في أيّار / مايو عام ١٩٦٨، كنتُ في الرّابعة والعشرين من العمر. وكُنتُ قد فرغت تماماً من الدراسة، أعمل كرسام غرافيكيّ ومدير فنّيّ في استوديو للازياء. كانت هذه إحدى الوظائف الأولى التي تبوّأتها. عندما بدأت الاحتلالات، نحو منتصف شهر أيّار / مايو، قصدتُ كليّة الفنون الزخرفيّة Arts Déco حيث إنتاجُ الملصقات يوازي في وتيرته ما ينتج في كليّة الفنون الجميلة. في الأولى، برز الحضور النقابيّ القويّ للاتّحاد الوطنيّ لطلّاب فرنسا. في السنوات السابقة، وخصوصاً عام ١٩٦٧، ظهر تحوّلٌ على الفولكلور، كلّ الموسيقى وطقوس التطبيع، إلى نشاطاتٍ نقابيّة أو فعاليّات تضامن مع فيتنام، أو ضدّ حرب الجزائر، التي كانت لا تزال حيّة في الذاكرة. كان الوضعُ مسيّساً: لم يخرج من العدَم.
على أرض الواقع، كان البعض منّا قد تعارف مع بعضٍ إذ التقينا خلال فترة الدراسة في باريس أو في أكاديميّة الفنون الجميلة في وارسو. لم يكن الطلّاب وحدهم الذين ارتادوا الأكاديميّة بل ارتادها أيضاً العديد من الطلاّب القُدامى الذين أصبحوا مُحتَرفين. أصدقائي هناك: بيار برنارد، الذي درس هو أيضاً في بولندا إلى جانب هنريك توماشفسكي، وفرانسوا مياهي الذي لا يزال طالباً ومسؤولاً نقابيّاً في كليّة الفنون الغرافيكيّة.
ويمكن القول إنّني كنت بالأحرى منتجَ صورٍ يشارك في إنتاج الملصقات في المحترف أكثر منه في الحركة الطلابيّة بحدّ ذاتها. حضرت بالتّأكيد بعض المناقشات والجمعيّات العامّة وشاركْت أيضاً في بعض التظاهرات. شاركتُ في الأحداث الكبرى، بيد أنّني لم أكن قائداً إطلاقاً لأيّ نشاط. عندما يتعلّق الأمر بصورة معيّنة، كنت أتكلّم لأنّه لا بدّ من الاعتراف بأنّ لنا خبرةً في هذا المجال، وأنّ لنا ممارسةً مختلفةً في الرّسم الغرافيكيّ بعد زيارتنا بولندا. كذلك، كنا نتمتّع بالجرأة!
تميّزتْ تلك الحقبة بالحبور. ففي عام ١٩٦٨، فُتِحَ الباب واسعاً أمام حريّة التعبير، فبرزتْ قوّة التلاعب بالكلمات ومخاطرها. يتحادث النّاس في الشارع. هناك حشد: تأتي، تحتجّ وتعترض، يمكنك أن تُناقِش. فُضول معرفة الآخر لا يُضاهى. وهذا مُبهِج! بصرف النّظر عن التحرّكات الكُبرى، والتظاهرات الحاشدة، والمشاريع الضخمة، هناك تحوّل يتمثّل في إثارة الخوف في نفوس الطبقة البرجوازيّة، واحتلال الشارع، وتحقيق النصر، وتجسيد أقصى درجات الجنون، وبثّ الشِعر في السياسة والحياة...
انا أمارس صراع الطبقات
إلى جانب عملي، اكتشفتُ بيئةً ليست بيئتي. سبق لي أن رأيتُ الوجه الآخر من خلال عاملات مصانع النسيج، الواقفات بالصفّ أمام آلاتهنّ، في أردأ ظروف الاستغلال. كانت ظروفاً تشبه الظروف التي خضع لها والداي العاملان فضلاً عن البطالة التي خَبِرَها والدي. وهكذا، تفتّحت عيناي على الصراع الطبقيّ، مع العلم أنّني كنت في وضع جيّدٍ نوعاً ما، لي أجرٌ وشروط عمل مقبولة. بالنسبة إلى ربّ العمل، أنتَ الفنّان الشابّ، أنتَ قبلة الأنظار، فكأنّك نوعاً ما مهرّج الملك. وهذا الوضع يجعلك راضياً شريطة أن تكون مصمّم الغرافيك في الخدمة، وقد اختبرت ذلك في تلك الحقبة. بالنسبة إلى أرباب العمل، ويا للسّخرية، كان من الجيّد أن يشارك مديرهم الفنّيّ الشابّ في التحرّك، مع ملصقاته الاحتجاجيّة المعارِضة.
