قبل أن أنام، هذا النّصّ هديّة ووفاء لوعد لصديقي العزيز السميع العتيد عبده البرماوي بالكتابة الفوريّة عن هذا الصوت المبهر، الذي كان البرماوي أوّل من لفَتَ نظري له في كانون الثاني / يناير الماضي. من وقتها، وأنا أسمعه بلا انقطاع كالمجذوب، على أقلّ تقدير سمعت له أربع وعشرين ساعة تلاوة (بواقع ست ساعات يوميّاً في المتوسّط)...
وبناءً عليه، أقرّر أمامكم وبضميرٍ مطمئنّ أنّنا أمام قارئٍ فذٍّ لا أظنّ أنّني أعرف قارئاً بمستواه على قيد الحياة الآن، صوته وتَمكّنه يجعلانه يقف على قدم المساواة - رغم عمره الذي هو بالتّأكيد أقلّ من ثلاثين - مع عمالقة القراءة، وحتى يمكن أن يقارَن بالقارئ والمبتهل الأعظم (وأحد أهمّ عمالقة النّغَم في القرن العشرين في نظري) الشيخ العظيم محمّد عمران، الذي سأعود له في حديث آخر، خصوصاً أنّ عندي تسجيلاً لجلسة خاصّة يبتهل فيها الشيخ عمران بحضور سيّدنا محمّد عبد الوهّاب وسليم سحّاب وفؤاد عبد المجيد والكلّ يصرخ طرباً كالمجانين، ثمّ ينهيها بأذان الشّيخ علي محمود (من مقام الراست)... عموماً هذا حديث آخر.
المهمّ الآن، أنّي كلّي بهجةٌ وسعادة وأنا أقدّم لكم هذا القارئأمام عملاق جديد للقراءة، وبحكم العبقريّ في تسجيلين لآيتين فقط (١١ - ١٢) من سورة التحريم.
القراءة الأولى (ويمكن إيجادها على موقع ساوند كلاود) هي قراءةٌ تبدأ من مقام البيّاتي (وإن كان بها عرْب - أي ارتجالات قصيرة تخرج عن المقام الأصليّ إلى مقاماتٍ مجاورة أو بعيدة، حسب خيال المؤدّي وقدراته، ثمّ تعود له في ثوانٍ قصيرة) من مقامات السيكا والعجم والراست. شيءٌ مذهل ولا أجد له وصفاً آخر يفيه حقَّه (خصوصاً إذا أخذْنا في الاعتبار أنّ التسجيل مدّتُه ثلاث دقائق فقط). صوت مبهر، خيال موسيقيّ خصب، ونفَس طويلٌ، وإجادةٌ مطلقة لقواعد التجويد وأحكامه.
وجه آخر للروعة في هذا التسجيل يَظهر في التجاوب المدهش من المستمعين، الذين يبدو بالفعل أنّهم سمّيعة راسخون. يتّضح ذلك تماماً من أنّهم يصيحون «الله» كلّ مرّة من نفَس المقام وعلى نفَس النّوتة الموسيقيّة التي يقف عليها الشيخ، ويغيّرون القفلة وراءه عندما يغيّر المقام أو النّوتة التي يقف عليها (ولا أحسن كورس في الدنيا)... حالة تجاوب وتوحّد مع القارئ لا أعرف لها مثيلاً.
قراءة القرآن، كما تعرفون، هي البيت التقليديّ الذي نبتت منه الموسيقى العربيّة في القرن العشرين (من هنا كان عتاة الملحّنين من المشايخ، بدءا من سيّد درويش وزكريّا أحمد ووصولاً لسيّد مكّاوي والشيخ إمام، ومن هنا كان أهمّ مغنّي القرن عبد الوهّاب وأم كلثوم من قرّاء القرآن المُجيدين). وأهمّ المُقرئين يجيدون المقامات إجادةً مطلقة، بل ويعرفون بدقّةٍ مناطقَ قوّة كلّ مقرئ والمقامات التي يجيد منها، من هنا تسمية الشيخ أبو العينين شعيشع مثلاً «بملك الصَّبا» والشيخ علي محمود «ملك الكرد» وهكذا.
