يجب أن أقول لك، سيّدي، إنّنا في ذلك الزمن لم نكن نحلم، سيّدي، لم نكن نحلم، كما نحيا.
كان لنا شعر طويل، كنّا ندخّن سجائر «جيتان»، كنّا نحكي، نحكي، لأنّ الكلمات كانت نديّة، طافحة بالمعنى: حريّة، مساواة، ثورة. عندما نكون ملايين نحلم في الوقت ذاته، لن يعود ذلك حلماً، يصير أن نحيا اليوم ما كنّا نريد أن نحياه غداً، جميعنا معاً.
يجب أن أقول لك، سيّدي، في ذلك الزمن، لم نكن مجانين، سيّدي، لا، لم نكن مجانين، كنّا نتعاشق.
كنّا نتقاسم كلّ شيء. الأفكار قبل أيّ شيءٍ آخر. والأفكار تتحرّك، تمارَس، تتعرّض للانتقاد، الأفكار لها جذورٌ وتتغذّى من تاريخ وحكايات، تخرق الأرض وتنتصب، وتبرعم أينما كان، فيكون لها أغصان وأوراق وثمار. الحقيقة لا توجد في الأفكار الجامدة، إنّها ابنة الضرورة، لا برامج أقلّيّات تريد قولبة العالم حسب مثالها، إنّها فعل ملايين البشر الذين يتكوّن منهم الشعب، إنّها الضرورة التاريخيّة وقد تحوّلتْ إلى واقع.
اعذرني، سيّدي، إنّي أتحدّث مثلما كنّا نتحدّث في ذلك الزّمن، كنّا جميعاً فلاسفة، بلى، لكن هكذا تكون الثّورات، تصير الفلسفة فيها ضرورةً مطلقة، يوميّة، كلّ خلايا الدماغ تشتغل خلال الثورة، لا كما هو الحال في ظلّ الديمقراطيّة، حيث تعطي صوتك فلا يبقى لك شيء تقوله. في كلّ الأحوال، لو أمكن الانتخابات أن تغيّر الأمور فعلاّ، لكانوا منعوها.
يجب أن أخبرك، سيّدي، في ذلك الزّمن، كانت مجموعة من الطلّاب اللبنانيّين في باريس تشاغب ضدّ عرضٍ لمسرحيّة «البرجوازيّ النبيل» في «المدينة الجامعيّة»، كانوا يصيحون «يسقط البرجوازيّون! يسقط النبلاء»، فألغي العرض.
أي نعم، سيّدي، يجب أن تعلم أنّنا في ذلك الزّمن لم نكن مهذّبين، لم نكن مهذّبين، سيّدي، كنّا نضحك / ساخرين.
ذات يومٍ في بيروت، قمنا بالثورة على المسرح، سيّدي، اعتمرنا الكوفيّات الفلسطينيّة، رفعْنا «الكتاب الأحمر» باليد اليسرى والقبضة المضمومة باليمنى. وأسقطْنا الحكومة ثمّ جاء الجنود الإسرائيليّون وأنشدنا في وجوههم «ما همّ أن نموت»، الكلمات لتشي غيفارا ترجمها عصام محفوظ ولحّنها وليد غُلمية. ثمّ في الفجر، نزلنا إلى وسط المدينة وشربنا كوباً من السّحلب.
يجب أن أقول لك، سيّدي، إنّه في ذلك الزمن، كان وسط المدينة لنا.
ذات يوم، غداً، بعد عشر سنوات، بعد قرن، سوف نعلنها الثورة، سيّدي. نعم، اعرف أنّ الأفق يبتعد عندما نتقدّم صوبه. لكنّ إعلان الثورة هو وسيلة حياة في أيّامنا هذه. فكلّ مرّة تشاهد فيها مظلمة، كلّ مرّة تسمع فيها كذبة، كلّ مرّة تشهد فيها على عذاب إنسان سبّبَه له إنسان آخر: رجلٌ لامرأة، بالغ لطفل، عسكريّ لمدنيّ، أبيض لأسود، مؤمنٌ لوثنيّ، مؤمن لمؤمن آخر، [كلّما شاهدت] متسوّلاً، متعطّلاً من عمل، لاجئاً، ضحيّة: تمرّد، قليلاً أو كثيراً، ما همّ، المهمّ أنّك تكون قد عشت بضع لحظات أو بضع ساعات من فرح ذلك الزّمن.
يجب أن أقول لك، إنّه في ذلك الزمن، لم نكن نَهرم، سيّدي، لم نكن نهرم، كنّا خالدين.
بلى، اعلم، سيّدي، أنّه قد سقط عددٌ من الموتى، موتى أموات وموتى أحياء، بلى، اعلم ذلك، بعضهم أثرى، أو صار وزيراً، لكنّ الثورة ليست شأن أفراد. أنا وأنت، سيّدي، أفراد، إنّما الثورات تصنعها الأفكار، والأفكار تعيش أكثر من البشر. والصّوَر، توجد صوَر تولد كالنّبات على تلك الجدران المتشقّقة وتفيء إلى الذّاكرات. إنّ جرّافات «سوليدير» تجرف كلّ شيء، الجدران والأزهار، لكنّ الصور باقية.
يجب أن أقول لك، سيّدي، إنّنا لم نكن فقراء في ذلك الزّمن، سيّدي، لم نكن فقراء، كنّا شعراء.
خذ مثلاً، يان بالاش، هل تتذكّره؟ هو طالبٌ تشيكيّ عمره ٢١ سنة، يدرس الفلسفة. عندما كان ربيع براغ يلفظ أنفاسه، والدبابّات السوفييتيّة تمعس الثورة، مثلما تُمعَس قطّة المجارير في الشارع، قرّر أن يحترق بالنّار في ساحة «ڤنسسلاس». كان يركض، شعلة حيّة. رسالته المكتوبة دعوة إلى الإضراب المستمرّ. كلماته الأخيرة في المستشفى «لا يمكن أن أستمرّ أكثر من ذلك... مستحيل... على الإنسان أن يقاتل / يناضل قدر المستطاع... ولعلّ ذلك لم يعد بالمستطاع هنا...». بعد عشرين سنة من ذلك، العام ١٩٨٩، هناك من سمع نداء بالاش، حشدت «ثورة المخمل» مئات الألوف من النّاس وأسقطت النظام الشموليّ / الاستبداديّ. ڤاكلاڤ هاڤيل، مخرج مسرحيّ، انتُخب رئيساً للجمهوريّة.
يحب أن أقول لك، سيّدي، إنّه في ذلك الزمن، لم نكن لبنانيّين، ولا فرنسيّين، ولا تشيكيّين، لا، سيّدي، كنّا الإنسانيّة جمعاء.
اليوم، سيّدي، لا، أمس، شعرٌ أشقر متجعّد اشتعل ليلة عيد الميلاد، صبيّة في السادسة عشرة من عمرها صفعتْ جنديّاً إسرائيليّاً. عهد تميمي في السجن، لكنّ خصلاتها الشقراء المتجعّدة لم تخمد نارها.
هل سوف التقيك بعد عشرين سنة، سيّدي؟
الوقت متأخّر، يجب أن تعود إلى بيتك.
تصبح على خير، سيدي، غداً سيكون يوماً جميلاً.
* مستوحاة من أغنية لجاك بريل.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.