العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

من وثائق أيار ٦٨

«عن البؤس في الوسط الطالبي»

صدر هذا البيان العام ١٩٦٦ بعنوانه الكامل «حول البؤس في الوسط الطالبيّ، منظوراً إليه في أوجهه الاقتصاديّة والسياسيّة والنفسانيّة والفكريّة خصوصاً وفي بعض وسائل علاجه». الناشر طلاب جامعة ستراسبورغ. تبيّن لاحقاً أنّ مَن صاغه هو المناضل اليساريّ التونسيّ مصطفي الخيّاطي عضو «أمميّة مبدعي الأوضاع» L’internationale Situationiste. وهي تنظيم من ثوريّين ومثقّفين ومفكّرين سياسيين تأسس العام ١٩٥٧ (وحُلّ العام ١٩٧٢) حاول الجمع بين ماركسيّة معادية للستالينيّة وبين التيارات الفنيّة المعاصرة: الدادائيّة والسورياليّة. استلهم مبدعو الأوضاع، (الذين كانوا يرفضون هذه التسمية) عدّة مفاهيم من مفكّرين ماركسيّين جدد أمثال جيورجي لوكاش - الشّمول، الاستلاب، صنميّة السلعة - وهنري لوفيفر وراوول ڤانجيم - نقد الحياة اليوميّة - وغي دُبور، وهو أحد مؤسّسي التّنظيم - المجتمع المشهديّ - وغيرهم. أبرز مبتكراتهم الردّ على الرأسماليّة، التي تخلق رغبات مزيّفة، ببناء أوضاعٍ هي لحظاتٌ من الحياة تتحقّق خلالها الرّغبات الإنسانيّة الاصيلة. شدّدوا على قلب مصطلحات الرأسماليّة ضدّها، عارضوا كلّ الإيديولوجيّات ومجّدوا اللعب والأعياد والحرّيّة والتفكير النقديّ.


لعب «مبدعو الأوضاع» دوراً هامّاً في انتفاضات أيّار / مايو ١٩٦٨ بفرنسا وخصوصاً في حركات احتلال الجامعات وفي إطلاق المخيّلة بلا حدود والدّمج بين السياسة والفنّ، وأبرز تعبيراته الغرافيتي والملصقات. وكان بيان «حول البؤس في الوسط الطالبيّ» الذي مثّل أحد النّصوص التأسيسيّة لكلّ هذه الابتكارات. نعيد هنا نشر مقاطع رئيسة منه ليس فقط لأنّه يضيء المناخات السياسيّة والفكريّة والثقافيّة والفنيّة لتلك الفترة بل لما فيه من استباقٍ لظواهر سوف تتضخّم في ظلّ العولمة والنيوليبراليّة: التسليع والمجتمع الاستهلاكيّ، المشهد والإعلان ووسائل الاتّصال الاجتماعيّ، موقع الطلّاب والشباب من الاقتصاد الرأسماليّ ومن آفاق التغيير الثوريّ، إلخ.

الطّلاب في الموقع الفصامي

كلّ التحليلات والدراسات الجارية عن الوسط الطالبيّ أهملت الجوهري إلى الآن. لم تتجاوز مرّةً وجهة نظر الاختصاصات الجامعيّة (علم النفس، علم الاجتماع، علم الاقتصاد) فبقيت إذاً مخطوطة في الأساس. ترتكب جميعها ما سمّاه فورييه «خفّة منهجيّة» لأنّها تتطرّق بانتظام إلى «القضايا الأساسيّة» متجاهلةً المنظور الشموليّ للمجتمع الحديث. إنّ صنميّة الوقائع تحجب المقولة الجوهريّة والتفاصيل تنسينا الشمول. نقول كلّ شيء عن هذا المجتمع عدا ما هو عليه فعلاً: سلعة ومشهد.

إنّ تمسرُح الصنميّة في ظلّ الرأسماليّة الحديثة يفرض على كلٍّ منّا استكانة معمّمة. والطالب ليس بمنأى عن هذا القانون. له دورٌ مؤقّت يحضّره لدور نهائيّ سوف يتولّاه بما هو عنصر إيجابيّ ومحافظ في تشغيل النظام السوقيّ. إنْ هي إلّا عمليّة تدريب...