السعادة تُظَلِّل الأجواء. وقد تمكّنا من أن نتناول ببهجةٍ غامرةٍ ما أمكن من أكثر المواضيع شعريّة وسياسيّة. في وقتٍ لاحقٍ،أنتج العام ١٩٦٨ ما سُمِيَ بالحريّة الجنسيّة، لكن مع ذلك لا بدّ من تلطيف هذا التعبير، نظراً للذكوريّة المسيطرة التي ظلّت عنيفة. بالنسبة إلى بعض الشرائح الاجتماعيّة، سمح ذلك بممارسة هذه الهيمنة الذكوريّة على نحوٍ أسهل بكثير، وأميلُ إلى القول، من خلال ثقافة حريّة مزوّرة. حتى وإن زاد ذلك من ممارسات العلاقة الجنسيّة. كانت حريّة الأجساد لا تزال بحاجةٍ إلى إنجاز.
عموماً، دَفَع هذا الجوّ الكثير من الفنّانين والحرفيّين إلى التلاقي، ما سمح بتشريع العمل الجماعيّ. وقد أتاح ذلك بالتالي تأسيس مجموعة مصمّمي الغرافيك «غرابوس» Grapus مع بيار برنارد وفرانسوا مياهي. لكن هذا ليس كلّ شيء. ففي الوقت الذي كنّا ننجز فيه الملصقات، كنّا نعي ضرورة تنظيم دراساتنا ومهنتنا. عُدتُ إلى بولندا لأعاين أساليب الدراسة التي كانت مختلفة عنها في فرنسا. وذهب آخرون إلى أماكن أخرى. حدث ذلك في شهر حزيران / يونيو، أو بعده مباشرةً. كان فرانسوا مياهي، بصفته مسؤولاً في «الاتّحاد الوطنيّ لطلّاب فرنسا»، عضواً في لجان إصلاح التعليم. وقد أفضى ذلك إلى تأسيس «معهد البيئة» عام ١٩٦٩ وهو عبارة عن حلقة ثالثة تشكّلت على غرار «مدرسة المعلّمين العليا» في شارع «أولم» في ألمانيا، المنبثقة هي أيضاً عن مدرسة«بوهاوس». في تلك الحقبة، ظهرت انقسامات اجتماعيّة وسياسيّة هنا أيضاً: نحن الطلاب من أصولٍ متواضعة، أصبحنا مناضلين شيوعيّين، أردْنا للأوضاع والشهادات أن تدوم. أمّا الطلاب اليساريّون من البرجوازيّين الصغار، فما كانوا ليأبهوا: كانوا أكثر عداءً للشيوعيّين منهم للرأسماليّين فضربوا عرض الحائط بكل شيء في غضون عامين. وأخيراً، لم يكونوا وحدهم طبعاً مَن نسفوا هذه التجربة: رأت السلطة أيضاً أنّ هذه المغامرة تفوح منها رائحة المؤامرة.
لكن بالعودة إلى الوراء: في أيّار / مايو عام ١٩٦٨، في كليّة الفنون الغرافيكيّة، لا بدّ من النظر أيضاً إلى الديكور، إلى الجماليّة. إنّها مدرسة من طوابق عدّة. في الطابق الرابع مشغلٌ السيريغراف. كنّا نحتفظ بالأجزاء المتبقّية من لفافات الصحف الكبيرة ونجعل هذه اللفافات الطويلة تتدلّى من الطابق الرابع إلى الأسفل في بيت السلالم. ثمّ نقصّها ونلصقها على الفور... كان لكلّ واحدٍ منّا مشروع رسمٍ ليعرضه أثناء الجمعيّة العامّة، فتدور حوله نقاشاتٌ كثيرة. ولاحقاً عندما نعود إلى المحترف، كنّا نفعل ما يحلو لنا، هذا هو المبدأ. يعود القرار إلى من يُنجز العمل. إنّها باختصار ديمقراطيّة مباشرة من دون أن تكون توجيهيّة مبالغة.
