اكتشفتُ الفيلم الوثائقيّ «زيارة إلى فلسطين» في عرضٍ نظّمه «نادي لكلّ الناس» في مركز «مانشون» ببيروت. بيير باولو بازوليني الملحد، الشاعر، الكاتب، المؤلّف المسرحيّ، والمخرج، ذهب إلى فلسطين بحثاً عن ديكورٍ وممثّلين وكومبارس ليخرج فيلماً عن حياة المسيح. أخرج ممّا وجده هناك فيلماً للكواليس عنوانه «زيارة إلى فلسطين»، يقع بين التأمّل الداخليّ وكرّاس رحلة. ومع أنّ بازوليني لم يجد في النهاية الديكور ولا الشخصيّات المناسِبة للتصوير في فلسطين، فقد شهدتُ في رحلته اكتشافَه الجماليّ والروحانيّ. وللغرابة، فالأماكن حيث تكلّم المسيح وتجوّل وتأمّل، تبدو لبازوليني متواضعةً أكثر ممّا يجب «يمكن تجميعها في قبضة يد»، يقول، بينما كان يحلم بفلسطين كسلسلةٍ من المناظر المَهيبة.
أهذه هي الأرض المقدّسة وكلّ ما فيها؟ أرضٌ ضيّقة مؤلّفة من أربع تلال جرداءَ وبحيرة؟ «فهل أنّ التاريخ الإنجيليّ يقتصر على منمنماتٍ بلا خلفيّة ومشاهدَ استهلكتْها الشمس؟» فكّر بازوليني هناك بكبار الفنّانين الإيطاليّين الذين رسموا مشاهد حياة المسيح وليس لديهم من أداةٍ إلّا الخيال. ففي الإرث الثقافيّ لبازوليني، أيْ لوحات عصر النهضة الإيطاليّة، لا وصفَ للبؤس، لكن على العكس من ذلك، توجد تمثيلاتٌ للزهور وافرة وغنيّة. بازوليني المنطلِق من رؤيةٍ أوروبيّةٍ للأرض المقدّسة علّمتْه «زيارة فلسطين» أن يهدم هذه الرؤية. طوال الفيلم كنت أتبيّن وجه بازوليني الحائر، وسيماً، شابّاً، يرتدي ملابسَ أنيقة على جسده الرياضيّ، وأتصوّر تساؤلاته وهو يكتشف سطوة الذّلّ. زيارته لفلسطين درسٌ في السينما: هذا هو صوتُ المسيح المقدّس ينبعث من أرضٍ قاحلةٍ إلى درجة أنّه صار الفكرةَ الجماليّة الأساسيّة التي سيبني عليها بازوليني فيلمه «الإنجيل حسب القدّيس متّى». إنّ فيلم «زيارة إلى فلسطين» نجوى حميمةٌ، لكنه يحوي وثيقةً تاريخيّةً ذات قيمةٍ خاصّةٍ حول فلسطين قبل العام ١٩٦٧. ذلك أنّ بازوليني مراقِبٌ ذو حظوةٍ، يتمتّع بحريّة التنقّل، رغم الوضع الجيوسياسيّ لتلك الفترة. إنّه يعْبر في مسارٍ ملتوٍ من الأراضي الفلسطينيّة إلى الأراضي المحتلّة. في كيبوتز، يروي له من قابلهم أنّ مبدأهم الرئيسيّ هو العيش المشترك في مجتمعٍ تعمّه المساواة تجمع أفراده المثلُ ذاتُها. تُتّخَذ القرارات بشكلٍ ديمقراطيٍّ والمؤسّسات قائمةٌ لخدمة الجميع. أفرك عينيّ غيرَ مصدّقة. كيف يستطيع أفراد زمرةٍ يفترَض بهم أنّهم يهتمّون بالإنصات إلى رأي الجماعة أن يكونوا عميانَ إلى هذا الحدّ عن العالم المحيط بهم، وعن الظلم السائد خلف جدرانهم ومزارعهم المفروضة قسراً على أرضٍ مستعمَرة؟ هل هو تناقضٌ أم قصر نظرٍ من يسارٍ إسرائيليٍّ أصمّ أذنيه عن العالم الهادر؟ بالنسبة لبازوليني لم تكن الوجوه الإسرائيليّة في هذا الكيبوتز أو في مراكز الاستجمام على شواطئ طبريّة، قابلة للاستخدام في فيلمه وقد لوّثتْها الحداثة. أمّا عن الريف العربيّ الذي كانت تلوح لبازوليني فيه أحياناً أطياف عالمٍ إنجيليّ، فقد صدمتْني نظرة بازوليني للعرب: «وجوه ما قبل المسيحيّة، متوحّشة، ووثنيّة» (...) كلّ شيءٍ محترِقٌ مادّيّاً وفكريّاً. العالم العربيّ حطامٌ هائل. «(...) الوجوه البدويّة، الجميلة والجنائزيّة لم تُسمَع الصلوات المسيحيّة إطلاقاً، ولا حتى من بعيدٍ». يتحدّث بازوليني عن بروليتاريا رثّة عربيّة من مُعدَمين ومهمّشين ومستعبَدين، غيرِ واعين بما يكفي ليشكّلوا قوّةً ثقافيّةً أو سياسيّةً أو ثوريّة مناسِبة لتتأثّر بكلمات المسيح. فلا يمكن للأجساد والوجوه العربيّة هي أيضاً أن تمثّل أدوار الكومبارس الذين يبحث بازوليني عنهم. يعيش العرب عوزهم بخفّةٍ وفرح وحيويّةٍ، غيرَ مبالين بهشاشة وضعهم، قليلي الاكتراث بمأساتهم.
