العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

عرسال وانقلاب الصورة

النسخة الورقية

خلال زياراتي القليلة إلى عرسال قبل عام ٢٠٠٥، كنت ألاحظ أن البلدة في حيرة سياسية منذ نهاية الحرب الأهلية في ١٩٩٠، فهي تعيش في دائرة الهامش والتهميش، كأنها خارج لبنان في الوظائف والحضور الأمني والمؤسسات الرسمية.

لم يكن في «عرسال السنية» من مؤيدي الرئيس الراحل رفيق الحريري سوى قلّة لا تتعدى أصابع اليد، إضافة إلى بعض الحاصلين على منح تعليمية من «مؤسسة الحريري». في تلك الفترة، لم تكن عرسال محسوبة على أحد وإن كان البعض يظن أنها يسارية الهوى بحكم تاريخها، ولم تكن بعثية أسدية برغم امتدادها الجغرافي إلى المناطق السورية، وأشغال التهريب فيها. ولم يقدر «حزب الله» أن يتغلغل في نسيجها برغم محاولاته الملتوية في اكتساب مؤيدين سُنَّة لـ«المقاومة الإسلامية». كانت عرسال مهمشة سياسياً ولم تكن مع أحد طوال فترة ما بعد الحرب، ولم تُرفع فيها صورة للحريري. ربما لم يكن النظام السوري يسمح للحريرية السياسية بالتمدد خارج الأماكن المسموح لها في بيروت وبعض المناطق القريبة منها مثل عرمون وصيدا، ولم يكن تيار المستقبل أكثر من زعيم حوله مجموعة من المستشارين وليس له أي دور تنظيمي.

وعرسال في أحضان السلسلة الشرقية عند الحدود السورية، كانت أكثر ميلاً إلى التاريخ القومي واليساري والعروبي. لم تكن تشهر سنيّتها، لم تكن الطائفية من شعاراتها، بين شبابها النسبة الكبرى من الذي يحملون اسم علي وحسين وسائر الأسماء الإسلامية التقليدية، ومئات من الذين يتزوجون من طوائف أخرى خصوصاً الشيعية. ربما كانت عرسال في مرحلة ضبابية، تبحث عن دورها بعد احتضار اليسار وترهل الحزب الشيوعي وتفكك التنظيمات الناصرية وتحول حزب البعث مجرد عناصر مخبرة للمراكز الأمنية السورية. بهتت صورة عرسال اليسارية، هوت في القعر، لم يحافظ اليسار الشيوعي على «الذاكرة الوردية»، غطس في وحل ملفاته وأصيب بسرطان الطوائف، تحول في جزء كبير منه تنظيماً طائفياً مقنعاً بالعلمانية. احتضر اليسار وذهب العراسلة إلى أعمالهم في المقالع والكرز والمشمش وأشكال التهريب المعروفة عبر الطرق غير الشرعية.

من الشيوعية إلى الحريرية

صورة عرسال اليسارية والعروبية الناصرية بقيت مرحلة طويلة عالقة في الأذهان، الشهداء الذين سقطوا في جنوب لبنان، من شبعا إلى بنت جبيل، كانوا كافين لإرساء صورة نمطية نضالية عن بلدة كبيرة في السلسلة الشرقية. التقي شاباً من جنوب لبنان يعرف أني من عرسال، يسألني: «عرسال بعدها يسارية ما هيك، فيها كثير شهدا»، كأن الشهداء امتياز لا ينعم به إلا قلّة، خصوصاً في الأيديولوجيا الشيوعية الممزوجة بالبيئة المحلية وبعض الثقافة الدينية الكربلائية. طوال التسعينيات كانت عرسال لا تزال تحافظ على بعض من حضورها وفلولها من اليسار، وثمة حضور خجول لأصحاب اللحى من «الجماعة الإسلامية» وبعض الأفراد السلفيين من الذين يجبرون المرأة على وضع النقاب من دون سبب.

لكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في ١٤ شباط ٢٠٠٥، كان كافياً ليقلب الأمور رأساً على عقب، ولتعيش عرسال مرحلة انقلاب الصورة. فالاغتيال أو الزلزال السياسي الذي تبعه انقسام مذهبي وخلاف جذريّ حول الوجود السوري في لبنان بين مكونات المجتمع اللبناني، تبعته تظاهرات وتنافس على التحشيد العبثي في ساحات بيروت. كان اغتيال الحريري مؤثراً وبدا بالنسبة إلى معظم السنة كأنه اغتيال طائفة، وبدأ توجيه الاتهامات إلى «سورية الأسد». «حزب الله» الإيراني الهوى والسلوك، تصرف وفق ما تقتضيه مصالحه ومصالح سيده الإقليمي، وأنزل حشده الكبير إلى ساحة رياض الصلح في الثامن من آذار تحت شعار «شكراً سورية»، كان شعاره وحشده كافيين لإثارة الغرائز وردود الفعل، والنزول بتظاهرة مضادة في ١٤ آذار. لم تكن عرسال حريرية، لكن الصراع والانقسام المذهبيين ادخلاها في مرحلة انقلاب الصورة والانتقال السريع من الخيمة العروبية اليسارية المتهالكة، بل من المرحلة الضبابية، إلى الخيمة الحريرية الليبرالية. زحف جمهورها إلى ساحة الشهداء ودخلت مستنقع الساحات الآذارية، ربما ظن العراسلة أن اللجوء إلى حضن الطائفة طريق النجاة الوحيد، لكن البلدة القابعة في السلسلة الشرقية ذاع اسمها وبقيت صورتها كما هي، تؤيد موجة السيادة لكنها في الوقت ذاته بقيت في دائرة الهامش والتهميش. جغرافيا البلدة وحضورها وسط بحر من الشيعة في سهل البقاع جعلاها في وضع يشبه الأقليات الدينية، فهي بلدة عنيدة لا تنصاع إلى الأكثرية المحيطة بها، ولا تقدر على الاستفادة من لعبة الزبائنية السياسية السائدة في لبنان. من يقارن بين الوظائف التي يحصل عليها بعض البلدات «السنية» مقارنة ببلدة عرسال، يشعر بأن الأخيرة لا تنتمي إلى لبنان، فالبلدة التي تحوي نحو ٤٠ ألف نسمة ليس فيها سوى أربعة ضباط.

على نحو ما كان بعض اليسار يعتبر عرسال «خزان المقاتلين»، اعتبرتها ١٤ آذار «خزان الجمهور»، وتصنيف عرسال في خانة الآذارية الحريرية جعلها موضع اتهام دائم من الآذارية الحزب إلهية، فخلال السنوات التي تلت عام ٢٠٠٥، تعرض العراسلة العائدون من تظاهرات ١٤ آذار في ساحة الشهداء، أكثر من مرة لهجوم بالحجارة على طريق اللبوة - البزالية، سقط منهم جرحى وتكسرت سياراتهم. وبدا واضحاً أن قوى الأمر الواقع أقوى من خطب «السيادة والحرية» و«العبور إلى الدولة»، وثقافة قطع الطرق كان لها حساسية كبيرة بين أهالي اللبوة وبين أهالي عرسال، طوال تلك الفترة، كان رجل الإطفاء بينهم، الشيوعي الراحل حافظ أمهز الذي يجلّه العراسلة ويعتبرونه صاحب الموقف الشجاع، بل يجله كثيرون من أبناء اللبوة والعين والفاكهة وراس بعلبك والجمالية. وكان بعض اليساريين ما زالوا يؤمنون بأن أبناء اللبوة وعرسال قاتلوا يوماً ما في عمليات مشتركة ضد إسرائيل وسقط منهم شهداء منهم الشهيدان أسعد خلوف ومحمد علي البريدي.

سقطت ذاكرة النضال أمام هدير القبائل المذهبية، كان الشرخ المذهبي يزداد ودخل لبنان في آتون الصراع من الاتجاهات كافة، وصارت عرسال محوراً لصراع إعلامي سيادي وممانع، سوريون يعتدون على أراضيها وعقاراتها في المناطق المتداخلة، وإعلام المستقبل وحلفاؤه يحشدون عبر نوابه وسياسييه للحديث عن الاعتداء على السيادة والمطالبة بترسم الحدود. وبدا العرسالي عالقاً بين النظام السوري الكاره للحريرية وبين محيط شيعي معظمه يؤيد «حزب الله» في السراء والضراء. ووقعت «حرب تموز» ٢٠٠٦ فزادت من وتيرة الانقسام بين اللبنانيين ورفعت من منسوب الشحن المذهبي، وما لبث «الإطفأجي» حافظ أمهز أن رحل تاركاً فراغاً مدوياً، وبقيت العلاقة بين اللبوة وبين عرسال أشبه بالذاهبة نحو المجهول، وما كان يحصل بينهما من مناوشات هو نموذج مصغر عن واقع الانقسام اللبناني.