متعة التشارك
العنصر المهمّ في محترفات عام ١٩٦٨الشعبيّة، والذي غالباً ما يُحذَف من روايات تلك الحقبة، هو الترويج والنشر. بادئ ذي بدء، صحيحٌ أنّ هناك فوضى صوَر في كلّ مكان، إلّا أنّها فوضى حميدة. وهذا ما يحفز على التفكير، والتذوّق النقديّ، وشاعريّة النظرة. عندما ننظر إلى ملصقات عام ١٩٦٨، باستثناء البعض منها، نجد الكثير من«الرسوم الصغيرة». لكنّ العلاقة التي تجمع بينها هي التي تعطي هذه الرسوم معناها. إنّ متعة لصق هذه الصور والاستحواذ عليها قويّة قدْر متعة ابتكارها وصنعها. اكتشفنا ذلك في تلك اللحظة وحفظنا، في «غرابوس»، ثمّ في جمعيّة «يرجى عدم الطوي»، مدى أهميّة شروط الترويج والنشر. عندما ننشر شعار «صراع الطبقات» أو«الحلم للجميع» أثناء التظاهرات، نصبح مؤلّفي فكرة وممثّليها. ثمّة بهجة حقيقيّة في هذا اللقاء، في العلاقة الفاعلة وفي التشارك.
تمحور عام ١٩٦٨على المشاركة الجماعيّة. دردشات في كلّ مكان. إلى جانب التظاهرات والقمع والفولكلور طبعاً. فضلاً عن العنف ضدّ الطلّاب في بعض الأحيان، وعنفٌ أقلّ وضوحاً ضدّ العمّال. أو حتى أيضاً تشديد في حدّة الخطابات. هذا ما حفظناه، في حين أنّه في العمق، عبارة عن نضالاتٍ عمّالية مذهلة وعن مكتسباتها. وتماماً كما كان العمّال في المصانع المحتلّة يفكّرون في بناء الحرّيّات والمساواة، كنّا نحن نتخيّل الظروف الممكنة لعملنا على الأشكال وعلى اللغة. تعلّق الأمر ببناء السياسة والمشروع والتعليم. ذلك كلّه فيما نحن نتسكّع بجديّة.
أنْ تمارس الثورة يعني ابتكار الجديد. هنا كنّا في سياق البحث الابتكاريّ. لم نعهد في السابق هذا البرود الذي عرفناه منذ ذلك الحين. عام ١٩٦٨، ظهرت رغبةٌ في اللعب، في الاختبار بلا توقّف وكان الفشل جزءاً من شروط النّجاح. لم نكن نأبه يوماً للوقوع في الخطأ، أو لارتكاب حماقة جسيمة. كنّا ننتج، كنّا نجرّب حظّنا. وكانت حيويّة رهيبة تفيض عن مفهوم العمل الفنّيّ. كانت الجودة كامنةً في هذه المسيرة، وفي عمليّات التبادل قدْر ما كانتْه في الصورة بحدّ ذاتها.
نهاية فترة الاحتلال وإخلاء الشرطة مبنى كليّة الفنون الزخرفيّة، لعلّ هذا حكم بوقف آليّة مؤقتة، لكن استمرّ كلّ شيء. واصلنا التفكير في «معهد البيئة»، ثمّ في «غرابوس». وهذا ما أطعمنا حتى التخمة طوباويّات وخيالات كما لو أنّها فيتامينات. فالطوبى ليست شيئاً يجعلنا نضع مشاريع بعيدة المدى، بل هي ما يسمح لنا بأن ننجز على الفور، بقوّة الحلم، والخيال أجزاءً من هذه المشاريع. وبفضل هذه الحيويّة، ولأنّنا كنا منظّمين ضمن مجموعات في «غرابوس»، تمكّنّا من مقاومة نقص المال والاستغلال كما العصبيّة الشلليّة، ومن أن نفعل ما يحلو لنا في جوٍّ من الرفقة التامّة، والأخوّة المناضلة.
من المُلِحّ أن نأخذ وقتنا
ليس التاريخ كمّاً من الأخبار المتفرّقة. فالثورة الفرنسيّة لم تنتهِ. و«كومونة باريس» لم ينتهِ، العام ١٩٦٨ لم ينته ولا النضالات الكبرى لعام ١٩٩٥ انتهت. لا ينتهي أيّ شيءٍ أبداً. في لحظةٍ معيّنة، تبرز حركة ما ومُثُلٌ عُليا، وتُبنى الاحتمالات على النّضالات التي لم تتحقّق بعد. ليس الأمر وكأنّ ذلك كلّه انتهى. فالأشياء في حركةٍ دائمة، وهي ليست متجسّدة في حدَثٍ واحد. لقد رمَوا لنا بثقافة الفوريّة، وثقافة النتيجة، لكنّ المسيرة، وجَودتها، هي في الواقع تعليمٌ وتربيةٌ. تنتقل المعرفة من خلال مسيرة، لا من خلال سحر حدث.
