العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

الحراك الشعبي في العراق ولبنان

ملفات الفساد بيد الناس

النسخة الورقية

شهدت الاشهر الاخيرة في العراق ولبنان تحركات شعبية ناشطة ضد فساد الطبقة الحاكمة في البلدين تلتقي على ادانة الفساد والطائفية.
«بإسم الدين باكونا الحرامية» هو الشعار المدوّي الذي أطلقته جماهير عراق وهي تحاصر الابنية الحكومية ومراكز المحافظات او تتجمع في الساحات منددة بنهب الدولة واهدار المال العام عن طريق المحاصصة الطائفية. لم يختلف الامر كثيرا في لبنان حيث امضى وسيلة لتغطية الفساد هي الطائفية. وهذا ما افصح عنه جهارا نبيه برّي، رئيس المجلس النيابي اللبناني ورئيس حركة «امل»، حين قال عن المتظاهرين «لولا الطائفية، لكانوا جرّونوا من داخل بيوتنا».
الصاعق الذي فجّر الغضب الشعبي في الحالين هو انهيارخدمات الدولة: الكهرباء في العراق وجمع النفايات (والكهرباء) في لبنان.
ضم الحراكان نسبة عالية من ابناء الطبقات الوسطى والمثقفة ومن ناشطي المجتمع المدني بهيئاته المختلفة، وشارك فيه جمهور شعبي حمل معه مطالبه المعاشية والاجتماعية. ويلاحظ في الحالتين حضور كثيف لعنصر الشباب، ومساهمة نسائية محدودة، وضعف مشاركة الحركة النقابية العمالية.
من الناحية السياسية، شكل المتظاهرون عيّنة عن لبنانيين إنفكّوا عن الاستقطاب الذي يهيمن على الحياة السياسية بين كتلتي ٨ و١٤ اذار. وفي العراق تكوّن احتشاد شعبي خارج الكتل الرئيسية للاسلام السياسي بمذهبيه وإن يكن حظي بدعم مرجعية النجف، وبمشاركة انتقائية للتيار الصدري و«عصائب الحق».
انطلق الحراكان في مناخين سياسيين مأزومين. في العراق، انهيار الجيش العراقي واستيلاء داعش على الموصل ونحو ثلث مساحة البلاد، وانكشاف فضائح التمييز المذهبي والفساد لحكومة نوري المالكي وقد جرى استبداله بقيادي آخر من «حزب الدعوة»، هو حيدر العبادي. وفي لبنان، شلل شبه كامل لقمّة الحكم: مجلس نواب مدد لنفسه عاجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، وحكومة عاجزة عن اتخاذ ابسط القرارات المتعلقة بصرف رواتب موظفيها بسبب النزاعات بين اجنحة الحكم.
لم يخلُ الامر من تعرّض الحراكان للقمع. الى جانب القمع السلطوي، الذي بقي ضمن حدود في الحالتين، تدخلت عناصر ميليشياوية تابعة لاحزاب في السلطة في الحالتين المتظاهرين ادت في الحالة العراقية الى اغتيال احد منظمي التظاهرات في البصرة مثلا، المحافظة الاغنى بالنفط التي هي في الوقت ذاته افقر المحافظات العراقية قاطبة.
 
الفساد مبرّر لا سبب
ارتبط موضوع الفساد ارتباطا وثيقا بالعودة القوية لاقتصاديات السوق وبالهيكلة الاقتصادية والخصخصة وتسلّط رأس المال على الخدمات والاملاك والمساحات العامة. واخذت اشكال الانتماء والتضامن قبل الرأسمالية دفعة قوية مع سيادة نيوليبرالية من خلال تسييس الاختلافات الاثنية بمعناها الواسع الذي يشمل الدين.
شكلت المحاصصة السياسية الطوائفية والمذهبية في النظامين العراقي واللبناني الغطاء الاثير للفساد. لكن الطوائفية غطاء للفساد والاستغلال وليست هي سببه. ويسهل استخدام موضوع الفساد لحرف الانظار الى الطبقة السياسية والزعماء السياسيين عن الطبقة المسيطرة اقتصاديا علما ان الحكام، في الحالتين، باتوا في معظمهم رجال اعمال، وشركاء رجال اعمال، وممثلين لكتل من المصالح الرأسمالية، وان فرض الخوّة على نشاطات رأس المال باتت له قواعد واشكال جديدة متطورة.
من هنا ينبغي التحذير من ان اختزال المشكلات بالفساد يسهم في التغطية على ما تحويه طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي من اليات استغلال واعادة انتاج للفوارق الاجتماعية في الفرص والثروة والمداخيل والملكية والوصول الى الموارد.
ولم يكن هذا الاختزال عفو الخاطر. صودر موضوع الفساد من قبل البنك الدولي لفرض برامج الخصخصة واخراج الدولة من ادوار الخدمة العامة والتوزيع الاجتماعي. فبحجة منع الفساد، يجري الضغط من اجل خفض نفقات الدولة - ولكن مع تشجيع المديونية! - واجراء عمليات تسريح واسعة وتلزيم اجزاء متزايدة من الخدمة العامة الى القطاع الخاص او عقد الشراكة معه من اجل تنفيذها. اما الافساد، وهو الوسيلة الاثيرة التي يسيّر بها أصحاب المال مصالحهم ومعاملاتهم ويخفضون اكلافهم، بواسطة التحايل على القوانين والمساءلة والعقاب، فله التبشير بالشفافية، وبـ«اخلاق البزنس»!
 