الطالب كائن موزّع بين مكانةٍ حاضرة ومكانة مستقبليّة، كلتاهما مرسومة بطريقة واضحة، وهو سوف يجتاز الحدود بطريقة آليّة. إنّ وعيه الفصاميّ يسمح له بأن ينعزل في «مجتمع تدريب»، وأن يجهل مستقبله وأن يسعد بالاتّحاد الصوفيّ الذي يمنحه إيّاه حاضر محميّ من التاريخ. فلا أسهل من كشف مآل انقلاب الحقيقة الرسميّة، أي الاقتصاديّة: الواقع الطالبيّ يصعب النّظر اليه وجهاً لوجه. في «مجتمع البحبوحة»، ينتمي الوضع الفعليّ للطالب إلى مجال الفقر المدقع. يعود ٨٠٪ من الطّلاب إلى شرائحَ يزيد دخلها عن دخل العامل، فيما ٩٠٪ منهم ينخفض دخلهم دون مستوى دخل الأجير العاديّ. إنّ بؤس الطّالب يبقى ما دون بؤس المجتمع المشهديّ، أي البؤس الجديد للبروليتاريا الجديدة. وفي زمنٍ يتحرّر فيه قسمٌ متزايد من الشّباب من المسبقات الأخلاقيّة ومن السلطة العائليّة لينخرط سريعاً في علاقات الاستغلال المفتوحة، يحافظ الطالب على نفسه، في كلّ المستويات، في وضع «أقليّةٍ مستدامة» طائشة ومُطيعة. وحين تتعارض أزمتُه الشبابيّة المتأخّرة بعض الشيء مع عائلته، فإنّه يرتضي، بلا تذمّر، أن تعامله المؤسّسات المتنوّعة التي تدير الحياة اليوميّة بما هو طفل.


إن متطلّبات الرأسماليّة الحديثة تتطلّب من القسم الأكبر من الطلّاب أن يكونوا «كوادر صغيرة»، أي ما يوازي وظيفة العامل الماهر في القرن التاسع عشر. إزاء هذا الذي يسهل حدسه، لهذا المستقبل الداهم إلى هذا الحدّ أو ذاك، من «يعوّض» عليه بؤس الحاضر المهين، يؤثِر الطالب الالتفات نحو حاضره وتزيينه بمفاخر وهميّة. حتى إنّ التعويض نفسه محزن إلى حدّ أنّه لا يستحقّ التعلّق به فلن يأتي الغدُ الطروب، بل سوف يغوص بالتأكيد في التّفاهة. لذا يلجأ الطالب إلى حاضرٍ يعيشه على نحوٍ غير حقيقيّ.

بما هو عبدٌ صبور، يظنّ الطالب عن نفسه أنّه حرّ، على أنّ حريّته بحجم عبوديّة سلاسل السلطة التي تكبّله. مثله مثل عائلته الجديدة، الجامعة، يظنّ نفسه الكائن المجتمعيّ الأكثر «استقلاليّة» في حين أنّه تابعٌ مباشرة وفي آن معاً، لأعتى نظاميَن من أنظمة السلطة الاجتماعيّة: العائلة والدولة. إنّه ابنهما المهذّب والمعترِف بالجميل. وفق المنطق الصبيّ الخاضع ذاته، يشارك في كلّ قيم النظام وأضاليله ويستبطنها. ما كان أوهاماً مفروضة على موظفين، يصير إيدلولوجيا متجسّدة يروّجها جمهور من المؤهّلين ليكونوا كوادر صغيرة في المستقبل.

التعويض بالثقافة

بسببٍ من وضعه الاقتصاديّ الفقير المدقع، الطالب محكوم بنمط عيش لا يُحسد عليه. لكنّه سعيد باستمرار من حاله، يُعلي بؤسه التافه إلى «نمط حياة»: التشرّد والبوهيميّة.