عندما نفكّر في الأمر، نجد ما يستدعي الندَم على هذا التخطيط الدماغيّ المسطّح، هذا الخطّ المستقيم المفتقِد إلى الذبذبة والذي نعرفه اليوم. وهي طريقة لئلّا نفعل أيّ شيءٍ آخر سوى إدارة هذه المحنة. بيد أنّ عام ٦٨ لم يقتصر على إدارة المحنة والمقاومة وحسب، تمحور أيضاً على الابتكار، وعلى النّضال في سبيل تحقيق السعادة المرجوّة. نلاحظ بوضوح الشعارات الشاعريّة والممتعة والمسليّة. إنّها تفتح أمامنا أفقاً من الإمكانات، وتنشئ خيالاً اجتماعيّاً. وهذا ضروريّ جدّاً، فيما التّخييل السياسيّ للحركات الاجتماعيّة في يومنا هذا، لا يتمثّل بأكثر من مقاومة المِحَن. لم يعد أحدٌ يجرؤ على التصدّي لتحدّي المطالبة بالسعادة. لم يعد الأمر يتعلّق بتضميد الجراح وحسب، بل يستلزم أيضاً تحسين جودة ما كان رديئاً بالأصل. وابتكار ما هو جديد!
في السنوات الأولى لـ«غرابوس»، بعيد عام ١٩٦٨، كان المناضلون في الحقل السياسيّ أو النقابي يخشون التعابير التي يعتقدون أنّهم عاجزون عن السيطرة عليها لأنّها عائمة! لم يكن ينبغي أن تكون التعابير عائمةّ بل ينبغي أن يكون المعنى راسخاً جدّاً، قد رأيناه وعرفناه من قبل، بالتّالي مألوفاً ومملّاً. غالباً جدّاً تحصل خيانة فكرة جديدة بسبب تعابير قديمة رديئة. كانت تلك معركة كبرى، كان لا بدّ من استعادة متعة التعبير عن فكرٍ سعيد، وعدم تحويل فكرٍ تقدّميّ إلى شكلٍ أكاديميّ مملّ. ذلك أنّه بحجّة إفهام الفكرة بشكلٍ أفضل، ينبغي أن نجعلها بلا إثارة للاهتمام، تستحيل مشاركتها. الأكيد أنّه، عندما تتحرّر الكلمة، عندما نستعيدها، تطغى الصيغُ السعيدة وتتجاوز على الفور الحماقات الصغيرة المحتملة. عندما ينكبّ الجميع على ذلك، تتضافر الجهود، فيحدث غليانٌ وتغمرك الرغبة في الانطلاق والتقدّم.
ما الذي يجعل المسؤولين الذين يَنعمون اليوم ببعض السلطة داخل الأحزاب والنقابات والمدن يزرعون الملل في ممارساتٍ هي رغم ذلك سخيّة وتضامنيّة؟ هل يخشون مواجهة صراع قد ينتج منه شيءٌ جديد إلى حدٍّ ما؟ يُواجهوننا بحجّة نقص الموارد، طبعاً، لكنّها في معظم الأحيان حجّةٌ واهية. يمكننا دائماً أن نعمل من خلال تدوين شيءٍ ما على قصاصة ورقٍ بيدنا - وهذا ما أثبته لنا عام ١٩٦٨. لكننا دخلنا في نظام للتواصل من أغبى الانظمة على الإطلاق. التواصل يجتاح الجماعة. ما ينبغي أن نتشاركه هو الرغبة في التحوّل. الإعلام هو بمثابة تدريب!لا يتعلّق الأمر بالمعرفة وحسب، فإن كانت المعرفة مملّة، فما من فرصة أبداً في مشاركتها.
إشعارٌ بحلم
بعد عام ١٩٦٨ عاد الواقع الاقتصاديّ والثقافيّ الاجتماعيّ إلى الواجهة مع دعوةٍ إلى مراعاة البيئة، إن أردنا التحدّث كعلماء الاجتماع. وقد غطّت قوانين الأصول العائليّة والاجتماعيّة بسرعة على الاكتشافات الثوريّة. دخل الكثيرون إلى أوساطنا في سبيل إيجاد عملٍ أو عقد زواج جميل. بيد أنّ ذلك الإضراب العام المذهل والتضامن بين الطلّاب والعمّال هما مصدر لتحو!لات مستقبليّة. وبفضل معهد البيئة، ثمّ «غرابوس»، و«جمعيّة يرجى عدم الطوي»، تمكنّا من العمل ضمن أشكالٍ من التضامن الجماعيّ. وتجنّبت بلا شكّ ما حدث للبعض الذين انتقلوا من فترةٍ البهجة الغامرة إلى فترةٍ من الكآبة. أنا لم أندم على شيءٍ مطلقاً. لم أستمدّ إلّا ما هو جيّد من عام ١٩٦٨، والأفضل أن يبقى لي منه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.