نحن هنا أمام قارئٍ مُجيد تماماً لأحكام القراءة، وينقل المعنى بشكلٍ واضحٍ عبر تمكّنه المذهل من المقامات، بالإضافة إلى جمال صوته (ولعلّ من المفيد هنا تذكر أنّ كتب السّيرة النبويّة وكتبَ التراث بعامّة، تروي أنّ معيار اختيار بلال بن رباح لأداء الأذان كان أنّه «أندى الصحابة صوتاً» أي أجملَهم صوتاً، المعيار كان جماليّاً بحتاً، لم يستحِ منه النّبيّ في اختيار المؤذّن، وإنّما اندثر هذا المعيار مع سيطرة الانغلاق الوهّابيّ وظهور القراءات غير المعبّرة بأنكر الأصوات، يكفي مثلاً أن يستمع الواحد منّا للأذان في أغلب مساجد منطقة المهندسين في القاهرة مثلاً ليعرف الجريمة التي ارتُكبتْ في حقّ فنّ التّلاوة والأذان).
ولإظهار قدرات هذا القارئ العظيم، وجدتُ له تسجيلاً آخرَ للآية ١٢ نفْسها من سورة التحريم، يؤدّيه من مقامَي الصَّبا والعجم... الاستماع للتّلاوتَين للآية نفسها يُظهر بوضوح الفروق بين أجواء المقامات المختلفة، والطابع الحزين لمقام الصَّبا في التّلاوة الثانية يَظهر بوضوح شديد. بصراحةٍ لا أعرف طريقةً للتّعريف بماهيّة المقامات الموسيقيّة (من حيث كونُها هنا طرقاً للأداء باختيار سلّم موسيقيّ معيّن تؤدّى منه التّلاوة بغرض نقل حالةٍ وجدانيّةٍ معيّنة، وطعمٍ خاصٍّ لكلّ مقام) أفضل من الاستماع لهذه التسجيلات ومقارنتها ببعض للتّعرف على الأجواء المختلفة التي يخلقها تغيير المقام (التلاوة الثانية موجودة على موقع يوتيوب).
أخيراً، لمن سيُصاب منكم مثلي بالشَّوطة وينجذب بهذا الصوت المبهر، ويريد أن يستمع لتلاوة السّورة كاملةً (التّلاوة التي اقتطع منها التسجيل الأوّل) فهي موجودة على موقع يوتيوب.
اسمعوا، وتسلطنوا، وأجيبوني بذمّتكم ودينكم وعينيكم وعافيتكم يا رفاق، أيّهما أكثر تأثيراً في الوجدان ومدعاة للخشوع، هذه التلاوات الرّخيمة، أم الأذان الخليجيّ الذي سيطر على الأحياء البرجوازيّة في القاهرة؟
عموماً، أبشروا بقدوم هذا العملاق الجديد لدنيا التلاوة، وبآفاقٍ جديدةٍ سيفتحها (فهو مازال في بداياته، في العشرينيّات من عمره) بتلاوته الرّائعة، وصوته المذهل، وتمكّنه المقاميّ الرائع وخياله الموسيقيّ الخصب (في هذا يزيد مثلاً بمسافاتٍ ضوئيّةٍ عن الشيخ الذي نال شهرة في التسعينيّات، الشيخ محمّد جبريل، والذي امتلك صوتاً جميلاً، لكنّه كان فاقداً تماماً للخيال الخصب أو التمكّن المقاميّ، فلم يترك بصمةً تبقى عبر الزمن)...
نحن هنا أمام عملاقٍ جديد للقراءة، وبحكم عمره لم يقدّم أجمل ما لديه بعدُ. أبشروا! أو، بعبارةٍ أخرى لا أمل من تكرارها، تفاءلوا بالشعب تجدوه...
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.