نتائج الثورة السورية

مع انطلاق الثورة السورية عام ٢٠١١ وانتقالها من مرحلة التظاهرات والحرية و«سلمية سلمية» إلى حمل السلاح والمطالبة بإسقاط النظام، بدت عرسال كأنها الخاصرة التي تركز وسائل الإعلام على قصفها، وفبركة مختلف أشكال الأخبار السوداء عنها. منذ البداية اعتبرها الإعلام الممانع شريان الثورة السورية وممر تهريب السلاح والمقاتلين الأجانب، أرادوا محاربة «الحريرية السياسية» من خلال تشويه صورة عرسال وحرقها. لم يكن الأصوليون إلا مجموعة قليلة في عرسال، لكن مع سطوة ما يسمى وهج السلاح وترهل الحريرية وإفرازات الحرب السورية وتهميش الدولة اللبنانية، كانت عرسال تنحو نحو الفوضى، بل تحولت قنبلة يمكن أن تنفجر في أي لحظة إلى درجة أن بعض المواقع الإلكترونية صنَّف عرسال على رأس قائمة أخطر الأماكن في لبنان.

لم تكن الدولة حاضرة طوال عقود في عرسال حتى صورياً، وحين حضرت العناصر الأمنية إليها وأقامت النقاط الثابتة على أطرافها كانت أشبه بالفلكلورية. ولم تكن وسائل الإعلام الكثيرة معنية بالدفع نحو دعم الدولة في منطقة مهددة بسبب فوضى الحرب السورية، بل إن إعلام «حزب الله» لكثرة ما تحدث عن عرسال وطرقاتها غير الشرعية أرشد كل من يريد الذهاب إلى سورية إلى طرق جرود عرسال، وصارت البلدة التي تؤوي النازحين الهاربين من مناطق القلمون موضع اتهامات دائمة بتهريب السلاح والمقاتلين وإيواء الإرهابيين، وحصلت إشكالات بين أفراد من عرسال مع الجيش لأسباب تتعلق بالثورة السورية، فزاد من التصويب الإعلامي عليها.

صنع الإعلام «أساطير» في عرسال مثل رئيس البلدية وغيره، وكانت تعيش إفرازات الحرب السورية بتفاصيلها كلها بدءاً بأعداد النازحين الهائلة الذين وصلوا إليها وحتى تفاعل الثوار السوريين مع بعض العراسلة وصعود موجة «جبهة النصرة». صارت عرسال مأوى الألم والقسوة والفوضى وموطن المخيمات، اختنقت البلدة بالفوضى السياسية أولاً ثم بفوضى النازحين والهاربين من الموت وحتى الباحثين عن لقمة الإعاشة، والتحق فتيان أشقياء فيها بـ«جبهة النصرة» ظناً منهم أنها ستعيد إليهم حقوقهم ومعنوياتهم. الانتساب الخجول إلى النصرة في عرسال يأتي تماثلاً مع التحاق شبيبة الشيعة بـ«حزب الله»، هكذا الأمور قائمة على فعل ورد فعل وحساسيات رخيصة، غير أن أسوأ مع أفرزته الأحداث السورية هو دخول الذهنية المادية بقوة إلى عرسال، ولهذا بحث آخر.