ملفات الفساد في الشارع
انتزع الحراك في العراق وعودا من حكومة حيدر العبادي باصدار حزمة اصلاحات تضمنت اجراءات ضد التهرّب الضريبي ولخفض رواتب كبار الموظفين وتشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد تفتح الملفات السابقة، وتعهدت ايضا بحل مشكلات الكهرباء والنقل والتوزيع. وقد الغت الحكومة مناصب نواب رئيس الدولة ونواب رئيس الوزراء، وقلّصت عدد الوزارات وأقالت ١٢٣ من كبار الموظفين، وحدّت من امتيازات النواب المالية. وصدرت احكام قضائية باعتقال وزير التجارة الحالي ووزيري الكهرباء ومحافظَي بغداد السابقيَن بتهمة الفساد. الا ان معظم تلك الاجراءات لم تأت بعد نتائجها. فنواب رئيس الجمهورية باقون في امكنتهم بمن فيهم رأس الفساد والمذهبية، مهندس انهيار القوات المسلحة العراقية، نوري المالكي، الذي تعاند معظم اجنحة الحكم محاكمته بالحجة المذهبية القائلة ان قرار المحاكمة هو «قرار سياسي شيعي». الى هذه المعوّقات يجب ان تضاف الحجة الاثيرة الداعية للانصراف عن قضايا الفساد بإسم الوضع الامني والحملة على «داعش».
في المقابل، تصرّ قوى الحراك على تقديم المسؤولين عن الفساد للمحاكمة واستعادة المسؤولين الفاسدين الفارين الى الخارج واستعادة الاموال المنهوبة. وكم كان ملفتاً ان تندد مسيرات عاشوراء العراقية بالفساد والمذهبية، على عكس المسيرات اللبنانية التي كان جلّ غرضها شدّ العصب المذهبي والحزبي.
الصورة مختلفة في لبنان حيث لم يشتبك الحراك اللبناني مع السلطات الا في موضوع النفايات واقتصرت الاشتباكات مع قوات الامن على محاولات المتظاهرين الوصول الى ساحة البرلمان. لم ينجح الحراك في فرض استقالة وزيري البيئة والداخلية، مع انه ابطل مشروع تلزيم جمع النفايات عن طريق المحاصصة وباكلاف عالية جدا، ووضع موضوع تسليم مهمة معالجة النفايات الى البلديات، على جدول الاعمال. على ان الاولوية التي لا يزال الحراك اللبناني ملتزما بها هو مواصلة الضغط من اجل رفع مئات الاطنان من النفايات المتراكمة تداركا لكارثة بيئية وصحية خصوصا مع بدء موسم الامطار. ولم يبق من مطال الحراك الاصلية غير مطلب «انتخابات نيابية دستورية وعاجلة» وهو يقتضي تقديم تصوّر لنظام انتخابي بديل (النسبية، القائمة المغلقة، لبنان دائرة واحدة، التصويت في اماكن السكن، الخ.) إن لم يرد ان يكون المطلب دعوة للطبقة الحاكمة ان تجدد نفسها بواسطة نظام انتخابي يناسبها.
كل الاحتمالات مفتوحة امام الحراكين: التحول الى حركة اجتماعية متواصلة تعمل من اجل الشفافية ونظافة الكف في السياسة فتثير قضايا تطبيق قانون الاثراء غير المشروع في لبنان او اللجوء الى محكمة النظافة في العراق، وتدخل الحملة طرفا في محاكمة المتهمين بالفساد، واستعادة حقوق الدولة والمواطنين في الاموال والاملاك العامة، الخ. ويمكن ان يسهم الحراك بذلك في تدشين سياسات يومية يستعيد بها المواطنون الخدمات الرئيسة من ماء وكهرباء ونظافة وفضاءات عامة. وفي مقدور الحراكان تحقيق خرق اعمق في آليات عمل الطبقتين الحاكمتين بفرض تحقيق مطالب اكثر جذرية تلبّي مصالح الفئات الشعبية الاوسع التي شاركت في الحراكين وعقدت وتعقد عليها آمالا عريضة.

العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥
ملفات الفساد بيد الناس

التعليقات

شكرا على التوصيف والمقارنة. ولكن لا أجد مفرا من ضرورة لفت النظر الى قضيةمشتركة أساسية في حماية الفساد في العراق كما في لبنان وهي نفوذ النظام الايراني. كلنا يعرف أنه بعد قرار العبادي تنحية نواب الرئيس ونواب رئيس الوزراء، تمت دعوة المالكي الى طهران وبعدها قدم مسؤولون ايرانيون الى بغداد لممارسة الضغط الذي كان كافيا لتجميد قرارات العبادي.
وفي لبنان، الذي زاره المالكي لتفقد أمواله المنهوبة حيث استقبله حسن نصرالله استقبال القادة، شهدنا كيف أن الحراك الجنوبي كان خجولا جدا بسبب التحذيرات والارهاب الذي مارسه حزب الله على المواطنين، إضافة الى ممارسات شبيحة حركة أمل التي شهدتها اعتصامات بيروت والتي لم تكن خارج السياق نفسه.
تحياتي

يتراءى لي ان الاسس المادية للطاءفية في لبنان قد ضعفت جدا. حيث ان اساس الطاءفية كان جراء اعطاء الاستعمار الفرنسي مقدرات البلاد للامراء الطاءفيين وبنسب متفاوتة كانت حصة الاسد فيها للطاءفة المارونية. التطورات الاجتماعية وحاجة الطبقة المالية المسيطرة الى الموظفين والمهاجرين ادى الى اضمحلال الامتيازات التي شكلت الاسس المادية للنزاعات الطاءفية. لكنها خلفت منظومة طاءفية تستفيد من تراث النزاع الطاءفي ابتحويل ثماره الى جيوبها وهذا ما سبب هذا الفساد. ان الكلفة العاليةللاستثمار في تجديد البنية التحتية تحتم سوقا واسعة بل توسيع السوق. فبدلا من اضرابات اهألي الاطراف لتوصيل الهاتف لهم اصبحت شركات الهاتف تبذل اقصى الجهود ليصبح اهالي الاطراف زباءنها.
ماذا عن تطوير شبكات الاتصالات بالالياف الضوءية والسرعات المتعاظمة للانترنت التي اصبحت حاجة دولية للوصول الى زباءن المبيعات على الانترنت. وما يتطلبه ذلك من تغيرات هاءلة ستدخل على الاسواق والمجتمغ واولها الاطاحة بكل من يقف في طريق نموها. . في المستقبل ستجاهد المنظومة الطاءفية الحالية للحفاظ على مكاسبها ومواقعها . وستحاول ان يمر التطوير عبر ممراتها وخواتها وربما تتحول الى مافيا لتفرض مصالحها بالقوة بعد ان سقطت اسبابها المادية.
وهنا يبرز السؤال هل نحن بحاجة للقضاء على الطاءفية ام على منظومتها.
ولو كان الوعي لدينا وصل الى ان المهمة هي القضاء على المنظومة لكان حصل ما خشي نبيه بري منه ولاقتحم الناس بيوت الزعماء وجروهم الى الساحات. ولكن الوعي متوقف عند حدود الطاءفية وما يمكن ان تجلبه من خيرات او تحافظ على مكتسبات.
على ان ظهور البترول في الجنوب سوف يمد المنظومة الطاءفية بعمر جديد وربما مديد . حيث سينتقل التحكم بالتروة الى الطاءفة الشيعية بينما تطلب الطاءفة المارونية المساواة والاصلاحات السياسية والانتخاب النسبي. وبناء جيش قوي يحمي البترول.
مستقبل الحكم للمنظومة ام للنظام. الجواب متعلق بتحديد على ايدي من سيتم استخراج البترول هل على يد حكم مدني ام على يد المنظومة الطاءفية فنتحول الى عراق ثان تمر انابيب الثروة السوداء من تحت اقدامنا ومعامل الكهرباء متوقفة بانتظار فتح اعتماد الفيول؟
متعلق على من سيقود حركة التحديث في البنية التحتية التي يحتاجها الاقتصاد العالمي.
وعلى من سيقود حركة النضال الاجتماعي بشعارات ترميم للنظام الطاءفي ام بشعارات القضاء على المنظومة الطاءفية؟

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.