بصريّاً ويهدف إلى نتيجةٍ متطوّرة وأصليّة، وباستثناء بعض المَشاهد، فإنّه عمليّاً فيلم صامت (من دون حوار) مع حدٍّ أدنى من الممثّلين. الحبكة مبنيّة على فصلين. الأوّل يحكي قصة «س» الذي أدّى دورَه الشاعر والموسيقيُّ المصريّ عبد الله المنياوي، وهو جنديّ في الجيش التونسيّ، تمّ تعيينه في المنطقة الصحراويّة من البلاد، لمطاردة الإرهابيّين. وعندما يتلقّى أخباراً عن وفاة والدته، يُمنح إجازة لمدّة أسبوع للقيام بجميع الإجراءات المطلوبة. وبعد سأمه من سوء معاملة الجيش للأسَر الفقيرة البريئة يهرب ويختبئ في الغابة. في الفصل الثاني، تعلن له «ف» (سهير بن عمارة)، وهي زوجة رجل أعمال جزائريّ ثري (خالد بن عيسى) أنّها حامل. يقع منزلها الريفي الفاخر بالقرب من الغابة. وعندما تذهب لتتمشى ذات يوم، تلتقي بـ «س»، الذي يبدو مخيفاً، وشعره ولحيته وأظافره طويلة أيضاً، ويرتدي الخرَق. يجرّها «س» رغماً عنها إلى مكانٍ خرسانيّ مهجور في وسط الغابة، حيث شيّد ما يشبه المنزل. وبعد أسابيع قليلة من معاملتها بلطف شديد، لم تعدْ تقاومه أو تخاف منه. غير أنّ «س» لا يتكلّم، بل يتواصل مع «ف» فقط بعينيه، وتظهر ترجمات «عينيه» على الشاشة حتى يتمكّن الجمهور من فهم ما يقوله الشخصان. هذه «الترجمة» هي واحدة من أكثر العناصر الخياليّة الساحرة في الفيلم. وهناك أيضاً جدارٌ أسود يظهر دائماً لتجسيد عتبة أو ممرٍّ إلى عالم آخر (في تحيّة مباشرة إلى ستانلي كوبريك، كما قال سليم في المقابلات معه). وهناك أيضاً أفعى أناكوندا ضخمة ومرعبة، لا بد أنّها صورة من إنتاج الكومبيوتر. الفيلم يسقط ولكنه لا يفْسد الأخلاق، إنّه ليس خرافة، على الرغم من أنّه مليء بالإشارات إلى الأساطير العالمّية المستعارة من الدِّين أو من النصوص القديمة. في نهاية المطاف «طلامس» غير قابل للسرد: لا يمكن تفسيره، ولا طائل من الخُلاصة. إنّه فيلم عن الحرّيّة والحبّ والشعور بالوحدة والأصول الوجوديّة والحالة الإنسانيّة. إنّها تجربة لا تشوبها شائبة وجوهريّة سينمائية، ورحلة حسّيّة وبصريّة وموسيقيّة وخياليّة إلى عالم آخر. إنّه يولّد الرغبة في مشاهدته مرّة أخرى.
كان «طلامس» الفيلم الذي اصطحبْته معي في عودتي إلى بلادي كترياقٍ من المحيط الحيويّ الغامض والسامّ، حيث ينبثق الحسد وقول «لا.. لا...» من الألسنة المتشعّبة، وحيث يقتل المال الكبيرُ الفنَّ بتقطيعه الى ألْفٍ من الأشلاء الصغيرة. وعلى الرّغم من أنّ مهرجان كان السينمائيّ حظّر على جبابرة شركات الأفلام، العاملة بواسطة الخوارزميّات والقائمة على الاشتراك الحصريّ، تقديم أفلامها للمسابقة الرسميّة، إلّا أنّ ممثّليهم كانوا موجودين في سوق المهرجان يتحرّكون ويتاجرون بلا خجل.
بينما لم يحظَ فيلم مثل «طلامس» بأيّ موقع في عرضها التمهيديّ، اشترتْ شركة «نتفليكس» حقوق فيلم «أطلنطس» لماتي ديوب (باستثناء حقوق عرضه في بعض البلدان، بما في ذلك فرنسا والصين). هذا يعني أنّ الفيلم لن يعرض في دور السينما في جميع أنحاء العالم. في هذه الأثناء من غير المرجّح إطلاق «طلامس» خارج نطاقات محدودة في الدُّور الفنيّة، أي في حفنة من الدول فقط، وربّما يكون ذلك أيضاً مصير «أطلنطس». لا يكمن الجواب في البُنى العملاقة العاملة على الإنترنت او على القنوات مثل «نتفليكس»، تماماً مثلما التطوّر «الطبيعيّ» لشركات الأفلام السينمائيّة لم يكن يبثّ رسائل متعدّدة على قناة واحدة. تكمن المشكلة الحقيقيّة في كيفيّة وصول الفيلم إلى الجمهور (على النقيض تماماً من «تسويقه») لا على اللافتات التي تتناوب في الترويج للمعجون المبيّض للأسنان والمساحيق المضادّة للبكتيريا، ولا من خلال الخوارزميّات التي تتناوب بين الألقاب القابلة للتعريف وإشارات الـ«لايك» على الفيسبوك.
إنّ طرف جبل الجليد فقط هو ما يظهر في مهرجان كان، لأنّ البقاء في المحيط الحيويّ الناجم عن السوق لفترة طويلة بما فيه الكفاية، يقود هؤلاء المتأهّبين إلى الاعتقاد بالترويج الحقيقيّ. إذا تمّ صنع «طلامس»، فإنّ المال لم يتمكّن بعد من إفناء قوى العدالة والذكاء السينمائيّة، أو هكذا طمأنت نفسي. إنّ المعركة الحقيقيّة اليوم ليست في صنع الأفلام، بل في جعلها في متناول الجمهور، ومن دون قيود الاشتراكات أو الحاجة إلى بيع الفشار، أو الناتشوز، أو حبوب الهلام، بقصد تحقيق الأرباح.
- ١. الميزة الأولى، شارك فيلم «أبو ليلى» في منافسة أسبوع النقاد
- ٢. الميزة الأولى، تنافس الفيلم في الاختيار الرسمي للمهرجان
- ٣. نشرت جمعية المديرين الفرنسيين (SRF) نصّاً يدافع عن «الفنّ السابع» ويحذّر من سياسات ماكرون بشأن القطاع السمعيّ البصريّ في ١٣ أيّار / مايو، أي قبل يوم واحد من الافتتاح الرسميّ لمهرجان كان السينمائيّ. يَظهر النصّ على موقع SRF: http://www.la-srf.fr/article/tribune-de-the-soci٪C3٪A9t٪C3٪A9-reactors-of-films- SRF تمّ تجاهل النص على نطاق واسع، لكنّه نُشر أيضاً في جريدة لوموند اليوميّة الهامة، انظر www.lemonde.fr/cinema/article/2019/05/13/and-by-other-tin-cinema-c-is-al...
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.