إلّا أنّ البؤس الفعليّ للحياة اليوميّة الطالبيّة يَلقى تعويضه المباشر، الغرائبيّ، في تعاطي أفيونه المفضّل: السلعة الثقافيّة. في المشهد الثقافيّ، يستعيد الطالب على نحوٍ طبيعيّ موقعه بما هو مُريد كلّي الاحترام. ولكونه قريباً من موقع الإنتاج دون أن يدخله بأيّ حال - فالحَرَم محرّم عليه - يكتشف الطالب «الثقافة الحديثة» بما هو مُشاهدٌ مُعجَب. في زمن أعلِن فيه «أنّ الفنّ قد مات» يبقى الطالب هو المواظِب الوفيّ على ارتياد المسارح ونوادي السينما، والمستهلك النَهِم لجثّة الفنّ المجلّدة التي توزَّع في أغلفة «سيلوفان» في السوبرماركت على ربّات بيوت أيّام البحبوحة. يشارك الطالب في هذا بلا تحفّظ، ولا أفكار مسبقة، بل دون وضع المسافة اللازمة بينه وبينها. فلو أنّ «بيوت الثقافة» ما وجِدتْ لكنّ الطالب اخترعها. إنّه يؤكّد تمام التوكيد صحّة تحليلات أسخف ما أنتجتْه سوسيولوجيا التسويق الاميركيّة: استهلاك المباهاة والتمييز الدعائيّ بين منتجاتٍ متماثلة في تفاهتها.


يسعد الطالب أكثر من أيّ كائن آخر بأنّه «مسيّس». لكنّه يجهل أنّه بذلك يشارك في المشهد ذاته. إذ ينسب لنفسه كلّ الأشلاء السخيفة ليَسار قد أبيد من أربعين سنة بالنّزعة الإصلاحيّة «الاشتراكيّة» والردّة الستالينيّة المضادّة للثّورة.


الطالب نتاج المجتمع الحديث، مثله مثل [المُخرِج جان لوك] غودار والكوكا كولا. لا يمكنه مناهضة استلابه الجذريّ إلّا بإعادة النظر الجذريّة في المجتمع ككلّ. وتلك عمليّة نقديّة لا يمكن أن تتمّ أبداً في الحقل الطالبيّ: فالطالب، بذاته، يدّعي قيمةً مزيّفة، تمنعه من أن يعي استلابه الحقيقيّ، فيبقى بالتالي في صميم الوعي الزائف. لكنّ الشباب يتمرّد عندما يبدأ الاحتجاج ضدّ المجتمع الحديث، غير أنّه تمرّدٌ يناظره فوراً نقد شامل للسلوك الطالبيّ.

الاحتجاج الطالبي

لا يكفي أن يسعى الفكر وراء تحقّقه / واقعه، يجب أن يسعى الواقع نحو فكره.

بعد فترة طويلة من السبات والردّة المضادّة للثورة الدائمة، ترتسم، منذ بضع سنوات، حقبةٌ جديدة من الاحتجاجات يبدو أنّ حاملها هو الشباب. لكنّ مجتمع المشهد، في تصوره عن ذاته وعن أعدائه، هو الذي يفرض المقولات الإيديولوجيّة لفهم العالم والتاريخ. وهو يُرجِع كلّ ما يجري فيهما إلى نظامٍ طبيعيّ يسيّر الأشياء وينطوي على منتجات حديثة حقيقيّة تعلن تجاوز هذا النظام في إطارٍ مغلق من الجِدّة الوهميّة. إنّ تمرّد الشباب ضدّ نمط الحياة المفروض عليهم ليس في الواقع إلّا الإرهاص بانقلابٍ أوسع سوف يشمل مجموع الذين يعانون على نحوٍ متزايد من استحالة العيش، أي إنّه مقدّمة لحقبة الثورة الآتية. لكنّ الإيديولوجية المهيمنة وأجهزتها اليوميّة، التي تستعين بآليّاتٍ مجرّبة لتشويه الواقع، لا تستطيع إلّا أن تختصر هذه الحركة التاريخيّة الحقيقيّة إلى شبه مقولة اجتماعيّة - طبيعيّة هي فكرة الشباب، حيث يفترض أن التمرّد جزء من طبع الشباب الجوهريّ. وهكذا ينسَبْ تجديدُ شباب التمرّد إلى التمرّد الأبديّ للشباب، ينبعث حيّاً في كلّ جيلٍ ويخبو عندما «ينخرط الشابّ في الإنتاج الجدّي وفي النشاط الهادف إلى أهداف محدّدة وحقيقيّة».