هذا الانزعاج الذي أشعر به تجاه طريقة تقديم العرب يمكن تفسيره بظروف العمل على الفيلم. فقد تمّ تصويره العام ١٩٦٣، قبل حرب الأيّام الستّة، في زمنٍ لم تكن فلسطين فيه قد اكتسبتْ صورتها الثوريّة في عيون الغرب. فقد نشأتْ منظّمة التحرير الفلسطينيّة العام ١٩٦٥ ولم يظهر ياسر عرفات إلّا بعد ذلك بستّ سنواتٍ. نظراً لأنّ بازوليني ملتزمٌ سياسيّاً ومناهضٌ للاستعمار ومدافعٌ عن العدالة الاجتماعيّة، كنت أنتظر منه أن يكون أكثر نضالاً، ينحاز مع أو ضدّ حسب وجهة نظره. لكنّ بازوليني أدهشني هنا أيضاً. في فيلمه «زيارة إلى فلسطين» لم يقدّم الخطاب السياسيّ المنتظَر، إنّما عرض تسلسل فكرةٍ فنّيّةٍ حميمة. وجدتُه دبلوماسيّاً ومسايراً تقريباً للاستعمار الإسرائيليّ، لأنّ كلّ نقده السياسيّ للوضع الإسرائيليّ - الفلسطينيّ كان يمرّ عبر مصفاة الجماليّة، وهذه هي نقطة انطلاق رحلته. ورغم أنّه لا يتعرّض للسياسة مواجهةً، فهو يكشف ما يحيط بها. وإنّي أرى في استدلالات بازوليني بُعدَين يتقاطعان: بحثه عن آثار حياة المسيح، من جهة، والمصير اليوميّ لشعبٍ يتعرّض لعذاباتٍ جديدة، من جهةٍ أخرى. لكن بما أنّ بازوليني يقول في الفيلم «إنّ العرب لا ينتظرون سوى المعجزة بحدّ ذاتها» فلماذا لم ينفخ فيهم شرارة المعجزة بإخراج فيلمه الإنجيليّ في فلسطين؟ لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير بأنّ ترسيخ كلام المسيح الثوريّ، كما يتجلّى في «الإنجيل بحسب القدّيس متى»، في الواقع الفلسطينيّ عام ١٩٦٣ كان ليصنع فيلماً رؤيويّاً. لكنّ بازوليني صوّر فيلمه في إيطاليا في نهاية المطاف. لقد أثّرتْ فيه هذه الرحلة، وسوف يظهر اهتمامه بالبلاد العربيّة في أفلامه اللاحقة، من خلال الفيلم القصير الوثائقيّ «أسوار صنعاء» (١٩٧٠)، وحتى فيلمه ما قبل الأخير، «ألف ليلة وليلة» (١٩٧٤)، وهو آخر تكريمٍ للعالم العربيّ يؤدّيه المخرج قبل أن يموت مقتولاً عام ١٩٧٥. إن تعلّق بازوليني بالعالم القديم وخشيته من حداثةٍ تبدّل الطبيعة هو أيضاً موضوع «أسوار صنعاء». والعنوان الفرعيّ للفيلم الذي صوِّره في اليمن هو «وثائقيّ على شكل نداءٍ موجَّه لمنظّمة اليونسكو». وبعكس رحلته إلى فلسطين، يعرب بازوليني في هذا الفيلم عن طلب صريح هو الحفاظ على جمال صنعاء المهدَّد. وهو لا يخفي انبهاره بالمدينة القروسطيّة التي بقيتْ على حالها خلال قرونٍ، وقد تطفّلتْ عليها الحداثة الرأسماليّة أو الاشتراكيّة لبضع سنواتٍ فقط، فالصفات ليست مهمّة على حدّ قوله. يبدو أنّ عدوّ بازوليني هو محوُ الشخصيّة، بينما هو مبهورٌ بهذه المدينة الرائعة، بنقاء هذه الجوهرة