مقتلة

خلال زيارتي الأخيرة إلى عرسال، وربما قبل زيارتي بأشهر، كان الجميع في هذه البلدة، يتوقع أن يحصل حادث ما يهز المنطقة ولبنان، كانوا يتوقعون ذلك منذ معارك القصيْر، وازداد التوجس بعد اشتداد المعارك بين المسلحين المعارضين وبين «حزب الله» في جرود القلمون وسقوط خسائر كبيرة من الأخير. ابن خالي يقول «إن حزب الله سيأتي ويرفع العلم هناك في رأس التلّة». ابن خالتي يقول لي عبر الواتس آب: «زبطلي غرفة في إقليم الخروب... ستهجم داعش». كنت أقول له «داعش لا تهجم علينا ليس لدينا نفط ولا ماء». لكن قلق العراسلة من داعش تجلى بقوة بعد دخول مجموعة منها إلى وسط البلدة وقتلهم أحد المواطنين خلال شهر رمضان. أمير داعش الذي تكثر الشبهات حول أصله وفصله، كان يمارس مختلف أنواع التشبيح في منطقة القلمون وجرود عرسال ورأس بعلبك، ويتولى مع مجموعة من الفارين من وجه العدالة عمليات السلب والنهب والخطف والقتل. في كل مرة تأتي مجموعته إلى عند أطراف البلدة، كانوا يطلقون الصواريخ على المناطق الشيعية في اللبوة والنبي عثمان ويحدثون بلبلة وإرباكاً للناس ويعودون أدراجهم.

العراسلة كانوا يدركون أنهم سيتعرضون للهجوم، إما من خلال هجوم داعش عليها كما حصل في الموصل، أو من خلال تعرض البلدة للحصار من «حزب الله» إذا ما سيطر على جرودها، دون أن ننسى التخوف من براميل طائرات الأسد التي قصفت أكثر من مرة واستهدفت معظم البيوت الجردية وقتلت بعض النازحين العاملين في قطاف الكرز. كانت عرسال تعيش في بحر من النار، واللافت في هذا المجال أنه بدل زمن حافظ أمهز كان زمن شقيقه رامز الذي بشرنا بساعة الصفر للهجوم على عرسال، وسبقه في ذلك منشد «حزب الله» علي بركات الذي يطلق مع كل غزوة حربية أغنية تعبوية تحشيدية بدءاً بالقصير مروراً بيبرود وحلب وصولاً إلى عرسال.

لم يكن رامز أمهز «اطفأجياً»، بل كان يحمل البنزين وينثره على النار المشتعلة، انحدر في مواقفه إلى درجة المزايدة على «حزب الله» وهو الآتي من الثقافة الشيوعية، ربما هذا يعكس واقع الشيوعية اللبنانية التي تعيش مرحلة احتضار لا مثيل له. لم يترك أمهز للتواصل خيطاً رفيعاً من قطع الطرق إلى التصريحات. كأن سيناريو عرسال كان جاهزاً ومحضراً ويحتاج إلى الإخراج المناسب في الزمان المناسب. أُدخلت عرسال مع النازحين في بلبلة لا مثيل لها، أوقف الجيش اللبناني عند أحد حواجزه السوري أبو أحمد جمعة، وهو من قادة «داعش»، واشتعل كل شيء. تحول بعض ثوار سورية من طالبي حرية إلى محتلين، وبات أهالي عرسال من حاضني نازحين الى نازحين، وعاش السوريون مشهداً جديداً في حياتهم، بعدما شهدوا موتهم وتدمير بيوتهم ببراميل الأسد، شاهدوا في عرسال موتهم واحتراق خيمهم الفقيرة وموت أطفالهم بشظايا القصف، كان الضحايا الأبرز في حرب عرسال من المدنيين فيما كان معظم السياسيين والقادة الإحترابيين يعلنون انتصاراتهم الوهمية.

مشهد مقتلة عرسال أظهر الصورة الحقيقية للدولة اللبنانية، تلك الصورة المخلخلة الملتبسة المتناقضة شاهدة الزور على كل شيء، من الحدود السائبة والفالتة من أي ضوابط إلى المناطق المهمشة التي لا تعرفها الدولة إلا من خلال الأخبار السوداء. عاشت عرسال حرباً أهلية صغيرة، حرباً بديلة عن حرب لبنانية شاملة، كواليس المعركة خلال بضعة أيام كانت كافية لتكشف بعض العقليات اللبنانية التي تدّعي الحداثة والتطور وهي في الواقع ليست أكثر من داعشية فاشية تدعو إلى الدعس والقتل والمحو.

عاشت عرسال حرباً صغيرة أظهرت أنها ضحية صورة الإرهاب وليست إرهابية، غير أن الذين كانوا يرفعون شعار «الأمر لك» للجيش اللبناني سقطوا وأسقطوا الجيش في أول امتحان، فالجيش الذي يحمل شعار «الأمر لي» في محاربة الإرهاب، لم يقدر على فتح طريق اللبوة الذي قطع لمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى عرسال.

وسوم
العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

التعليقات

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.