لقد كان «تمرّد الشباب»، ولا يزال، موضوع نَفخٍ إعلاميٍّ حقيقيّ جعل منه مشهداً لـ«تمرّد» ممكنٍ يُعرض علينا قصدَ التأمّل لكي نُمنع من أن نعيشه، بما هو المجال الشاذّ - المستوعَب سلفاً - والضروريّ لتشغيل النظام الاجتماعيّ. إنّ هذا التمرّد ضدّ المجتمع يطمئِن المجتمع لأنّه محكومٌ عليه أن يبقى جزئيّاً، في إطار التمييز الذي تتعرّض له «مسألة» الشباب - مثلما توجد مسألة المرأة، أو مسألة السود - ومحكوم على ذاك التمرّد ألّا يستمرّ إلّا لفترة محدّدة من العمر. في الواقع، إذا كان ثمّة من مسألة «شبابيّة» في المجتمع الحديث، فهي الأزمة العميقة لهذا المجتمع الذي يستشعرها الشبابّ بحدّةٍ أكبر من سواهم. هذه المسألة حديثة، لأنّها نتاج هذا المجتمع الحديث بامتياز، أكان لجهة الاندماج غير المشروط فيه، أم لجهة رفضه رفضاً جذريّاً. ما يجب أن يفاجئ ليس أنّ الشباب يتمرّد، وإنّما أنّ «الراشدين» هم على هذا القدر من الخنوع. هذا ليس تفسيراً أسطوريّاً، إنّما هو تفسير تاريخيّ: ذلك أنّ الجيل السابق خبر الهزائم على أنواعها وابتلع كلّ أكاذيب فترة التفكّك المعيبة للحركة الثوريّة.

bid20-21_images_malaf002_image003_rgb.jpg


الرسم لأندريه برتران وقد نشر في النسخة الانكليزية من المنشور «عن البؤس في الوسط الطالبي»، العام ١٩٦٦

الشباب وهمٌ دعائيّ

منظوراً إليه بذاته، يشكّل «الشباب» أسطورةً إعلانيّة وثيقةَ الارتباط بنمط الإنتاج الرأسماليّ، بما هم تعبير عن ديناميّته. أمكن إعطاء تلك الأولويّة الوهميّة للشبيبة بسبب إعادة انطلاق الاقتصاد بُعيد الحرب العالميّة الثانية وانخراط فئةٍ كاملة من المستهلكين الأكثر طواعية في السوق، وهو دور للشباب منحهم بطاقة هويّة في المجتمع المشهديّ. لكنّ التفسير الغالب للعالم عاد ليتناقض مع الواقع الاقتصاديّ - الاجتماعيّ (لأنّه متأخّر عنه)، وهنا الشباب تحديداً هم المبادرون إلى توكيد زخم لا يقاوَم للعيش وهم المنتفضون عفويّاً ضدّ الضَّجَر اليوميّ والوقت الضائع الذي لا يزال المجتمع القديم ينتجه عبر أشكال الحداثات المختلفة. إنّ الفئة المتمرّدة من الشّباب تعبّر عن الرّفض الجذريّ القاطع للأوضاع الحاليّة لكنّها لا تملك منظوراً لتجاوزها. إنّ رفضها عدميّ. وإنّ هذا المنظور قيد البحث وهو لن يتبلور إلّا على النطاق العالميّ. يتعيّن عليه تحقيق تجانس النقد النظريّ وتنظيم هذا التجانس عمليّاً.

لا عودة إلى خلف

يجب إنتاج وضْع يجعل من المستحيل كل عودة إلى وراء «أن تكون طليعيّاً يعني أن تسير على وَقع خطى الواقع». إنّ النّقد الجذريّ للعالم الحديث يجب أن يكون موضوعه الآن الشمول. ويجب أن يرتبط بلا فكاك بماضيه الحقيقيّ، على ما هو عليه في الحقيقة، وعلى آفاق تطوّره. فمن أجل التمكّن من إعلان حقيقة العالم الراهن، وبالبداهة من أجل بلورة مشروع الانقلاب الشامل عليه، يجب التمكّن من كشف كلّ تاريخ العالم المخفيّ، أي النظر بطريقةٍ متحرّرة من الخرافة، نظرة جذريّة أساساً، إلى تاريخ كلّ الحركة الثوريّة الأمميّة، التي افتتحها منذ أكثر من قرن بروليتاريّو بلدان الغرب، في«هزائمها» كما «انتصاراتها».