التي يصفها بالجمال الغامض، غير الحقيقيّ، والكامل. بحماسةٍ يعلن بازوليني أنّ صنعاء هي آخر مدينةٍ في العالم قاومتْ اجتياح الحداثة ويخشى الدمار الداهم على هذا العالم الأثرّي. فالطرق الجديدة التي شقّتْها الحكومة الصينيّة جلبتْ معها السلع الاستهلاكيّة للثورة الصناعيّة والرغبة في التطوّر يجري استيرادها عَبر الطّرُق ذاتها لتنتشر في عقول سكّان المدينة القديمة. «أسوار صنعاء»، الذي صوّره بازوليني في يومٍ واحدٍ، يعرض علينا صوراً من اليمن من خلال الحساسيّة الصريحة للمخرج الذي نجح في عرض خطابه ورَفعه إلى مصاف إعلان مبادئ. ينتهي الفيلم بهذا الدفاع الصارخ الذي يجدُر الإصغاء إليه، واستنساخه وقراءتُه رغم الخمسين سنةً التي تفصلنا عن إلقائه: «ندعو اليونسكو إلى إنقاذ اليمن من التخريب، الذي بدأ بتخريب سور صنعاء. ندعو اليونسكو إلى مساعدة أهل اليمن على وعي هويّتهم وقيمة بلدهم الثمين. ندعو اليونسكو إلى المساهمة في وقف هذه العمليّة التعسة في بلدٍ لا يحتجّ فيه أحد عليها. ندعو اليونيسكو إلى إعطاء هذا البلد إمكانيّة أن يدرك أنّه أحد عجائب الإنسانيّة وإلى حمايته لكي يبقى كذلك. ندعو اليونيسكو، قبل فوات الوقت، لإقناع الطبقات الحاكمة بأنّ كنز اليمن الوحيد هو جماله. باسم الشعب اليمنيّ ورغبته الحقيقيّة، التي لم يعبّر عنها بعد، باسم جمال الأزمنة الغامضة، باسم قوّة الماضي الثوريّة الرائعة». على أنّ استغاثة بازوليني لم تلقَ صدىً أرحب من الذي تلْقاه صرخة صنعاء الحاليّة. يترك «زيارة إلى فلسطين» و«أسوار صنعاء» لديّ شعوراً حلواً ومرّاً. فالأوّل يقدّم لي لقاءً مع أرضٍ محرّمة. منذ الطفولة كان لديّ ردُّ فعلٍ أن أغمض عينيّ عندما أجد أمامي كلمة «إسرائيل». بعد مشاهدتي هذا الفيلم، أشعر بالحاجة إلى أن اشاهد المساحات التي صوّرها بازوليني فيما وراء الحدود اللبنانيّة. إنّي أتجوّل في فلسطين المحتلّة على خرائط غوغل. أتجوّل في الجليل، وأعاين بحيرة طبريّة، وأجد موقع كفرناحوم، أصل إلى الناصرة، وأرى حدود القدس وكلّ القرى التي زارها المخرج. أتوقّف، وألاحظ بدهشةٍ أنّ مساحتي العقليّة المخصّصة لفلسطين هي أيضاً ضيّقةً جدّاً، محرّمةً، ومُصادَرةٌ. ماذا لو كان أكبر انتصارٍ مؤكّد أحرزتْه إسرائيل هو أنّها عرفتْ كيف تمحو أسماء فلسطين هذه من ذاكرة أقرب جيرانها؟
قل لي يا بازوليني العزيز، فائق الحيويّة على هذه الشاشة التي لا يمكن عبورها، هل سيكون لي الحقّ يوماً بالقيام بهذه الزيارة إلى فلسطين؟ وماذا عن صنعاء؟ وما الذي تبقّى منها في هذا الحاضر القاسي؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.