إنّ المجتمع المسيطر، الذي يهنّئ نفسه بحداثته المستدامة، ينبغي عليه الآن البحث عمّن يستطيع أن يبادله الحديث، أي أنْ يبحث عن النّفي الحداثيّ الذي ابتدعه هو نفسه: «لنترك الآن للموتى أن يدفنوا موتاهم وأن يبكوا عليهم». إنّ التحرّر العمليّ من أوهام الحركة التاريخيّة يعني تحرّر الوعي الثوريّ من الأشباح التي تقضّ مضجعه، وإنّ ثورة الحياة اليوميّة تواجه مهمّاتٍ جبّارة ينبغي عليها الاضطلاع بها. المطلوب إعادة ابتكار الثورة، مثلها مثل الحياة التي تبشّر بها. إذا كان المشروع الثوريّ لا يزال كما كان - أي مشروع إلغاء المجتمع الطبقيّ - فذلك لأنّ الشروط التي ينمو في ظلّها لم تتحوّل جذريّاً في أيّ مكان بعد.

الثورة عيد

إنّ سيطرة البشر الواعية على التاريخ الذي يصنعونه تمثّل ذلك المشروع الثوريّ. التاريخ الحديث، مثله مثل التاريخ الماضي، هو نتاج الممارسة الاجتماعيّة، هو الحصيلة، غير الواعية، لكلّ النشاطات الإنسانيّة. في حقبة سيطرتها الشموليّة، أنتجت الرأسماليّة ديناً جديداً: المشهد. إنّ المشهد هو تحقيق الإيديولوجيا على الأرض. ... ومثلما كان «نقد الدين» هو الشرط الأوّل لكلّ نقد، فإنّ «نقد المشهد» هو الآن الشرط الأوّل لكلّ نقد.

لا يمكن للتاريخ الحديث أن يتحرّر، وأن يستخدم بحرّية منجزاته التي لا تعدّ ولا تحصى، إلّا من خلال القوى التي ينبذها: العمّال فاقدي السلطة على ظروف حياتهم، وعلى معنى نشاطاتهم ومنتوجاتها. مثلما كانت بروليتاريا القرن التاسع عشر وريثة الفنّ الحديث وأوّل نقدٍ واعٍ للحياة اليوميّة، فإنّها الآن لن تستطيع أن تلغي نفسها بنفسها دون أن تحقّق الفنّ والفلسفة في الآن ذاته. إنّ تحويل العالم، وتغيير الحياة مهمّة واحدة، وهما الشعاران غير المنفصلين اللذان يرافقان إلغاء البروليتاريا بما هي طبقة، وحلّ المجتمع الحالي بما هو ملكوت الضرورة، والارتقاء إلى ملكوت الحرّية وقد بات في حيّز الإمكان. إنّ النقد الجذريّ وإعادة البناء الحرّة لكلّ السلوكيّات والقيَم التي فرضها الواقع المستلَب يشكّلان برنامج الحدّ الأقصى، والإبداع المتحرّر في بناء كلّ لحظات الحياة وأحداثها هو الشِعر الوحيد الذي يستحقّ الاعتراف به، الشِعر الذي يبتدعه الجميع، الشعر الذي هو بداية المهرجان الثوريّ. إنّ الثورات البروليتاريّة تكون أعياداً أو لا تكون، لأنّ الحياة التي ترهص بها سوف تولد هي ذاتها تحت رايات الأعياد. إنّ اللعب هو العقلانيّة النهائيّة للعيد، ذلك أنّ العيش دون وقتٍ ضائع والاستمتاع دون قيود، هي القواعد الوحيدة التي يعترف بها العيد.

العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨
«عن البؤس في الوسط الطالبي»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.